البحث عن القصيدة بين الولادة والصمت

أوالتسلل إلى مختبر محمود درويش الشعري

يشكل هذا الحوار الذي أجراه الشاعر المغربي حسن نجمي (رئيس بيت الشعر)، استعادة عميقة لتجربة الشاعر العربي محمود درويش، الحوار الذي سبق لجريدة «الاتحاد الاشتراكي» أن نشرته في أحد أعدادها. يمثل وثيقة عميقة حول شعرية الشاعر الكبير، كما تقدم أجوبته صياغات متفردة حول القصيدة، وغرفة الشاعر السرية، إضافة الى إضاءاته التي تمثل اليوم، مرجعا مستمرا لكينونة الشاعر محمود درويش، وديمومة للنص الشعري الدرويشي أحد أهم العلامات الفارقة في الشعرية العربية الحديثة.

الشاعر حسن نجمي "أجري الحوار في الرباط: في المغرب، في الرباط تحديدا، التقيت مرة أخري الشاعر العربي الكبير محمود درويش لإجراء حوار حول شعره، ومختبر كتابته، وانشغالاته المعرفية والجمالية، وبعض من همومه. وكان محمود قد زارنا لإحياء أمسية شعرية ضمن البرنامج الشعري الموازي للمعرض الدولي للكتاب والنشر الذي نظمته وزارة الثقافة بالدار البيضاء. وجرت وقائع هذه الأمسية في المسرح الوطني محمد الخامس بالرباط، في ذلك الفضاء الذي أصبح مسكنا رمزيا آخر للشاعر الفلسطيني الكبير. ذلك أنها المرة السابعة التي يلتقي فيها محمود درويش جمهوره المغربي في هذه القاعة الكبري الناعمة.

وكان الشاعر الصديق محمد الأشعري، وزير الثقافة في المغرب، قد شرفني بتقديم الشاعر الكبير. ولعله توسم فيَّ بعضا من خبرة التقديم أو جرأته، فليست هذه هي المرة الأولي التي أتولي فيها تقديم درويش. ولأن الأشعري قبل كل شيء شاعر، فهو يدرك والشعراء مثله جميعهم يدركون أن الخبرة أو الجرأة لا يمكنها أن تنتصر علي ذلك الإحساس الغامض بالارتباك الملازم لقراءة الشعر أو لتقديم الشعراء، خصوصا حين يتعلق الأمر بشاعر كبير، عميق، جميل، ودود، ناعم، صادق كمحمود درويش شاعر العربية الحديثة، وشاعر القضية الفلسطينية وضميرها بالمعني الإنساني، والمعني الرمزي والأخلاقي.

طبعا، الجلوس إلي محمود درويش لإجراء حوار حول الكتابة والحياة يظل بعيدا كليا عن ارتباك اللحظات المحتشدة. دفء الصداقة والتقدير المتبادل يمنحان لحظة الحوار امتيازها. وحين يعثر محمود علي مزاجه الرائق، يمنح الحوارات قيمة نوعية مضافة، فتتألق الأفكار وتكون للكلمات هيبتها الشعرية. ولا يغدو الحوار مجرد تعليق أو صيغة أخري للإخبار، وإنما يرتقي إلي مستوي النص الموازي للقصيدة بالمعني النظري والجمالي العميق الذي يحدده الشِّعْرِيُّون المعاصرون وعلي رأسهم جيرار جونيت للحوار الإعلامي.

إنها المرة الثانية التي أجري فيها حوارا مسجلا مع محمود درويش. وفي كل حوار، مثلما في كل لقاء، أزداد ثقة في الشعر والشاعر، وفي الشعرية العربية الحديثة والمعاصرة التي يشكل محمود أحد مرتكزاتها الأساسية. ومثلما نحن مدينون بالكثير، شعريا وجماليا، لعدد من كبار شعراء العربية، نعترف بأن لمحمود درويش تحديدا فضلا علينا، علي الكثيرين منا في المغرب وفي الساحة العربية من مائها إلي مائها. فقد تعلمنا منه الكثير من الكلمات التي لا تشبه كلمات القاموس رغم أنها منه. وتعلمنا منه الكثير من الاستعارات التي لم تكن مجرد ظواهر لفظية أو لغوية، أو نحتا تزيينيا، وإنما كانت استعارات إنسانية نكاد نلامس ما فيها من دم ولحم، ونكاد نشم ما به تعبق من روائح الأدخنة أو عطر الزعتر البري والليلك والبرتقال والياسمين... في هذا الحوار، يفتح الشاعر العربي الكبير ملفاته الشخصية ويتيح لنا أن نتسلل قليلا إلى مختبره الشعري، وأن نتعرف على الفضاء الحميمي الذي يشيد فيه القصيدة ويخرجها من ثنايا الروح وضوء القلب. وهو يقربنا من ظلال النص الدرويشي في حالات الولادة والصمت وسيرورة التدفق. في الحوار أيضا، يتحدث محمود عن صداقاته الشعرية في الوطن العربي وفي العالم. ويكشف عن العلائق المتميزة بالتواضع والمحبة وروح الانصات والتعلم التي يعقدها مع الشعراء الجدد في القصيدة الفلسطينية، أولئك الذين لايحاورهم مطلقا بنزعة الوصاية أو التلقين". 

ـ دعني أسألك أولا عن عادتك مع الحوار الصحافي. كيف تعاملت طوال مسارك الشعري والأدبي مع الذين يطلبون منك إجراء لقاءات إعلامية حول شعرك ومواقفك؟ كيف تنظر إلي هذا الحوار باعتباره نصا موازيا لقصيدتك؟ هل يسعفك علي إضاءة جوانب معينة في عملك الشعري؟ هل توفر فيه بعض عناصر الإخبار لقرائك؟ ثم ما هو الحوار الذي تعثر فيه علي نفسك وترتاح فيه؟

