يبدو أنّ المشروع العربي للنهضة ما زال يثير الأسئلة، ويدعو إلى مراجعة الخطابات، وفي هذه الدراسة المركزة، يأخذنا الباحث علي حسن الفواز لقراءة عدة إجابات عن أسئلة متجددة في هذا المشروع، ولعل هذه الأجوبة بحاجة إلى الحوار والتعديل والإضافة.

أسئلة النهضة ومشروع التجديد الفكري

علي حسن الفواز

 

قد يكون العنوان الحواري "نحو فكر عربي جديد" باعثا على فتح آفاق جديدة، ومجالات عمل تتصاعد معها اتجاهات جديدة لتجاوز التناقضات التي ارتهنت اليها الأطروحات السجالية حول النهضة والتنوير والجدّة في الفكر العربي، مثلما قد يكون مدخلا الى صناعة تاريخ جديد، له اسئلته المعرفية والوجودية، وله دوره في صياغة اسئلة جديدة، وقراءات تتسق وطبيعة التغيرات الحضارية التي جاءت مع تيارات التحديث ومدارسها التنويرية، والتي انعكست بشكل أو بآخر على كثير من التوجهات القومية والسياسيات الاصلاحية.

لقد ارتبطت في اذهاننا صورة متخيلة عن سرديات "خطاب النهضة" بوصفه مقدمة أو هاجسا لعدد من "المنورين العرب" الذي حلموا بالتغيير والخلاص، والبحث عن قوة ثقافية لمواجهة مظاهر التخلّف والتراجع التي ارتبطت بالاستعمار، وبظروف البيئات العربية التي كانت تعيش رثاثات الفقر والجهل والانحطاط والعزل الحضاري، فكان الحديث عن النهضة يُشكّل مجالا تكامليا مع التنوير والاصلاح، حيث يقوم على استنهاض الهمم والعزائم، وعلى الدعوة الى احياء القيم والاخلاق الرسالية. ورغم عدم وجود ملامح واضحة لهذه النهضة، إلّا أنّ شغف "المنورين" كان ضاجا ومندفعا، ومن مرجعيات متعددة، دينية كما في الأزهر وفي الزيتونة وفي النجف- حسن العطار، رفاعة الطهطاوي، جمال الدين الافغاني، محمد عبده، الشيخ النائيني، هبة الدين الشهرستاني، أو مدنية كما مثّلته شخصيات معروفة مثل ناصيف اليازجي وبطرس البستاني وجورجي زيدان وعبد الرحمن الكواكبي وسلامة موسى وقسطنطين زريق وشبلي شميل وخير الدين التونسي ومالك بن نبي واحمد لطفي السيد وطه حسين وعلى عبد الرازق وغيرهم

كان سؤال النهضة العربية بلا قطائع حقيقية- معرفية أو ثورية- لكنه ظل سؤالا اشكاليا، مثيرا للجدل، ومفتوحا على قراءات متعددة، ليس لأن شروط هذه النهضة كانت غائبة، وانصراف أغلب طروحاتها الى مقاربات احيائية، بل لأن ما يجري كان ضاغط، ودافعا الى مقاربة كثيرٍ من الانشغالات التي ارتبطت بتقليد حركة الأنوار الأوربية خلال القرن الثامن عشر، فكان حديث الحريات والحقوق الانسانية والعلوم هو الحديث الأكثر جذبا للتأثر، حيث مهّد لإدراج أطروحات اكثر تعقيدا تخصّ الهوية والأمة والعلاقة بالآخر الاستعماري والتنويري.

شكّل غياب الوعي التاريخي فارقة مهمة في تدرج قضية "النهضة" وهو ما أفقدها كثيرا من استمراريتها، وجعل من انقطاعاتها بعيدة عن التأسيس، لكنه بالمقابل جعلها في سياق من التحدي الذي دفع "العقل العربي" الى ردّات فعل غير متوازنة إزاء اخفاقات مشروعها، وإزاء عدم قدرتها على التحقق في سياق يكفل تقدمها، دفع بعضها الى "تلفيقات" جعلت من حصادها التنويري فقيرا كما قال د. نصر حامد ابو زيد. الدعوة الى مراجعة مشروع "النهضة" يعني مراجعة "التاريخ" والمدونات التي تركها "المنورون" في سيرهم، وفي كتبهم، حيث شخُصت فيها أمراض الأمة، التي اتسمت بالانغلاق، بسبب ضعف الوسائط، وعدم شيوع العلم واتساع رقعة الجهل بين قطاعات واسعة من الشعوب العربية، فما كان من حديث النهضة إلّا أن يتحوّل الى هاجسٍ ضاغط بالنسبة لعصرهم.

