هذا مقتطف من بحث/كتاب "وحدة العقل البشري" للباحث الأردني، يبحث في مفهوم الحرية وفي بنية العقل الكوني. وحتى وهو يراجع مستندا الى رؤية نقدية، فإن الباحث يحاول أن يبحث في المفهوم من خلال التوقف عند تمظهراته وحضوره التاريخي .. ومدى التطور الذي مس مفهوم الحرية وأيضا ضحاياها.

في مفهوم الحرية

محمد فيصل يغان

يعود الأصل الميتافيزيقي لمفهوم الحرية إلى وعي الإنسان للحتميات وعلى رأسها الموت. مع إدراك هذه الحتميات المحيطة بالإنسان تشكلت البذور الأولى لمفهوم الحرية كنقيض لها، وقد غذت الظروف الاجتماعية والسياسية التي عاناها أفراد البشر على مر العصور هذا التناقض من خلال سحب الحتمية الميتافيزيقية من المستوى الوجودي الذاتي إلى المستوى السياسي الاجتماعي. ابتكر منظرو الطبقات السائدة أشكالاً متعددة من المدارس الفكرية القائمة على الحتمية والجبرية لتبرير الاستغلال والتمييز الاجتماعي، وأخرى قائمة على تزوير الحرية واختزالها إلى ليبرالية منحلة تدعو للحرية السلبية (بمعنى إزاحة الحواجز الخارجية لتعظيم عدد الخيارات المتاحة للفرد في تصرفاته الشخصية) وهي تهدف بالأساس تحت هذا الستار إلى تثبيت الملكية الخاصة المطلقة أولاً، وإزاحة أيّة معوقات أخلاقية قيمية أمام الاستهلاك المتزايد وخلق الطلب على سلع وخدمات مستحدثة. وتدعو هذه المدارس من جهة أخرى لحرية إيجابية (بمعنى تقليص الدوافع الداخلية التي تلزم الفرد باختيار تصرف فردي معين) والتي تهدف بدورها إلى استغلال الدوافع الغريزية لتعظيم الاستهلاك من خلال تصوير القيم على أنّها عوامل كبح لتحقق إنسانية الفرد. ولا يخفى أن هذا التعريف الاختزالي للحرية يصادر على المسألة ويحولها إلى صراع الفرد مع القيم المنظمة للحياة الاجتماعية، وبالتالي إلى تماهي الحرية بالفردية والكبت بالالتزام بالجماعة.

من هنا نرى أن معظم التعاريف للحرية إن لم يكن كلها، تحيل الصراع بين الحرية ونقيضها الميتافيزيقي الحتمية، إلى صراع بين الفرد والجماعة. يحيل هذا التعريف الحرية إلى حالة نفسية من المعاناة الوجودية، حالة مرضية باختيارها يكون الفرد قد مارس أقصى حد ممكن من الحرية ولو بشكل مزيف من خلال اجتزاء الحرية إلى فعل فردي وسلبي هو فعل الاختيار، لا الفعل الإيجابي ذو الطابع الجماعي، الفعل المغير للواقع. باختصار، فالجبر والحتمية يفرضان نفسيهما كحقيقة موضوعية والحرية (السيكولوجية) حالة نفسية مرضية ناتجة عن عدم قدرة الفرد تقبل هذا الواقع والتأقلم معه، ومن هنا كان الشعار (الجنون هو الملح الذي يصون العقل من التفسخ)[1] الذي أطلقته (ثورة) الشباب في الغرب عام 1968 والتي تمحورت حول الحرية الجنسية. تصل العبثية مداها عند اعتبار قدرة الاختيار (لا التغيير بالفعل) ناتجة عن إرادة مطلقة (إنسانية) بحيث تصبح الحرية العلة الوحيدة لأي اختيار[2]، فأنا أختار لأني حر في أن أختار، ويترتب على هذا التعريف للحرية استواء كافة الخيارات المتاحة من الناحية المنطقية، بمعنى أن تقتل أو لا تقتل سيان، وخيارك أحد هذين الخيارين هو نتيجة فقط كونك حر في أن تختار بما يلغي العلية كمبدأ والإرادة الإنسانية كنتاج للفكر الموزون. كما يلغي المنظومة القيمية بأكملها ودورها في عملية تحديد الخيار بناء على موقف أخلاقي ملتزم. هذه العبثية تقزم الإنسان إلى ما يشبه الدودة التي التفَّت على نفسها فلا ترى أو تشعر بشيء إلا نفسها، وتعيش في غيبوبة ذاتية دون أن تعي الأسباب الحقيقية لتعاستها ومن هو المتسبب بها، عدا عن العجز الذي يصيب من وصل إلى هذه المرحلة عن أي فعل لتغيير الواقع. وهو المطلوب.

