رسالة الأردن: عن غياب محمود درويش

بعض الشهادات التي كتبت عنه في الصحف الاردنية.

طارق حمدان

خيري منصور: بين الصّهيل والطّنين!!
على كتفين تنوءان احيانا بحمل معطف خفيف حمل محمود درويش نعشه والطائرة وملايين الناس الذين اصبحوا من سكان قصائده بعد التشرد، ولانه كان مفاجئا ومدهشا في شعره كان مفاجئا وصادقا في كتابة نصه الاخير وهو موته الخاطف. قبيل سفره الى الابدية التي رتق ثوبها. وعدناه نبيل عمرو وانا بهديتين بعد عودته سالما، كانت احداهما عددا خاصا من مجلة الهلال العريقة عنه في شهر اكتوبر وكان الصديق نبيل عمرو قد بدأ يهيىء له استضافة احتفائية في دار الاوبرا بالقاهرة، لكن محمود في اخر مكالمة بيننا طلب ان يكون عدد الهلال في شهر ديسمبر، لانه سيحتاج الى شهرين او ثلاثة على الاقل كي يتعافى تماما ويصعد الى المسرح بقامته الغزالية وحفيفه الوردي.

والان اتذكر عبارة كنا نرددها معا وهي للشاعر الجزائري مالك حداد كلما خيب الزمان توقعاتنا لا تهيىء افراحك.. لهذا ستصدر الهلال قبل موعدها لان ضيفها مات قبل موعده.. وهدية نبيل عمرو ستصل الى محمود قبل ان يبتل قبره بالماء الاول لهذا الشتاء وهو الذي غارت منه الخيل على فراسته وفروسيته وقدرته على توقع الخطر والمطر. محمود درويش كان يحزر بوعي مشحوذ من يحبه ومن يخاف منه ومن يلتصق به، لهذا قال لي في الكلمة التي احاول استحقاقها في احتفالية الدستور العزيزة مالنا ولطنين البعوض، لنعد الينا، انه الان امانة في العنق وليس ايقونة تتأرجح حولها، فعلى من احبوه وقرأوه بشغف ان يعيدوا استقراءه وعلى من عاقبوه حيا على وسامته وابداعه وذكائه ان يتوقفوا الان ويستقيلوا من هذه المهنة السوداء القذرة.

محمود درويش هبة التاريخ لنا وهبة الطبيعة ايضا، فهو اسم حركي لكل زيتونة تبكي عندما تتذكر زارعها وهي ترى المنشار في القبضة التي تتربص بها. لقد ابهظه الحب القاسي في بواكيره يوم طلب من الناس والنقاد ان لا يحولوا شعره الى بقرة هندوسية والان، قد لا يقوى بسبب نوبة النوم العميقة على الدفاع عن نفسه ضد حب اقسى. لهذا على من احبوه شاعرا وانسانا وصديقا وتوأما ان يحرسوا منجزه الابداعي العظيم. وان يمنعوا بقوة الكتابة لا بالمسدس احتكاره او اختزاله او تدجين غابته في قوارير.

لا يزال الوقت مبكرا لاضاءة ما تجب اضاءته في سيرة بالغة الثراء والتعقيد، فهو ساهم على نحو بطولي في توسيع الشجن الفلسطيني وعولمته قبل ان تولد العولمة الشجية المضادة ولولاه لما حاول اعظم مثقفي عصرنا وشعرائه مسح دموع امهاتنا بمناديل قصائدهم.. بدءا من ريتسوس الاغريقي وجلفلك الفرنسي ونيرددا التشيلي وماركيز الكولومبي وعشرات سواهم، محمود لم يترك الخيول وحيدة وهي التي ضلّت الصهيل قبل السّبيل.،  

أمجد ناصر: يوميات أم قصائد نثر؟
على جانب حوض السباحة في رابطة الكتاب الأردنيين التقت ثلة من أصدقاء محمود درويش ومحبيه. كانت ذكرى محمود هي مادة الكلام الذي لا يكاد يصدق أنه يصدر من موقع الذكرى وليس من موقع الحضور الطاغي للذي رحل ملفوفاً بعلم بلاده تحت وابل من دموع أهلها. لم نعتد الكلام عن محمود بصيغة فعل الماضي، وربما لن نعتاد أبداً. حدثنا "رياض" و "زهير" عن آخر لقاء لهما بمحمود في عمّان. في الشقة التي لم يعد إليها من رحلة الأمل والموت. والحديث عن محمود درويش هو، حتى في ظل استعادة طرائفه ونهفاته ونوافل حياته اليومية، حديث في الشعر. في القصيدة. في الأسلوب والثيمة. هكذا جرّنا الحديث إلى قصيدة النثر. ربما كان وجودي محرضاً للحديث عن هذه القصيدة التي ظن كثيرون أن ذائقة درويش تقف لها بالمرصاد. تحدثت عما رأيته ممارسة لهذه القصيدة من قبل درويش من دون أن يسميها بالاسم نفسه. كان هناك الكثير من قصائد النثر في مدونة درويش النثرية: في "ذاكرة للنسيان"، في مقالات متفرقة، وخصوصاً في كتابه "أثر الفراشة". لم ير "رياض" ما رأيت. قال إن مادة كتابه المذكور يقع معظمها في باب الخاطرة الفنية. أما تسميته لها "يوميات" فذلك لأنه كان يكتبها يوماً وراء يوم. كتاب خفيف. كتاب استراحة. ليس في الشعر، حتى ذلك الموزون منه. كان هذا رأي "رياض". أما رأيي فقد دونته، مباشرة، بعد صدور الكتاب ولا أعرف إن كان أعجب محمود أم لا. وها أنا أستعيده الآن. لأنني أريد أن أستعيد محمود كما رأيته آخر مرة، كما سمعته آخر مرة ممتلئاً بالحياة، حيوياً، مقبلاً على نقاش قضايا الشكل والأسلوب ومصائر الشعرية العربية بالعموم.

*   *   *

سمعت محمود درويش يقول، ذات يوم، إنه لم يختر عناوين عدد من أعماله الشعرية. فقد ترك هذه المهمة، الثقيلة، أحياناً، لناشره. إن لم أكن مخطئاً في "سمعي" أو ذاكرتي، فذلك يعني أن تأويلاتنا لبعض عناوين أعماله، بصفتها عتبات أو مداخل للقصيدة، قد ذهبت أدراج الرياح، فأن يضع الشاعر (أو الكاتب) عنواناً لكتابه، غير أن يصدر فعل التسمية هذا من ناشر. قد أكون سمعت ذلك، فعلاً، من درويش نفسه، أو قرأته في حوار له، وقد لا أكون، لكن من شبه المؤكد أنه اختار عنوان كتابه الجديد "أثر الفراشة"، ولم يترك لرياض الريس (وهو واضع عناوين محترف بحكم خبرته الصحفية الطويلة) تلك المهمة. برهاني على أن الشاعر هو من وضع عنوان "أثر الفراشة"، لا الناشر، الدلالةُ الخاصة لهذا العنوان.