* أولا، أحب أن أقول إنني أجد صعوبة وأبذل جهدا كبيرا في الحوار، لأن الحوار في جوهره كتابة شفوية وليس مجرد جلوس وكلام، كما يبدو لكثير من الصحافيين المستعجلين. فأنت دائما تجد نفسك أمام من يطلب منك حوارا في عشر دقائق أو في دقيقتين مثلا، ولا يصدقك عندما تقول له إن علي أن أبذل جهدا كبيرا من أجل أن أوفر مناخا مناسبا لإجراء الحوار، وبالأخص حين لا أجد دائما مزاجا ملائما لتبادل الآراء حول موضوع محدد بطريقة شفاهية. إنني أعتبر أن الحوار يستحق من الجهد ما تستحقه الكتابة، وقد أجد أحيانا أن الكتابة أسهل من الحوار. فأنت في الكتابة تكون رقيب نفسك، ومن حقك أن تمحو، وأن تصحح، وأن تنقح. أما في الحوار الشفاهي، فالكلمة حين تنطلق لا تستطيع أن تستعيدها أو تستدركها أو تعدلها، خصوصا حين تتحدث تحت ضغط عواطف معينة، فتغضب بدون سبب وقد تبتهج بدون سبب. ولكن الحوار مختبر لقراءة باطنية للشاعر. والمحاور الذكي يستطيع بهذه الطريقة العفوية التي يجذب بها محاوره أن يكشف طريقة تفكيره، أو سرعة بديهته، أو كسله الفكري، أو نشاطه وحيويته. وأقصد هنا الصحافي الجيد، خصوصا إذا كان شاعرا أو كاتبا، يعرف كيف يكون محاورا جيدا، وكيف يوفر شرط الندية بينه وبين محاوره، فلا شك أنه سيحقق في الحوار رياضة ذهنية أو منفعة معرفية متبادلة.

لذلك، نادرا ما أرتاح إلي الحوارات السريعة، خاصة تلك التي يجريها صحافيون علي عجلة من أمرهم. وأري أن المسألة تتوقف أيضا علي اللحظة الذهنية التي يتم فيها إجراء الحوار. إن اللحظة التي يرتقي فيها الحوار إلي مستوي البوح، وتنسي فيها أنك في حوار مسجل، تتكلم بشكل أفضل. والعكس، عندما تكون أمام الكاميرا أو يكون الميكروفون مسلطا عليك مثل العصا. أما عندما تنسي الكاميرا والميكروفونات، فأنت تكون في وضع أفضل وتتكلم بطريقة أجمل كما قلت. وعموما، فأنا أتحاشي الحوارات الكثيرة.  

ـ أريد أن أظل عند هذا البعد الشفوي الملاصق لكتابتك الشعرية. فأنت ـ بدون شك، وفي حدود علمي ـ تتكلم عن نصوصك الشعرية، عندما تفرغ من كتابتها، مع بعض أصدقائك وفي فضاءات ضيقة جدا. فكيف يمكنك إذن تقييم هذا الحوار الشفوي، الحميمي إن شئت، حول شعرك أو تجربتك أو حضورك الشعري المتعدد؟

* عندما تجلس إلي أصدقاء أذكياء، تشعر أنك في مختبر. فهنا تتم عملية تبادل الخبرة والتجربة، وعندما أجلس إلي بعض الأصدقاء، أشعر أنني أذكي، وأتعلم منهم الكثير. أتعلم منهم البديهة المثقفة. إن تبادل الكلام في أسرار العملية الشعرية، في غموض الشعر وفي صعوبة الشعر، يسهل عليك كثيرا فهم الشعر. فالحوار مهم بين الشعراء، إذا كانوا خالين مما يسمي في حياتنا الثقافية بالحسد أو الغيرة أو الأحقاد الصغيرة أو نوايا الاغتيال المعنوي. للأسف، فإن حياتنا الثقافية، وبالذات الشعرية، ليست نظيفة بالمعني الأخلاقي. ولا أعرف لماذا... فالتنافس حول الشعر، يجب أن يدفع الشعراء إلي قدح موهبتهم لتقدم أعمالا شعرية أفضل. التنافس، ينبغي أن ينتج عنه تنافس في الإبداع، وليس تنافسا في القتل المعنوي. وللأسف مرة أخري، فإن حياتنا الشعرية لا تتمتع بهذه الرفعة. طبعا، يمكنك دائما أن تجد استثناءات كثيرة، فقد تكون الأقلية كثيرة. وفي هذا المناخ، فإن تبادل الخبرات يعلمني الكثير كما يمكن أن يتعلم مني أصدقائي الكثير. وبالمناسبة، فهناك قد تصدر أهم الآراء النقدية، تلك التي ليست مبرمجة سلفا،أو التي ليست مسجلة في النقد الأدبي. أقصد تلك الملاحظات الناتجة عن الخبرة والتي قد تحمل منظورا نقديا أعمق من النظرية نفسها. 

ـ وأنت، محمود، هل تثق في هذه الآراء الانطباعية السريعة والعفوية؟

* ماذا نعني بالآراء هنا؟ عندما تتكلم مجموعة من البشر فإن مجموع كلامها يُكَوِّنُ رأيا، ولا أعني ما قد يقوله هذا أو ذاك. المهم، ما ينتج عن اللحظة في النهاية، خصوصا عندما تطمئن أن لجليسك جهازا نفسيا حساسا وملائما ونظيفا. في نفس الأفق. 

ـ نحن نعرف أنك عندما تهييء مخطوطة مجموعة شعرية جديدة، وقبل أن تدفعها إلي النشر، تحرص علي أن تشرك معك فيها بعض الأصدقاء، فهل تفعل ذلك من باب الاستئناس، أو هو نوع من تهيب الشاعر الكبير؟

* هو نوع من مشاركة الآخرين في التقويم الأولي للمسودة. وطبعا، كل شاعر صادق هو الشاعر الذي يشك في نفسه أولا، وليس الشاعر الذي لا يقول إلا الصدق! الصدق يراد من الأنبياء، وحسن الكلام يراد من الشعراء، كما قال أحدهم. والصدق هو أن تكون ممتلئا بموهبة الشك. اليقينية قتل لأي إبداع، أي أن تكون واثقا تماما من عملك وممتلئا باليقين بأنه العمل الكامل! وفي حالتي الشخصية، فكلما كبرت واحتللت مكانا أعلي لدي النقاد أو القراء، شعرت بالخوف أكثر. وهذا الخوف ناتج عن إحساس بالمسؤولية. وأهم شيء يخيفني هو أن أكرر نفسي، أن أقول قولا قد قلته كما حدث مع كثير من الشعراء الذين يكررون ما قالوه عشرات أو مئات المرات. إنني حريص علي أن أقول قولا جديدا حتي ولو كان القول الذي سأقوله أقل مستوي!