وشكل آخر من توظيف مفهوم الإرادة المطلقة لتقييد الإنسان وإرغامه على القبول بوضعه القائم، يتمثل في حصر الحرية المطلقة بالكائن المالك للإرادة المطلقة، أما حرية الإنسان فهي نسبية وتتحدد بمدى التفويض الممنوح من هذه الإرادة المطلقة وضمن الحدود التي تفرضها. فإن كانت حرية أخلاقية، فالأخلاق مصدرها تلك الإرادة (كما تفرضها بأشكال مزورة المؤسسات الاجتماعية القائمة فعلاً والممثلة للطبقة المسيطرة) والحرية هي تكييف النفس مع هذه الأخلاق من خلال التخلّص من بواعث الشر (الرفض والمعارضة) الإنسانية والتسامي إلى مستوى التناغم مع الأخلاق والقيم المفروضة.  بناء على هذه النظرة الدونية للإنسان كونه مجبولاً على الشر والخطيئة، وكونه أعجز من أن ينتج أخلاقا وقيما، يصبح أي رفض للواقع القائم كما تمثله المؤسسات الاجتماعية القائمة هو شر وخطيئة، والرافض هو من حزب الشيطان. نتيجة كل هذا الخلط، يصل البعض إلى رفض إمكانية تعريف الحرية تعريفا موضوعيا، ويقول د.  زكريا إبراهيم في هذا الصدد (... فإن من واجبنا على العكس من ذلك، أن نرفض منذ البداية كل نظرية موضوعية للحرية، فنطرح تعريف الحرية على أنّها انعدام العلة أو انعدام القسر "وهو التعريف القائم على الدليل الكوني لإثبات الحرية "كما نطرح تعريف الحرية بأنها الاستقلال التام عن سائر البواعث والمبررات "وهو التعريف القائم على الدليل السيكولوجي لإثبات الحرية")[3].

أما التعريف الذي نتبناه للحرية وننطلق منه في هذا البحث فهو التالي: الحرية هي فعل ناتج عن إرادة معلَّلة "بتشديد وفتح اللام" واعية يهدف إلى تحقيق قيمة يؤمن بها الفاعل عن طريق تغيير الواقع. الحرية بهذا التعريف لا تكون نقيضًا لحتمية، بل نقيضا لقهر مفروض من الخارج، إذ لو كانت هناك حتميات تمنع تحقق القيمة المرادة لما تشكلت هذه القيمة أصلا في وعي الإنسان، وهناك كم هائل من الأساطير التي نشأت من ضعف الإنسان أمام القهر وتمثله كحتمية، أمّا الأدب المأسوي فهو يتغذى مباشرة على هذه الموضوعة، أي الفشل في مقارعة القهر الخارجي وتحوله إلى حتمية، والمأساة تكمن هنا في كون البطل أمام خيارين فإمّا أن يموت هو أو تموت القيمة التي ينشد تحقيقها من خلال ممارسته حريته.  والحرية كما نراها تكمن في فعل التحرر المستمر كحركة إلى الأمام باتجاه المزيد من التحقيق للقيم على أرض الواقع، على عكس الحرية الرأسمالية والتي هي حركة إلى الخلف، إلى التحلل من القيم باعتبارها قيودا. وما يبرر هذا التعريف أنه وباتفاق الجميع، الحرية هي خاصية إنسانية، وأن الإنسان بالتعريف، يسعى لتحقيق إنسانيته، وإلا لعاد الإنسان إلى نوع الحيوان. إذن فالالتزام بتحقيق حريته (وبالتالي إنسانيته) ليست حتمية مناقضة للحرية لا داخلية ولا خارجية بل شرط ضروري لتحققها. ومن ناحية أخرى فإن القيم وباتفاق الجميع أيضا، هي خاصية إنسانية (بغض النظر عن مرجعية ومصدر القيم، فهي عن الإنسان وله)، وأي فعل ناجم عن التزامه بتحقيق حريته يجب أن يحقق في الوقت نفسه قيمه التي يؤمن بها وإلا لما حقق إنسانيته ولا بالتالي حريته، إذن فالإرادة المعللة بالالتزام بتحقيق حريته من خلال تحقيق قيمه هو الشرط الضروري والكافي لكي يصبح الإنسان حرا. وأي تعريف عدا عن هذا للحرية يجعل بالضرورة وكما يدعي بعض المتفذلكين، العبد الراضي عن عبوديته حرا من خلال جعل العبودية (قيمة) إنسانية وحدا من حدود الإنسانية، وهذا بالضبط هو أقصى ما تستطيع المذاهب الصوفية من جهة والعدمية من جهة أخرى تحقيقه من حرية من خلال القبول بأشكال العبودية الاجتماعية والسياسية المفروضة على الفرد، ومن خلال الانسحاب من الواقع الاجتماعي وإسقاط حقوقه الطبيعية وبالنهاية التخلي عن إنسانيته.