لم يعجبني عنوان عمله الشعري ما قبل الأخير "كزهر اللوز أو أبعد"، لأنني لم أعثر على دلالة خاصة للعنوان. وجدته غنائياً أكثر من اللازم، أو فضفاضاً على المستوي الاستعاري، متفلِّتاً، لا ينعقد على معنى بعينه. لم أفهم ماذا يعني أن يكون "الشيء" أو "المعني" كزهر اللوز أو أبعد منه. قد يقول قائل: لا ينبغي أن يشير العنوان إلى معنى مباشر أو ملموس. وأقول مع القائل: صحيح، لا ينبغي أن يكون العنوان مباشراً، وهو ليس، بالضرورة، تلخيصاً أو كشفاً مبكراً لـ "فحوى" الكتاب، ولكنه قد يكون مفتاحاً لغرفته السرية أو وسيطاً بين النص والقارئ على حد تعبير جيرار جنيت.

*   *   *

قد يكون هناك أكثر من سبب لاختيار درويش "أثر الفراشة" عنواناً لكتابه، لكن ما يقفز إلى أذهاننا، فوراً، لدى قراءة هذا العنوان، أو سماعه، هو الفرضية الفيزيائية المسماة، بالضبط، "أثر الفراشة". تقول هذه الفرضية الفيزيائية، إن فراشة ترفرف بجناحيها في غابة بالبرازيل قد تتسبب في حدوث عاصفة في تكساس! نفهم من هذه الفرضية، التي يُستشهد بها أنصار البيئة والمتكلمون في الاحتباس الحراري، أن الأرض صغيرة رغم اتساعها، ومترابطة رغم انقسامها قارات، وأن فعلاً صغيراً في زاوية معزولة في العالم قد يؤثر في مصائر الحياة في مكان يبعد عنه آلاف الأميال. هكذا يمكن لقارئ كتاب درويش الجديد أن يقع على دلالة تتجاوز الفرضية الفيزيائية، التي يحيل إليها العنوان، إلى ما هو إبداعي، لمن يبحث عن الجمالي، وإلى ما هو سياسي لمن يبحث عن الشأن العام في نتاج شاعر محاصر بسياج من الرهانات الوطنية. قد لا تكون الكتابة فعلاً ديمقراطياً، ولكن القراءة، ربما، كانت كذلك. فالكاتب لا يستطيع أن يفرض وجهة محددة على المتلقي. فمَنْ بمقدوره أن يمنع قارئاً من الاستنتاج أن أثر الفراشة في عنوان كتاب درويش يحيل إلى النضال الوطني الفلسطيني؟ رفيف جناحَيِّ الفراشة في مواجهة الميركافا والبلدوزر! أو أثر رفرفة جناحَي الفراشة الواهنين المزلزل (على هدي فعلها الفيزيائي) في جدار الاحتلال كله، وليس جدار الفصل العنصري فقط.

يصنف محمود درويش كتابه الجديد، الصادر عن دار رياض الريس، في باب "اليوميات"، ويقول إنها كُتبت بين صيفي 2006 و 2007م ولا شك أن هذا التصنيف متواضع، إذ بمقدور الشاعر أن يضع كتابه في خزانة الشعر. لأنه ينطوي على شعر، بالمعنى التجنيسي للكلمة. فهناك قصائد قصيرة كاملة الأوصاف. قصائد قصيرة، ذكية، محكمة، تراقب، بتأمل، عالم الذات وعالم الواقع، وتحمل بصمة الرقة والسهولة والتدفق التي يعرفها شعر درويش بصرف النظر عن "الموضوع" الذي يتصدى له. كما كان بإمكان درويش أن يسمي مادة كتابه "تأملات" بدلاً من "يوميات" التي تحيل إلى نوع محدد من الكتابة يعمد إليه المرتحل أو الكاتب أو الموظف العمومي الرفيع لتدوين ما رآه أو مرَّ به من وقائع وما سمعه من أخبار.

هناك حيرة، لا شك، حول "جنس" هذه الكتابة دفعت درويش إلى اختيار "تصنيف" لا ينطبق كثيراً على مادة كتابه. والحيرة صارت من فضائل محمود درويش، مثلها مثل القلق الوجودي والإبداعي الذي يعبر عنه نتاجه في العقدين الأخيرين. ليس علينا، كقراء، أن نلتزم بما يسمي به محمود درويش كتابه. لأن الكتاب يعطينا الحق في اختيار تسميات أخرى، باعتبار القراءة حمالة أوجه، كما أن القراءة تمنحنا، مثلما أسلفت، حق وضع النصوص على الرف الذي نرغبه. يمكنني، والحال، أن أسمي شعره شعراً،ونثره قصائد نثر، لا يوميات. وفي ظني أن درويش اقترب، في "يومياته" هذه، أكثر من أي مرة أخرى، من قصيدة النثر بالمعنى الغربي للكلمة. أي القصيدة ذات الكتلة النثرية العريضة، التي لا تأنف من السرد والإخبار والتأمل والتداعي، مستخدمة النثر "وسيطاً يومياً ونبيلاً" على حد تعبير صبحي حديدي. في "أثر الفراشة" هناك قصائد نثر ترتدي قناع اليوميات المراوغ، وقد سمحت لنا هذه القصائد (أو هذا النثر) أن نعرف درويش أكثر، أن نعرف أفكاره أكثر، أن تتسلل آراء وتصورات وشظايا سيرة شخصية وأحلام وكوابيس لم تكن تتراءى لنا، على هذا النحو، سابقاً.

كتب محمود درويش يوميات من قبل. كتبها ونشرها في الصحف والمجلات، لكنها لم تكن مثل هذه "اليوميات". لقد وضع درويش عنواناً مراوغاً ومضللاً لمادة كتابه الجديد. ترك طُعماً للقراءة والنقد. فالرأي عندي أنه أراد أن يجرِّب. أن يتجاوز الصيغة "التقليدية" للكتابة الشعرية التي أصيبت بما يشبه الإرهاق الجمالي (لهذا التعبير الأخير أكثر من أب وأم، منهم سلمى الخضراء الجيوسي) إلى فضاء أوسع يستضيف القصيدة الموزونة والقصيدة النثرية، اليومي والتأملي، العابر والجوهري. ها هو يقترب، أكثر من أي وقت مضي، من قصيدة النثر من دون أن يسمي صنيعه كذلك، كما أنه يرغب في مقاربة "الشأن العام" من زاوية مختلفة عما عهدناه عنده، وبالتأكيد، من زاوية مختلفة، تماماً، عما تفعله الكتابة الفلسطينية في هذا الخصوص.