إن أنسنة هذا المشروع تقترن بالتوسع الى الدعوات امكانية تحققه، والنزوع الى عقلنة مساراته وخياراته، وعبر ايجاد فهم جديد لعلاقة النهضة بالتنوير والاصلاح، وهو ما يعني الشروع بالعمل على تأهيل تمثلاته المعرفية والعلمية من خلال مؤسسات ومدارس ومراكز ومشاريع، ومقاربة المتغيرات التي يفرضها "العالم الحديث" بوصفه عالم التحولات الكبرى، وصناعة الأفكار الكبرى، فبقطع النظر عما يُثار حول علاقة السؤال القديم الذي طرحه شكيب ارسلان حول "تقدّم الغرب وتأخر الشرق العربي الاسلامي" من تداعيات لا احسبها مقبولة الآن، فإن معطيات ما يجري في العالم تتطلب حيازة منظور جديد، والتعرّف على شروط جديدة، تجعل من سؤال النهضة تمثيلا لسؤال الحداثة، وسؤال التنوير، وعبر رؤية تتسع لوعي التناقضات والصراعات التي تتسق مع اشكاليات ما تطرحه الحداثة من اسئلة تخصّ الكيفيات التي تجعل من مشروع "نحو فكر عربي جديد" تمثيلا نقديا لرؤيتنا الفكرية، ولمواجهة ازماتنا المعاصرة ورهاناتنا على صناعة مشهد ثقافي يتلمّس اشكالاتنا وهمومنا الكبيرة.

البحث عن شرعية عربية الأفكار هي العتبة الأولى لقراءة الحاجة تحديد تلك الرؤية، والى الانخراط في دينامية خطاب فهمها، وعلى نحوٍ يهدف الى  ترسيم آفاق للاختيارات والأوليات، وللأهداف التي نطمح أن تكون محورا اساسيا في سياق النظر الى قضايانا الكبرى، وما تستدعيه من وعي نقدي لتحديات مشروعنا الحضاري النهضوي، وباتجاه ربط تلك القضايا بإستراتيجيات تلك الافكار وأهدافها في التنمية، وفي مشاريع التقدّم، وفي صياغة المشروع الدولتي أو مشروع الاجتماع القومي، وهي مشاريع تأسيسية من الصعب التغافل عنها في التعاطي مع فكرة النهضة، فلا نهضة دون وجود فهمٍ عميق لمفهوم الأمة، ولدولة حديثة لها شرعيتها في تمثيل مكونات تلك الأمة، وفي تحققها عبر سياقات وأطر، لها مجالها القانوني والمؤسسي، ولها شرعيتها في نجاعة وصيانة وضمان تداول شرعيات الأفكار، والحريات والحقوق العامة والخاصة.

دوافع البحث عن خيارات لمشروع الفكر العربي الجديد: النهضة تتطلب ادراك اهمية علاقته بصياغة المشروع الحضاري، ليس بصفته الاحيائية كما كان سائدا في "ادبيات النهضة الأولى"، بل بصفته التأسيسية، حيث يدل هذا المشروع "على استراتيجية مبنية على أسس معرفية وسياسية، فالمشروع هو نزعة بنائية إحيائية ترنو نحو تحقيق تقدم وانتقال من حالة غير مرغوب فيها إلى حالة أفضل، وعليه يعكس المشروع دوما ارتباط الإرادة السياسية بالإرادة العلمية، فالنّهضة كمشروع لا يمكن أن يتجسد إلا إذا جَسّد السّياسي ما يفرضه العقل والنظر."1 وباتجاه يجعل منه مصدرا في تنمية فواعل التواصل والاستمرارية، مع وجود الفاعلين الرئيسيين الذي يملكون ادوات التعاطي في معرفة شروط ذلك المشروع النهضوي، في سياق تمثيله التاريخي، وفي سياق تحققه داخل انظمة ومؤسسات ومراكز بحوث، تعمل على مراجعة سيرة في الانموذج نمطي للنهضة الاحيائية واسباب فشله، وطبيعة علاقته بالآخر الاستعماري والتبشيري والاستشراقي.

