يواصل محرر (الكلمة) الناقد المصري، هنا دراسته التي بدأها في العدد الماضي لرواية الكاتبة السعودية ليلى الجهني (جاهلية)، فيكشف في هذا القسم الأخير من الدراسة عن جدليات الحكاية ودلالات التباين بينها وبين التتابع السردي، وعن طبيعة الشخصيات ومدى تحكم الرغبة المثلثة في علاقاتها.

محتوى الشكل وجدليات الحكاية والشخصيات

بقية قراءة في رواية ليلى الجهني «جاهلية»

صبري حافظ

أتابع في هذا المقال استكمال الدراسة التي بدأتها في العدد الماضي من (الكلمة) لرواية ليلى الجهني (جاهلية)، وأستكمل هنا بعض جوانب هذه الرواية المهمة التي تحتاج إلى أكثر من قراءة، وأكثر من تحليل، والتي لايمكن استنفاد كل مستويات المعنى المتراكبة فيها في قراءة واحدة.

محتوى الشكل وجدليات الحكاية السردية
تكشف لنا بنية السرد الزمنية في (جاهلية) أن للشكل في هذه الرواية الجميلة، كما في أي عمل فني جيد، محتواه. فبعد مؤنس الخامس عشر من وعل (شوال)، ترتد بنا إلى جبار الثالث عشر من وعل، ثم أهون الثاني عشر من وعل، ثم تعود مرة أخرى لجبار الثالث عشر من وعل، وبعده إلى مؤنس الخامس عشر من وعل، وكأننا نراوح في الزمن لانزال في الخمسين صفحة الأولى من الرواية. قبل أن نتقدم في الزمن يوما أو يومين، لنعود بعدها القهقرى شهرين إلى عاذل (شعبان)، لتنتهي بنا بعد حفنة من الشهور مع مطلع العام التالي واندلاع حرب الصدمة والترويع في عام 1424/ 2003. فزمن الرواية هو الشهور الستة السابقة لاندلاع حرب غزو العراق، وإن كان مسرح أهم أحداثها هو أيام معدودات بلغت فيها الأحداث ذروتها الموازية لذروة الإعداد لغزو العراق، والانقضاض عليه، في نوع من التجاور أو التفاعل بين العام والخاص، بين السياسي والروائي، بين العراق و«مالك». فالرواية تستخدم في بنيتها الزمنية، وفي بنيتها السردية معا استراتيجية التأطير المستمر لكل فصل، بصورة ينهض فيها الإطار بعملية توسيع سياق الحدث البالغ الخصوصية، وإدخاله في عملية جدل مستمرة مع الحدث العام الذي يبدو ظاهريا أنه لاعلاقة له به على الإطلاق، في نوع من تكريس الغفلة التي هي صنو التخلف والعنصرية، والوجه الآخر لهما. وفي تقنية تتعمد أن يقوم فيها التجاور بين العام والخاص بإرهاف وعينا بحقيقة هذا الخاص ووضعه المزري في العالم. بينما يقوم العام بدور الذاكرة الداخلية للنص الذي يبدو أنه بلا ذاكرة خاصة به. فما يدور به يمكن أن يدور في أي عام من الأعوام العشرة أو حتى العشرين الأخيرة بعد أن تكشفت الطفرة النفطية عن تناقضاتها في المجتمعات النفطية في الجزيرة العربية والخليج. وما فعله هاشم بمالك، كان يمكن أن يدور في أي زمن مادام زمننا ـ كما تنبهنا الرواية في أكثر من موضع ـ سارد في جاهليته لايزال، لكن النص الروائي، وهو ابن العصر الحديث يعي أن هذا الزمن السادر في الجاهلية هو نفسه الزمن الذي عاد فيه الاستعمار بشكله التقليدي البشع إلى عالمنا العربي المعاصر، ومن هنا كان حرص النص الروائي على إرهاف وعي قارئه بالجدل المستمر بين الزمنين: زمننا الراهن الذي عاد فيه الاستعمار، وزمن الجاهلية الأولى الذي ارتد إليها الواقع العربي على الصعيد الاجتماعي والسياسي والاخلاقي معا.

إذن فللبنية الزمنية الزجزاجية التي تتأرجح بين التعرج والمراوحة في مكانها، وبين السير حثيثا للأمام قبل التقهقر مرة أخرى للوراء، دلالاتها السردية والتأويلية التي تكشف لنا حقيقة ما تنطوي عليه من مستويات متعددة للمعنى إذا ما شرعنا في تأويل الرواية، أو تحليل العلاقة بين الشخصيات فيها. فالحكاية التي ترويها لنا الرواية ـ أو ما يعرفه نقاد مدرسة الشكليين الروسية باسم Fabula أي الحكاية في تسلسلها الزمني، وترتيب وقوع أحداثها الطبيعي أو التاريخي ـ تبدو لنا وكأنها حكاية عادية مكرورة من حكايات الجزيرة العربية، وهي تعاني أوجاع استيعاب التطور الاجتماعي السريع الذي أعقب الطفرة النفطية، وأنتج توقعات مبالغ فيها لدي كثيرين من مواطنيها، سرعان ما تخثرت أحلامها وتركت تناقضاتها بصمتها على الواقع. هي حكاية حب عادية، أو بالأحرى غير عادية، بين شاب ذكي مرهف «مالك» يستكثر عليه المجتمع ذكاءه وتطلعاته إلى مستقبل أفضل، وتتحالفت ظروف وعقبات كثيرة ضده بسبب لونه الأسود بالدرجة الأولى، وفتاة ذكية من الطبقة الوسطى «لين» أتاح لها عقل أبيها المتفتح نسبيا واستنارته أن تتعلم وأن تصبح طبيبة وتعمل في مؤسسة لرعاية النساء اللواتي تعانين من مشاكل نفسية واجتماعية. وقد استمرت حكاية الحب تلك لسنوات ثلاث، تتطور وتتعمق بالرغم من المناخ المعادي لمثل تلك العلاقات التي لابد من إحاطتها بالكتمان والسرية. ومع ذلك يراوغ «مالك» ولا يتقدم لخطبة «لين»، حتى يحصل على ما يحسن وضعه السلبي، أو على ما يدعى بصك الغفران، أي بالاعتراف بجنسيته السعودية، رغم أنه ولد في تلك البلاد، وعاش كل حياته بها. وحينما يتقدم لها يرفضه أبوها لمعرفته بأن المجتمع لن يغفر له ـ ولا لابنته ـ أبدا الزواج من رجل أسود، في لون بلال مؤذن الرسول، وكأن الإسلام لم يحدث، ولم تنته مواضعات الجاهلية الأولى. وبالرغم من أن المحبين استطاعا التكتم على علاقتهما لسنوات ثلاث، إلا أن شقيق الفتاة الأصغر «هاشم» ـ وهو شاب أخفق في التعليم وفي العمل معا، ولكن توقعاته ومطالبه في الحياة وقدراته على إشباع رغباته، وخاصة الجنسية منها، أكبر كثيرا من إمكانياته ـ يكتشف في نفس الأسبوع الذي تقدم فيه «مالك» لأبيه أن لأخته علاقة مع هذا الشاب، فيقرر مع صديقه «أيمن» أن ينتقم لشرفة المثلوم، بتلقين «مالك» درسا، فيتربصان به ويضربانه ضربا مبرحا أوشك أن يودي بحياته.

