هنا يرصد الناقد المصري السيمياء الفيلمية في رواية العشري، فيقارب مرجعية السينما في بنيتها المشهدية، والتلاعب بين عين السارد وحركة عين الكاميرا لتعمير السرد بالتفاصيل وسينوغرافيا الأمكنة والمؤثرات السردية السمعية والبصرية، ودلالات البصيرة.

بلاغة المشاهد السينمائية في رواية «خيال ساخن»

أحمد فضل شبلول

«ليس أمام الرواية، اليوم أو غداً إلا البحث باستمرار عن مجازفات جديدة تسمها باللاإكتمال المفتوح، والتعدد الخصب الذي يجمع بين البحث بجرأة في ثنايا المعرفة إلى جانب غواية المتعة».

 

أعجبتني هذه العبارة للناقد المغربي شعيب حليفي في كتابه المهم "شعرية الرواية الفانتاستيكية"، ورأيت أنها تكاد تنطبق على رواية "خيال ساخن" للروائي الشاب المتميز بجديته ودأبه وإبداعه محمد العشري. في هذه الرواية نجد تقنيات روائية مستعارة من فنون أخرى نجح الكاتب في استخدامها أو توظيفها روائيا، ومن أهمها: فن الكولاج، والمونتاج السينمائي، والسيناريو وخاصة تنوع المشاهد ما بين نهار داخلي ونهار خارجي أو ليل داخلي وليل خارجي، وغير ذلك من تقنيات روائية حديثة، أو تقنيات دخلت عالم الرواية المعاصرة مثل المعلوماتية، وبلاغة الحذف أو بلاغة الاختزال، وتداخل الأزمنة واختلاطها. ولعلنا نلاحظ اسم "سامر" بطل الرواية، فهو من عالم المسرح أو السامر الذي يسامر الناس ويحكي لهم، والسمر هو الحديث بالليل، والحكايات التي يُسمر بها، وأيضا مجلس السمار.

تبدأ الرواية بدخول الكاميرا في حديقة البيت وتبدأ الصور أو اللقطات في الظهور المتتابع حيث نرى كتلة من شجرة متحجرة، ثم يبدأ السرد يتصاعد حول تلك الشجرة وسيرتها العلمية والإنسانية التي نقلها التاجر إلى بيته فدبت الروح من جديد في لِحائها. ثم يدخل ساهر الأب في الكادر من خلال نهار خارجي "مر ساهر أمام البيت.. دفعه الفضول إلى الوقوف طويلاً مرتكناً بكوعيه على حافة السور.. بدأت الحقيقة الغائبة تتكشف أمامه"، ويبدأ تتابع الصور واللقطات أمام عين القارئ وكأنه يشاهد فيلما سينمائيا بالفعل. ثم ينتقل المشهد من نهار خارجي إلى نهار داخلي في وصف السارد لأحوال ساهر "دلف من البوابة، ومنها إلى الغرفة الصغيرة، وجد فأساً في ركنها، رأى رجلاً هرماً متكوماً في رعب" وينمو حوار قصير بينهما، ليكتمل السيناريو والحوار في هذا الجزء المبكر من الرواية. وفي مشهد جديد "نهار داخلي" يصف السارد أحوال أهل البيت الذين يعيشون في حالة رعب شديد جراء وجود السلعوة في حديقة البيت "أصحاب البيت في الداخل لم يتوصلوا إلى طريقة للخلاص، وكلما مر الوقت بدوا مهمومين ومشلولين عن إمساك شيء ينجدهم.."، وفي لحظة سينمائية فارقة يتحول المشهد من نهار داخلي إلى نهار خارجي عندما ينظر أهل البيت أو أصحابه من النوافذ ليروا رجلاً قوي البنية يصرع السعلوة فوق الصخرة ممسكاً بفكيها. وفي عبارة سريعة وموجزة وذات بلاغة سينمائية واضحة يجمع السارد بين النهارين معا "نهار خارجي ونهار داخلي" وذلك في قوله بعد أن تغلب ساهر على السلعوة "خرجوا إليه مندفعين، أدخلوه إلى البيت"، فالفعلان خرجوا وأدخلوه تجمع النهارين معاً. وهكذا تقترب لغة الرواية من اللغة السينمائية بعفوية تامة، يعززها استخدام السارد لكلمات ومصطلحات سينمائية مثل: "مشهد" في قوله "مشهد قوي جعلهم يفغرون أفواههم" (ص17).