إعادة قراءة هذا النموذج، ضرورة مهمة للتعرّف على فهم المقدمات، والكشف عن خفايا ذلك الفشل، وصولا الى اعادة قراءة التحديات التي لم تكن بعيدة عن العوامل الداخلية، ولا عن العوامل الخارجية التي فرضتها المركزية الغربية، وما تركته من أثر سلبي، جعلت من حديث النهضة مرتبطا بجهود افراد وليس مؤسسات أو جماعات، رغم رومانسيته في تمثيل حُلم التحرر من "الاستعمارات" القديمة، والبحث عن اشكال ثقافية للسيادة القومية وسط تعثرات " قطرية" كانت تعيش اغواء التحديث، والعلاقة الشائهة مع ذلك الآخر.

سؤال الحداثة بوصفه جوهر السؤال النهضوي، سيظل سؤالا مكشوفا على المستقبل، فهذا السؤال الاشكالي يتطلب وعيا نقديا حادا، في فهم استحقاقات المغايرة والتجديد، وفي اعادة النظر بكثير من المفاهيم التي تخص علاقة النهضة بالعروبة والأمة، والقومية، والهوية والجماعة، والطائفة وغيرها، وعلى نحوٍ يجعلها أكثر حاجة الى أنساق وتوصيفات جديدة، تتناسب وجدوى وجودها وفاعليتها، ومشروعية تقويضها لنمطيتها الانثربولوجية. لأن التعرّف على مأزق مشروع الاصلاح والتنوير في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين يمكن أن يجعلنا على بينة من الاسباب والتناقضات التي ادّت الى التعثر، ففشل ذلك المشروع لم يكن بسبب عوامله الداخلية فحسب، بل كان بسبب رهاب العصر الاستعماري، وطبيعة احتلاله وضغوطه على الواقع العربي الرثٍ، وضعف بناه المؤسسة، فضلا عن ارتهانه الى تناقضات أيديولوجية حادة أربكت فكرة النهضة العربية، وللأسف لم يزل بعضها يهيمن على الفكر العربي المعاصر.

الفكر العربي والآخر:
من هنا نجد أن الغاية من تقديم رؤية جديدة للفكر العربي تستدعي فهم جديد لشروط وميكانزمات وحاجات مشروع الحداثة، والتعرف على اطارها المفاهيمي، من منطلق ان مشروع الحداثة لا ينفصل عن التفكير بمشروع النهضة، وبأهدافه الكبرى، ودوافعه في تنمية فكر عربي جديد، له خياراته العقلانية والنقدية، في بناء الدولة الوطنية الحديثة، وبناء مجتمعات المعرفة، وفي الحفاظ على قيم الأمة الحضارية، وترصين هويتها الانسانية والحضارية، وفي جعل "الحوار المفتوح" كما أشار اليه الأمير الحسن بن طلال، مجالا للحديث عن التفاعل والتواصل، وانجاع الدبلوماسية الثقافية، وتجديد آليات الفكر عبر اقامة علاقات متوازنة مع الآخر الحضاري، من منطلق أن الآخر التاريخي التبشيري والاستعماري لم يعد موجودا، وأن تحديات الزمن الجديد تتطلب وعيا متعاليا بمواجهة تحدياته الجديدة، بدءا من تحديات العولمة والمركزية الغربية، وليس انتهاء بتحديات مفاهيم الحداثة الفائقة والليبرالية الجديدة، في تمثيل العقل الغربي، وفي ابراز مهيمناته العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية والانثربولوجية.

إن عادة قراءة هذه العلاقة لا تعني صناعة "بطولة قومية" أو حتى براديغم اكراهي لذلك الآخر، فكثير من الصور السائدة عنه كانت ايديولوجية وعصابية، وأن كثيرا من المفكرين العرب المعاصرين اسهموا في تكريس صورته النمطية، عبر تمثلاته المتنوعة، وعبر الغلو في مناهجه ومقولاته وادلجاته، بدءا من صورة الأنموذج البونبارتي في الحملة الفرنسية، وانتهاء بمظاهر الاستعمارات الكبرى التي فرضت مركزيتها على البلاد العربية، وعلى نحوٍ جعلها تكتسب توصيفات مريبة في الاستعمالات الثقافية، وفي تداول الافكار والمفاهيم، ومنها ما يخص "مصطلحات الحداثة الغربية التي استوردت بالترجمة، وعبر قلبٍ في التوظيف الدلالي، وبالاستناد الى ما تذهب اليه الايديولوجية العربية المعاصرة."2