فيما يخص علاقة الحرية بالفكر والإرادة، فالفكر هو الذي يضفي صفة الوعي على الفعل، والفكر يسبق الإرادة ويؤسس لها، فالإرادة السابقة للفعل هي المعللة له. الإرادة هي قرار مجابهة قسر داخلي أو خارجي مانع لتحقق قيمة ما في الواقع، ولا تتحقق الحرية بمجرد اتخاذ القرار إذ لا بد من الفعل الموجه نحو الخارج لتتحقق الحرية. الإرادة قد تخبو في مواجهة إغراء الاستسلام لعامل القسر أيا كان مصدره، فالاستسلام لهذا القسر يحقق متعة سهلة سريعة ورخيصة، في مقابل المتعة الأرقى والأكثر كلفة الناجمة عن تحقيق الإرادة باقترانها بفعل. كمثال عن القسر الداخلي نرى أن المدخن مثلا يجد متعة سهلة سريعة ورخيصة حين يستسلم لعامل الإدمان، في حين أن فعل الإقلاع عن هذه العادة يحقق متعة أرقى ولكن في أجل لاحق وبكلفة نفسية. وعن القسر الخارجي نورد مثلا النضال السياسي ضد الظلم والقهر من النظام القائم، فقد تخبو الإرادة في تغيير النظام أمام الرغبة في تحقيق متعة الأمن وأية مكاسب صغيرة قد تنجم عن الانصياع للنظام القائم وهي متعة سهلة سريعة ورخيصة، في مقابل المتعة الأرقى الناجمة عن تغيير هذا النظام من خلال العمل السياسي ولكن بعد أجل وكلفة.

هكذا إذن، فالدائرة التي تتحقق من خلالها الحرية لا تقتصر على (الداخل)، أي على دائرة الفكر – الإرادة - التفكير كفعل موجه للداخل. بل هي الدائرة الجدلية الأوسع: الفكر – الإرادة – الفعل الموجه للخارج – واقع جديد – وعودة للفكر. أما الحتميات العللية فهي من هذا المنطلق قوانين طبيعية تخضع لما تخضع له هذه القوانين من معالجة عقلية، وأما الحتميات الغائية فهي عناوين مزيفة للقهر الاجتماعي والسياسي المفروض على الفرد من الخارج. والجهل بزيف هذه الحتميات يؤدي إلى التفاعل معها بالانفعال الواعي بمعنى أن يخلق الذهن واقعا افتراضيا قائما على السحر تكون الحتميات المزيفة فيه مرنة ومتفهمة، في محاولة من الفرد أن يستعيض عن القدرة على الفعل المسلوبة، بالانفعال. والمثال على ذلك خلق وجود ميتافيزيقي مفارق لا تحكمه حتميات الطبيعة ومنها حتمية الموت، مما يشرعن اعتبار الحرية نقيضا للحتمية الطبيعية في أذهان المثاليين على اختلاف مناهجهم .