تحفل الرواية أيضاً بالفنون الجميلة التي اعتدنا إطلاقها على الأعمال التشكيلية ومنها أن التاجر صاحب البيت تخرج في كلية الفنون الجميلة لكنه فضل أن يستمر في نهج أبيه في بيع الغلال، لكن الفن يلح عليه ويتجاذبه، وعندما فكر في تكريم سامر لقاء تغلبه على السلعوة لم يجد غير صناعة تمثال له بحديقة البيت، فاتصل بصديق له يعمل تاجر تماثيل ليكلف أحداً بصنع تمثال لساهر وهو ممسك بفكي أسد في حالة عراك ليثبته فوق الصخرة ويجعل الماء يخرج من فم الأسد ومن أفواه الضفادع التي ترقد على حافة نافورة كبيرة تتوسط حديقة البيت. هذا الصراع بين ساهر والأسد، نراه متجسداً في صورة تنين رسمها التاجر/ الفنان نفسه عندما أمسك بالفرشاة ليرسم خطوطاً مختلطة الألوان، فإذا الخطوط تتحول إلى حيوان غريب يتحرك أمامه ويخرج من اللوحة، وإذا به تنين مرعب يفح ناراً يصول ويجول في البيت ثم يخرج منه ليتوقف أمام التمثال المثبت في النافورة فترة قبل أن يعدو وراء الغبار في اتجاه ساحة البيع والشراء. مثل هذه المواقف أو الصور الفانتازية نراها تتكرر كثيراً في الرواية، وخاصة مع هذا التنين الثوري الذي يذكرنا بسبارتاكوس محرر العبيد، فالتنين يحاول تثوير عالم الحيوانات التي تباع وتشترى قائلاً لهم "الحياة ليست مَعِدة فقط.. الحياة حرية.. يجب أن تملكوا مصائركم حتى يحترموكم"(22).

إن هذا السيناريو والحوار الفانتازي الذي دار ـ في مخيلة التاجر/ الفنان ـ بين التنين وبقية الحيوانات في السوق أو في ساحة البيع والشراء يدور في نهار خارجي، على الرغم من أن السارد يوهمنا أنه يدور في ذهن التاجر، فهو إذن في واقعه حوار ذهني نراه يخرج من رأس التاجر في صورة بالونات "كالتي نراها في قصص أو روايات الكوميكس" أو في رسم الكاريكاتير. إنه إذن صورة كاريكاتورية مجسمة لأفكار ثورية يريد أن يتبناها الفنان الذي بداخل التاجر. يقول السارد "ضحك التاجر بهستيريا من ذلك السيناريو الذي رسمه في رأسه عن الحيوانات في السوق، ورغبتها في نيل حريتها"(ص23) وكأن التاجر "الممثل لطبقة رجال الأعمال" يسخر من الفنان الثوري الذي عبر عن نفسه في لحظة صدق فارقة تمثلت في صورة التنين التي رسمها طواعية أو التي جاءت ترجمة لمشاعر إنسانية دفينة. إن الطبيعة أبت إلا أن تشارك الفنان في مشاعره فثارت هي الأخرى وزلزلت الأرض زلزالها، واهتزت الأشياء المعلقة بالسقف وكادت الحوائط أن تمشي من مكانها. لقد توحد الداخل النفسي في لحظة صدق نادرة مع الخارج لدرجة أن الفنان ظن أنه لا يزال في حواره مع الحيوانات، لقد تخيل نفسه التنين الذي يحاور الحيوانات لكنه انتفض خارجاً من لا وعيه إلى وعيه.

هذا التنقل بين اللاوعي والوعي، أو بين المخيال الثوري والسكون الذي يسيطر على كل شيء حول الفنان، أشبه بالتنقل بالكاميرا بين النهار الداخلي والنهار الخارجي أو الليل الداخلي والليل الخارجي، ولكنها انتقالات نفسية مواربة قد يصعب على الكاميرا التقاطها في كثير من الأحيان، ولكن القارئ يدركها ويراها تمور خلف السطور. ولعلنا نجد إرهاصا لهذا الزلزال أو لهذه الثورة في الهزة التي أحدثتها الأسماك بحوض السمك الزجاجي، حيث كانت السمكة الأرجوانية تتحرك بسرعة، تتخبط بالحوائط وتنبش في القاع محاولة الهروب من شيء ما، وفي الوقت نفسه نجد إرهاصاً لهذا الزلزال في صهيل الخيول أو الأحصنة التي تعدو أمام بوابة البيت تاركة وراءها سحباً هائلة من دوامات الغبار، متتبعة الأحصنة، ممسكة بأذيالها. هنا أيضا نجد نهارين في هذا السيناريو: نهار داخلي يتمثل في حوض السمك الزجاجي ووصف السارد لحالة الرعب التي تعيشها الأسماك به وخاصة السمكة الأرجوانية حيث سُلطت عليها العدسة أكثر من غيرها من أسماك الحوض كلقطة مكبرة منفردة، والنهار الخارجي حيث اللقطة الجماعية لمجموعة الأحصنة وهي تعدو أمام البوابة.