فاذا كان الاستشراق واحدا من تلك المفاهيم التي فرضت تداولها الثقافي، فإن التسليم به وبأطروحاته كان اكثر خطورة، على مستوى تشوهاته لشرعية الفكر العربي في التحرر، وعلى مستوى القبول النفسي بتسويغ كراهية ذلك الآخر، وهي مفارقات تحولت الى اطواق عطّلت كثيرا من عناصر الوعي بالحضارة وبمعاييرها، وهذا ما جعل الاستشراق يكتسب بعدا خطيرا، تضخم مع طبيعة ما اثاره من اسئلة، وما كرسه من صور ذهنية للهيمنة، التي جعلت منه "مقدمة للهيمنة على المنطقة العربية، وعما تفترضه كأطروحة وافدة ومتزامنة مع حضور الغرب في المنطقة العربية علميا وتجاريا وعسكريا، فأحدثت ردود فعل مغايرة، لذلك استجاب المصلحون العرب لمعطيات الوافد، وتعاملوا مع هذه المعطيات على أنها من ضروريات العصر في حينه."3

حجم تأثير ذلك الآخر ظلت ملتبسة، فقد ترك أثره على مفاهيم الفكر السياسي، وعلى السجالات التي فرضت نفسها على مظاهر الثقافة، وعلى التمدّن والتشكل السياسي، حدّ أن بعض الباحثين تحدّث عنه وكأنها نوع من التوطين الثقافي، كما اشار الى ذلك هشام شرابي بالقول "إن معرفتنا لذاتنا، ومعرفتنا لتاريخنا ومجتمعنا في القرن العشرين معرفة غربية في صميمها، فالعلوم الانسانية والاجتماعية كلها مستمدة من الغرب، وهي فضلا عن ذلك تُنتِج وتعيد انتاج المعرفة الغربية محليا."4 فقد ظلت علاقتنا بالآخر مضطربة، وخاضعة الى السياسات التي يمارسها الغرب، من منطلق مصالحه، وللصراع الدولي، ولقضايا حقوق الانسان واستقلال الدول، لاسيما في المواقف من الصراع مع الصهيونية، وهو ما دفع إدوارد سعيد الى وضع مفهوم الاستشراق في سياق ايديولوجي، وفي سياق تمثيل السرديات المتخيلة عن الشرق، وعن العالم العربي.

إن التمثيل الغربي للشرق كما يقول إدوارد سعيد اصاب كثيرا من الباحثين بهلع، ووضعهم امام مسؤولية المراجعة المنهجية للأفكار وللعلاقة مع الآخر، ليس لتجاوز هذا التخيّل التمثيلي، بل لإيجاد تعقيدٍ معرفي لتبرير مواجهة صورة الغرب والآخر المتعالية، وللحد من ضغطها الذهني، وللتخفيف من خوف رهاب ذلك الآخر وحديثه الإيهامي عن فوبيا "تخليص الشعوب من انتماءاتهم الدينية والثقافية الأصيلة."5 حتى بات القصد في تمثيل الآخر نوعا من المخادعة، والمواربة، عبر تكريس صورة الغرب المتعالية، وعبر رهاناته على امتلاك القوة الصناعية والعسكرية، وامتلاك القوة الثقافية، مقابل جعل الأنا العربي أو الاسلامي أو الشرقي خارج سياق الاستلاب الذي عاشت ارهاصاته ثقافات المستعمرات الشرقية، التي روّج لها الرحالة والمبشرون وبعض المستشرقين، ومنهم برنارد لويس الذي سوّغ الحديث عن "دول الشرق الأوسط الفاشلة" وعن "اوهام الديمقراطية" وعن "كراهيته للإسلام".

حيث "هيأ لويس الأرضية لفكرة العداء التاريخي من قبل المسلمين لكل ما هو غربي يهودي أو مسيحي، بل يرجع إليه تعبير كفاح المسلمين الألفي، بمعنى نوايا المسلمين لإعلان الحرب على العالم المغاير لهم دينيا، لا سيما الحاضنات الأوروبية والأميركية والتي يمكن لها أن تستمر لألف عام، حتى يتمكنوا من غزو شعوب تلك الدول وأسلمتها، وهو ما جعل حالة القلق النظري تنتقل في لحظة زمنية معينة إلى حروب وأخبار حروب."6