وكان يمكن للكتاب أن يتحلى بوحدة "عضوية" أكثر لو أن محمود درويش لم يضمنه القصائد الموزونة التي تخللت الكتاب وشوشت "وحدته". لم أقل لمحمود درويش: لِمَ اخترت هذا العنوان لكتابك، ولكنني قلت له إن الكتاب كتابان: كتاب قصائد موزونة، وكتاب قصائد نثر. لم يعجبه، على ما أظن، رأيي، ولكنه قد يكون فكَّر فيه. أما حديثي معه عن كتابته قصيدةَ نثر تحت قناع "يوميات"، فربما ظن أنني أزين له اللعب خارج ملعبه!. 

موسى حوامدة: لا تقتلوه بعد أن مات موسى حوامدة
هل كان محمود درويش يقبل أن يقال أنه أهم من فلسطين؟ هل حمل محمود درويش فلسطين في شعره ونثره وكتب عنها وعن جبالها وقراها المدمرة وسهولها ومروجها وبحارها، وعن اهلها وشهدائها ومعتقليها ومنفييها ومحتليها ليقال فيما بعد أنه أهم من وطنه؟ أم هل كان محمود شجرة من أشجارها العالية وطائرا من طيورها ونهرا من انهارها، ولونا من خضرتها وزرقتها وعلمها ولحنا من نشيدها وغنائها. ليس الوقت مناسباً لتسديد الحسابات ولا مقبولا أن يتم تصغير فلسطين ثأرا من نجومية درويش التي فاقت نجومية أي شاعر عربي معاصر، يمكن لنا أن نقول كل شيء عنه، يمكن لنا أن نبكيه بحرقة ونحفظ قصائده وكلماته ونرددها، يمكن أن نهرب من سطوته، أو ننقده، ونختلف معه، ولكن لا يمكن أن نقتله بهذا الحب الزائف، وهذا التمجيد المبالغ فيه، لأنه لم يكن يقبل، ولا نقبل، أن يكون بديلا عن وطنه ولا استعارة مجازية طائشة، تجعلنا نحتفي باللغة ونقيم فيها وطنا، وننسى أن فلسطين أكبر من كل أبنائها ومن شعبها ومن مبدعيها.

حين صعد نجم راسول حمزاتوف لانه كتب عن بلاده الصغيرة لم نقل أنه اهم من داغستان، وحين طار صيت طاغور لم نقل أنه اهم من الهند، وحين حصل نجيب محفوظ على نوبل لم يقل أحد أنه أهم من مصر، وحين ظهر ميلان كونديرا لم يقل أحد أنه أهم من التشيك، ولا قيل ان تولستوي او ديستوفيسكي أو يوفيشنكو او غوركي فرادى او جميعهم أهم من روسيا، ولن يقول احد أن لوركا أهم من إسبانيا ولا أن السياب أو البياتي او الجواهري أهم من العراق، ولا عرار أهم من الأردن، ولا الطيب الصالح اهم من السودان، ولا ولا... فلماذا يقال عن درويش وفلسطين ذلك، هل لان فلسطين صغيرة، وقليلة الشأن، أم لأن شعبها أقل من شعوب الأرض، أم لأنها محتلة ونريد تعويضا، أم لأن درويش أعظم من كل أبناء فلسطين وشهدائها، وأنه كثير عليها، رغم أنها حملته ورفعته إلى هذه المكانة.

فلسطين تكبر بأبنائها، وأبناؤها يكبرون بها وبجرحها وبتاريخها وبمعاناتها، وبإصرار شعبها على البقاء، وما أحب الناس محمود درويش لمجرد أنه كان شاعرا فقط، ولا لأنه كان مقربا من ياسر عرفات او من منظمة التحرير الفلسطينية، ولا رمزا وطنيا فقط، ولكنهم أحبوه لأنه حمل فلسطين بين ضلوعه، وكان عاشقها وحامل إكليلها وحارس سنديانها، وعرف كيف يحكي عنها وعن أبنائها ويقول ما يفكرون ويألمون ويأملون، وردد اسمها حتى صارت نشيدنا اليومي.

كان شاعرا كبيرا وقامة عالية، لا شك، لكننا لن نضع أحدا مهما كبر وصار وعلا، بديلا عن بلاده، فهل كان ادوارد سعيد شيئا قليلا؟ وهل كان غسان كنفاني وابراهيم طوقان وإميل حبيبي وتوفيق زياد وهشام شرابي وابراهيم ابو لغد واحسان عباس ومحمد القيسي وفواز عيد وحسين البرغوثي، وغيرهم بلا أثر؟ وهل يريد البعض أن يقتلوه حبا ومدحا، لكي يقولوا لن تنجب فلسطين سواه، ولن تقوم للشعب الفلسطيني والقصيدة الفلسطينية قائمة بعده، هذا مديح حق أريد به باطل وهجاء. ستظل فلسطين حية وكبيرة في قلوب أبنائها، ولدى مثقفيها وكتابها وفنانيها، ولدى مناضليها وشهدائها واطفالها، ومحبيها في كل العالم، ولن تشعر فلسطين بالَصَغار والهوان مهما خسرت وخسر أهلها، لأنها تعرف أن درب الحرية طويل ودرب النصر طويل، لكنها لن تخفض رأسها لو مات منها رئيس أو شاعر او مناضل أو قبيلة بأكملها، ولن تستسلم لغير مستقبلها وهويتها وتجديد خلاياها في كل وقت ولحظة، وقد قررت منذ فجر التاريخ ألا تموت.  

فخري صالح: سأعوًّد نفسي على غيابك
لن أراك بعد الآن يا صديقي. لن أحظى بطلتك علي مبتسما بكامل أناقتك، وأنت تفتح لي الباب. فأسألك هل أنت خارج إلى موعد، فتقول: لا، أريد أن استقبلك. لن أشرب بعد اليوم قهوتك التي لم أشرب مثلها في أي مكان. لن أرى عينيك الذكيتين، أو أسمع مناكفاتك وتعليقاتك السريعة الخاطفة التي تبلغ جوهر المسألة دون كبير عناء. لن أتحفظ في إجاباتي وأسئلتي حتى لا أقع فريسة حضور بديهتك. كنت في الشهور الأخيرة مهموما بفكرة العمر، تهجس بالموت في كل حديث، في كل مهاتفة، وكأنك تعد نفسك للموت الذي قلت له في جداريتك "هزمتك يا موت". كأنك كنت تريد مصالحته بعد خصام ليأتي سريعا وينهب روحك التي تعبت من هذا الصراع الطويل الطويل على أرض بقعها الدم ومزقها الخصام.

