ينشغل الباحث الأردني بنظرية المعرفة الكانطية: في الذات كما هي في ذاتها، كمرجع للمفاهيم والحدس الحسي؛ والشيء كما هو في ذاته، والذي يتبدى للذات على شكل عالم الظواهر. ومن خلال هذه المقاربة يتناول المكان والزمان ويصل لربطهما بالنظرية النسبية.

المكان والزمان عند كانط

مثنى حامد

عندما ألف كانط كتابه نقد العقل المحض(1)، بعث إلى صديقه هرتس نسخة منه ليقرأه، ولم يكد يصل صديقه إلى منتصف الكتاب حتى أعاده إلى كانط قائلاً: أخشى على نفسي من الجنون لو أنني أكملت قراءته(2). يقف كانط بقدمين جبارتين على مساحة الفلسفة بتاريخ البشرية، ولا يستطيع اليوم أي تفكير عصري أن يتجاوز فلسفته النقدية دون أن يتأثر بها بطريقة من الطرق، وهذا لا يعني أن أفكار كانط لم يتجاوز بعضها الزمن أو انه بقي بعزل عن تراكمات المعرفة البشرية. ولكن لكون فلسفة كانط كانت ثورة من حيث طريقة التفكير. وذلك عبر البحث عن أرض صلبة تكون منطلقاً للمعرفة كلها. ففلسفته لم تكن جديدة بالنسبة لمن قبله فقط بل كذلك كانت منهجاً جديداً في النظر إلى المسائل الفلسفية وفي تحليلها. ونحن اليوم لا نجد صعوبة بقراءة اسم كانط يتردد بالكتب الفلسفية التالية بعده ياكوبي، شوبهاور، هيجل، بل حتى هورسل، ياسبرز، هيدغر، رسل، ريكور، وهم الأقرب إلى يومنا المعاصر. ولا يكون غريباً لنا أن نقرأ اسم كانط في كتب الفيزياء الحديثة عبر تحليل أفكار النظرية النسبية وفيزياء الكوانتم.

حياته

ولد كانط ومات في كونيغسبرغ (بروسيا الشرقية) (12 نيسان 1724 - 12 شباط 1804) من أسرة يرجع أصلها إلى اسكتلندا. من أب عمل سرّاجاً وأم من أتباع الحركة التقوية وعلى قدر كبير من الورع، تركت تأثيراً في نفسه. خصوصاً أنه تردد في صغره على "المعهد الفريدريكي" وهي مدرسة تقوية، وبعد تخرجه من المعهد داوم من السادسة عشرة إلى الثانية والعشرين على دروس جامعة كونيغسبرغ، وقد تسجل نظرياً في كلية اللاهوت، ولكنه وقف نفسه على دراسة الفلسفة، وبعد تخرجه عمل قرابة سبع سنوات مؤدباً لدى الأسر النبيلة مما أتاح له أن يكتسب تلك اللباقة في التصرف أفادته كثيراً فيما بعد بصقل شخصية وجدت لها حضوة كبيرة عند أبناء شعبه، وكتب رسالتين فلسفيتين الأولى في النار والثانية المبادئ الأولى للمعرفة الميتافيزيقية. حصل على أثرهما على شهادة الدكتوراة من كونيغسبرغ ثم أصدر رسالة المونادولوجيا الطبيعية. ومنذ عام 1760 أصبح أفق كانط أكثر اتساعا، وكبرت دائرة اهتماماته،وطفق الفيلسوف يتخذ موقفاً بصدد المسائل الفلسفية التي شغلت أصحابها ذلك الوقت. وفي عام 1763 أصدر الأساس الممكن الوحيد للبرهان على وجود الله، وبعد عدة رسائل كتب كانط رسالته الشهيرة في صورة العالم المحسوس والعالم المعقول، وفي مبادئهما. ثم كان على الفكر الفلسفي أن ينتظر إحدى عشرة سنة حتى يصدر عام 1781 أهم كتاب في عصره "نقد العقل المحض"، وفيه خرج كانط نهائياً عن سباته الوثوقي، وأصبحت فلسفته واضحة المعالم تعرف من أين تبتدأ، وكان عليه أن يكمل رحلته بكتابيه نقد العقل العملي، ونقد الحكم، وغيرهما من الكتب، ربما كان أكثرها بساطة وشرحاً كتاب مقدمات لكل ميتافيزيقا مستقبلة تريد أن تصبح علماً، وهو بمثابة الطبيعة الشعبية لكتاب نقد العقل المحض.