مشروع النهضة وتجديد الفكر العربي:
مسؤولية تأطير مشروع جديد للنهضة يتطلب البحث عن سياقات تستوعب تناقضات ما هو تاريخي، والاستجابة للتحديات الجديدة، ومنها ما يخص تحدي مفهوم "الأمن الثقافي" ومراجعة ما هو سحري غرائبي في "سرديات الشرق" التي كرست اشكالا للعزل الحضاري، والشروع بصياغة اسئلة جديدة للواقع، لاسيما الأسئلة التي تخص اشكالية الدولة- الأمة، وفائض الايديولوجيا، ومظاهر الرثاثة الثقافية والتعليمية، فضلا عن وضع فهرسة للأولويات والاهداف التي تخص ما هو مفهومي، وما هو اجرائي، فضلا عن اعادة صياغة نقدية واضحة لـ"نظام الخطاب" وايجاد توصيف جديد للعلاقة مع الآخر، ليس عبر التسويات، بل عبر التفاعل لمواجهة "الفوات الحضاري" كما يسميه عبد الله العروي.

لقد كشف فشل مشروع النهضة عن تناقضات عميقة داخلية وخارجية، تمثلها مظاهر العجز في حيازة مقومات تلك النهضة، وضعف ربطها  بمفهوم "الدولة" فكل ما كان يحدث هو ترويج استعادة لمفهوم مضبب عن الأمة، وعن التاريخ والجماعة، والخضوع الساذج الى اوهام ايديولوجية متعالية، وحتى نشوء الدولة الحديثة/ العراق أنموذجا عام 1921 لم يكن سوى تمثيل ايهامي لجماعات متشظية كانت محكومة بمركزية غير شرعية للدولة العثمانية الخاوية، حتى بدت صورة هذه الدولة الجديدة ضائعة، فلا مشروع للنهضة والتمدن، ولا لاحترام حقوق الانسان والمواطنة، وأن الخضوع للإرادة الخارجية/ الاستعمارية هو الضامن للاعتراف بوجودها  كدولة، وباستقلال جزئي، على مستوى سيادتها الداخلية، أو على مستوى الاعتراف بوجودها في "عصبة الأمم" في مرحلة لاحقة.

مظاهر التشوه في تمثيل الدولة قاد الى صناعة مظاهر ضدية للعنف، ولتنشيط الجماعات على حساب وجودها، ومعطيات سيادتها واستقلالها، ونظامها الداخلي، واعترافها بحقوق التعددية والمواطنة، ورغم ما لاحق تلك الرغبات من فشل في صناعة الدولة- الأمة، إلا أن ذلك اسهم في تشكيل مؤسسات وطنية مثل "الجيش والشرطة"، تحولت الى قوة قامعة، قادت عددا من الانقلابات العنيفة، بدءا من انقلاب 1936 بقيادة الجنرال بكر صدقي، وانقلاب 1941 بقيادة رشيد عالي الكيلاني، وانقلاب 1958 بقيادة عبد الكريم قاسم، وانقلاب 1963 الدامي. فصناعة العنف المجتمعي، ورثاثة الدولة، لم تمنع العمل على تشكيل عدد من الاحزاب السياسية، كعلامات لمواجهة "الصهر القسري للتنوع المجتمعي، فحال ذلك دون اندماج المجتمعات/ الهويات بأمة الدولة الوطنية المشتركة، وبقيت الدولة سلطة قهر قسري، توحد بالإكراه والاغراء والاقصاء الهويات المجتمعية المتنوعة دينيا وقوميا وثقافيا."7

إن التطلّع الى شروع نهضوي جديد، يعكس الحاجة الى ردم تلك الذاكرة الدامية، والى تحويل خطاب الاستعادة الى رؤية واضحة تستجلي عتمة التاريخ، واعادة النظر بالأفكار التي صنعت لنا متحفا اكثر ما صنعت مشروعا له رهاناته النقدية الفاعلة، ومواقفه التي تجد في التحدي، وفي التعبير عن وعي الحاجات والضرورات، وعن الترسيم الفاعل لشرعية اهداف الفكر العربي الجديد، ليس عبر التورط في مقارنات غير مجدية، بل عبر آليات تدفع الى الانخراط في صياغة عقد "سسيوثقافي" يقوم على اساس النظر النقدي الى اشكالات المشروع التأسيسي للنهضة، بدءا من اشكالية الدولة/ الأمة، واشكالية الاجتماع والهوية، وباتجاه يعمد الى تحفيز الافكار، ودعم برامج التعليم الواسع بوصفها مصادر فاعلة في خلق البيئات الثقافية، حيث التنوع والتعدد، وحيث دعم برامج انتاج واستهلاك المعرفة، وحيث تكوين استجابات عقلانية للتحديات القائمة، وعلى اسس تتبلور فيها افكار التجديد في "فهم التراث العربي وتجديد الصلة به، واعادة قراءته قراءة نقدية، وتحويله الى عنصر قوة وارتكاز وحماية في تجديد الثقافة والفكر" كما تقول الورقة المفاهيمية، وعلى نحوٍ يُمهد لمناقشة واسعة وفاعلة لكل اشكالياتنا في مشروع النهضة، وفي بناء الدولة الوطنية، وموضوعاتها الفكرية، وعلى اساس العلوم والمعارف وليس الخرافات.