هذه هي الحكاية Fabula في ترتيبها الزمني المتسلسل، أو كما جرت وقائعها في الزمن، لكن ما أحال هذه الحكاية التي توشك أن تكون ميلودرامية، ومكرورة، إلى رواية مدهشة وجريئة، هو طريقة كتابتها سرديا، أو ما يدعوه الشكليون الروس بالـ Sjuzhet أي التسلسل السردي لتلك الحكاية(1)، وطريقة ترتيبها الزمني بشكل مختلف ومقصود، والتي يترجمها البعض بالحبكة، وأوثر عليها مصطلح التسلسل أو التتابع السردي، بما ينطوي عليه من إعادة ترتيب لأحداث الحكاية، وتغيير في المنظور أثناء تقديم تفاصيلها. فالتقديم والتأخير في أي تعبير لغوي ـ كما يعلمنا النحاة والبلاغيون العرب القدماء، وعلى رأسهم عبدالقاهر الجرجاني العظيم ـ له دوره ودلالاته. ولا يشذ السرد عن أي تعبير لغوي، يكتسب فيه التقديم والتأخير الذي ينتاب مفردات الحكاية ويغير تسلسلها الزمني أثناء روايتها أدوارا عديدة. فهو يغير في الأوزان النسبية لمفرداتها من ناحية، ويختار لها بداية مغايرة ونهاية مختلفة من ناحية أخرى، كما أنه يطرح على القارئ من خلال استثارة أنواع محددة من التوقعات والاستجابات، تأويلاته ويدير بها حواره مع الواقع الذي صدر عنه النص، وسعى للتوجه باستقصاءاته إليه. لهذا كان من الضروري البداية بالبنية الزمنية والكشف عن دلالاتها وعن الجدل المستمر بينها وبين البنية الزمنية للإطار والعتبات كي نتعرف على بعض دلالات هذا التسلسل السردي.

والواقع أن الجدل بين ترتيب الحكاية الزمني وبين ترتيب تتابعها السردي المختلف، بما فيه من تقديم وتأخير وتغيير في منظور السرد هو ما يجعل النص السردي أدبيا، وهو ما يتيح لهذا النص تجاوز دلالات الحكاية البسيطة وطرح الكثير من الأسئلة المقلقة أحيانا حول الواقع الذي صدرت هذه الحكاية عنه، أو جرت في سياقاته. ووعي أي قراءة بهذا الجدل هو ما يتيح لها العثور على مفاتيح السرد الأساسية، والكشف عن مختلف طبقات المعنى الثاوية فيه. لأنه بدون تناول هذا الجدل يفوت القراءة الكثير مما ينطوي عليه النص من رؤى ودلالات. فقد اختارت الكاتبة أن تبدأ حكايتها من النهاية، أو من قرب النهاية، وأن تحيل الزمن الروائي كله إلى عبء على الشخصيات جميعا، تضعها، كل لأسبابها الخاصة، تحت وطأة الموت المتوقع، بكل دلالاته وتبعاته وعواقبه من ناحية، وتحت وطأة مواجهة الذات من ناحية أخرى. بالصورة التي يتعمق بها وعينا بالشلل والعجز عن الفعل، بعدما أختارت حصر الفعل في الزمن المستعاد، أو استرجاعه من خلال منولوجات الشخصيات الداخلية. فبينما نجد أن ما يشغل «هاشم» هو الخوف من القصاص، أو الرعب من أن ينتهي مصيره إلى نسخة أخرى من مصير موسى، وما يشغل أمه هو الخوف عليه والخوف من الفضيحة التي تعتقد أن ابنتها «لين» قد سببتها لها بزياتها الواضحة لمالك في المستشفى، نجد أن أباه واقع تحت وطأة تبكيت الضمير، والوعي بأن الكثير من أفكاره «المستنيرة» قد فشلت في أول اختبار جدي لها، عندما تقدم له «مالك» طالبا يد ابنته. وهذه المشاغل أو الضغوط بتنويعاتها وأوزانها النسبية، من حيث مصداقية بعضها وافتقار بعضها الآخر للمصداقية مثل مشاغل الأم الزائفة، هي التي تكسب الجدل بين الترتيبين: ترتيب الحكاية الزمني أو التقليدي أو الكرونولوجي وترتيب التتابع السردي المغاير لها، أهميته في تخليق مستويات متعددة ومتراكبة من المعنى.