كنت تقول لي إنك تحمل في صدرك قنبلة موقوتة، ولكنك تعيش هكذا أياما، شهورا، لا تدري ما تفعل بشرايينك الضعيفة التي ورثتها عن أبيك. لم يورثك وإخوتك إلا شرايينه الضعيفة. لكنك كنت تخاف إذا أجريت العملية أن يصيبك الشلل، ولم تكن مستعدا (وأنت الشخص الأنوف الذي يعتمد على نفسه في كل شيء، يصنع قهوته لنفسه وأصدقائه، يعد طعامه بنفسه في كثير من الأحيان) أن تصبح عالة على غيرك. هل اخترت الموت إذاً أم أنه هو الذي اختارك في غفلة منا نحن الذين شجعناك على ضرورة أن تجري تلك العملية الدقيقة التي أخذتك منا؟

هكذا إذاً، رحل محمود درويش فجأة دون أن ينبهنا. هكذا دون أي إنذار ولا تلويحة وداع، دون ابتسامته العذبة التي تلوح من بعيد، وطوله الفارع يكاد ينحني على قلبه وشرايينه الضعيفة التي رققتها حوادث الأيام والانكسارات الكثيرة التي أكلت أيامه وأيامنا. رحل وهو في عنفوانه وشبابه وقمة تألقه ونضجه الإبداعيين، في ذروة حماسته واندفاعه للكتابة والتجريب ودخول معارج جديدة في الخلق وابتكار الأشكال والطرق والأساليب. لم يصب الهرم روحه ولا كتابته. كان في السنوات الأخيرة وكأنه يبدأ الكتابة من جديد شابا في العشرين من العمر يفتش عن لغته وفكرته وسط آلاف اللغات والأفكار. كان يزوج النثر للشعر والشعر للنثر، يقرب بين فلسطين واليومي، بين الحكايات الكبرى للعرب والفلسطينيين ومقاطع مختارة من سيرته الذاتية ليكتشف الكوني فيه وفينا، والعادي في القضية. كان يخفض من إيقاع قصائده الأخيرة لتتناسب ومنحنى الحكاية الفلسطينية التي صعد بها حصان شعره شاقا الآفاق نحو جهات الأرض الأربع ليصبح شعره اسما حركيا لفلسطين.

فهل كان اندفاعه وحماسه المتقد للكتابة خلال الشهور الأخيرة إحساسا بقرب النهاية، بدبيب الموت يسري من شرايينه الضعيفة إلى سائر أنحاء جسده؟ لقد استشرف النهاية، لا بل إنه رآها قادمة من داخله، من شرايينه الضعيفة التي غدرت به وهو في أوج عطائه. وداعا يا صديقي لن أكحل عيني بمرآك. سأعود نفسي على غيابك. 

حلمي الأسمر: الـ 3% التي غيبت محمود درويش
محمود درويش رحل فجأة، غافلنا ومضى كدفقة شعرية، حينما قرأت "خبره" قفز إلى ذهن الصديق خيري منصور، أنا على يقين أن خيري كان أكثرنا ألما، ليس بسبب صداقته الحميمة بمحمود فقط، بل لأن له فلسفة مرعبة عن الرحيل، الحياة والموت، أذكر أن عمنا حسن التل رحمه الله جاء خيري يوما ليخبره عن موت صديق، كي يذكر خيري بهادم اللذات ومفرق الجماعات، ويومها كان رد خيري مفاجئا، إذ أن الموت لم يكن ليغادر خيري كي يتذكره، وها حسن التل وقد غيبه الموت، ولحق به محمود، وهما من أصدقاء خيري، أذكر أنه حين زار الشاعر المشاء محمد القيسي وهو مسجى في المستشفى فاقدا للحياة بدت قدماه، قال لي خيري أنه فوجىء من عجز هاتين القدمين وبرودتهما وقد حملتا محمد لأكثر من ستين عاما، وها هما وقد تحولتا إلى جماد،

هاتفت خيري صباح أمس، كي أطمئن عليه، جاءني صوته من القاهرة، لم ينم منذ وصله الخبر، كان في حالة ذهول أو في منطقة انعدام وزن، قال لي أن محمود هاتفه وهو متجه إلى المطار، وقال له انه كان في أحسن حالاته، وأن خطر فشل العملية لا يزيد عن 3%، ويبدو أن الثلاثة في المائة هي التي غلبت الـ %97، ألا تختصر هذه الأرقام عدالة قضية فلسطين الـ %97 مقابل باطل الـ 3% اليهودي؟، ومع ذلك تغلب هذه الثلاثة فقط ثلاثمائة مليون عربي أو أربعمائة مليون... لا أدري؟؟

محمود درويش، أحمد الزعتر، هل كتب وصيته؟ في وقت مضى كتب يوما أن الفلسطيني يكتب وصيته حينما ينتقل من غرفة إلى أخرى، كان شارون يومها "يزور" غرف نوم الفلسطينيين بالدبابات، أعتقد أن محمود لم يكتب وصيته، لأنه لم يمت، وصاياه مبثوثه في آلاف الصفحات التي تحفظها الصدور لا السطور، إنه حي في قلوب ملايين من قراء العربية وغير العربية، حول فلسطين المنفى إلى وطن أثيري لا يفنى، غابت فلسطين الأرض، ولكنها شعريا تحولت إلى الأبدية، على يدي شاعرها، بعض العرب تمنى أن أرضه محتلة، كي تنتج شاعرا مثل محمود درويش،

آخر ما قال لي خيري عن محمود، أنه يشعر أنه خطف، وزعلان منه، لا عليه فقط، لأنه أعاد فتح كل ملفات الفلسطيني التائه، فقد مات في تكساس، وسينقل إلى عمان، كي يدفن في رام الله، لا البروة ولا حيفا طبعا، أجزم أن خيري كان سيحدثني عن موته هو، لكنه لم يملك الجرأة ليقول كل شيء، وأنا أعرف أنه شارك في "تشييع" والدته عبر الهاتف الخلوي، وهو يعرف أنني قرأت خبر نعي والدي في صحيفة مقدسية، قبل أن تصلنا "نعمة" الخلوي، وقبل أن تتيسر سبل الاتصالات مع "الوطن المحتل"،