إن الانتقال الى منطقة طرح الافكار الجديدة، يعني الانتقال الى صياغة الاسئلة الجديدة، بما فيها اسئلة الحداثة والتقدم والتنوير، فضلا عن الاسئلة التي تتعلق بطبيعة المجتمعات التي تحتاج الى سيرورات تلك الحداثة، وهو ما يتطلب مناقشة  "الاشكاليات المعقدة في موضوعات الهوية والانتماء" فهذه القضايا ليست يسيرة في ظل واقع عربي يعاني من اخفاقات بنيوية كبيرة، ومن تحديات دولية واقليمية وداخلية، ومن عنف اصولي وعصابي تكشف انساقه المضمرة عن تعالقات خطيرة بافكار خارج العصر، لا تؤمن بالمستقبل، ولا تؤمن بالشراكة والمواطنة والحقوق، بل تضع رهانها على عصابيات العقائد السلفية، وعلى الحلول الميتافيريقية.

سؤال التجديد في هذا السياق هو سؤال شرعية الافكار التي تُسهم في تقعيد ذلك التجديد، والتبصر باشكاليات الراهن السياسي والثقافي، وبالشكل الذي يجعل الحديث عن وضوح افكار التجديد رهينة بالعمل على التموضع في برنامج قومي يؤمن بمشروعية اهدافها وافكارها، وبتنمية حقوقنا في التجديد، وفي البحث عن شراكات فاعلة، على مستوى النجاح في ادارة التنوع في مجتمعاتنا العربية، وفي ايجاد علاقات ناجعة مع "المجتمع الدولي" لأن منطق ادارة العالم يفترض الوعي بمفهوم السعة الانسانية، والمساهمة في تجديد افكار الحادثة الانسانية، من منطلق وجودنا في "القرية المعلوماتية" التي تحدث عنها ماكلوهان، والتي تعني الوعي بالحق القومي الوجودي والانساني، واستثمار الامكانات المتاحة في صياغة عقود ثقافية وسياسية واجتماعية  تجعل من وجود مشروعية الافكار هدفا انسانيا يعزز الوعي النقدي بمسؤوليات مواجهة الافكار العصابية ومظاهر الكراهية والعنصرية، وكل سرديات العنف والصراع والهويات القاتلة والمقتولة بتعبير امين معلوف.

لقد بات واضحا اهمية شرعنة الافكار، وربطها بإجراءات صياغة العقد الثقافي، لكن ذلك لن يأتي عفو الخاطر، ولا عبر النوايا، إذ يتطلب الأمر وعيا استشرافيا بالأزمات، والتناقضات والرهانات، مثلما يتطلب وعيا نقديا بأهمية الحوارات والانخراط الفاعل في سياقات العمل البحثي والمؤسسي، وبهدف تحويل هذا الانخراط الى "جامع افكار" او "جامع نصوص" بتعبير جيرار جينيت، وباتجاه ترسيخها كصور ذهنية فاعلة تتبدى عبرها تمثلات تلك الافكار والنصوص والخطابات، وفي سياق وجودها داخل برامج ومشاريع، وبتعبير ادق داخل مطابخ معرفية، تتعزز من خلالها قوة المعرفة وسياسات النقد والتعلم والتنمية، فضلا عن السياسات التي تخص مفاهيم التجدد والاصلاح والحقوق المدنية والصحية للمرأة والطفولة،و لكل ما يخص مشروع الحداثة والنهضة، بدءا من اصلاح برامج التعليم والخطاب الديني، واعادة تأهيل العقل المؤسسي الاقتصادي، بما فيها العقل الاقتصادي الثقافي والاستثماري، وصولا الى مراجعة مفهوم الأمن الثقافي، ومفهوم التنمية الثقافية، بوصفهما مفهومين تعرضا لكثير من التضليل والتعويم والتهميش.