إن تجديدا غير ناجح أفضل من تقليد ناجح، لأنني لا أستطيع الحكم النهائي علي المسودة التي أنتجتها. ولدي عدة مستويات من الرقابة الذاتية: أولا، أضع المخطوطة في الدرج ولا أقرؤها إلا بعد شهرين علي الأقل. ثم أطلع عليها من جديد. إذا لاحظت أنها تشبهني كثيرا، أعرف أنني لم أقدم جديدا. فإذا شعرت بأن شخصا آخر هو الذي كتبها وليس أنا، إذا أدهشتني ـ والدهشة لا تأتي مما تفعله أنت، وإنما تأتي مما يفعله الآخر ـ آنذاك أدرك أن فيها شيئا ما يستحق أن ينشر علي الناس.

ولأن هذا لا يكفيني، فإنني أعرض بعضا مما أكتبه علي ثلاثة أنواع من الأصدقاء: علي شاعر، وعلي ناقد، وعلي قارئ عادي. وتستغرب، سي حسن، أنني أستمع بإصغاء شديد للملاحظات السلبية، وأجري تنقيحا علي ضوئها.

وأحيانا، تكون لدي شكوك وأحتاج إلي من يعمق هذا الشك تجاه هذه الصفحة أو تلك. وعندها أنصاع، فأنا لا أؤمن بأن هذا كلام منزّل، كما يعتقد البعض من الذين يتصورون أن القصيدة قد جاءت إلهاما كاملا من الله، ولذا لا يمكن إجراء أي تغيير عليها! لا، أنا أعتبر أن جزءا من الكتابة هو أن تعرف كيف تحذف، وكيف تمحو، وكيف تعدل، وكيف تنقح. وأعتقد أن من حق الشاعر أن يجري تنقيحات لا نهائية علي نصوصه. 

ـ هل يصل هذا الانصياع لهؤلاء الأصدقاء، في المراحل الأولي لانبثاق القصيدة واستكمال بنائها الأول، إلي حد أنك قد تحذف بعض المقاطع أو الجمل الشعرية، وربما بعض الصفحات؟

* أجل، وأعطيك مثلا من قصيدة (جدارية) التي أصبحت الأشهر في عملي الشعري، وكنت عرضتها علي أحد الأصدقاء، وهو صبحي حديدي. كانت نهاية القصيدة: هذا البحر لي/ هذا الهواء الرطب لي/ وإن أخطأت لفظ اسمي علي التابوت لي/ إلي آخره/ إلي آخره/ إلي آخره، فلاحظ أن تكرار(إلي آخره) فيه نزول عن الذروة. وأعدت قراءة الصفحة الأخيرة من القصيدة فأحسست فعلا أن هناك هبوطا أو هروبا من مواجهة ختام القصيدة، بسبب ما يبدو أنه تعب الشاعر، فأضفت مقطع: أما أنا ـ وقد امتلأت/ بكل أسباب الرحيل ـ / فلست لي/ أنا لست لي/ أنا لست لي أما فيما يتعلق ببداية القصيدة، فقد كانت لدي شكوك حول مقطعها الأول ولم أكن مطمئنا إلي سلامة الإقلاع، فاستدعيت جارا لي، وهو صديق محام ليس خبيرا بالشعر مع أنه قارئ عادي للشعر، وأخبرته بأنني أريد أن أختبره، وأن نواياي شريرة. وكنت قررت أن أقرأ عليه الصفحات الأربع الأولي من القصيدة لأعرف منه هل ما سيسمعه شبيه بشيء سبق أن قرأه أم أنه سيشعر فيه بشيء جديد؟ وما إن قرأت عليه الصفحات حتي قال بأنه شعر وكأنه يعرف هذا الشعر لدي من قبل. فشطبت هذه الصفحات كاملة من القصيدة. مرة أخري، قرأت قصيدة طويلة من مجموعة (كزهر اللوز أو أبعد) للشاعر الصديق طاهر رياض، ولم أكن متيقنا مما إذا كانت هذه القصيدة جيدة. حين قرأتها َصَمَت، ثم قال لي ما فهمت منه أنها لم تعجبه، فقلت له: وأنا أيضا، لم تعجبني.

هذه الاستشارات أو الاختبارات، أعتقد أننا كلنا في حاجة إليها. لذلك، نجد أن كل دور النشر الكبري في العالم تتوفر علي ما يسمي بالمحرر. وقد لا يكون رأي هذا المحرر دائما هو الأفضل، لكنه قد يلفت نظر الكاتب إلي مناطق تكرار أو مناطق تناقض. وبتشاور مع المؤلف، يتم حذف صفحات كثيرة من المخطوطات. ولدينا مثال كلاسيكي ساطع: قصيدة الأرض الخراب للشاعر تي. إس.إيليوت، فالذي نقحها واختار ثلثها علي الأكثر هو باوند. فالمؤلف الثاني لهذه القصيدة التي تعتبر أشهر قصيدة في القرن العشرين هو إزرا باوند. وليت الشعراء العرب يتعلمون كيف يتواضعون، وكيف يستفيدون من آراء نقادهم وأصدقائهم. 

ـ محمود، ما من شك في أن قصيدتك أصبح لها تاريخ. ولها سيرورة طويلة ومعقدة وثرية من التراكم والبحث والأداء والتجريب وفتح الآفاق واستدراج الجغرافيات والأمكنة واللحظات الشخصية والعمومية، وكذا استحضار أشخاص ووجوه وملامح عديدة هي جزء من حياتك الشعرية، ومن شجرة حياتك وتجربتك ووجودك الخاص. هذا التاريخ، تاريخ قصيدتك، كيف تقرؤه الآن؟ كيف تنظر إليه عندما تلتفت باتجاهه وتتمثله؟