وهكذا عبر اسهاماته منذ نقد العقل المحض وما بعده استطاع كانط أن يجيب على أسئلته التي هو وضعها وهي:

ما الذي أستطيع معرفته؟

ماذا يتوجب علي القيام به؟

ما الذي آمل في الحصول عليه؟

وفي سنوات كانط الأخيرة حاول أن يكتب المزيد في الفلسفة ساعياً إلى ابتناء مذهب ميتافيزيقي نهائي على الأسس التي كان قد أرساها خلال السنوات العشر الأخيرة من عمره. نُشرت بعد موته. لم تكن ذات قيمة حقيقية، دلت على ارتخاء فكره قبيل وفاته(3).

مقدمة

يروى أن برتراند رسل ألقى محاضرة في شبابه عن الفلك وصف فيها دوران الأرض حول الشمس، وكيفية دوران الشمس حول مجرتنا، وفي نهاية المحاضرة، وقفت سيدة عجوز كانت تجلس في آخر القاعة، وقالت: إن ما تقوله هراء فالدنيا في الحقيقة مسطحة ومستديرة وهي محمولة على ظهر سلحفاة عملاقة. وبعد ابتسامة عريضة أجابها برتراند رسل: وما الذي تقف عليه السلحفاة، قالت السيدة: إنك شاب ماهر ماهر حقاً إنها سلاحف تقف على بعضها البعض بشكل متراص(4).

كل الأشياء التي نعرفها تقع في المكان والزمان، وحتى نحن، وكل ما نشاهده ينتسب بالضرورة إليهما. ويمتلك العقل البشري القدرة على فهم قوانين الطبيعة، وذلك أن المعرفة البشرية معرفة متراكمة، ولسنا الوحيدون الذين نمتلك تحويل صور العالم الخارجي إلى أفاهيم. فعند الحيوانات مقدرة نسبية على تصوير ما تراه إلى أشكال تعرفها أو تعقلها، ولهذا تحت مسميات عديدة تعرف الحيوانات سبلها، و طريقة عيشها عبر تعقلها لظواهر العالم الخارجي، وهي ربما أكثر راحة منا فهي لا تشغل نفسها بأسئلة حقيقة العالم هل هو واقع أم متخيل. "وإن الأمر اليقيني أن الرئيسيات من غير البشر تفهم كل أنواع الأحداث الاجتماعية والطبيعية المعقدة، وتمتلك و تستخدم أنواعاً كثيرة من المفاهيم والتصورات المعرفية، وتفرق بوضوح بين الموضوعات الحية وغير الحية"(5) ولكنها للأسف (أو لحسن الحظ) لا تمتلك معرفة تراكمية، وهكذا إذا حدث أن ابتكر أحد فراد الشمبانزيه مثلاً طريقة أكفأ لصيد النمل. فأنه لا يستطيع أن يورثها لغيره، ولهذا تموت الطريقة المبتكرة بموت مبتكرها(6).

المعرفة القبلية والمعرفة البعدية

المسألة التي نحن بصددها تتمحور حول مفهوم أن الذهن ليس صفحة ملساء تنطبع التجارب عليها، كما أنه ليس مجموعة حالات ذهنية. إنه أداة فعالة تحول الأحاسيس إلى أفكار، وتخلع على التجربة وحدة الفكر(7).