تعقيدات النهضة ليست سهلة، فتهديداتها كثيرة ومعقدة،  والذاكرة التي تستدعي روادها – شبلي شميل، فرح انطوان، قسطنطين زريق، فرنسيس المّراش واديب اسحق و احمد لطفي السيد وطه حسين وغيرهم- كانت جزءا من هواجس وليست وقائع ومعطيات، لكنها وضعتنا أمام تاريخ طويل مكشوف على الصراع مع التقليد والخرافة، حيث يكون المنع رهينا بالمقدس، مثلما تكون الاباحة رهينة بذلك المقدس أيضا، وهذه المفارقة ظلت مصدرا لإثارة جدل عاصف في سياق تعاطيها مع الافكار الجديدة بوصفها بُدعا كما في السباق، أو ليبرالية كما في عصرنا، حيث تطرح  تصوراتها الجريئة حول الحرية والعدالة الاجتماعية، وحول مزاوجة هذه الليبرالية مع حساسيات ثقافية متعددة، منها ما يتعلّق بالأفكار القومية كما طرحها زريق، بوصف أن الافكار المشروعة والحرة هي جزء من جوهر مسار التقدم الانساني، في تمثيله للمصالح ولحاجات الناس، وللتعبير عن التفكير العقلاني والحقوقي بـ" انموذج الدولة المدنية" ومواجهة تحدياتها، لكن هذا المسار "لم يسعه أن يتواصل على هذا النحو التطوري طويلا، فقد جوبه بصعود قيم ونظم استبدادية عربية اعاقت عملية استمراره."8

الفكر العربي ومقترحات برنامج التجديد:
توضيح رؤية المشروع العربي هو الهدف الواقعي الذي نسعى الى تأصيله، ليس من منطلق صناعة يوتوبيا عربية، ولا تقليدا للمشروع الغربي ذي المرجعيات العلمية والثقافية والثورية، بل من منطلق الحاجة الى معالجة الاخفاقات التي ارتبطت بالتمثلات الثقافية لهاجس "النهضة العربية" وبغرض تحويل هذا المشروع الى خيار انساني، والى موقف نقدي لفشله، والدعوة للعمل على مأسسة شراكات عربية بين منتدى الفكر العربي وبين الاتحادات الثقافية والمراكز الخاصة بالبحث العلمي والجهود الأكاديمية، وبالاتجاه الذي يجعل من مشروعها أفقا ثقافيا واسعا يُعنى بتأسيس خط شروع نقدي – نحو فكر عربي جديد – يتبنى ما هو جامع للأفكار الإبداعية والنقدية، ولأطروحاتها على اختلاف مرجعياتها الفكرية والايديولوجية، وبما يجعل المشروع التأسيسي يملك جاهزية التحدي، والقدرة على اعادة النظر بـ"برامج الاصلاح الفكري والثقافي والتنموي" ومواصلة الجهود في استقطاب الكفاءات الثقافية العربية، وبهدف اعادة النظر بالتموضعات الثقافية، على مستوى تنشيط معالجة الخلل والاخفاق في المشروع الثقافي، وفي وضع آليات عمل تسعى الى تطوير حلقات الدرس الثقافي النقدي، عبر وعي المتغيرات والتناقضات،  من منطلق مواجهة تحديات ما هو لا انساني في العولمة، وفي المركزية الغربية، وفي النظر الى علاقتنا بالآخر، بما فيه الآخر العنفي والعنصري والعدواني الذي يمثله الكيان الصهيوني، بوصفه نسخة شوهاء لتلك المركزية، ولأطروحاتها في افكار الليبرالية الجديدة، وفي أهدافها الاستلابية الداعية الى تفتيت وتشتيت المراكز الحضارية الانسانية، ومنها حضاراتنا الاسلامية العربية، لاسيما ما تمثل في اطروحات برنارد ليفي وفوكوياما وصموئيل هنتغتون.

إن تمثلات خط الشروع تغذية مشروع الفكر العربي الجديد ينطلق من التصورات التي نقترح بعض خطوطها، وعلى وفق الحاجات الواقعية للتأيسس والتواصل.