ما يهمنا هنا هو أنعكاسات الحرية السياسية والاجتماعية بمعزل عن التشوهات الميتافيزيقية. الفهم السائد للحرية في بعدها السياسي والاجتماعي وبالأخص ضمن التيارات الليبيرالية، والقائل وكما أوضحنا سابقا، بأنَّ الحرية الفردية والإنسانية هما تسميتان لمفهوم واحد، وأنّ إنسانية الإنسان تزداد بزيادة درجة الحرية الفردية. هذا الفهم نابع من ثنائية الفرد – المجتمع المغلوطة وعدم القدرة على فهم الطبيعة الازدواجية للإنسان، ومن أنَّ الفردية هي الحرية والإنسانية، وأنَّ المجتمع قائم على كبت هذه الحرية وإلغاء إنسانية الفرد بدمجه قسرا في نظام اجتماعي يملي عليه القيم (باعتبارها حدود التفويض الممنوح للإنسان من الإرادة المطلقة) وأسلوب الحياة بما يتلاءم مع المجتمع ويتناقض مع (الفطرة الإنسانية) للفرد، أي أنَّ الإنسانية نابعة من الفردية وسابقة على المجتمع، وتتماهى حسب هذا التعريف الإنسانية بالغرائزية وتتحول الإنسانية في الحالات المتطرفة إلى نقيضها – الحيوانية.

ومن الفلسفات القائمة على هذا الفهم المشوه للحرية، نجد الظاهراتية ومن ثم الوجودية والتي تضع الفرد في علاقة صراع مع الآخر، فإمَّا أنْ أكون أنا محورا للكون وكل ما أعيه من ماهيات هو موجود لأجلي، وبالتالي أمارس القسر والسادية على الآخر، وإمّا أن أكون موجودا للآخر الذي يعيني فيسلب مني ماهيتي لأصبح شيئًا يدور في فلكه، ومن هنا الاستسلام والتماهي المازوشي بالآخر. وكان من الطبيعي لفلسفات مريضة ناتجة عن أوضاع اجتماعية مريضة أنْ تجد صدًى لها وتطبيقات في الطب النفسي[4]، فهي تعبر بجلاء عن المنظومة العقلية والقيمية للإنسان المريض وبالتالي فالانطلاق منها يسهل على المعالج إيجاد لغة مشتركة مع المريض النفسي. 

ترسخ هذا الفهم خلال مراحل التاريخ البشري الذي سادت فيه الأشكال اللاإنسانية للتنظيم الاجتماعي، التي فرضت باسم الإرادة المطلقة تصورات الطبقات المتنفذة للقيم الإنسانية، فعززت بالتالي من شعور الفرد بالغربة والاضطهاد ووضعته على نقيض من المجتمع،  فيتراءى للإنسان البسيط  أنّ المجتمع لاإنساني، وأنَّ أيّة قيود يفرضها المجتمع على الفرد هي لاإنسانية، فيسعى بالتالي إلى استبدالها بما يتناسب والفطرة (بمعنى الغريزة) البشرية، وفي غياب الوعي الطبقي والعمل المنظم، يقتصر هذا الاستبدال على القيم الذاتية المنظمة لحياته الشخصية ولكن دون المس بالمجتمع وبشكله القائم وبتركيبته الطبقية القائمة، أي بدون المس بالنماذج المفروضة للقيم العامة المنظمة للعلاقات ما بين طبقات المجتمع وللنشاط الاقتصادي والاجتماعي، بمعنى اقتصار الفعل على الداخل وغياب الفعل الموجه للخارج مما يقود المجتمع إلى الانحلال وإلى مزيد من اللاإنسانية واللاحريه للفرد.