لأن اختيار بدء الحكاية من تلك اللحظة المتأزمة يضع جميع شخصياتها تحث وطأة عبء فادح، لا يقل قوة عن وضعها تحت كشاف من الضوء السردي والتأويلي الذي تتفجر فيه بالدلالات: فلكل شخصية صليبها الخاص الذي تحمله طوال السرد ولا تستطيع منه فكاكا. فكل من هاشم وأيمن واقعان تحت وطأة الجريمة غير المبررة، كما أن هاشم مرعوب من شبح القصاص الذي سينقض عليه إذا ما مات مالك. أما الأم فإنها واقعة تحت وطأة الفضيحة والخوف على الإب، وهو الخوف الذي تشاركها فيه إلى حد ما إبنتها لين، بينما نجد أن مالك واقع من البداية تجت وطأة الموت الوشيك والمرتجى في آن، بينما وقع الأب تحت وطأة تبكيت الضمير. فقد اختارت الرواية أن تبدأ من لحظة التزامن بين رفض الأب لمالك حينما تقدم له يخطب منه ابنته «لين»، ورفض الإبن لمجرد وجود علاقة بين اخته «لين» التي تنطوي علاقته بها ـ كما نعرف من تفاصيل السرد ـ على الكثير من التوتر والإشكاليات، وبين «مالك» الذي يصفه في نوع من التحويل أو الإسقاط Transposition بأنه مجرد «حيوان»، ونحن نعرف من السرد أن هذه الصفة أليق بـ «هاشم» نفسه منها بـ «مالك».

وهذا التزامن يتيح لكل من الرفضين أن يكون مرآة للآخر، بحيث يبدو رفض هاشم، وهو الرفض التقليدي القائم على التعصب والعنصرية والجهل، أكثر منطقية من رفض الأب الذي يتذرع بتعلات الحفاظ على مستقبل ابنته وإنقاذها من عواقب اختياراتها الاجتماعية، ويتناقض في الوقت نفسه مع الكثير من قناعاته وتصوراته المعلنة، والتي تبدو بائسة وكسيحة حال اختبارها في محك التجربة. وقد كان السرد بارعا في اختياره تجسيد الرفض الأول بالفعل الجسدي والعنف الغبي الأعمى الذي أوشك أن يفضي للموت، بينما تعثر الرفض الثاني في شباك الكلمات، يخاتل بها نفسه عجزا عن المواجهة، ورفضا للقبول بمنطوقها في آن. فلم يعرف الأب كيف يقنع نفسه بما يتفوه به وهو يقول لمالك «سامحني ياولدي، بس أنا ما أقدر أرمي بنتي للناس تاكل لحمها... العيب مو فيك، العيب في الناس اللي ما ترحم وأنا ما أقدر ارمي بنتي للأذى»(ص 129) ويصر على تكرار ذلك، بالرغم من أنه يرد على مالك حينما يقول «ياعمي وانت لما تزوّجني إياها ترميها؟» بـ «أبدا ياولدي، لكن إنت فاهم ومتنوّر وتعرف أنا إش أقصد»(ص 129) فيبدو اعترافه بفهم مالك واستنارته مفارقا لكل ما يكرره من تعلات، ولما يلقي مالك في وجهه بالسؤال المباشر والصادم «عشنّي أسود ياعمي؟» (ص 130) لا يستطيع لهذا السؤال جوابا، لذلك «ظل السؤال معلقا في الفراغ بينهما، فيما هو يفكر كيف سينجو من شركه؟ إن قال لا، فسيكذب، وإن قال: نعم فسيؤذيه. لكنه أسود، وإن لم ينظر إلى لونه فإن الناس لن تفعل شيئا غير أن تنظر إلى لونه»(ص 130).

ولم يقبل مالك تخبط الأب وتعثره في حبال ارتباكاته. لذلك لا يبارحه قبل أن يعلن: «أنا ما ح اعتبر هادا ردّ نهائي. خد وقتك ياعمي وفكر بالموضوع، وح أرجع أتصل بك»(ص 130) لكن حماقة هاشم أغنته عن عبء العودة للاتصال به، أم تراها وضعته أمام مسئولية اختياراته من جديد؟! كما أن الأب أيضا لم يقبل هو الآخر ما انتهى به أمر المواجهة بينهما حيث يؤرقه تبكيت الضمير «لقد ظل نائيا عن أن يختبر قناعاته حول ألوان الناس وأجناسهم، واليوم يجد نفسه تحت وطأة اختبار ثقيل، اجتيازه والإخفاق فيه موجعان جدا»(ص 131). ومما يضفي على هذه الضغوط ثقلا مضاعفا هو معرفتنا بأن كل تلك المواجهات: الجسدية منها والكلامية قد دارت بعدما بدأت العلاقة بين الحبيبين، مالك ولين، في التخثر حينما اكتشفت أنه أخفى عنها مسألة افتقاره لما يسميه «بصك الغفران ممهور بسيفين يجتثان نخلة»(ص 106). وقد فتح تصريحه المتأخر لها بهذه الحقيقة أبواب الجحيم: الأخرين بالمعنى السارتري للجحيم: حينما سمعت اصواتهم تنهض من داخلها وهي لاتزال معه على الهاتف. «لم يقل شيئا، لم تقل شيئا، وحفّهما صمت ثقيل خانق مفزع. وعندما استطاعت أن تتبين شيئا مما حولها رأتهم ينسلون إلى غرفتها من كل مكان... رأت كل اولئك الذين سيكتشفون عما قليل أنها ثقبت سياجهم الشفّفاف المقدس، الذي نصبوه منذ دهور طويلة مضت بين الألوان والأجناس والأعراق كي لا تختلط؛ فيحل الفساد في البرّ والبحر. ملأوا فضاء الغرفة من حولها، وابتسموا ساخرين وهم يرددون الواحد تلو الآخر ـ قلنا لك تكروني ما فهمت، أهو طلعلك بمصيبة تانية، وانت آخر من يدري»(ص 104).