* هل تريد الصراحة؟
ـ نعم

* ليس فقط أنني لا أنظر إلي الوراء برضا أو بغضب. أنا أخاف من النظر إلي الوراء. أخاف كثيرا أن أقرأ فصولا كثيرة من تاريخ قصيدتي، لأنها تغيرت بشكل كبير، وما زلت طامحا إلي أن أكتبها بشكل أفضل. فالنظر إلي الوراء يُصَعِّبُ عليّ التطور، وبالتالي لو أتيح لي ـ وهذا كلام قلته أكثر من مرة ـ أن أعيد النظر في ما نشرت لحذفت الكثير. وللأسف الشديد، لم أعد قادرا علي أن أستعيد من الذاكرة ومن تاريخ الذاكرة، وليس فقط من المطبعة أو من المكتبة، نصوصا كثيرة لم تعد ملكا لي وإنما صارت ملكا لقرائها. فلم يعد من حقي أن أصدم هذه الذائقة. إنني أنظر إلي تاريخ قصيدتي كما أنظر إلي تاريخ أي نمو، سواء كان نموا بشريا أو نموا شجريا أو نمو أي شيء. فهكذا تتشكل الأشياء، ولكن يرضيني شيء آخر: كلما نظرت إلي رداءة بداياتي وصلت إلي استنتاج أنني محظوظ، لأن أسوأ شيء هو أن يكون كتابك الأول هو أحسن كتاب لك. فما دام كتابك الأول هو أحسن كتاب لك، فأنت لا تتقدم وإنما تتراجع. وما دامت كتبي الأولي رديئة ـ برأيي ـ وكتبي الحالية هي أقل رداءة فأنا قابل للتطور، وقابل لتحويل التراكم إلي شيء نوعي. لذا فأنا أقترب أكثر من منطقة الشعر. طبعا، لن أبلغ الشعر، ولا أحد يستطيع أن يبلغ الشعر، أو يعرف ما هو الشعر في آخر الأمر، ولكننا نقترب من منطقة أكثر شعرية وأقرب إلي الشعر الصافي، غير الموجود طبعا، الذي علينا أن نطمح دائما إلي وجوده.

إذن، عندما أنظر إلي هذا التاريخ أتحاشي النظر إليه. ولكن إذا اضطررت إلي النظر إليه، أقول إنني راض عن تطوري الحالي وليس عن بداياتي. كنت أحبو وأصبحت أقفز.  

ـ هناك، بجوار تاريخ قصيدتك تاريخ آخر لنقد قصيدتك. وثمة عدد وافر من كبار النقاد والباحثين الذين رافقوا قصيدتك عبر سيرورتها التاريخية والجمالية، سواء كانوا من داخل الساحة العربية أو من خارجها. وقد قرؤوها، قاربوها، اندسوا بطرائق ومناهج مختلفة في فضاءاتها المختلفة. كما أن بعضهم احتفي بها، وجاملها بعضهم حتي اضطرت لتعلن عن ضجرها، ودافع عنها البعض ممن اقتنع بمشروعها الشعري والجمالي المتقدم في التاريخ الحديث والمعاصر للشعرية العربية إلخ. أنت، محمود درويش، كيف قرأت وتقرأ هذا النقد الذي ربط وشائج مع تجربتك الشعرية؟ ما الذي تعلمته من هذا الخطاب النقدي؟ وما هي اللحظات النقدية القوية التي أحسست فعلا أنها خدمت مشروعك، وكانت أكثر قربا إلي نفسك وإلي اختياراتك الجمالية؟

* هذا سؤال صعب جدا. فالكتابات النقدية التي تتحدث عنها متناقضة إلي حد، ومتفاوتة إلي حد، وموزعة منهجيا علي ما هو قراءة بنيوية قد تلغي ما هو اجتماعي وثقافي وسياسي من النص، أو قراءة اجتماعية تاريخية تلغي الذات من النص. وبين هاتين القراءتين، وكلتاهما لا تمسك بالنص (النص بشكل عام وليس نصي الشعري فقط)، أشكو دائما من الإفراط في القراءة السياسية لنصي الشعري حتي أصبح كل ما أكتبه يفكك إلي إشارات سياسية تحيل إلي هذا المعني السياسي أو إلي تلك الحقبة السياسية أو تلك الحادثة السياسية وهذا أسوأ ما في الأمر. فلم أقرأ قراءة جمالية موازية للقراءة التاريخية الاجتماعية إلا نادرا. طبعا، بوسعنا أن نقرأ النص قراءة تاريخية أو اجتماعية ـ إذا أردنا ـ وهذا مستوي من مستويات القراءة، ويجب أن نحافظ عليه بدون أن يتم علي حساب القراءة الجمالية وكأن القصيدة وثيقة اجتماعية وليست نصا فنيا. وبالتالي، أصبحنا ـ نحن الشعراء العرب ـ مطالبين بأن نختار أحد المأزقين: إما أن يحول نصنا إلي وثيقة تاريخية أو إلي نشرة أخبار تنقل وقائع الانحطاط العربي الحديث، أو أن نبذل جهدا أكبر لقتل المعني في الشعر، أي البحث عن القيمة الجمالية المطلقة للامعني. وكلا الخيارين لَيْسَا خياري.

ولذا، عندما أتكلم عن شكواي أو ضيقي من الإفراط في القراءة السياسية لشعري وكأنه وثيقة للسردية التاريخية الفلسطينية، وإن كان يحمل بالطبع بعضا من هذا الجانب، فإنني لا أستطيع في المقابل إلا أن أستثني القراءة الأخري. القراءة التي تعرف كيف تنظر إلي طبقات المعني المتعددة في النص الشعري، فتقرأ الفني، وتقرأ الاجتماعي، وتقرأ التاريخي. ولا شك أن حتي هذه القراءات المفرطة في التأويل السياسي علمتني كيف لا أزود هؤلاء النقاد بذرائع تجعلهم يقرؤون هذه القراءة. بمعني أنني أحمل نفسي المسؤولية أحيانا، مما يجعلني أكثر حذرا تجاه التناول السهل، فربما كان نصي الشعري أو بالأحري بدايات نصي الشعري، بداياتي القديمة، هي التي قد تكون مسؤولة عن ذلك. ومن ذلك مثلا الإفراط في الترميز كأن تتم إحالة أي امرأة في القصيدة إلي أرض. قد تحمل المرأة معني الأرض، ولكن ليست المرأة هي الأرض. ومن ثم تجد أنهم يفصلون جسد المرأة التي أكتب عنها في قصائد الحب إلي جغرافيا. طبعا، إن شعر الحب يحمل عدة معان وجودية وإنسانية، ولكن ليس بمعني الترجمة الحرفية للمعاني السهلة. 