يبدأ كانط كتابه من البداية، من العقل حيث يضعه تحت الفحص والتأمل لمعرفة ما يمتلك عبر سؤاله وامتحانه كي يتسنى له بعد ذلك أن يلتجأ إليه كي يشيد فلسفته النقدية على أسس سليمة واضحة، ومعرفة حدود ما يملكه العقل من معرفة محضة لا تنتمي للتجربة الحسية البعدية. وكان أول ما فتش عنه كانط عبر تساؤله هل يوجد نوع من المعرفة مستقل عن التجربة، وحتى عن جميع الانطباعات الحسية. ولكن قبل ذلك ما الذي يريده كانط من خلال بحثه عن هذه المعرفة القبلية التي يريد تحديدها بدقة، وهو الذي كان قد أعلن بداية بحثه "لا تتقدم أي معرفة عندنا زمنياً على التجربة، بل معها تبدأ جميعاً". وهنا يتشكل الجواب عبر مسعى كانط الذي أراد بيان أن عناصر المعرفة القبلية، شروط ضرورية للمعرفة العامة بأسرها، وإلا من أين يمكن للتجربة أن تأخذ يقينها، لولا وجود معرفة محضة امدت التجربة الحسية بالمقدرة على تحويلها إلى ملكة الفهم. وهكذا بدلاً من أن يحاول كانط تفسير المفاهيم العقلية على أساس التجربة كما فعل هيوم، شرع كانط بتفسير التجربة على أساس المفاهيم العقلية(8). ومن هنا يقف كانط على أرض صلبة أسسها بعناية فائقة. رافضاً أن يكون مبتدأه من الشك الديكارتي، بل على العكس يخبرنا كانط أن يقينه بوجوده، هو بالوقت نفسه دليل وجود الآخرين من حوله. ويبدو واضحاً أن كانط وقف معارضاً لأكبر مذهبين في عصره، عقلية ديكارت الوثوقية وتجريبية هيوم. التجربة في فلسفة كانط هي مقاييس حسية، مشاهدات تأليفية لا يمكن أن تكون إلا عبر عناصر محضة تكون أساس تحويل المشاهدات الحسية إلى فاهمة. وبخصوص التجربة يسألنا كانط سؤالاً ثم بجيب عليه، وهو عن رجل قوّض أساس منزله، انه كان بوسعه أن يعلم قبلياً انه سينهار، يجيب كانط ومع ذلك لم يكن بوسعه أن يعلمه قبلياً على نحو كلي تماماً. ذلك أنه كان يجب أن تكون التجربة قد أفادته أن الأجسام ثقيلة، وأنها من ثم تقع ما أن ترتفع دعائمها. إن التجربة لا تكون ممكنة إلا بفضل الترابط الضروري للإدراكات الحسية(9)، و التجربة تخبرنا أن شيئاً ما هو على هذا النحو، ولكنها لا تستطيع أن تقول هذا الشيء لا يجب أن يكون هكذا. وهنا نعود لبيان توضيح كانط عندما أخبرنا أن معرفتنا تبدأ مع التجربة، ومع ذلك فهو يقرر أن معرفتنا لا تنبثق كلها أو بأسرها من التجربة. فهناك جزء منها قبلي. ومن أجل توضيح ذلك، يبحث كانط عن علامة يمكن لنا معها أن نفرق باطمئنان بين معرفة محضة وأخرى إمبيرية، ثم أسند إلى الضرورة والكلية الصارمة مهمة التفريق أو التوصيف القبلي.

الأحكام التحليلية والأحكام التأليفية

بين كانط أن المعرفة العلمية هي أحكام تحتمل الكذب والصدق عبر تأويلاتها. ولهذا قسم الحكم الذي يقوم عليه العلم إلى قسمين: 1- أحكام تحليلية. 2- أحكام تأليفية. وهي بمجملها تقوم على علاقة حامل بمحمول. فإذا كان المحمول ب ينتمي إلى الحامل أ بوصفه شيئاً متضمناً فيه، فهو حكم تحليلي لأنها تضيف بالمحمول شيئاً إلى الحامل، بل هي تستمد عناصره منه. ومن جهة أخرى إذا كانت العلاقة أن يكون المحمول ب خارجاً عن أفهوم الحامل أ خروجاً تاماً على الرغم من أنه متصل به، فهذي العلاقة تنتمي إلى الأحكام التأليفية لأنها تضيف إلى أفهوم الحامل محمولاً لم يكن ليفكر فيه. ويمثل كانط الأحكام التحليلية بقولة "كل الأجسام ممتدة" هذا يعني أن علي أن أحلل هذا الأفهوم حتى أصل لهذه النتيجة دون أن أخرج عن الأفهوم نفسه. أما الأحكام التأليفية فيمثل لها كانط بمقولة "الأجسام ثقيلة" وهنا يتطلب مني شيء آخر غير التحليل الذي لا يفيدني في معرفة ثقل الأجسام، بل يجب الجمع بين مفهوم الجسم وشيء آخر وهو مفهوم الثقل تأليفياً. والنتيجة أن الأحكام التحليلية هي أحكام قبلية، والأحكام التأليفية هي أحكام إمبيرية بعدية. ويجدر بنا الإشارة أن كانط يفرق بين المعارف القبلية والمحضة (نسمي محضة تلك التي من بين المعارف القبلية التي لا يخالطها أي شيء إمبيري البتة، فقضية مثل كل تغير له سببه هي قضية قبلية إنما ليس محضة لأن التغيير هو أفهوم يمكن أن يُستخرج من التجربة وحسب). والمعرفة القبلية عند كانط تختلف عن الأفكار الفطرية التي قيلت في فلسفات أخرى. فالمعرفة القبلية هي شرط ضروري للمعرفة. يقول كانط: أن الموضوعات معطاة لنا عن طريق الحس والحس وحده هو الذي يمدنا بالإدراكات الحسية وإما عن طريق الفهم فإن الموضوعات تصبح متعقلة وتتولد عنها الأفاهيم. فهناك مصدرين للمعرفة يخبرنا كانط عنهما، وهما الحساسية والفهم. تمدنا الحساسية بالموضوعات، والفهم يجعل تعقل تلك الموضوعات ممكناً.