المثير في المسألة هنا، وهو أمر كاشف لاشك، أن هذه الأصوات التي تتخلق في فضاء النص حال اعتراف مالك المتأخر بأزمته، ليست مفصولة بأي حال من الأحوال عن شخصية «لين»، أكثر شخصيات النص نقاء واستنارة. فهي أصوات تطلع من داخلها وتتخلق في فضاء غرفتها وهي لاتزال على الهاتف وحدها معه. فاقتحامات الواقع الخارجي متجذرة في أغوار الشخصيات، وليست منفصلة عنها. لأن التتابع السردي الذي وضع الموقف كله، أو بدأ به وهو تحت وطأة كل هذه الضغوط المختلفة كما أشرت، أتاح لنا أن نتعرف على جل الشخصيات وقد أسقطت تلك الضغوط عنها الأقنعة، فتكشفت لنا على حقيقتها التي قد تكون غائبة عنها إلى حد ما. كما أنها أتاحت لنا ـ وهذا هو الأهم ـ أن نكتشف حقيقة الجدل الدائر بين تلك الشخصيات من ناحية، وبينها وبين أنفسها من ناحية أخرى بسبب تلك التعرية التي اسقطت عنها كل أقنعتها. فقدر كبير من غاية إعادة ترتيب الأحداث بطريقة مغايرة لترتيبها الكرونولوجي يستهدف الكشف عن الشخصيات، وعن جدليات العلاقات الداخلية بينها بصورة ينطق بها الحدث العادي بدلالات تتجاوز حدوده وعاديته. هذا فضلا عن أن بداية السرد من النهاية واستخدام المنظور البروستي الذي يسعى لإعادة أو استعادة الماضي واستيعابه هو في جوهر الأمر استيعاب للحقيقة التي يمضي معظم البشر حياتهم في مراوغتها ومحاولة الهرب أو التنصل منها. ففي تلك الاستعادة يدرك الإنسان أنه ـ كما سنكتشف في تناولنا لآليات الرغبة المثلثة ـ قلد الآخرين على الدوام، من أجل أن يبدو أصيلا في عيونهم، وفي عينيه أيضا. إن استعادة الماضي ـ كما يعلمنا بروست ـ تنطوي على حقا على تدمير جزئي لكبرياء الذات، وهذا ما سنكتشفه في القسم التالي من هذه الدراسة.

الرغبة المثلثة وجدليات علاقات الشخصيات
لاينفصل التتابع السردي للأحداث في أي عمل سردي جيد عن طبيعة الشخصيات وأسلوب الكاتب/ الكاتبة في تخليقها على الورق، بصورة تصبح معها شخصيات حقيقية من لحم ودم، وأهم من هذا في العمل الروائي الجيد أن تصبح شخصيات إشكالية تدعونا للتفكير فيها، وفيما يواجهها من اختيارات أو أزمات، لأن الإنسان لا ينفصل عن اختياراته، وفيما تنطوي عليه من دلالات. «فالأحداث ليست بأي حال من الأحوال ثاوية في طبيعة الشخصية أو مضمرة فيها، ولكنها تستثير الشخصية التي كانت قبلها غفلا أو كمّا غير معروف. ولكنها ليست أحداثا تتغيا اختبار الشخصية، بقدر ما تكشف عن الأبعاد والدلالات الإنسانية للعالم، وتكتشف الشخصية نفسها، وتتعرف على حقيقتها، من خلال تفاعلها مع تلك الأحداث، وبحثها في نفسها وفي العالم معا عن إجابات للأسئلة التي تطرحها عليها تلك الأحداث»(2)، وهذا ما يتحقق بشكل متميز في رواية ليلى الجهني الجميلة (جاهلية) حيث نجد أن الشخصيات تتلبور بشكل ناضج ومقنع من خلال هذا الترتيب أو التتابع السردي المتميز. وتتبلور معها علاقاتها مع الشخصيات الأخرى بالصورة التي تصبح بها تلك الشخصيات مرايا لبعضها البعض، وتصبح الرواية برمتها قاعة مرايا ترى فيها كل شخصية نفسها، وقد تبدت على مرايا الشخصيات الأخرى، وعلى القارئ أن يجمع شتات تلك الصور الفسيفسائية التي تنعكس على مختلف المرايا كي يسبر بحق أغوار أي شخصية من شخصيات الرواية.

وقبل التعرف على شبكة علاقات الشخصيات في تلك الرواية المهمة علينا أن نتريث قليلا عند مفهوم الرغبة المثلثة الذي بلوره رينيه جيرار في كتابه الأساسي (الكذب الرومانسي والحقيقة الروائية)(3)، وهو عندي أحد أهم الدراسات التي نظرت للرواية الحديثة في القرن الأخير(4). حيث يكشف لنا جيرار في كتابه هذا، ومن خلال تحليله لنصوص أساسية من عيون الرواية العالمية، عن أن الرغبة في الرواية ليست أبدا شيئا بسيطا وثنائيا بين الذات والرغبة، أو الذات وموضوع الرغبة وحدهما، ولكن هناك دائما آخر، يسميه الوسيط الذي تكتسب الرغبة ثقلها وغوايتها من خلاله؛ وقد يكون في بعض الأحيان منافسا مضمرا للراغب، وتتحول به الرغبة إلى علاقة مثلثة تتسم بقدر كبير من الإشكالية. فهي علاقة أبعد ما تكون عن المباشرة والميكانيكية. «فلحظة ميلاد الرغبة يكون الطرف الثالث دائما موجودا... فهو القابلة التي لاتتم بدونها عملية الميلاد، وله دور متميز وبارز في تكوين الرغبة وبلورتها»(5). وهذا ما يجعل كل رغبة روائية تنطوي على رغبتين متعارضتين، لايمكن الكشف عن حقيقتهما دون التعرف على الطرف الثالث المضمر، والغائب في كثير من الأحيان. «فالرغبة المثلثة هي الرغبة التي تغير موضوعها ـ أي الراغب ـ وتحوّله»(6).

ويتوقف الأمر كثيرا على المسافة بين الذات الراغبة والوسيط أو العنصر الثالث، حيث تحدد لنا هذه المسافة ما أذا كانت عملية الوساطة تلك هي وساطة داخلية Internal Mediation أم خارجية External Mediation حيث تتقلص المسافة أو تختفي بين الذات الراغبة والوسيط في الأولى، وقد تتحول إلى صراع بينهما عندما يستحوذ الوسيط أحيانا على موضوع الرغبة، أو ينافس الراغب عليها فيه، بينما تتسع في الثانية إلى حد غياب الوسيط أو اختفائه في كثير من الأحيان. حيث تكون المسافة بين الراغب والوسيط كبيرة لحد يمنع الاتصال بين مجالين من الاحتمالات، التي يحتل مركز كل منهما، كل من الوسيط وموضوع الرغبة. بينما نجد أن تلك المسافة في الوساطة الداخلية قد تقلصت إلى الحد الذي يسمح للمجالين أن يتداخلا، ويتخلل كل منهما الآخر بطريقة حادة(7). وهذه التفرقة بين الوساطتين مهمة في الكشف عن طبيعة العلاقات بين الشخصيات. «لأن الوساطة الداخلية تسيطر عليها في عالم تنمحي فيه بالتدريج الفوارق بين البشر»(8). وهذه الوساطة الداخلية هي التي نجد تجلياتها المختلفة في (جاهلية)، بعد أن خلقت الطفرة النفطية، وما صاحبها من حراك اجتماعي ملحوظ، وهم الانمحاء التدريجي للفوارق بين البشر، بينما مازالت البنية القبلية الاجتماعية وما يتبعها من ضيق أفق وعنصرية تكرس تلك الفوارق، وتؤكد تصنيفاتها العرقية واللونية والطبقية على السواء. وهذا التوتر المستمر بين ما يسميه مارسيل بروست بـ «بوابة الخيال الذهبية» و«باب التجربة القميء»(9)، هو ما يضفي على علاقات الشخصيات في الرواية ثراء وحيوية.