إذن نحن أمام سارد سينمائي أو سارد يجيد استخدام اللغة السينمائية، وتاجر فنان يحمل حساً ثورياً عميقاً، ولكن يوقفه رجل الأعمال بداخله، وخاصة عندما رفض طلب سامر الزواج من ابنته جمانة، رغم علمه بقصة الشوق والهيام والحب الكبير الذي ولد وربط بينهما. هذه الثورية نجدها تتردد أيضاً في الفصل الثاني "الهيام" من خلال "بردية النماء" والتي أسميتها "بردية الحلم الثوري" وهي بردية تتواصل على نحو ما مع اللوحة التي خرج منها التنين الثوري في الفصل الأول "الأمل" الذي جسد بعض رؤى وأحلام الفنان/ التاجر، مما يكشف عن بنية فنية ثورية يشتغل عليها الروائي وسط هذا الجو الفانتازي الذي يسم روايته "خيال ساخن".

يقول السارد "لقد وضعت الحيوانات ميثاقاً للشرف يتضمن حفظ الحقوق للفرد دون المساس بحريته الكاملة"، وفي هذا الفصل نجد أيضا زلزالاً حدث في المنطقة في زمن بعيد هز الألواح الأرضية القارية الكبيرة.. الخ. إننا سوف نجد تنينا ثالثا في الفصل الرابع والأخير. "العناق" هو التنين الحديدي في ملاهي "دريم بارك" الذي صحا فجأة على ضفاف البحيرة الصناعية، فيؤنسنه السارد ونراه من جنس طيب. إنه تنين مستكين وهادئ كخادم في حضرة سيده، ويأخذ هذا التنين سامر إلى قمة الجبل فيكون في المكان الأقرب لرؤية جمانة بعد زمن من الأشواق واللهفة، وبعد أن يتحقق اللقاء بمساعدة التنين المؤنسن تسيل عبارات صوفية وكأننا نقرأ ترجمان الأشواق، أو ننهل من فيض محيي الدين ابن عربي، أو فريد الدين العطار، ومن سار على دربهما. وهنا نكتشف البنية التحتية لعالم الرواية أو الحبل السري الذي يربط بنية الرواية، أو النهر الذي تمتح منه الرواية ويوجهها على نحو محكم إلى تخوم وسردايب اللغة/ الحلم/ الحرية/ الفانتازيا/ الأسطورة، والتي تقود سامر "الابن" وجمانة إلى أن يبحث كل منهما عن الآخر، ليتحقق الاكتمال. لذا نرى السارد يلجأ في بعض مناطق الرواية إلى لغة صوفية باذخة تكشف عن قاع الروح والنفس "أو مركز الروح" ثم عن انطلاقاتها وجولاتها البحثية في الكون الداخلي والخارجي حتى نعثر على عبارة دالة في الرواية تقول "بدا الكون كله متوحداً"، وفي الوقت نفسه تتدفق لغة شعرية بين أيدينا أو نجد تشعيراً للغة، بما يتلاءم مع المواقف والمخاطبات التي تفرضها الأجواء الصوفية المشتعلة في بعض مناطق الرواية.