أسطع الأمثلة على هذه الحالة من الغربة واللاوعي الطبقي، نجده في تاريخ الحركات النسائية في ظل الثقافة الرأسمالية التي استطاعت أن تزرع في وجدان الجماهير مفهوم المرأة كسلعة. القاعدة التي تحكم هذه الحركات النسوية هي التالية: طالما أنَّ جسد المرأة سلعة وخاضع للعرض والطلب، وله سعر، فالأولى أن تكون المرأة هي مالكة هذه السلعة والمقررة لمصيرها وسعرها. وبالتالي فإنّ (تحرير) المرأة هو (تحرير) جسدها من المالك الذكر واسترجاعه، لتقوم هي بالمساومة مع الذكر على هذه السلعة بدلا من أن يتساوم عليها ذكران. الغربة واللاوعي الطبقي للحركة النسائية في الغرب الرأسمالي تتجلى في تصور النساء لأنفسهن كطائفة[5]، وقد أفلحت النظم الرأسمالية إجمالاً في التعمية على التناقضات الطبقية في مجتمعاتها من خلال خلق طوائف ذات مصالح واحدة زائفة، تخترق عاموديا الطبقيات الأفقية. فالزنوج مثلا في أمريكا يتعاملون مع المجتمع كطائفة لها مصالح موحدة، فالعامل الأبيض وصاحب رأس المال الأبيض سواسية في نظر أبناء هذه الطائفة.

هكذا، ومن خلال شرخ الطبقات بالطوائف العرقية من زنوج وآسيويين ولاتين، وأخرى جنسية كالنساء والشواذ، ودينية بشتى أشكالها، حولت الطبقات المسيطرة على المجتمع الرأسمالي الغربي نضال الجماهير إلى صراعات جانبية عقيمة.  ومما يساعد على تغلغل النظرة الطائفية لأوضاع أبناء الطبقات المستغلة (بفتح الغين)، طول فترات الاستغلال والاضطهاد وتوريث الواقع البائس من جيل إلى آخر، فتتشكل قناعة تغذيها المذاهب العلموية التبريرية بوجود رابط ما بين التخلف والعوامل البيولوجية الموروثة، فالفقر مرتبط بلون البشرة وتخلف الشعوب المستعمرة ناتج عن تركيبتها الجينية وهكذا.

ما الفرق في أن تعي المراة نفسها كعضو في طائفة أو كعضو في طبقة؟ الفارق كبير، وللتوضيح نبدأ من تعريف المرأة الذي يتطلبه انتماؤها إلى هذه أو تلك، إلى الطبقة أو الطائفة. جسد المرأة وتركيبها البيولوجي هو الشرط الضروري لتكون امرأة، وتحقق هذا الشرط يجعل منها أنثى، أمّا الشرط الكافي لتكون امرأة أي إنسان أنثى، فهو تركيبتها الاجتماعية التاريخية، فهناك شيء من الصحة فيما  تقوله سيمون دي بوفوار من أنّ المرأة لا تخلق امرأة بل تصبح كذلك. كطائفة يتم اختزال المرأة الإنسان إلى بعدها الأنثوي المشترك بين النساء وتغييب البعد الاجتماعي التاريخي المحدد لإنسانيتها، أمّا كطبقة، فالمرأة تُعرف من خلال خصوصيتها الأنثوية وإنسانيتها المشتركة مع الرجل من نفس الطبقة من خلال الشرط الاجتماعي التاريخي المشترك. كل الإناث سواسية ولكن النساء كأناس لسن كذلك وللتوضيح، نورد ما خاطبت به مناضلة بوليفية وزوجة عامل مناجم رئيسة الوفد المكسيكي في مؤتمر المرأة عام 1979 في المكسيك والذي يستشهد به غارودي[6].(إنّك تحضرين كل صباح بثوب جديد  بشعر مسرح بعناية ووجه مبرج بدقة، وهذا يعني أنّ لديك متسع من الوقت للتردد إلى صالونات التجميل وأنّ لديك مال تنفقينه..و كل مساء هناك سائق ينتظرك على الباب الخارجي ليعيدك إلى منزلك..أما نحن زوجات عمال المناجم، فكل ما نملكه هو بيت بالإعارة.. فهل من علاقة ما بين وضعك أنت ووضعي أنا؟.. الحل في نظرك هو إذن في محاربة الرجل؟ أهذا كل ما في الأمر؟ لكن بالنسبة إلينا نحن، فإنّ هذا الحل ليس بالحل الأساس...ثم تستطرد قائلة: (لقد لمست مرة أخرى من خلال هذا الاحتكاك مع ما يقارب خمسة الاف امرأة قدمن من سائر أنحاء المعمورة، أنّ مصالح البورجوازية لا تمت بأي صلة على الإطلاق إلى مصالحنا نحن) .