وإذا ما بدأنا بأولى شخصيات الرواية «هاشم» وحاولنا أن نسبر أغوار رغبته في «تأديب الحيوان» وتلقين «مالك» درسا لن ينساه، سنجد أنه يوشك أن يكون نموذجا مجسدا للرغبة المثلثة، فهو في رغبته تلك يكشف لنا عن رغبة أخرى ملازمة ومناقضة، وهي رغبته لأن يكون بحق الرجل الذي جعلته أمه «عمود حياتها» (ص 8)، ولأن يكون الرجل ذاته في حياة أخته التي يغار منها ويحسدها، و«الحسد والغيرة ليست إلا مصطلحات تقليدية للوساطة الداخلية»(10)، ويحقد عليها «يريدها أن تتعذب طويلا، حيوانة. لو أن أباه ولاه أمرها، لو أنه لم يحل بينه وبينها»(ص 17). هذه الحيلولة بينه وبينها هي التي تؤجج سعار رغبته في أن يخضعها لإرادته، وقد استعصت عليه وتفوقت عليه لا في حب أبيها فحسب، ولكن في كل ما أنجزته من تعليم أخفق هو فيه، ومعرفة لايستطيع احتيازها. وهو في هذا يكشف أن مشكلته أن رغبته فيها نوع من المحرم، فهي رغبة تذكرنا بعمليات نقل آليات الوساطة من العالم الخارجي Exogamic Mediation إلى العالم الداخلي الحميم Endogamic Mediation. فهي «أقوى منه. عليه أن يعترف بهذا على الأقل... لو يعرف من أين لها هذه القوة؟ كأنما لا يهمها أن يعرف بما بينها وبين الحيوان أحد»(ص 18). فهي حقا الصورة النقيضة له في كل شيئ تقريبا. نجحت في التعليم الذي أخفق فيه، وفي العمل الذي فشل في الحفاظ عليه، وفي الحب الذي يطارد سرابه ويخاف منه، وتستمتع بحياتها بينما يتخبط هو في كل شيء. وهو «عندما يقارن بين حياته وحياة اخته يخزه شيء صغير حار. حياتها بلاشك لاتروقه، لكن لها معنى ـ هكذا يفكر ـ فلديها ما تفعله وما تنتظره وما تحلم به... يحسدها إذ يدرك أنها تفعل ما تفعله باستمتاع خالص. ليس لديه ما يفعله بهذا القدر من المتعة»(ص 37). بل هو بلا عمل «منذ أربعة أشهر وهو بلاعمل»(ص 41). إذن هو يريد أن يكون مكانها، ولايريد أن يكونها في الوقت نفسه امرأة، وهذه أيضا من أعراض الوساطة الداخلية، والرغبة المثلثة التي يتمرغ في فيافيها دون وعي منه.

وضعفه إزاءها يجعله يعلل نفسه باستحالة التفوق عليها، لاستحالة أن يقلب الزمن ويعيد ترتيب الأمور فيكون هو الأكبر بدلا من أن يكون الأصغر. إذ يتوهم أن سر قوتها في أنها الأكبر «لو كان في مقدوره أن يصعد سلم العمر بمثل هذه السرعة كي يصبح فرق العمر بينه وبينها لصالحه، ويكون هو الأكبر ولو لمرة واحدة، الأكبر»(ص 20). لكنه لايعي أنه يواصل بتصرفاته أزاءها تصغير نفسه بدلا من تكبيرها. فقد «أدرك مبكرا أن كثيرا من تصرفاته لاتعجبها»(ص 21). وها هو يكتشف بعد أن فتش غرفتها أن تصرفاتها هي الأخرى لا تعجبه، فهي «على علاقة برجل، وأي رجل؟»(ص 19) ولكنه لايستطيع أن يواجهها، ولا يملك إلا أن «يغادر غرفتها مرتبكا دون أن يحمل دليلا واحدا يبرر به لأبيه ثورته عليها»(ص 18). ورفض «لين» الصامت له يزيد من استعار رغبته في البرهنة على رجولته عليها، ويعزز من كراهيته لها، والكراهية هي الوجه الآخر للحب وليست نقيضه. وليس أمامه إذن إلا أن ينتقم منها، انتقام الجبان وبأسلوبه، ليس من الشخص موضوع الرغبة، ولكن من موضوع رغبة هذا الشخص. فهو عاجز عن الانتقام من «لين» مباشرة، «هي أخته، ولن يضربها، حتى إن فكر في ذلك فإن أباه لن يدعه يفعل، وربما ضربه. لين يضربها، لكنه سيعرف كيف يذيقها ما هو أوجع من الضرب» (ص 35). خاصة بعدما عرف أن لإخته علاقة برجل دونه قيمة، فهو رجل أسود، أطاحت عنصرية المجتمع بقيمته، ولذلك يسهل من جبان مثله الاعتداء عليه وقد تفرق دمه بين القبائل. وتشعل هذه المعرفة سعار رغبته في الانتقام منها بعدما عجز عن أي يحظى باحترامها، بينما يحظى هذا «الحيوان» في نظره بحبها.