بالنسبة لملايين من قراء درويش، موته حالة شعرية، نعي لشاعر كبير، لكن هذا الموت بالنسبة لملايين من أبناء وطنه، له طعم آخر، مذاق شخصي، فالناس تموت عادة ضمن طقوس أسرية، يلتم أفراد العائلة الواحدة، يحملون فقيدهم ويمضون به إلى مقامه الأخير، أما بالنسبة لمن شتتهم الاحتلال فالموت له طقس آخر، فالأسرة التي لم تلتئم منذ عقود حول إفطار صباحي، تموت أيضا في ظروف الشتات، ويتناقلون أخبار الرحيل عبر الصحف والإذاعات والهواتف، ولهذا موت والدتي مثلا التي لم أشارك في جنازتها، ظل موتا مفترضا، فأنا لم أشاهدها ميتة، ولهذا فهي حية في ذاكرتي، كما والدي، ويهيأ لي أننا سنلتقي ذات يوم، قال لي خيري، أن محمود سيبقى كذلك، إن لم يتسن له مشاهدته ميتا، سألني أخيرا مذعورا: ماذا سيفعل برقم هاتف محمود درويش؟ 

سعود قبيلات: حالة عقم
كلّما توارى رمز مِنْ رموز الثقافة والفكر، وسواهما، خلف ستار الأبديّة، تجد كثيرين يتساءلون عمّن سيحلّ محلّه أو مَنْ سيكون بديلاً له. سمعتُ هذا السؤال مراراً في المدّة الأخيرة، في أعقاب رحيل الشاعر الكبير محمود درويش، مِنْ بعض المهتمّين والمتابعين. ومع أنَّ هذا السؤال خاطئ مِنْ أساسه؛ إذ لا أحد يحلّ محلّ أحد، وكلّ إنسان متفرّد بذاته، كما أنَّ كلّ تجربة إنسانيّة تختلف عن سواها من التجارب الإنسانيّة، إلا أنَّ هناك جانباً آخر لهذه المسألة يمكن ملاحظته بسهولة مِنْ قبل كلّ متابع ومهتمّ. ألا وهو أنَّ الرموز الكبيرة التي عُرفتْ منذ أواسط القرن العشرين، أو قبل ذلك وبعده، وهي ترحل تباعاً، لا يظهر بعدها مِنْ أبناء الأجيال اللاحقة مَنْ يوازيها بقدراته وإمكاناته وإنجازاته واتّساع تأثيره.

ويُلاحظ أنَّ هذه الظاهرة ليست عربيّة فقط، بل هي عالميّة شاملة. فإذا عدنا بذاكرتنا إلى الوراء قليلاً، نجد أنَّ العالم كان محتشداً بأسماء مِنْ مثل: لويس أراغون، وناظم حكمت، وبابلو نيرودا، وبيكاسو، وسلفادور دالي، وسارتر، وهمنغواي، وشتاينبك، وفوكنر، وهيرمان هسه، وشلوخوف، ورسول حمزاتوف، وجنكيز ايتماتوف... الخ. بل إنَّ الرموز الثقافيّة والإبداعيّة العربيّة والعالميّة الموجودة الآن أو التي رحلت منذ مدّة قريبة إنّما هي نتاج ذلك الماضي المزدهر أكثر ممّا هي نتاج الحاضر، ومِنْ بينها، على سبيل المثال، محمود درويش الذي فُجِع محبّوه برحيله مؤخّراً، وكذلك غابرييل غارسيا ماركيز، وأدونيس، وفيروز، وزياد الرحبانيّ، وسمير أمين، ومهدي عامل، وعبد الرحمن منيف، ونجيب محفوظ... الخ.

فهل تراجع مستوى القدرات العقليّة والإبداعيّة لدى البشر؟ أم ماذا؟ من المعروف أنَّ الإبداع الفكريّ والإنتاج الثقافيّ لا يعتمدان على القدرات العقليّة وحدها، بل يحتاجان إلى ظروف عامّة وموضوعيّة تحفزهما وتغذيهما وتؤدّي إلى نموّهما وازدهارهما. وأعتقد أنَّ انفتاح التاريخ على الأحلام والطموحات الكبرى وإمكانات التغيير هو أهمّ عامل لنموّ وازدهار الثقافة والإبداع والفكر ومختلف حقول النشاط الإنسانيّ؛ أمّا انغلاقه فيؤدّي إلى الانحطاط الحضاريّ والخواء الروحيّ والبلادة الفكريّة وضيق الأفق ومحدوديّة الخيال والطموح.

ولقد كانت الحالة الثوريّة الكبرى، التي افتتحتها ثورة تشرين أوّل (أكتوبر) السوفييتيّة عام 1917م وشملتْ بمظاهرها وتأثيراتها مراكز النظام الرأسماليّ الدوليّ وأطرافه طوال عقود، هي المحفّز الأساسيّ للنهضة الثقافيّة والفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة التي شهدها القرن العشرين. ولكن سرعان ما تمّ الالتفاف على تلك الحالة الثوريّة ومحاصرتها وسدّ طريق تطوّرها، مِنْ قبل مراكز النظام الرأسماليّ الدوليّ. ففي البداية شنّتْ تلك المراكز هجوماً عسكريّاً مباشراً على الثورة السوفييتيّة شاركتْ فيه أربع عشرة دولة غربيّة. وبعد فشل ذلك الهجوم قدّم النظام الرأسماليّ الدوليّ تنازلات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة أساسيّة، عن طريق اتّباع الحلول "الكنزيّة" في الولايات المتّحدة الأميركيّة وما يشبهها في أوروبّا الغربيّة وفي بعض بلدان العالم الثالث. وذلك ليحافظ على تماسك جبهته الداخليّة ويوسّع تحالفاته في مواجهة مدّ حركة الثورة العالميّة. وترافق مع ذلك حصار محكم ومقاطعة اقتصاديّة صارمة وحرب باردة ضدّ الاتّحاد السوفييتيّ والدول المتحالفة معه والدول ذات التوجّهات الاستقلاليّة.

