ذاكرة الفجيعة

سمير مندي

يبدو الحديث عن محمود درويش (1941 ـ 2008م) حديثاً محفوفاً بمخاطر الاختزال؛ فلاشك أن شاعراً مثل محمود درويش شاعراً أصيلاً بامتياز. والسؤال عن وجوه آصالته سؤالاً مهماً وصعباً فى آن. وقد لا يطرح هذا السؤال كثيراً فى حالة شعراء أو مبدعين كبار مثل محمود درويش. وفى نفس الوقت فإن قولاً واحداً فى جملة أشعاره قد يؤدى إلى اختزال لأبعاده المتعددة والمتباينة. وأظن أن شعر درويش يستجيب فى مدى الفهم إلى رفض آلة الظلم والقمع والاستبداد وفضح أقنعة الزيف والانتهاك. كما يستجيب من ناحية ثانية إلى رفض الاستبداد فى بعديه الخاص والإنسانى على النحو الذى يجعل من قصائد درويش استجابة لمعاناة الإنسان وشكواه وألمه فى كل زمان ومكان.

ودائماً ما يلاحق المبدع قمعاً يحاول من خلال إبداعه تعريته أو محاصرته أو الوقوف على مداه. وتتوقف أهمية وبلاغة المبدع على قدرته على تصوير عمق هذا القمع والكشف عن روافده وجذروه. ولا يهم فى هذا السياق ماإذا كان هذا القمع قمعاً شخصياً يعبر عن حزن وألم دفين يوتر الشاعر أو قمعاً سياسياً واجتماعياً يجثم فوق صدر شعب أو أمة؛ والمهم هو تجاوبه مع الدائرة الإنسانية التى تعطف الهم الإنسانى بعضه على بعض.

وقد تحول شعر درويش بمرور الوقت إلى شهادة وذاكرة "فجيعة" تتحرك جيئة وذهاباً بين ماضى أليم وحاضر مرير؛ تحاول أن تفرغ حمولة ثقيلة من الانتهاك. أعنى الانتهاك بماهو استيلاء على الأرض وقهراً للجسد وامتهاناً للروح. وقد تجاوب مع هذا "التفريغ" محاولة استرداد الهوية المؤسسة للشعب الفلسطينى. ومن ثم تواترت "بلاغة الاستعادة" هذه كثيراً فى شعر محمود درويش تواتراً يشيع خوفاً مريراً من الضياع:

"سجل! أنا عربى
ولون الشعر فحمى
ولون العين بنى
وميزاتى:
على رأسى عقال فوق كوفية
وكفى صلبة كالصخر...
تخمش من يلامسها
وعنوانى:
أنا من قرية عزلاء منسية
شوارعها بلا أسماء. (بطاقة هوية).

ولم تكن "الشهادة" إلا تسجيلاً لافتقاد الأرض والحيلولة دون طمس الهوية العربية. مثلما صار شعر درويش "يتفجع" ويئن تحت وطأة الاستبداد والظلم والقمع. وما بين هذا وذاك كانت "شعرية" درويش تعلن عن "ديونها" المتراكمة تجاه أشخاص عانوا مرارة الطرد والتهجير؛ مثلما اعتبرت نفسها "مديونة" منذ البدء لهوية شعب كما فى قصيدة "أبد الصبار":

"وقال له وهما يعبران سياجاً من الشوك
يا ابنى تذكر!
هنا صلب الإنجليز أباك على شوك صُبارة ليلتين
ولم يعترف أبداً
سوف تكبر يا ابنى وتروى لمن يرثون بنادقهم
سيرة الدم فوق الحديد.

وتبدو بلاغة "التذكر" مبدءاً مؤسساً فى شعر محمود درويش. حيث ترتبط الوقائع أو الحوادث الكبرى فى التاريخ بضرورة "التذكر" الأنطولوجية. ويبدو الخوف من النسيان خوفاً مزدوجا؛ فمن ناحية يؤدى النسيان إلى إمكانية تكرار المآسى التاريخية بحذفيراها؛ ومن ناحية ثانية يؤدى إلى إسقاط "ديون" الموتى أو ضحايا التعذيب أو القتل أو ما شابه. وبالتالى يكتسب "التذكر" دلالة أنطولوجية من حيث هو نداء بعدم نسيان " الانتهاكات" التى تطول إنسانيتنا وتؤرقها وتثقلها بشرور الذنب والخطيئة؛ ومن ثم تصبح إنسانية موصومة ومدنسة. ويرتبط فعل "التذكر" كذلك بفعل الرواية والنقل والتمثيل. فأن تتذكر يعنى أن تعيد رواية الأحداث إلى أجيال لم يروها ولم يعاصروها فيصبحوا على وعى "بحمولة" التاريخ؛ بل إن التذكر فى حد ذاته "شعيرة" ارتبطت فى الأذهان بالأحداث التى حولت مجرى التاريخ أو مثلت علامات لا يجب نسيانها مثل صلب المسيح أو أحداث صابرا وشاتيلا أو حتى أحداث الحادى عشر من سبتمبر.