إن رغبة هاشم في الانتقام لشرفه تنطوى على رغبة دفينه في منافسة «مالك» والحلول مكانه. إنه يريد ـ دون أن يعي ذلك بوضوح ـ أن يحقق لدي أخته «لين» ما حققه «مالك» على الأقل، وهذا ما يشعل نيران المنافسة والعداء بينهما. وما يزيد من حدة هذه المنافسة بينهما أن هذا «الحيوان/ الأسود» حقق ما لم يحققه هو، ليس فقط الفوز بحب اخته، ولكن أيضا الحصول على العمل والاستقرار والحب التي اخفق في الحصول عليها. لأنه بعدما «أنهى الثانوية بالبركة، لم يجد كلية تقبله» (ص 29). كما أن لدى «مالك» سيارة «كاميري» من أحدث طراز، أفضل من سيارته، وهو الذي «حلم ببورش، حلم بها طويلا، لكنها شيئ باذخ لن يطوله بسهولة. حلم مرات أخري بفيراري صفراء تسر الناظرين. لكن الأشياء لاتأتي دائما كما نحلم. لعن الثانوية العامة التي لم تأت كما ينبغي، والشهادة السخيفة. ولعن حظه إذ لم يجعل أباه غنيا»(ص 23). ولم يبق أمامه إلا أن يعلل النفس بضرورة «صيد الحيوان الذي حام حول الحمى»(ص 42). ولما حان أوان الإيقاع به مع صديقه «أيمن» لم يجد به ما يعيبه. «تمنى لو اكتشف به عيبا، أي عيب، فرأي أمنية صغيرة تدفن بلا كفن» (ص 44)، ومع دفنها تستعر آليات الرغبة المثلثة وتناقضاتها. فيلوب السؤال أحشاءه بعدما ضرباه «ما أدراه أن الذي خلّفاه ـ أيمن وهو ـ مضروبا ملطّخا بدمه قد ركب أخته؟»(ص 45).

فنحن هنا بإزاء شخصية تتخبط في شبكة عنكبوتيه نسجت لها ولا تستطيع منها خلاصا. فهي بنت الطفرة النفطية التي فتحت أمامها أفق أن تعيش وأن تجرب ما لم يعشه أبوه أو يخطر على باله. (ص 21)، ولكنها فتحت أمامه في الوقت نفسه أبواب الإحباط والسأم. بعدما بدأ يهوي إلى قيعان سلم أحلامه ورغائبه. لذلك نجد أن «هاشم» يعيش حياة استهلاكية ومليئة بالأذى. لا يجلب إلا الأذى لكل من يتصل به، وأيضا لنفسه، لأنه في سعيه لإشباع غرائزه مدفوع بالخوف. فهو يندفع في مساره كي يجنب الأسرة الفضيحة، ولكنه لا ينجح إلا في أن يجلب على نفسه وعلى الأسرة عار تلك الفضيحة ويحكم قبضتها على الجميع. فهاشم شخصية تعيش في التناقض: تحب أختها وتكرهها في الوقت نفسه، وهي ترفض مالك، ولكنها لاتستطيع وقد اكتشف «في مباغتة مؤلمة أنه لم يكن معيبا»(ص 44) إلا أن تحترمه لأنه على الأقل استطاع أن يحظي باحترام أخته، وربما «ركبها». وهذا التخبط هو ما يمنح شخصيته إشكاليتها وثراءها معا. لكن مشكلة هاشم ـ سميّ بني هاشم وسليلهم ربما ـ كشخصية روائية أنه لم يبلغ، أو يقترب ـ كما كان ينبغي بما وفرته خامته للكاتبة ـ أكثر ممن يسميهم رينيه جيرار بـ «وحوش ديستويفسكي الجديرين بالاحترام» (11)، لأن المؤلفة لم تحب شخصيتها تلك بالقدر الكافي الذي يتيح لها أن تتغلغل أكثر في أعماقها، وأن تسترد من خلال هذا التغلغل بنية الرغبة المثلثة التي تحركه من الداخل كي تتعرف بذلك على المرض الكياني العويص، ومنطق الرغبة المثلثة التي تكشف لنا وله قبل كل شيء مدى ما يتمرغ فيه من زيف، ومدى توقه المخزي لأن يكون «مالك». صحيح أن استحواذ الرغبة الشيطاني عليه يصيبه بنوع من العمى، ويجعله غير قادر على تحمل عبء الحرية المحددة التي أتاحتها له متغيرات الطفرة النفطية ـ وهو ما لم يتوفر لجيل أبيه ـ فيظل حتى النهاية حبيس ما يدعوه ستندال بالخطايا الثلاثة للعصر الحيدث «الحسد والغيرة والكراهية العنينية».

أما «مالك» الذي لا يملك شيئا، ولا أمل له في امتلاك حتى مصيره بيده، فإنه يوشك أن يكون نقيض «هاشم» ومثيله في آن، فبينهما الكثير من التشابهات والاختلافات. لكن الغريب في هذه الرواية أن وحدة «مالك» وعزلته لاتقل عن وحدة «هاشم» وعزلته برغم تناقضهما الواضح وتنافسهما الأوضح، لكن كل منهما يظن أنه وحده المعتزل. فقد تخلت عن «مالك» هو الآخر حكمته حينما عرف «لين» ونسي حذره ووعيه بإشكالية وضعه الذي سبق أن مارسه مع مريم، إبنة جيرانهم الجميلة حينما صرحت له بحبها فكتب لها جملته الشهيرة «أنا رجل بلامستقبل، وأنت تستحقين من هو أفضل»(ص 170). نسي هذا الحذر، ونسي وصية أمه «ياولدي انتبه من بنات العرب» (ص 152) واندفع في حبها حتى الهلاك. متجاهلا مقارع التحريم والعنصرية التي تنهض في وجهه كل يوم بنعوتها الصارمة «الكور/ العبد/ التكروني/ الكويحة/ طرش البحر/ بقايا حجاج». وتملص أيضا من أن يواجهها بأنه يفتقر «للبطاقة الصغيرة الممغنطة، ودفتر العائلة المستطيل السمج، وجواز السفر بغلافه الأخضر الذي يبرق فوقه ذهب سيفين يجتثان نخلة» (ص140). وأهم من هذا كله نسي تاريخا كاملا من القهر والعنصرية بدأ منذ استدعاه مساعد مدير المدرسة المتوسطة وهو في الثالثة عشرة من عمره وواجهه بصفاقة:«يقولوا درجاتك عاليه، وأنا اسأل نفسي متعب نفسك ليه؟ يعني انت عارف اكثر مني أنك إن حصلت فرصة تكمل ثانوي، ما راح تحصل فرصة تكمل جامعة. فعلى أيه وجع القلب؟ إعط الفرصة لغيرك من عيال البلد. رد الجميل على الأقل للبلد إللي آوتك أنت وأهلك» (ص 144) واستمر تدهوره الذي يناطر تدهور «هاشم» وإن اختلف عنه، عبر «تنازله عن أحلامه حلما بعد حلم» (ص 145) وعبر اكتشافه لمحاولة أخيه يوسف الانتحار والتي دمرت حياة والدتهما مرة وإلى الأبد.