المكان

يطلب كانط - كما باركلي من قبل، و لاكن ليصل لشيء مختلف - أن ننزع تدريجياً كل ما هو إمبيري من أفهومنا التجريبي للجسم مثل اللون والصلابة أو الرخاوة والوزن أي كل معطيات الحس التي نستعملها، والنتيجة أن الجسم الذي مارسنا عليه الإزالة سوف يختفي. ومع ذلك لا يمكن لنا أن نتصور عدم وجود مكان مع أنه يمكن لنا أن نتصور عدم وجود شيء في المكان. فمستقر المكان هو قبلي في معرفتنا، وليس مستمداً من التجربة، بل إن التجربة ذاتها تحتاج إلى المكان كي تحقق. والمكان عند كانط يختلف عن الظواهر عند باركلي الذي مارس العملية السابقة التي أزلنا خلالها عناصر الشيء المتجسم، فقط ليخبرنا أن العالم الخارجي هو موجود لأننا ندركه، أي إنه اعتقد أن الظواهر هي الأشياء في ذاتها، إنه بالتالي يمكن إزالتها عن طريق عدم تمثلها. بينما يفرق كانط بين الظواهر والأشياء في ذاتها، ويخبرنا أننا نتعامل مع الظواهر بينما لا نستطيع معرفة كنه الأشياء في ذاتها، حتى لو استعملنا التجربة لأن هذا فوق مقدرتها، وحيث أن الجوهر غير ظاهر لنا، فإذ أهملنا كل الخصائص التي تفيدنا إياها التجربة عن أي موضوع متجسم أو غير متجسم فسيبقى لدينا شيء لا يمكننا نزعه نصفهُ بالجوهر أو الملازم للجوهر.

يفسر لنا كانط أن المكان ليس تصوراً مستمداً من التجربة، فعند تصور أي موضوع خارجي لا نستطيعه دون تمثل المكان الذي يجب أن يكون حاضراً في الذهن كأساس. المكان حدس قبلي، وهو ليس تصور بل خارج التصور، وهو موجود كمعطى لا متناهي، والأمكنة هي مكان واحد لأنه لا أسبقية بين الأمكنة المختلفة، ولا يمكن لنا أن نتصور الأمكنة على التوالي بل يجب أن نتصورها كامتداد لا متناهي مقره حدس قبلي لا يمكن تصور الظواهر إلا من خلال تمثله. ولكن كيف يمكن أن يقيم حدس خارجي في الذهن، يسبق الأشياء نفسها، فالمكان هو خارج عني فكيف معرفته تكون قبلية في الذهن. يجيب كانط إن ذلك لا يمكن أن يحدث إلا بقدر ما يكون مقرّه في الذات بوصفه قوامها الصوري في تأثيرها بالموضوعات وفي حصولها تالياً على التمثل المباشر وهو الحدس. وبناء عليه فالحدس هو فقط صورة الحس الخارجي بشكل عام، والنتيجة أن المكان لا يمثل خاصية الأشياء في ذاتها، وهو ليس سوى صورة جميع ظاهرات الحواس الخارجية. أي سوى شرط الحساسية الذاتي الذي به يكون حدس خارجي ممكناً، وأن ما نسميه موضوعات خارجية ليس سوى مجرد تصورات لحساسيتنا التي صورتها المكان، متضايفها الحقيقي الشيء في ذاته لا يعرف بذلك ولن بعرف أبداً.