وفي الثورة الجنسية التي عصفت بالغرب في ستينيات القرن العشرين، شمل هذا الموقف (الطائفي) والتعريف الأحادي الرجل كذكر، وتم تغييب بعده الاجتماعي التاريخي أي الإنساني، فكانت  طائفة الشباب المغيّب والمغرّب التي قادت هذه الثورة. يفسر هذا الاغتراب واللاوعي الطبقي لدى الحركة النسائية في الغرب تركيز (نضالاتها) على الجانب الجنسي، فمن قضية حظر وسائل منع الحمل إلى حق الإجهاض والتي تضمن جاهزية الجسد-السلعة، إلى قضية الطلاق (في الإطار المسيحي) لتحرير واستعادة هذه السلعة وأخيرا إلى التحالف مع طائفة الشاذين جنسيا وتبني (قضاياهم) إمعانًا في تشييء الجسد. ومن الطبيعي أنْ تبارك الرأسمالية هذا التوجه المؤدي إلى المزيد من الطلب والاستهلاك الفردي والتحلل من القيم المقننة للرغبات الاستهلاكية (انظر لاحقا) فتحقق هذه الحركات (نجاحات) باهرة في هذا المضمار في حين أنّ الحقوق الاقتصادية للمراة ما تزال منقوصة وبشكل كبير في الغرب الرأسمالي كحق الأجر المتساوي مع الرجل وهو من أبسط الحقوق[7].

بالمقارنة مع نضالات المرأة على مدى التاريخ الإنساني سواء النضال الطبقي أو التحرري الوطني جنبا إلى جنب مع الرجل، والأدوار الريادية التي تصدت لها المرأة في هذه الميادين، والأمثلة وفيرة عن هؤلاء النسوة في كافة المجتمعات الغربي منها والشرقي، والمسلم منها والمسيحي، المقارنة هذه توضح مدى تفاهة الحركات الأنثوية في الغرب وإلى أيّ مدى تم إبعاد نصف الجماهير من المعركة ضد الاستغلال والاضطهاد الطبقي.

أصل المسالة الأنثوية يعود إلى بدايات تشكل المشاعة البشرية، ونظرة المشاعة إلى الجسد البشري بشكل عام على أساس أنّه وسيلة إنتاج حيوي يعيد إنتاج البشر. أمّا الأهمية النسبية لجسد المرأة في هذا المضمار فيكمن باختلافها البيولوجي عن الرجل. فجسد المرأة بكافة أجزائه يساهم في عملية إنتاج الحياة الجديدة وبشكل منظور، فالمرأة تحتضن الجنين في أحشائها الداخلية وتطرأ تغيرات جذرية على أعضائها الخارجية، وتعاني جسديا من الحمل والولادة لمدة تسعة أشهر متواصلة. ومن هنا كان تقديس جسد المرأة ككل وتمثيل الهة الخصوبة بشكل عام بالمرأة بكامل جسدها. ولم يقتصر هذا التمجيد لقدرة المرأة على إنتاج الحياة على العصر الأمومي، بل إنّ في الأسرة التي تمثل معمل إنتاج الحياة الذي طورته المشاعات البشرية بما يتناسب والنشاط الجنسي للإنسان القائم على مدار الفصول، فإنّ كافة أشكال تنظيم عملية الإنتاج داخل هذا المعمل، تمحورت دائما على دور رئيس للمرأة. أمّا الرجل، ومع أنّه شريك أساس في عملية إنتاج الحياة، إلا أنّ مساهمته الظاهرة محدودة بعضوه الذكري، ومن هنا كان التركيز على العضو الذكري فقط من دون باقي جسد الرجل في المشاعات البدائية وظهور أشكال من عبادة هذا العضو.