نسي هذا كله، ووجد نفسه ينجرف مع «لين» «ينجرف تجاهها بلا رويّة. تخلى عن حذره وصمته ورغبته الدائمة في أن تمضي الحياة، وأن يتحول حاضره إلى ماض يغادره، فلا يلتفت إليه. وكم أدهشه أن ينتبه فجأة إلى أن الحياة قد بدأت تستيقظ في أعماقه»(ص 153). لكن هذه اليقظة كانت يقظة إلى حين! حاول أن يتحرك بها كي ينفذ من ذلك الجدار الصلب/ الرقيق بين الأعراق والألوان في البلد الذي ولد فيه ولم يعرف الحياة إلا فيه، ولكن دون جدوى، ولما حاول أن يحصل على «صك الغفران» كشف له هذا الجدار عن صلابته وقسوته معا، عندما سأله الموظف بجدية ساخرا «عندك واسطة كبيرة؟ ولا تعرف تلعب كورة؟»(ص 159). ومع هذا كله ذهب إلى أبيها يطلب منه يدها، فرفض الأب طلبه، رغم اقتناعه الداخلي بوجاهته. وبينما يواصل «مالك» التخبط في تلك الشبكة التي نصبها له الواقع المتخلف من ناحية، وعجزه عن مواجهة «لين» بصراحة بحقيقة موقفه من ناحية أخرى، ينقض عليه «هاشم» وصديقه «أيمن»، ويتركاه على شفا حفرة من الموت، وكأنما لينقذانه من حيث لايعلم من حيرته الكيانية. ليظل موته معلقا في فضاء النص من البداية وحتى النهاية. لكن الرواية وهي تستعيد بتقنيات الاسترجاع تفاصيل حياته وما عاناه من مواقف تنم عن عنصرية واضحة، لا تجعل هذا الاسترجاع صنوا للشلل والعجز عن الفعل، بعدما أختارت حصر الفعل في الزمن المستعاد، أو استرجاعه من خلال منولوجات الشخصيات الداخلية بالنسبة للكثير من الشخصيات الأخرى. ولكنها تقدم لنا هذا الاسترجاع وقد انعكس على مرايا شذرات تراثية مختلفة عن علاقة الثقافة العربية بالسود على مر تاريخها الإسلامي الطويل. وهي شذرات تقوم بدور الترصيع السردي الذي يجعل الماضي مرآة للحاضر، ويدير بينهما جدل سردي دال، يكشف عن مدى إنزلاق المجتمع إلى رمال الجاهلية الأولى الناعمة، وعن استحكام قبضة منطقها المغلوط على الجميع، بما فيهم الأب الذي تذرع طويلا باستنارته.

فشخصية الأب لاتقل إشكالية عن بقية شخصيات الرواية الرجالية. فإذا كان «مالك» نقيض «هاشم» فإنه إلى حد ما شبيه الأب. ليس فقط من حيث وعيه الشديد بقسوة الواقع الاجتماعي وفهمه للآليات تحكمه في مصائر الأشخاص، ولكن أيضا من حيث غنى التواريخ التي عاشها، والتغيرات التي شاهدها في وطنه. فهو ابن الجيل الذي شهد «دوران جاجارين حول الأرض والضجة التي رافقته، تنحية الملك سعود، بدء البث التليفزيوني، أول سيارة مستعملة ابتاعها، الحرب مع اليمن، النكسة، هبوط الأمريكان على سطح القمر، سفره بالطائرة لأول مرة في حياته منذ أعوام قليلة سبقت ميلادها»(ص 127) وكأن الرواية تجعل معايشته لكل تلك التواريخ الدالة تمهيدا، أو تجهيزا له من أجل استقبال ابنته وتربيتها. «كل تلك اللحظات ولحظات أخرى غيرها بهتت في أعماقه عندما حملها بين يديه. وأحس دفء جسدها الصغير»(ص 127). لذلك فإن رغبة هذا الأب في أن تكون له ابنة من نوع مغاير هي حافزه. «نما لديه ما يشبه اليقين بأنها لن تكون بشرا عاديا»(ص 124) وأن يربيها على قيم جديدة هي التي رادت حياته «لم يكن في هذا اليقين شيئا من غرور الآباء وأفكارهم غير المعقولة عن أبنائهم، لا لو كان كذلك لعرف كيف يتجاهله. كان هدفا، ومادام هدفا فسيبلغه»(ص 124). وقد أوشك حقا أن يبلغه حتى جاءت الصدمة. فأيقظت كل وحوش الواقع الاجتماعي النائمة في أعماقه، واستثارت كل الأقاصيص التي مرت به في عمله بالمحكمة. المحكمة التي عليها أن تحكم بشرع الله، ولكنها تتحكم في مصائر البشر بشرع المجتمع وتحيزاته العنصرية. «لم يرد أن تكسرها الحياة، لكنه وجد نفسه اليوم، وليست الحياة، متورطا في كسرها». (ص 123)