واستطاعت مراكز النظام الرأسماليّ الدوليّ أنْ تموِّل سياساتها العدائيّة تلك عن طريق نهبها لثروات العالم الثالث واستغلالها له، في حين كان على الاتّحاد السوفييتيّ أنْ يستنزف ثرواته الخاصّة ليتمكّن مِنْ تمويل دفاعه عن نفسه ودعم ومساندة حلفائه وأصدقائه الذين كان معظمهم قد خرج للتوّ مِنْ تحت نير الاستعمار واستغلاله البشع. الأمر الذي أوصله (الاتّحاد السوفييتيّ) إلى طريقٍ مسدودٍ في النهاية، وأدّى إلى انهياره بتلك الصورة المدوِّية التي شهدناها في أوائل تسعينيّات القرن الماضي. وفي المقابل، كانت مراكز النظام الرأسماليّ الدوليّ قد بدأتْ منذ أواخر السبعينيّات تتّجه نحو التخلّي عن سياسات الكنزيّة ومثيلاتها وتحاول استعادة نمط الرأسماليّة المتوحّشة القديم الذي يطلق يديها تماماً ويتيح لها ممارسة كلَّ أشكال النهب والاستغلال بكلّ مستوياتهما الممكنة. وبالتلازم مع هذا الاتّجاه، وكردّ فعل عليه، سادت في بعض هوامش النظام الرأسماليّ الدوليّ اتّجاهات سياسيّة وثقافيّة واسعة لإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء في محاولة لاستعادة بعض مظاهر الماضي القديم لشعوب الهوامش بصورة مشوّهة تتناسب مع تشوّه بنية الهوامش نفسها ومع طبيعة دورها التابع في النظام ككلّ. وفي الوقت نفسه فإنَّ مظاهر الصراع الطبقيّ تتزايد وتحتدم باستمرار، على مستوى النظام الدوليّ، ككلّ، وفي المستويات المحليّة، كلٍّ على حدة.

ومجمل هذا الوضع الدوليّ المضطرب يمثّل ـ مهما امتدّ زمنه ـ مرحلة انتقاليّة مؤقّتة؛ إذ إنَّ الرغبة في العودة بالزمن إلى الوراء هي في النهاية تعبير عن حالة "نكوصيّة" مرضيّة غير قابلة للتحقّق، وبالتالي، فهي غير قابلة لأنْ تكون نمط حياة ثابت ومستقرّ. ولذلك، فسيظلّ التاريخ يتفاعل ويضطرم إلى أنْ تنفتح آفاقه مِنْ جديد نحو الحلم والطموح واحتمالات التغيير. وعندئذٍ يعود النشاط الإنسانيّ الخلاّق إلى العمل بكامل طاقته وإمكاناته. 

بسام الهلسه: محمود درويش... الحضور والغياب
ربما لم يحظ شاعر عربي، منذ شاعر العربية الأكبر، "أبي الطيب المتنبي"، بما حظي به الشاعر الراحل محمود درويش من حضور وانتشار. ولم تكن القضية الفلسطينية ـ بما لها من مكانه نافذة في الاهتمام والوجدان العربي ـ هي السبب الوحيد في هذا... فقد سبقه وجايله ولحقه، شعراء فلسطينيون آخرون لم يحظوا بما حظي به درويش، رغم ما تركوه من علامات مميزة على دروب الشعرية الفلسطينية والعربية منذ ثلاثينيات القرن الماضي أمثال: إبراهيم طوقان، عبدالرحيم محمود، عبدالكريم الكرمي (أبي سلمى)، هارون هاشم رشيد، كمال ناصر، فدوى طوقان، يوسف الخطيب، معين بسيسو، سلمى الخضراء الجيوسي، حنا أبي حنا، عبدالرحيم عمر، توفيق زياد، سميح القاسم، أحمد دحبور، وليد سيف، محمد القيسي، وعزالدين المناصرة.

كما لم تكن "الحداثة الشعرية" أيضاً هي السبب في هذه المكانة، فلقد تجاوز درويش ـ وهو من الجيل التالي لرواد الحداثة الشعرية العربية (بدر شاكر السياب، نازك الملائكة، صلاح عبدالصبور، أدونيس، أنسي الحاج، توفيق الصايغ، عبدالوهاب البياتي...). منجزهم الشعري بقدرته الدائمة على توفير شَرطَيْ الاستمرارية والتجدد: وبقدرته المتميزة على الاحتفاظ بتواصل دائم مع الجمهور العربي الواسع: فلم يعان مما عاناه آخرون من نضوب أو تكرار لما سبق، ولا من مدى نخبوي في التواصل.

وكان ذكاؤه، وحرصه الدائم على تثقيف نفسه باستمرار، مع الارتباط بقضية حية كالقضية الفلسطينية، وعدم القطع نهائياً مع الأساليب الشعرية العربية، وتطوير وإثراء لغته وأدواته ومعالجته لموضوعاته، هو ما أبقاه متواصلاً بقوة مع جمهور متفاعل كبير، في الوقت الذي انحسر فيه كثيراً في الآونة الأخيرة جمهور الشعر العربي، خصوصاً في زمن ما أطلق عليه "قصيدة النثر" التي، ورغم طرقها لمناطق وموضوعات شعرية جديدة، وبلغة هامسة غالباً ـ لا مًنبرية ـ لم تقدم (باستثناء بعض الأسماء، أبرزها "محمد الماغوط") أصواتاً تبلغ ما بلغه شعراء "قصيدة التفعيلة" التي تمردت عليها، من حضور، ولا ما بلغته الشعرية العربية الحديثة والمعاصرة منذ حركة الإحياء وشاعرها "محمود سامي البارودي"، مروراً بالتقليدية المحدثة (شوقي، حافظ، الزهاوي، الجواهري، خليل مطران...) والرومانسية التي عمت الوطن والمهجر (بشارة الخوري، إبراهيم ناجي، أحمد زكي أبو شادي، جبران خليل جبران، إيليا أبو ماضي، علي محمود طه، الصافي النجفي، إلياس أبو شبكة، عمر أبو ريشة، أبو القاسم الشابي، بدوي الجبل، محمود حسن إسماعيل، وسعيد عقل...).

فبعد اتكاء درويش في دواوينه الأولى على موضوعات وطنية وعاطفية قدمها بلغة غنائية رومانسية مباشرة، فإنه سرعان ما أسس صوته الخاص المتفرد بعدما تجاوز مؤثرات نزار قباني والسياب والبياتي، واشتق لنفسه معجماً وموضوعات وأسلوبية وصوراً رسخت مكانته الشعرية كأحد الكبار المجددين في الشعر العربي.

وإذا كان مديناً ـ في انتشاره في السنوات الأولى ـ للاهتمام الذي أبداه أديبان كبيران (يوسف الخطيب، وغسان كنفاني) بشعر وأدب "الأرض المحتلة" في أواسط الستينيات من القرن الماضي، ولإعلام الثورة الفلسطينية المعاصرة وشبكة علاقاتها العربية والدولية الواسعة، ثم للنقاد والاعلام المصري المهيمن (بعد حرب حزيران ـ يونيو 1967م) الذي عمم وروج صفة "شعراء وأدباء المقاومة"، فقد عمل درويش على تطوير بنائه الخاص باستمرار، خصوصاً بعد مغادرته الأرض المحتلة إلى القاهرة أولاً ثم إلى بيروت وهما حاضرتان عربيتان كان يصطخب فيها حراك ثقافي عميق ومتعدد التيارات والاختيارات.