في ظل ازدواجية الملكية منفعة-رقبة، لم يكن هناك تناقض ما بين ملكية المرأة لجسدها والدور المطلوب من هذا الجسد إنجازه اجتماعيا، ولم تكن هناك حاجة لمنع الحمل أو حاجة للإجهاض، ولم يكن هناك بغاء، إذ لم يكن جسد المرأة قد تحول إلى سلعة بعد، وبالتالي لم يكن هناك حاجة (لمدير) لشؤون جسد المرأة، أي لم يكن هناك حاجة لتفويض الرجل من قبل الرأسمالي بملكية هذا الجسد. وفي مرحلة إنتاج الفائض، وظهور الأسرة بشكلها الأولي كوحدة تنظيمية تلائم تقسيم العمل المرافق لإنتاج الوفرة، لم تشهد هذه الفترة تناقضا حول دور وملكية الجسد سواء الأنثوي أو الذكوري وذلك في ظل ازدواجية الملكية. فالمرأة والرجل كوسيلتَي إنتاج للحياة يخضعان لهذه الملكية المزدوجة، والأطفال، المنتج، فهم أيضا خاضعون للملكية المزدوجة بدليل التكافل الاجتماعي المطلق الذي ساد المجتمعات خلال تلك الفترة، فقد وجد الباحثون الانثروبولوجيون مجتمعات إنسانية كانت لا تزال موجودة إلى عهد قريب، يكون شقيق الأم هو المسؤول عن تربية أطفالها[8]. فظهور تنظيم الأسرة لم يُلغِ (في ظل الملكية المزدوجة) التكافل التام الذي كان قائما في مشاعة الأشقاء والشقيقات السابقة.

مع التطور اللاحق وظهور الملكية الشخصية المطلقة، القائمة على اغتصاب ملكية الرقبة من الجماعة من جهة، وعلى سلب ملكية المنفعة من الأفراد والأسر المنتجة من جهة أخرى، وتحول غرض إنتاج الفائض إلى إشباع رغبات الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج عوضا عن رفع مستوى الكفاف للجماعة، تم سلب أجساد البشر ضمن ما سلب، فتحول الرجل إلى عبد أو قن عامل دون أن يملك شروط إعادة إنتاج وسيلة إنتاجه أي جسده، وتحولت المرأة إلى سلعة لإمتاع المالك من جهة و إلى شرط إعادة  إنتاج لجسد الرجل العبد-القن، أي في التفرغ لاحتياجاته. ومن هنا ظهرت الحاجة إلى مدير لشؤون جسد المرأة وتم تفويض الرجل بهذا الدور، ومن هنا الاعتقاد الساذج بأنّ المسألة هي صراع بين الرجل والمرأة على ملكية جسدها، وأنّ تحررها يتحقق من خلال تحطيم إطار الأسرة وإلغائه بالكامل طالما أنّ هذا الإطار هو الذي يمارس فيه الرجل التفويض الممنوح له. والنتيجة هي ما فعله شمشون، فقد دمرت المرأة الغربية ركائز المجتمع الإنساني على رأسها ورأس الرجل والطفل، وأصبحت هي والطفل الذي اعتبرته (منتجها وملكيتها الخاصة) بدون الحد الأدنى من الحماية التي يمكن أن يوفرها الرجل (على علاته) صيدا سهلا للاستغلال الجسدي والمادي والضحية الأولى للجريمة والعنف. إنَّ نظرة واحدة على إحصائيات الجريمة في الغرب عموما وأمريكا خصوصا، توضح إلى أيّ مدى بلغت نسبة النساء والأطفال من مجموع ضحايا الجريمة والعنف.

 



[1] روجيه غارودي وآخرون، نقد مجتمع الذكور، ترجمة هنرييت عبودي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت.

[2]  د. زكريا إبراهيم، مشكلة الحرية، مكتبة مصر، القاهرة.

[3]  المصدر السابق.

[4] د. غسان يعقوب، سيكولوجيا الاتصال والعلاقات الإنسانية، دار النهار للنشر، بيروت.

[5] افلين ريد وآخرون، نقد مجتمع الذكور، ترجمة هنرييت عبودي، دار الطليعة للطباعة

[7]  المصدر السابق.

[8]  د. محمد الجوهري، الانثروبولوجيا، أسس نظرية وتطبيقات عملية، دار الكتاب، القاهرة.

 

 

باحث من الأردن