هذا الوضع الإشكالي هو الذي يحول شخصية الأب في الرواية إلى مسرح لتلك المواجهة بين شرع الله، وبين شريعة الغاب أو شريعة المجتمع التي عانى منها مالك طوال حياته؛ بين شرع التقدم والخبرة التاريخية التي عاشها الأب، وعاشها العالم الخارجي معه، وبين آليات العودة للجاهلية الأولى، وقد استحكمت حلقاتها وشدت الجميع إلي قيعان انحطاطها، بينما الاعداد دائر في العالم الخارجي على قدم وساق لغزو العراق، والإجهاز على ما ظن الأب أنه حققه من وهم التقدم والتغيير. وفي أثناء هذه المواجهة تتكشف لنا أزمته وهشاشته معا. لقد شاهدنا كيف عجز عن الرد على سؤال مالك المدبب: «عشني أسود ياعمي؟» وها نحن نقرأ في أكثر من موضع تعلاته. «كيف يقنعها أن الحياة لاتشبه أفكارها؟» (ص 126) وهو سؤال كان يجب أن يكون: كيف يقنع نفسه أن الحياة لاتشبه أفكاره أيضا؟ «تساءل إن كان يرفض مالكا لأنه أسود، أم لأن الناس سترفضه؟ وللحظة رأى أنه يخوض في الوحل مع الآخرين، وأنه لم ينظر إلا إلى اللون، كيف له ألا يفعل ذلك؟ يا الله! لقد ظل نائيا عن أن يختبر قناعاته حول ألوان الناس وأجناسهم، واليوم يجد نفسه تحت وظأة اختبار ثقيل. اجتيازه والإخفاق فيه موجعان جدا». (ص 131) وهذا الوجع هو ما يدعوه جيرار بالمرض الكياني Ontological Sickness الذي يفت في ثؤر الروح ولا شفاء منه.

لكن أكثر شخصيات النص تعرضا لهذا الوجع الكياني هي «لين» بالطبع، فهي موضوع الرغبة، ولها في الوقت نفسه رغبتها التي كان الأب وسيط تبلورها الخارجي. فهي تعي بأنها تجسد له حلما تريد هي أيضا أن تكونه. فهي التجسيد الروائي للجدل بين الرغبة في الارتفاع على الواقع الوالغ في الطين، والارتقاء إلى مكانة تجعلها جديرة بأن تكون بحق من «جيران الحرم» كما تقول، جديرة بجوهر رسالة الإسلام الحقيقية التي عززت دراستها العلمية وعيها بها. وهي في الوقت نفسه مسرحا لجدلية الرفض/ الغواية التي تسري في ثنايا الرواية كلها. درست الطب، وأغرمت بالقراءة، والكتابة، ووسعت مداركها إلى أقصى ما تتيحه لها ظروف واقعها، وعركتها الحياة حينما تعرفت على نماذج وخبرات مثل «مزنة» و«شرف»، وهي تجارب لا تساهم فحسب في إثراء الترصيع السردي في الرواية، ولكنها تقدم لنا مرايا مختلفة لذات «لين» بالتناقض ربما، ولكن أيضا بالتماثل الذي سيكشف عن نفسه في حياتها حينما تستدعي أين سمعت من قبل تعبير «صك الغفران.. أين سمعتها من قبل؟ أين ومتى وكيف؟»(ص 104)، لقد سمعتها من «شرف» (ص 86) كما نعرف، ونعرف عبرها ماذا ستقول المحكمة التي يعمل بها أبوها في أمر زواجها من مالك. وشيئا عن طبيعة الأذي التي يريد أبوها أن يجنبها إياه.

لذلك فإن الرواية تطرح «لين» في مواجهة كل رجال النص ـ وشخصية الأم النقيض الكامل للين، ليست في واقع الأمر إلا وجها من وجوهها، أو النقيض الذي سعت بكل قوة ألا تكونه ـ لأنها هي جماع كل نسائه في المستوى العميق للتأويل، ولأن البنية النسوية التحتية العميقة في الرواية تتجلى من خلال هذا الثراء في شخصيتها، وفي طرح ثرائها في مواجهة عزلة رجال النص وأزمتهم وتخبطاتهم. فصوت «لين» هو الصوت النسائي الوحيد في النص في مواجهة أصوات رجالية متعددة ومتخبطة بل ومتناقضة في بعض الأحيان. كما أن صوتها النسوي ليس صوتا واحدا، ولكنه مفرد بصيغة الجمع، تتيح الرواية لبقية الشخصيات النسائية فيها الإفضاء عبره. وهذه البنية النسوية العميقة تحتاج إلى دراسة وحدها، تكشف لنا حقيقة عن أزمة المرأة في هذا المجتمع العربي، وعن طبيعة الضغوط التي تتعرض لها في «بلادها التي يقول الناس فيها ما لا يفعلون، ويفعلون ما لايقولون. بلادها التي تتآكل الحيوانات فيها لطول ما تدور حول نفسها تحت مستنقع آسن». (ص 109). وهو أمر يحتاج إلى دراسة مستقلة لا تكتفي بالجانب الواقعي وحده، وإنما تتناول أيضا الجانب الاستعاري الذي يجعلها مسرحا لأحداث وفاعلا أساسيا فيها في آن.
ــــــــــــــ
(1) ـ للمزيد من التفاصيل بشأن الفروق بين هذين المصطلحين السرديين المهمين راجع كتابي: Sabry Hafez, The Genesis of Arabic Narrative Discourse (London, 1993).
(2) ـ Charles Child Walcutt, Man s Changing Mask: Modes and Methods of Characterisation in Fiction (Minneapolis, University of Minnesota Press, 1966), p. 16.
(3) ـ هذا هو عنوان الكتاب في طبعته الأصلية باللغة الفرنسية:
Romanesque, (Paris, Editions Bernard Grasset, 1961) Mensonge romantique et vetite
(4) ـ لكنني أعتمد في هذه الدراسة على الترجمة الأنجليزية لهذا الكتاب والتي صدرت بعنوان: الخداع والرغبة والرواية: الذات والآخر في البنية الأدبية
Deceit, Desire and the Novel: Self and Other in Literary Structure, trans. Yvonne Freccero (Baltimore, The Johns Hopkins University Press, 1965)
(5) ـ رينيه جيرار، المرجع السابق، ص 21، 23.
(6) ـ رينيه جيرار، المرجع السابق، ص 12
(7) ـ للمزيد من التفاصيل راجع الفصل الأول من الكتاب، ص 1 ـ 52.
(8) ـ رينيه جيرار، المرجع السابق، ص 14.
(9) ـ راجع رينيه جيرار، المرجع السابق، ص 28.
(10) ـ رينيه جيرار، المرجع السابق، ص 12.
(11) ـ راجع رينيه جيرار، المرجع السابق، ص 43.