ـ محمود، من الواضح أن قصيدتك هي أحد مرتكزات خريطة الشعر العربي الحديث. ما في ذلك من شك. فهي جزء من هذه الخريطة وتتجاور فيها مع أنواع أخري من المرتكزات وأنواع من القصائد. ولذا يهمني أن أسألك عن هذا الجوار. كيف تقرأ مثل هذا الجوار؟ كيف تعيشه وتواكبه داخل هذه الخريطة؟

* دعني أؤكد أساسا علي التجارب الكبرى. لا أستطيع أن أقول إننا نتجاور، وإنما نحن نتكامل. وأتحدث عن الخريطة الشعرية الحالية، أما في السابق فكل واحد كان يتعلم ممن سبقه. وبعد ذلك، بعد سن معينة نصير جيلا واحدا. لا تقاس التجربة الشعرية بسنوات العمر، إنما بسنوات الإبداع أو بالملامح الإبداعية لكل تجربة. لذلك، أعتقد أننا لا نتجاور وإنما نحن أجزاء من بعضنا البعض، فليس هناك أحد منا كان سيكون مَنْ هو عليه الآن لولا الآخر. ولا أقول هذا من باب ادعاء التواضع. أكثر من ذلك، أنا أتعلم وأستفيد وأصغي باهتمام لا فقط إلي من هم أكبر مني سنا أو إلي مجايليَّ، وإنما أيضا إلي من هم أصغر مني سنا. ولي هذا الحرص علي أن أصغي دائما إلي الحساسية الجديدة، والذائقة الجديدة، ولا أخجل أبدا من الاعتراف بأنني أتعلم منهم كثيرا. لكنني أفهم أيضا أنه بعد تراكم معين، يبدو وكأن هناك أقطابا شعرية متجاورة أو تطل علي بعضها البعض كما لو أن الخريطة علي شكل أرخبيل. وهذا من حق الناقد أن يراه، وربما من حق القارئ أيضا، ولكن ليس من حق الشاعر أن ينظر إليه كثيرا، بل عليه حتي أن يتجاهل أنه محور أو ضلع من أضلع مثلث  

ـ لكنك في مراقبتك لهذا الأرخبيل، إذا جاز التعبير، تظل ممسكا عن الكلام ولا تتحدث عن التمايزات أو الخصائص التي ترصدها من داخل مرصدك الشعري والجمالي. وأري أن خروجاتك قليلة جدا بهذا الخصوص؛ أذكر هنا نصوصك وشهاداتك النثرية الجميلة والمتألقة التي كتبتها عن سعدي يوسف، أو المرحومة فدوي طوقان أو المرحوم محمد الماغوط أو المرحوم ممدوح عدوان.

* بشكل عام، أحذر من الدخول في جدال حول المسائل الشعرية الراهنة. أتحاشي ذلك، أتحاشي النقاش حول الخيارات الشعرية، حول أفضلية الشعر الموزون أو أفضلية قصيدة النثر. وكنت قد ارتكبت حماقات في السنوات الماضية، وأبديت آراء متسرعة أندم عليها. وأعتقد أن ليس من حقنا أن نضع أي موانع أمام أي تجربة شعرية جديدة. ليس من حقي أن أقول، ومن الخطأ أن أقول مثلا إن خيار الوزن أفضل من خيار القصيدة النثرية أو إن الشعر العمودي أفضل أو ليس أفضل من قصيدة التفعيلة "لكم أكره هذا التعبير..."

ما يعنيني شخصيا هو تجلي الشعرية في القصيدة، وما يهمني هو أن أقرأ شعرا سواء في القصيدة العمودية أو الحرة أو النثرية. من ناحية أخري، بسبب حساسية العلاقات بين الشعراء أحذر كثيرا من إبداء الرأي في شعر زملائي وتسمية هذا أو ذاك. إن هناك حزبية شعرية عندنا، وأعتقد أن هذه الروح الحزبية تعكس أزمة ثقة بالذات. ينبغي أن يمر النص بدون كوادر حزبية، أن يعبر ويخترق ويصل بدون ترويج إعلامي. لذلك، فإن علاقاتي العامة سيئة جدا ولا أحرص علي ربطها.

ـ إذا صدق حدسي، كأنك تلمح إلي ما يلحقك من إيذاء داخل الخريطة الشعرية الفلسطينية!

* أنا أتعرض فعلا لحملة قاسية جدا من أغلبية الشعراء الفلسطينيين. لا أشعر أن لدي مشكلة مع الشعراء العرب، ولكنني أتعرض دائما لتشهير، وتكفير، وتخوين من أغلب شعرائنا الفلسطينيين، وأدعي أنني لم أقرأ ولم أسمع. 

ـ لكنك، وأنت تتابع وتقرأ وتواكب دبيب النمل في القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة، لا شك أن هناك ما يدهشك فيها، وبعض ما يعجبك فيها. فما هي هذه الملامح أو الخصائص التي تثير إعجابك في هذه القصيدة؟

* يعجبني كثيرا إعلاء شأن اليومي والعادي، وانتهاء البطولة اللفظية في الشعر العربي. انتهي زمن الفروسية الشعرية وتمجيد البطولة بكل معانيها. ولا أَمَسُّ هنا معاني الوطنية، بل أشير إلي نموذج الشعر ـ البطل أو الشعر ـ النبي. إن تكسير أو تفكيك هذه الصورة هو الجانب الجميل والثوري من مشروع الشعراء الشباب. وذلك بإعلاء شأن اليومي والهامشي والعادي. ولكنني لا أحب الإسراف في البحث المضني عن اللامعني لدي كثيرين منهم. إن بعض الشعراء الشباب ـ للأسف الشديد ـ يبذلون جهودا طائلة من أجل أن يكونوا غامضين. والغموض قد يكون طبيعة ملازمة للعمل الشعري، والشاعر عندما يكتب إنما يكتب لكي يوضح نفسه لا ليبحث عن غموضها. الغموض يأتي في سياق العملية الشعرية، لكنه ليس هدفا.

قلت لك ما يعجبني، لكن ما لا يعجبني هو الإسراف في قول اللاشيء وتزيين الكلام بمفارقات أصبحت جاهزة. لا يعجبني لدي البعض هذا الإصرار علي أن يكتب قصيدة لا تقول شيئا.

ويعجبني أيضا التخفيف من الادعاء البلاغي والبحث عن بلاغة جديدة، وإشراك القارئ في معرفة كيف تُكْتَبُ القصيدة. طبعا، في ذلك مكر خطِر جدا. هذه ليست لعبة شكلية، بل يجب أن تحمل معني آخر.