  1. العمل على مواجهة الاستقطاب السياسي والايديولوجي عبر تبني برامج تهدف الى اعادة النظر بأجندة المفاهيم النقدية والدعوة الى تجديدها على وفق الحاجة الى شرعية افكار جديدة.
  2. وضع فهرسة للأوليات والاهداف التي يسعى هذا البرنامج الى التعاطي مع اشكالاتها واستحقاقاتها.
  3. الدعوة الى العمل على صناعة رأي عام ضاغط في المؤسسات التي تُغذي انتاج المعرفة كالجامعات ومراكز البحوث، وبهدف تنشيط الاقتصادات والاستثمارات الثقافية.
  4. الدعوة الى توسيع مجالات العمل في الدبلوماسية الثقافية من خلال التنسيق مع صناع القرار في المؤسسات المدنية والمؤسسات الحكومية العربية.
  5. الاتفاق على تبني سياسات ثقافية مبنية على استراتيجيات البرامج والمشاريع والأدلة.
  6. العمل على دعم برامج الحوار الثقافي بين الجماعات الثقافية المتنوعة، وعلى وفق ما تستدعيه ضرورات الراهن الثقافي العربي.
  7. الدعوة الى وضع خطط تشارك فيها نخب ثقافية اكاديمية ومدنية، وبهدف قراءة الخارطة الايديولوجية الصراعية العربية ووضع تصورات عن اشكالياتها، وعن دورها في الصراع الثقافي والسياسي العربي.
  8. دعم عمل المنظمات والهيئات ومراكز البحوث ودراسات التفكير في الدول العربية والتنسيق معها في مجال تبني الافكار والتصورات التي تخص عمل مشروع الفكر العربي الجديد.
  9. الدعوة الى توسيع وتنشيط المنابر الثقافية العربية، والتنسيق مع الجهات الاعلامية والثقافية بهدف ايجاد مجال عام للتواصل الثقافي.
  10. الاتفاق على عقد لقاءات دورية لمراجعة الافكار التي يتم الاتفاق عليها وتشكيل لجان المتابعة الخاصة بها.
  11. العمل على ايجاد اليات عمل للتنسيق مع المراكز المعنية بصناعة الخطاب الرقمي والذكاء الاصطناعي، بهدف ايجاد بيئة رقمية تسهم في تسريع وتوسيع مديات التواصل الثقافي.
  12. تيسير التنسيق مع دور النشر بهدف ايجاد مجال لطبع الكتب الخاصة بالتنميات الثقافية والبشرية، وايجاد اليات مناسبة لتوزيعها، وفتح منابر للحوار حولها.
  13. الاهتمام بصنّاع الرأي الثقافي في مجالات الفنون والتاريخ وعلوم الاجتماع والنفس والانثربولوجيا واللغة بوصفهم فاعلين حقيقيين في صناعة الخطاب الثقافي.
  14. ضرورة الاهتمام بوضع قاموس ثقافي يخص المقولات والمفاهيم التي تدخل في اجراءات المشروع الفكري، مثل "النهضة والديمقراطية والحرية والهوية والانتماء والشراكة وغيرها" وباتجاه يهدف الى التعرّف على شروطها وظروفها، واجتراح سياق توصيفي واستعمالي جديد لها بعيدا عن علاقتها بالعقائد المركزية.
  15. العمل على تنشيط الدراسات الثقافية والنقد الثقافي التي تعمل في اطار دراسة الانساق الثقافية الفاعلة في الفكر العربي.

 

التوثيقات.

  1.  بوعرفة عبد القادر/ سؤال النهضة في الفكر العربي المعاصر/ موقع الجزيرة/ في 11/4/2019
  2. جورج طرابيشي من النهضة الى الردة/ دار الساقي بيروت 2009 ص93
  3. محمد عطوان/ صورة الآخر في الفكر السياسي العربي/ دار الرافدين/ بيروت 2017 ص28
  4. هشام شرابي/ النقد الحضاري للمجتمع العربي/ مركز دراسات الوحدة العربية/ بيروت 1999 ص36
  5. تزفيان تودوروف/ فتح اميركا "مسألة الآخر" ترجمة: بشير الرفاعي/ دار سينا للنشر/ القاهرة  1992 ص11
  6. اميل امين/  برنارد لويس... بطريرك الاستشراق/ جريدة الشرق الأوسط/   في 10 يونيو/ 2018
  7. حسين درويش العادلي/ الايديولوجيا ودولة اللامة، وأمة اللادولة/ مجلة الرواق/ مركز رواق بغداد للسياسات العامة/ العدد الثامن/ آب/ 2022
  8. ينظر ..محمد عطوان/ صورة الاخر ص158

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*علي حسن الفواز ناقد أدبي وروائي وباحث إعلامي من العراق، عمل محررا في عدد من الصحف والمجلات العراقية، ثم أصبح رئيسا لتحرير جريدة الصباح الصادرة عن شبكة الإعلام العراقي، ثم انتخب رئيسا للاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، حتى منتصف هذا العام. له عدة كتب في النقد والرواية وعشرات المقالات في الشأن السياسي العربي والدولي,