وتعين عليه الاحتكاك المباشر بالشعراء، وبالنقاد، والدارسين، والمعلقين، والمثقفين، والفنانين، والجمهور المتنوع فيهما وفي غيرهما من العواصم والمدن العربية التي كانت منشغلة بعدُ بأسئلة الحياة. في هذا الجو الثري المحتدم، ما كان ممكناً للقضية الفلسطينية ـ على جلال حضورها ـ، ولا للحداثة الشعرية التي أصبحت راسخة، ان تكونا كافيتين لمنحه جواز المرور إلى المقدمة... فقد كان لكل شاعر وأديب كبير ـ ومثقف عموماً ـ قضيته وحداثته. كان هناك ـ إضافة إلى الرواد ـ شعراء الخمسينيات والستينيات: سعدي يوسف، ومظفر النواب، وخليل حاوي، وأحمد عبدالمعطي حجازي، وأمل دنقل. وكان هناك شعراء العالم الكبار المتداولين بلغاتهم الأصلية أو بترجماتهم العربية: رامبو، والت ويتمان، ماياكوفسكي، بول ايلوار، لوي اراغون، لوركا، نيردوا، ناظم حكمت، وكافافي. وإضافة إلى هؤلاء، كان الشعر العربي القديم في عصوره المختلفة، قد جرت إعادة قراءته وتقديمه مجدداً على نطاق واسع، ناهيك عن شعراء "المحكيات" العربية الكبار ـ خاصة في مصر ولبنان والعراق ـ الذين تمردوا على القوالب القديمة، وقدموا مساهماتهم الإبداعية التي حملتها "الكاسيتات" وأذاعتها الأغاني.

لكن "محموداً"، بانشغاله المثابر على أدواته وموضوعاته وأسلوبه ولغته وصوره، وبحرصه على إيقاعات الشعر العربي ـ التي هجرها شعراء "قصيدة النثر" غالباً ـ وبغزارة انتاجه، تقدم إلى المقدمة... ومن المقدمة إلى ما بعدها... غير متوقف عند حدود ما أنجزه... لـ "كي يظل الأمام أمامنا" حسبما عبر في إحدى قصائده... أو لـ "يصعد إلى السماء ثم إلى فوق...،" كما كتب ذات مرة الصديق الشاعر "نزيه أبو عفش" في عبارة مجازية. وإذا كانت الأغلبية، من النقاد والدارسين والشعراء العرب، تقر بمكانة وجدارة درويش الشعرية، فإن بعض الأسئلة جديرة بأن تطرح حول صور ورموز فلسطين والفلسطينيين في شعره... فرغم خصوبتها وتأكيدها على الهوية والحضور الإنساني الحي في مواجهة التغييب والإلغاء الإسرائيلي، فقد غابت عنها صورة الفلسطيني المقاتل من أجل الحرية ضد الاحتلالين البريطاني والصهيوني، وهي الصورة التي وسمت مسار التاريخ الفلسطيني الحديث والمعاصر بعلاماتها، مع ملاحظة حضوره ـ أي الفلسطيني ـ كضحية، أو قتيل، أو شريد.

ولا يفسر هذا الغياب بقول البعض ان الأديب أو الفنان ليس مدعواً إلى تبني الثورة المسلحة، فهذا ما ينفيه السلوك الشخصي والتعبير الأدبي معاً، لأدباء وفنانين عالميين كبار، ولأدباء وفنانين فلسطينيين (عبدالرحيم محمود، غسان كنفاني، ناجي العلي... الخ). يمكن القول بأن درويش ـ الذي كان مع المقاومة "الثقافية" و "الحضارية" و "الإنسانية" ـ لم يكن مؤمناً بـ "الكفاح المسلح" كسبيل لنيل الحقوق، وهو ما يعرف من تأكيده على النضال الفلسطيني كـ "حركة استقلال" (وليس حركة تحرير شعبية مسلحة) تسعى لاقناع الإسرائيليين ـ بالسبل السلمية ـ "لقبولنا والاعتراف بنا وبحقوقنا".

وفيما بدا شعره (خصوصاً منذ ديوانه "تلك صورتها وهذا انتحار العاشق") غريباً بالنسبة لمقاتلي الثورة ـ وللفئات الشعبية الفلسطينية عموماً ـ التي كان العراقي "مظفر النواب" والمصري "أحمد فؤاد نجم"، أقرب إلى فهمها ومزاجها، فقد رحبت معظم أوساط الطبقة الوسطى المتعلمة بشعره وتقبلته... وهي أوساط تبغض الاحتلال حقاً وتتمنى الخلاص منه، وتحب فلسطين بصدق، لكنها غير مستعدة للتضحية من اجلها والمساهمة في تحريرها واستردادها، بأكثر من نشاط ثقافي أو اجتماعي. ومع احتفاظها بعواطف وطنية، وحرصها بخاصة على تأكيد هويتها ورموزها العربية الفلسطينية، فإنها معنية أكثر بالحفاظ على وضعها (وأوضاع عائلاتها) وتحسين مستواها المعيشي. هذه الطبقة ـ غالباً ـ ومثيلاتها في دمشق وعمان وبيروت ـ هي "المتداول" لشعر محمود درويش الذي رأت أنه يمنحها نوعاً من التعويض والعزاء عن "وطنيتها المشتهاة" من جانب، ويتواءم مع "أسلوب حياتها المطمئن" من جانب آخر.

أما السؤال الآخر فيتصل بمدى تفاعل درويش مع القضايا العربية، التي بدا تواصله معها، وتعبيره الشعري والأدبي عن هذا التواصل، "محدوداً"، مع تنقله ومعايشته المديدة للعديد من الأقطار والمدن العربية (رغم انه ليس ضرورياً العيش في دول للتعبير عن قضاياها). وتبدو لنا هذه "المحدودية" مفارقة، بالمقارنة مع أدباء وفنانين فلسطينيين آخرين من مجايلي درويش (توفيق زياد، يوسف الخطيب، ناجي العلي كأمثلة) أو عرب (عبدالرحمن منيف، غالب هلسا، مظفر النواب كأمثلة). هذا يعني أن نوعية "الموضوعات" و"الانشغالات" إنما يحددها "فكر" الأديب و"مواقفه" بالدرجة الأولى. ومن هذه الناحية كان درويش "أسير" الموضوع الفلسطيني، مع ادراكنا لأهمية ومركزية هذا الموضوع (فلسطين) في الشأن العربي، ومعرفتنا بالمدى الإنساني الذي رفعه إليه وعالجه به درويش.