هناك نقطة أخري، حول شعرية التفاصيل وهي مقولة سادت كثيرا في الخطاب حول الشعرية العربية الحديثة. لا شك أن التفاصيل قد تشكل أو تكون الظاهرة، لكن تفاصيلنا أحيانا لا يكون هناك رابط بينها. فأنت عندما تقرأ القصيدة لا تجد تفصيلا واحدا يحمل معني أسطوريا ـ كما يمكن أن نجد ذلك مثلا في شعر يانيس ريتسوس ـ أو معني ميتافيزيقيا. لا تجد أن هذا الجزء التفصيلي الصغير يحيل إلي ما هو أكبر منه، أو إلي ما هو خارجه. وهذه لعبة شعرية تحتاج إلي ذكاء أكبر مما يتصورون، وإلي معرفة أعمق قد لا يملكها هؤلاء الذين يقولون عن أنفسهم إنهم شعراء التفاصيل. أية تفاصيل؟ وما هو الضوء الذي يوجد وراء هذه العتمة؟ وما الذي يحمله مثلا ظل الحجر؟ هل يحمل تاريخا ما، أسطورة ما، معني ما ورائيا... أم ليس هناك شيء نهائيا، وأن هناك لقاء مصادفة بين الشباك مع زجاجة الماء مع ورقة الشجرة التي سقطت في الطريق؟ أعرف أن هذه الأشياء وغيرها يمكن أن تجمع، ولكن ينبغي أن يتوفر لها شاعر له رؤية ومعرفة، فيؤلف شكلا وماهية بهذه العناصر التي لا تبدو مشتركة، ويمكن أن يربط بينها خيط مشترك إذا تهيأت له رؤية شعرية. 

ـ الأخ محمود، جئت إلى المغرب مرة أخرى لتجدد اللقاء مع الجمهور المغربي، ترى، ألا يزعجك هذا الزَّخَم من الحضور، ومن الانصات والانتباه لقصيدتك، ولتميز إنشادك لهذه القصيدة؟ ألا تتضايق قليلا أو كثيرا من هذا الفيض الواضح من المحبة ومن الدفق الرائع من حولك؟ ألا تشعر، في لحظة من اللحظات، بالحاجة إلى تخفيض الجمهور في جسدك، والحد من عدد القراء بداخلك حفاظا على صمت القصيدة وعلى هيبتها.

* أعتقد أن هذا السؤال شديد الترف، فليس من حق الشاعر أن يشكو إلا من شيء واحد: من عزلته. أعني بعزلته أن تكون هناك مسافة بينه وبين القارئ، وليس من حقه أن يشكو من حضور القارئ الكثيف في المساحة التي يوفرها النص للإلتقاء بالقارئ. في المغرب، وخصوصا في الرباط، وبخاصة في مسرح محمد الخامس، أسبح في مائي. إن هذا المسرح من أجمل الأمكنة التي أقرأ فيها شعري حتى ولو كانت خالية من السكان. وبالتالي، لا أستطيع أن أقول بأن الناس في هذه القاعة هم جمهور، إنهم مؤلفون مشاركون في عملية تحويل العلاقة بين القصيدة والقارئ الى طقس. ما يحدث معي دائما في هذه القاعة هو نوع من الاحتفالية، أنا أحتفي بالجمهور، والجمهور يحتفي بي، وبالتالي، يساعدني الجمهور على أن أؤلف القصيدة تأليفا مختلفا عن كتابتها. إذن عندما ألتقي بجمهور مسرح محمد الخامس، لا أشعر بأنني أقرأ نصا شعريا مكتوبا، بل أشعر بأنني ـ أنا والناس ـ نعيد إنتاج وكتابة هذا النص بشكل احتفالي أو مسرحي إن شئت. أفهم من سؤالك المعنى الثقافي الذي تعنيه، وهو أن كثرة الجمهور تحمل في سياقها مطالب جمالية محددة تثقل على الشاعر، هذا يتوقف على مدى انصياع الشاعر للحظة الحماسة التي يريدها الجمهور.

هناك جمهور يقود الشاعر، هناك شاعر يقود الجمهور، وهناك قيادة مشتركة بين الشاعر والجمهور، وهذا ما يحدث في علاقتي. أعرف أيضا من سؤالك بأنك تريد أن تقول بأن متطلبات الجمهور لاتحمل دائما شروطا جمالية، لكن هذا يتوقف عليَّ.

ـ كيف؟

كيف أتصرف مع هذه الهدية، ومع هذه المطالب؟ هل أصدق ضغط اللحظة أم أحوِّر هذه اللحظة في اتجاه آخر يلتقي فيها الشعر مع محتواه الإنساني والمشترك بين النص الشعري والواقع الذي أنتج هذا النص. 

ـ بخبرتك الشعرية، وأنت تترك أثناء كتابتك للقصيدة جملة من البياضات أو الفجوات في النص، كي تُشْرِك معك قارئك في بناء المعنى الشعري، وفي استكمال المستلزمات الجمالية والمعرفية لقصيدتك، ألا تراهن أيضا على توقعات الإنشاد؟

* أرجو أن تصدقني إذا قلت لك إنني لا أفكر بتاتا في أي قارئ في لحظة الكتابة، عندما أكتب، أعطي لنفسي حق التعبير الذاتي بشكل مطلق لارقابة عليه من أي اعتبار غير اعتبارات الكتابة المحضة، ولا أفكر في القارئ إلا عندما أريد أن أنشر القصيدة، أي عندما تكتمل هذه القصيدة وأرضى عن هندستها وبنائها وإيقاعها، وأشعر أنها تحمل مشتركا ما بين كاتبها ومتلقيها، فإنني أنشرها عندئذ، ولاتصبح ملكا لي، بل تصبح ملكا للمتلقي. وأنظر إليها من هذا المنظار كما لو أن شاعرا آخر هو الذي كتب هذا النص. وهذا أحد مقاييس حُكمي على قصائدي، إذ أكتب وأضع في الدرج، وبعد فترة، أعيد قراءة ما كتب. فإذا لاحظت أن هذا النص يشبهني كثيرا، أعرف أنني كررت نفسي، وأعرف أنني أنا من كتب النص. لكن عندما أشعر بأن شاعرا آخر قد كتب هذا النص، أي أن هناك دهشة ما، وغرابة ما، وجديدا ما، ساعتها أظن أن النص قد استوفى بعض المتطلبات والشروط التي أحلم بها. أما موضوع الإنشاد، فلا أخطط له، لا أثناء كتابتي الأولى ولا أثناء الكتابة النهائية للقصيدة. إن الإنشاد موجود بحكم خياري الشعري الموسيقي، وأنت تعرف أنني من الشعراء شديدي الانحياز إلى الإيقاع، سواء كان هذا الإيقاع خارجيا أو داخليا، وقد عبرت أكثر من مرة عن أنني لا أستطيع أن أحقق شعريتي إلا إيقاعيا، وبالتالي، عناصر الإنشاد متوفرة، لكنني لا أخطط لها مسبقا.