إن سامر وهو في طريقه إلى البحث عن أسطورته الخاصة يذكرني بالفتى كافكا الذي يبحث عن بوصلته الضائعة ليصير أقوى فتى في الخامسة عشرة في العالم، والعجوز ناكاتا الذي يبحث عن ظله الضائع في رواية "كافكا على الشاطئ" للكاتب الياباني هاروكي موراكامي. وهو ما نجده أيضاً في رواية "ساحر الصحراء" لباولو كويليو، حيث البحث عن الأسطورة الذاتية في الصحراء المصرية. ولكن ساهر "الأب" سلك طرقاً أخرى وجرب مُتعاً مغايرة، فاتخذ من سيرة الحسن بن الصباح زعيم طائفة الحشاشين "أو طائفة الإسماعيلية" درباً موازياً، فيكسب ود الرفاق الذين يتجمعون حوله تحت سحابات الدخان الأزرق. وإذا كان الفنان/التاجر قد نصب تمثالاً لساهر في حديقة بيته تمجيداً له واعترافاً بفضله، فإن عالم التحف والآثار والتماثيل قد زج بساهر إلى السجن، لتحدث المفارقة العجيبة، فقد دس له بعض التجار في بازار لبيع التحف واللوحات وباتفاق مع عمدة القرية الذي سرق منه ساهر هيبته، قطعاً أثرية مسروقة ذهب على أثرها إلى السجن. وهنا نرى تياراً تحتياً يدلنا على مدى شراسة التجار أو رجال الأعمال في الإيقاع بشخص ما لإرضاء طرف آخر "وهو العمدة"، وهنا أيضاً نلمس جانباً من الصراع البشري على بعض الوظائف الحكومية، رغم أن الرواية في مجملها لا تهتم بإبراز هذا الصراع، فرواية "خيال ساخن" لمحمد العشري لا نستطيع أن نصنفها على أنها رواية اجتماعية تتناول الصراع الطبقي على سبيل المثال، وأن كانت تلامس ذلك في جانب من جوانبها، أو في ملمح من ملامحها. بل أن هذا التصنيف: رواية اجتماعية أو رواية سياسية أو رواية رومانسية، أو رواية خيال علمي، قد يكون من السخف أن نأخذ به في رواية مثل "خيال ساخن" العصية على التصنيف النقدي التقليدي.

لقد أشرت في البداية إلى أن الرواية تتمتع بما يمكن أن نسميه بلاغة الحذف أو بلاغة الاختزال في بعض مناطقها، ولعل موقف موت الأم خير مثال على ذلك، ففي (ص95) يقول السارد: "حين رجع الأب من سجن استمر لعام، بحث عن مال لدى أمه "أم سامر الابن، أي زوجة سامر الأب" وكانت مريضة لا تقوى على حمل نفسها، بعدما أصابها توقف مفاجئ في حيويتها، وضمور بدد جسدها وأحزنها". ثم في العبارة التالية مباشرة في الصفحة نفسها يقول: "مرت عليه الأحزان وحيداً ينثر الزهور على ذكراها، وينتحب في الخلاء". لم يرد على لسان السارد كلمة الموت، ولم يعلن الساهران صراحة "سواء ساهر الأب أو ساهر الابن" عن موت الزوجة أو الأم. ولم يثرثر السارد حول الموت وطقوس الدفن وما إلى ذلك، وهنا نعود مرة أخرى إلى بلاغة الصورة أو اللغة السينمائية التي تنقل الحدث أو المشهد بحياد تام. فمن خلال المشهدين السابقين: نهار أو ليل داخلي، ثم نهار خارجي ينتقل الحزن الطافح إلى القارئ أو المشاهد مع الاقتضاب الشديد في استخدام الكلمات التي تفسح نفسها لبلاغة الصورة أو بلاغة المشهد السينمائي. بطبيعة الحال الرواية مؤسسة على بنية عاطفية رومانسية تجمع بين الفتى ساهر والفتاة جمانة، سبقها تمهيد من ساهر الأب الذي اتخذ صورة البطل بعد أن صرع السلعوة التي نكتشف في بعض مناطق الرواية أنها لم تكن شرسة ولا يحزنون ولكن الحزن على مصرع ابنتها تحت عجلات سيارة مسرعة هو الذي ألجأها إلى حديقة هذا البيت بعد أن ضاقت بصحراء المقطم، ولكن الخوف التقليدي الذي عشش داخل الإنسان من هذا الحيوان جعله يصرعها، فهل كانت بطولة هذا الإنسان الذي صرعها بطولة زائفة أو وهماً من الأوهام التي يزرعها الإنسان ويصدقها. إن هذه الصورة البطولية التي رسمها أهل البيت بما فيهم جمانة لسامر الأب ثم لسامر الابن هي التي خلقت هذا الموقف العاطفي الرومانسي بين الفتى والفتاة، والذي حامت حوله الرواية بكل إمكاناتها وطاقاتها الفنية والنفسية، ففجرت من اللغة والشعر ومتعة القراءة وبلاغة المشاهد السينمائية ما فجرت.