إذا كان جسد الـ "عاشق من فلسطين" ـ درويش ـ قد رحل وغاب بعدما "ملأ الدنيا وشغل الناس" لأكثر من أربعين سنة: وإذا كانت مواقفه وآراؤه السياسية قد أثارت الجدل والاعتراض أو الرفض، وكذا مسلكه الشخصي في عدم تقبل أي نقد يوجه إلى مواقفه أو شعره: فإن شعره الذي لم يحظ شعر عربي حديث ومعاصر بما حظي به من اهتمام وانتشار كما قلنا من قبل، سيظل باقياً تتوارثه الأجيال. وسيحتفظ ديوان الشعر العربي لـ "محمود درويش" بمقام عالْ يليق به، بين شعراء العربية الكبار عبر كل العصور... منذ "الملك الضليل" ـ إمرئ القيس ـ وحتى الآتين في الغد. 

بسمة النسور: فراشات درويش
كان مجرد التفكير بالذهاب إلى حفل توقيع محمود درويش مجازفة غير محسوبة النتائج، إذ لم يضمن احد الوصول إلى طاولة يجلس خلفها، محاطا بتلك الطاقة الهائلة من الحب العماني الخالص لبياض روحه، رغم ثيابه السوداء التي لا تزيده إلا أناقة في جميع الأحوال ! تذمر الكثيرون من صعوبة الوصول إليه، وذلك لسبب لوجستي بسيط جدا: الطريق إلى مسرح البلد أغلق بقرار حكيم لشرطة السير، المكان مزدحم، ولا يحتمل توافد المزيد من محبي شاعرنا الأجمل، وهم كثر دائما، ولم يتسن للكثير منهم الوصول إلى القاعة الصغيرة، فظلوا متسمرين في العراء تواقين إلى انفراج ما.

غص شارع سينما الأردن بسياراتهم ووقع خطواتهم المتجهة إلى مسرح البلد، متلهفين إلى تتبع أثر الفراشات التي سوف تظل تخرج من معطف درويش ما بقيت القصائد واللغة! على مبعدة أمتار قليلة وحال هبوط درج حجري عتيق يبلغ المائة درجة أو تزيد، يؤدي الى صحن البلد شارع الأمير محمد حيث مقهى جفرا، الذي يسعى منذ افتتاحه إلى لملمة شتات المثقفين بأجوائه الفتية شديدة الحيوية ذات الرؤية الحضارية الراقية غير المتعارضة مع شعبيتها. غص المقهى بالصبايا والشبان القادمين من مسرح البلد، يثرثرون بحماسة وانفعال عن تفاصيل المعاناة والمشقة التي تكبدوها في سبيل حضور حفل التوقيع لشاعر أحبوه عن بعد، حيث أتاح اللقاء به عن قرب تأكيد مبررات ذلك الحب غير المجاني المستند لمسوغات لا مجال لحصرها الآن.

المشهد المفرح حقا في ذلك المساء العماني الذي تميز بدفء غير معهود، كان حضور كتاب اثر الفراشة أنى توجهت الأبصار، بغلاف يضم صورة التقطتها عين المبدع نادر داود في غفلة عن محمود، فجاءت بالغة العفوية اقرب ما تكون إلى روح الحقيقة التي تتعرض في العادة للتضليل جراء سطوة عين الكاميرا، ونادر في جفرا ينتبذ زاوية قصّية يبث من خلال الانترنت صورا طازجة لا تقل إدهاشا لحالات درويش متلقيا بتواضع وخجل دفقات حب العمانيين، الصبايا يحتضن الكتاب بحنو أمومي كما لو كان طفلا قريبا من قلوبهن، فيما الشبان يحاولون إبداء اكتراث اقل، يصارعون مشاعر غيرة خفية من هذا الدرويش الذي اسر قلوب فتياتهم، مدركين إن المقارنة في هذا السياق لن تكون لصالحهم! يطوون الكتاب بنزق ليس مفتعلا طورا، وطورا يضعونه أمامهم على الطاولات بعدم اكتراث مفتعل جدا هذه المرة! محاولين القفز عن الموضوع، فيما الصبايا يستعرضن بزهو بالغ صور درويش الملتقطة بكاميرات الموبايلات، ثمة سيدة تتأمل كتابها بأسى، تحكي بخيبة عن فشلها في الحصول على توقيع رغم وقوفها لساعات قبل اضطرارها للرحيل، وتتساءل بحنق: لماذا لم يقم الحفل في مكان أكثر اتساعا ! وفيما تهدأ النفوس ويتلاشى الزحام وتمضي أحداث السهرة العمانية نحو استعادة السياق المألوف، وصوت مكادي نحاس البديع يردد "لـ سري لهم بالليل هيه على هية ون تعبت الرجلين لأمشي على أديا"... يعود البعض إلى جوار مسرح البلد لاستعادة سياراتهم التي علقت في زحمة الجمال والشعر.

يعّبر الشاعر زهير أبو شايب الذي قدم درويش في إضاءة متميزة عن دهشته لردود أفعال هؤلاء الصبايا والشباب في التعاطي الجميل مع الشعر والشاعر، ويسرد بانفعال حكاية الصبية التي أتت من الكرك كي تحقق حلم التقاط صورة بمعية شاعرها المفضل. التظاهرة الدرويشية في مسرح البلد ليست علاقة بحقيقة الشعر بقدر اتصالها بظاهرة النجومية التي تحققت لدرويش! غير أن المتفق عليه لدى العديد من النقاد، أن درويش حقق المعادلة الصعبة بالوصول إلى ذائقة الجمهور العادي والنخبة على حد سواء، بل تمكن من الارتقاء بذائقة العامة نحو مزيد من التركيب والانتقائية، وانتزع عبر السنين مكانته كشاعر تأبط الجمال، واعتنق اللغة وسيلة وحيدة للخلاص، فصنع الدهشة وأجاد.

نوجه تحية محبة إلى محمود درويش، ونفرح بوجوده مقيما في قلب عمان وبين أهلها الطيبين كما يحب أن يصفهم، ونقول لرائد عصفور مدير مسرح البلد، المكان الذي يشكل بدوره ظاهرة حضارية تستحق الدعم والالتفات: شكرا لجهودك في تنظيم هذا الحدث الذي يعيد الاعتبار لعمان المدينة التي لم تأخذ حقها بعد من العشق، كفضاء مؤهل لاحتضان كل ماهو أصيل وجميل.