ـ وفي القراءات الشعرية؟

* في قراءاتي الشعرية، نعم، أراعي هذا الموضوع أثناء اختياراتي لقراءاتي الشعرية، فهناك قصائد قد لاتتوفر فيها شروط الإيصال الإيقاعي، لا أقرأها مع أنني أغامر أحيانا بقراءة تجريبية، وقد فعلت ذلك أكثر من مرة، لكن الإلقاء أو الإنشاد فن آخر مستقل عن الكتابة الشعرية، فهو ينتمي أكثر إلى المسرح أو إلى الرقص أو الى ماشئت من الفنون الأخرى، ولذلك، فهو فن ثالث غير مرتبط بالقصيدة، الإنشاد هو نوع من الغنائية بصوت عال، ونوع من المسرحة.

وكما قلت لك في البداية، ثروتي الإيقاعية ـ ولا أخجل من هذا التعبير ـ توفر لنصي الشعري شرطا إنشاديا. 

ـ إلى جانب ثروتك الإيقاعية، هناك ثروتك اللغوية، وقد قلت في قصيدة لك: "أنا لغتي"، وذلك بالمعنى العميق النبيل، المعنى الجمالي والمعرفي والفلسفي، لهذا التماهي بمادة الكتابة الذي يذكرني بما قاله الرسام الشهير بول كلي: "أنا اللون"، أي اللحظة التي يتحد فيها جسد المبدع بمادة الإبداع، إن الإيقاع هو إحدى نقط القوة في تجربتك الشعرية. لكن اللغة أيضا هي أحد المرتكزات الأساسية التي تنهض عليها قصيدتك. فكيف تقيم هذا الحوار الخاص، الحميمي والمعرفي مع اللغة، لغة الكتابة الشعرية؟

* أعتقد أن اللغة هي هوية، لا بالمعنى الوطني أو القومي، وإنما هي هوية إنسانية، إننا لانستطيع أن نُعَرِّف الوجود إلا إذا عثرنا على اللغة. إن اللغة تشير إلى الموجود، وحيث تكون اللغة يكون هناك تاريخ كما يقول هايدغر. هذا من ناحية معرفية عامة، أما من حيث الناحية الشعرية الخاصة، فإن الشعر هو الذي يعيد الحياة إلى اللغة، عندما تستهلك وتصبح مجرد لغة يومية، مبتذلة ودارجة. الشعر هو الذي يحيي اللغة، وهو الذي يطورها وهو الذي يعرف الإنسان بوجوده من خلالها. صحيح أن اللغة هي أصل الشعر، لكن الشعر هو أيضا يشكل أصلا آخر للغة، أصلا للسلالة اللغوية، وأعتقد أن لغتي الشعرية ليست لغة ثرية، بل أعتقد أن لغتي الشعرية الى حد ما هي لغة متقشفة. وقد صرت في الفترة الأخيرة أسعى إلى تقشف لغوي ما. ولا أعرف ما إذا كان تعبيري هنا دقيقا، فربما كان تقشفي بلاغيا أكثر منه لغويا، ولأنني لا أعتقد أن اللغة هي فقط وسيلة تعبير أو إيصال رسالة، وإنما هي أكثر من ذلك. أو كما يقول الشاعر والمفكر الكبير الراحل أوكتافيو باث بأن الفرق بين النثر والشعر هو أن الكلمة في النثر تريد أن تخبر، أن تبلغ عن شيء ما بينما "وظيفة" الكلمة في القصيدة هي أن تكون، أي أن لها دورا كينونيا في بناء القصيدة.

من ناحية أخرى، أنا فاقد كل شيء، كمواطن وككائن إنساني، في شروطي التاريخية المحددة، أنا فاقد كل شيء، ولذلك، أسعى لأن أحقق وجودي ووطني من خلال التأسيس داخل اللغة تعويضا عن خسائري المحيطة بي. فأنا أؤسس كينونتي ووجودي ووطني وبيتي من داخل اللغة كتعويض عما فقدته وخسرته. ليس فقط كفلسطيني وإنما أيضا كشاعر، فالشاعر غير راض من علاقته بالواقع، غير راض عن علاقته بشرطه التاريخي. وبالتالي، فهو دائما يسعى لكي يؤسس من خلال الواقع العيني واقعا استعاريا أو جماليا، فيجعل الواقع اللغوي في تعارض مع الواقع العيني. 

ـ محمود، أنت تعرف أن الشاعر بابلو نيرودا تحدث في مذكراته الشهيرة عن "مهنة الشاعر"، بالطبع، قد لايستسيغ المرء مثل هذا التعبير، وقد لايقبل أن تكون ممارسة الشعر «مهنة»، لكن عندما يقول بذلك شاعر إنساني كبير وعميق مثل نيرودا، فإننا نقبل به ولو على سبل الوصف الاجرائي. أنت، أخي محمود، كيف تعيش «مهنتك» كشاعر. كيف تؤثث هذه الهوية الإنسانية العميقة بوصفها صيغة وجود، أو تعبيرا عن وجود، وأيضا، كيف تمارس "هذه المهنة" كطقس كتابة؟

* دعنا نناقش في البداية موضوع المهنة، لاشك أن الشعر هواية ومهنة معا. لايستطيع الشاعر أن يبقى هاويا، بل عليه خلال عمر تجربة شعرية معينة أن ينتبه الى الصناعة الشعرية، والصناعة هي أقرب إلى المهنة. إن الشعر ليس تدفقا سليقيا تلقائيا بديهيا فقط، بل ينبغي أن يخضع لفكر شعري، لموقف ما، ولفهم ما للوجود وللعالم، فالجدلية بين المهنة والهواية ضرورية لسببين: لكي لاتتحول الصناعة إلى مهنة حرفية.