لكن " التذكر" هو من ناحية أخرى إعادة بث للرعب الذى يطول حياتنا فى فترات تاريخية عصيبة. ومن ثم يحمل نداء "لا تنسى أبداً" هول ورعب التاريخ. وإذا كان نداء "لا تنسى" يشير إلى الخوف من تكرار جرائم التاريخ؛ فإنه يكتسب معنى الإشارة إلى "عدم نسيان الأرض" تلك الأرض التى نقف عليها منذ ولادتنا فتشهد فعلنا ومعاتنا وصراعنا وخيرنا وشرنا وبالتالى تحدد معنى وجودنا ـ فى ـ عالم. كما يحمل فعل "التذكر" مسئولية تكرار صورة الجماعة أمام نفسها وأمام الآخرين. فيتحول فعل التذكر إلى فعل تأسيس وبناء واسترداد ماضى الجماعة من الضياع المحدق فى مثل هذه الظروف:

ماذا جنينا نحن يا أماه؟
حتى نموت مرتين
فمرة نموت فى الحياة
ومرة نموت عند الموت
هل تعلمين ما الذى يملأنى بكاء؟
هبى مرضت ليلة... وهد جسمى الداء.
هل يذكر المساء
مهاجراً أتى هنا... ولم يعد إلى الوطن؟
هل يذكر المساء مهاجراً مات بلا كفن؟. (رسالة من المنفى). 

وقد أشاعت "أخلاق التذكر" عالماً غنياً بمستوياته الزمنية المتعددة فى شعر درويش. وأصبحنا نواجه شر العالم وخيره، وحلوه ومره فى قصائده. فلا يكاد القارئ يطالع قصائد درويش حتى يوتره الخوف والفقد والأمل فيعطف خوفه على خوف الكاتب وغربته ووحدته على وحدة الشاعر وغربته؛ فيشعران بالألفة التى تصهر المسافات وتحاصرها وتدمج الفردى فى الجماعى والخاص فى العام. ولا يعنينا هنا ماإذا كنا نريد أن نرى فى شعر درويش كفاحاً من أجل حرية وكرامة شعب أم سعياً وراء تحرر الإنسان من القهر والعبودية فى كل مكان وزمان فليس هذا بمعزل عن ذاك. ولطالما ألح على ذاكرتى ذلك التجاذب الذى تتبادله شاعرية صلاح عبد الصبور (1931 ـ 1981م) مع شاعرية محمود درويش. فكلاهما رغم الاختلاف يتجاذبان حس "الفجيعة"؛ وعلى حين يشكو درويش الاستبداد والظلم فإن صلاحاً يشكو هزيمة الإنسان وإنكساره أمام الموت فى المدى الذى يجعل من الموت سلباً ونفياً للحياة مثلما يصبح الاستبداد والقمع سلباً يوازى الموت ويساويه؛ فتتحول فروسية صلاح " المفقودة" إلى فروسية "العربى" المفقودة فى شعر درويش، ويصبح عالم الاستبداد والقمع عند درويش هو نفسه الكون الموبوء عند عبد الصبور:

"هذا زمن الحق الضائع
لا يعرف فيه مقتول من قاتله ومن قتله
رؤوس الناس على جثث الحيوانات
ورؤس الحيوانات على جثث الناس
فتحسس رأسك!
فتحسس رأسك!. (صلاح عبد الصبور، الظل والصليب، ديوان أقول لكم).

ويتواشج مع فكرة استرجاع الماضى وتذكره مستويان مختلفان. يشير المستوى الأول إلى استرجاع الماضى من حيث هو كذلك أى الماضى بوصفه ماضياً، ويشير المستوى الثانى إلى الاختلاف مع هذا الماضى؛ على النحو الذى لا يصبح به التذكر مجرد تسجيل أعمى. وليس هذا الاختلاف إلا قدرة الشاعر الإبداعية على تجاوز حرفية الماضى وإعادة صياغتها من خلال مسارات أكثر انفتاحاً وثراءاً. أى أن شاعرية درويش تكمن فى الجدل الدائر بين هويته المستقرة والثابتة وديناميته الشعرية التى تستطيع أن تعيد تفعيل وتجديد هذه الهوية من خلال فعل التواصل والاتصال. وقد وضعت هذه الفاعلية شعر درويش فى قلب حوارية خلصته من التعصب والجمود:

"فاصنع بنفسك ما تشاء، إخلع
قميصك أو حذاءك إن أردت فأنت
منسى وحر فى خيالك، ليس لأسمك
أو لوجهك ههنا عمل ضرورى
تكون كما تكون... فلا صديق ولا عدو
هنا يراقب ذكرياتك".

"مقهى وأنت مع الجريدة ، ديوان كزهر اللوز أو أبعد"

ويستعير شعر درويش لنفسه فكرة التحرر بمعناها الواسع. فلا يصبح شعره كشفاً للقمع والاستبداد إلا بالقدر الذى "يتوقع" به عالماً أفضل وأفقاً أوسع. وبالتالى يتوتر شعر درويش بين حاضر يعى مسئوليته تجاه ماضيه ومستقبل يبشر بإمكانية التحرر والعيش دون خوف أو بطش أو استبداد. فلا تخذلنا أشعار محمود درويش أبداً فى إمكانية أن ينزاح عالم الاستبداد ويتبدد أمام الرغبة فى عالم يتقاسم فيه الناس العدل والحرية. ولا تكف قصائده عن مساءلتنا بالقدر الذى نساءلها به وبالقدر الذى تضعنا به فى مواجهة أنفسنا وفى مواجهة الآخر:

"قيل: قوى هو الحب كالموت
قلت: ولكن شهوتنا للحياة
ولو خذلتنا البراهين أقوى من الحب والموت
فلننه طقس جنازتنا كى نشارك
جيراننا فى الغناء." (هنالك عرس، ديوان: كزهر اللوز أو أبعد). 


باحث مصرى