ـ بمعنى الافتعال ؟

* نعم، أي كما لو لَديَّ مصنع خشب، فأصنع كرسيا كل يوم! وهناك شعراء لديهم هذه المهارة لإنتاج كتب ليس من الضروري إنتاجها طالما أنهم صنعوا هذا الكرسي في كتب أخرى، ولأن لهم مهنة ويتقنون الصنعة الشعرية، فهم قادرون على الإنتاج اليومي. والمهنة ضرورية أيضا لكبح كسل الهواية وعدم تركها في انتظار ما يسمى بالإلهام أو ما شابه ذلك، لذا يجب على المهنة أن تراقب كهواية، وعلى الهواية أن تخضع لشروط المهنة، وبالتالي، فهناك علاقة جدلية بين بعد المهنة وبعد الهواية في الممارسة الشعرية. من جهتي، صرت أشعر في السنوات الأخيرة بأنني كنت هاويا أكثر مما ينبغي، لم أنتبه إلى نظام العمل، إذ مهما أعطينا للشعر من حرية التفجرات التلقائية وتشظياتها، ينبغي أن ننظم مراقبة الحالة التي ينادينا فيها الشعر، فقد يأتي الشعر ونحن مشغولون بفوضى غير منظمة، وقد يمر الشعر فلا ننتبه له، وبالتالي، فأنا أدرب نفسي على الإصغاء لهذا الصوت الشعري.

ـ كيف تنظم هذا الإصغاء إذن؟

أنظمه بخلق عادات وتقاليد كتابية، إذ إنني دربت نفسي وبصعوبة على الانضباط في وقت الكتابة. عليَّ أن أجلس الى مكتبي في الصباح وأحاول الكتابة، لكن بدون أن أرغم نفسي على الكتابة، ولا أعرف من قال بأن الإلهام موجود، لكنه قد يمر ونحن لسنا في انتظاره! بمعنى أن علينا أن ننتظر، أن نحاول قدح شرارة هذه العلاقة بين الإلهام والعمل. وربما علينا أن نتساءل عن معنى الإلهام، ما هو الإلهام؟ أعتقد أن الإلهام هو اللحظة التي يجد فيها اللاوعي كلماته أو القدرة على التعبير عن نفسه. وقد تأتي هذه اللحظة أو لاتأتي، لكن علينا أن نسعى لانتظارها واصطيادها في الوقت المناسب. ما أقصده هو أنني أفهم هذه الجدلية وانتظر الإلهام، بل أستحثه أحيانا على القدوم. إنني أذهب أحيانا إلى عملي الشعري، إن جاز التعبير، بدون شهية عالية، فأفاجأ بأن الإلهام قد جاء، وأحيانا أذهب بحماسة لانتظار الإلهام ولكنه لايأتي. إذن، هذا الشيطان الشعري، وهو فعلا شيطان، ليس له مواعيد وليس له انذارات مسبقة? وبالتالي، علينا أن نلعب معه اللعبة الماكرة. 

ـ حديثك عن جانب من أسرار الكتابة لديك يحفزني على أن أندس قليلا في مختبر القصيدة التي تكتبها. وما أعرفه شخصيا، وما أنا مقتنع به بصدق، أنك شكلت عبر التجربة الطويلة، وخبرة السنوات المتراكمة من الكتابة، نوعا من المختبر في كتابة الشعر العربي الحديث والمعاصر. مختبر متميز لمعجم من الكلمات الخاصة. كيف تربي في الظل هذه الكلمات؟ كيف تحدب عليها؟ كيف تقيم العلاقة معها؟ كيف تؤثت فضاء الكتابة؟ ما نوع الأوراق والأقلام التي تستعملها؟ ما هو الزمن الملائم والأثير لكتابة القصيدة؟ باختصار، هل يمكننا أن نتعرف على المختبر السري للشاعر الكبير محمود درويش؟ وما هي مواصفاته وملامحه الأساسية؟

* إذا جاز أن لي مختبرا، فإن مختبري نهاري. لستُ من كتاب الليل، وقد بذلت جهودا طائلة لكي أتعود على الكتابة في الليل، لأن الوقت في الليل أطول، ولكن لا أعرف الأسباب الغامضة. وإذن، مختبري مفضوح، مكشوف في الضوء. صحيح أن الكتابة تعبير عن اللاوعي، إذ الكتابة هي اللاوعي عندما يتكلم. لكنها تحتاج الى وعي شديد. وهذا هو الذي قد يربط بيني وبين الضوء، فلا أكتب إلا في الضوء «الطبيعي» من طقوسي، أو بالأحرى عاداتي الأخرى، أنني لا أكتب إلا على ورق أبيض غير مسطر، وأقطع كثيرا من الورق، كلما أشطب سطرا على صفحة، أعيد نسخ ما كتبت على صفحة أخرى، لا أحب المسودات المشوشة، كما أنني أكتب بقلم الحبر السائل، باللون الأسود دائما، وأحيانا، عندما تتعثر الكتابة، أتطير من قلم ما فأغير الأقلام، معتبرا أن المشكلة في الأقلام، وإذا صدقت هذه الريبة فإنني أُومِنُ بالقلم الآخر.

إنها أوهام صغيرة، لكنها لاتضر القارئ ولا تضر الشاعر، نوع من التطير من قلم معين، والتفاؤل بقلم آخر. من عاداتي أيضا أنني لا أستطيع الكتابة لا في الطائرات، ولا في القطارات، ولا في الفنادق، ولا في مكان خارج المكان الذي توجد فيه كتبي، أو على الأقل مكتبتي الرئيسية. أحتاج دائما الى مراجع. وقد تستغرب سي حسن، كلما كبرت في السن وفي التجربة الشعرية، تزداد شكوكي إزاء دقة الكلمات وصوابها، أنا لم أكن أفتح القاموس بهذا الشكل الذي أفتحه الآن. فلا يمر يوم بدون أن أفتح القاموس للتأكد من سلامة الكلمة، وجذرها ومصدرها وتعدد معانيها، ولذلك، لا أستطيع أن أكتب في مكان لاتوجد فيه قواميس أو مراجع أو انسيكلوبيديا، في الكتابة الشعرية أحتاج إلى مراجع، كما لو أنني أقوم ببحث، بينما القصيدة في ظن الناس الذين لايكتبون تبدو كما لو كانت خاطرة، لا، الشعر ليس خاطرة. إنه عمل بحث شاق، يحتاج إلى التدقيق في المراجع والمرجعيات والعودة الدائمة الى المكتبة. إن القصيدة بحث.


إعداد عبدالحق ميفراني