الزمان

يقال أن هناك سؤالان أساسيان يمكنك أن تفرضهما بخصوص الزمان. الأول ما هو الزمن والثاني كيف نقيسه. السؤال الأول يخص الفلاسفة والثاني يخص الفيزيائيين والعلماء. ويعتقد الكثيرون أن السؤال الأول يبقى بلا جواب. وذلك لصعوبة تصوره يقول سانت أوغستين في الاعترافات: ما هو الزمن إن لم يسألني أحد فإني أعرف ما هو أما إن رغبت في تفسيره للسائل فإني لا أعرف.

يؤكد كانط أن الزمان ليس أفهوماً إمبيريا مشتقا من التجربة، ذلك أن المعية شأنها شأن التتالي لا تدرك إن لم يشكل الزمان أساساً لها، وهكذا فإن تصور شيء ضمن هذا الشرط ممكن فقط. فالزمن معطى قبلي، لهذا فيه فقط يمكن تصور الظاهرات التي نراقبها، وبهذا فيمكن لنا أن نلغي تصور الظاهرات نفسها إلا أنه لا يمكننا أن نلغي الزمان الذي هو قبلي وعليه تقوم إمكانية فهم الظاهرات. وعلى إمكانية الزمان القبلية هذه تتأسس إمكانية المبادئ اليقينية لعلاقات الزمان. فليس للزمن سوى بعد واحد. فالأزمنة المختلفة ليست معاً بل هي تتالى. كما أن الأمكنة المختلفة لا تتالى بل تكون معاً. فالزمن هو صورة محضة للحدس الحسي، وظاهرة الحركة أساساً مرتبطة به. فلا يمكن تصور التغيير إلا من خلال الزمن، ولهذا يستنتج كانط أن الزمان ليس شيئاً يوجد في الذات أو يلازم الأشياء بوصفه تعيناً. ذلك لو أنه كان شيئاً يوجد في الذات سيكون شيئاً متحقق الوجود وموضوع متحقق أما إن كان ملازماً للأشياء بوصفه تعينا، فلن يكون بإمكانه أن يعطى قبل الموضوعات بوصفه شرطهما، ولا أن يعرف ويحدس قبلياً بقضايا تأليفية، إذا سيكون سهلاً لو كان الزمان مجرد شرط ذاتي بموجبه يمكن لجميع الحدوس أن تقيم فيناً لأنه بهذا الشكل سيوفر لصورة الحدس الباطن هذه أن تُتصور قبل الموضوعات ومن ثم قبلياً. فإذا كان بإمكاني يقول كانط أن أقول أن جميع الظاهرات الخارجية تتعين قبليا فإن المكان وبموجب علاقات المكان فإنه يمكنني القول بشكل عام إطلاقاً وانطلاقاً من مبدأ الحس الباطن: إن جميع الظاهرات بعامة. أي كل موضوعات الحواس هي في الزمان وتخضع بالضرورة لعلاقات الزمان. ورغم أن الزمان شرط حدسنا الذاتي إلا أن كانط يؤمن بوجوده الموضوعي، ولكنه شرط قبلي لفهم الظواهر. أما ما قد تكون عليه الأشياء في ذاتها وبمعزل عن قدرة تلقي حساسيتنا فهو ما سيظل مجهولاً تماماً عندنا بنظر كانط.

دور ملكة المخيلة

وإكمالاً للصورة يجب أن نذكر دور المخيلة عند كانط لأهميتها في فلسفته، ولأن المخيلة تمتاز بخاصيتين: أولا هي حسية طالما أن الصور التي تمدنا بها قائمة دائماً في الزمان والمكان، وثانياً تلقائية إبداعية طالماً تستطيع مطابقة أولية للمقولات.

لهذا سوف تقوم المخيلة بربط الحساسية بالفهم. فنحن لا نستطيع التفكير بالدائرة دون أن نرسمها (نتخيلها) في أذهاننا، ولا نستطيع التفكير بالزمان دون أن نرسم خطاً مستقيماً (بمخيلتنا) في أذهاننا. إذن المخيلة هي التي تعرض على الحدس الحسي عملاً أولياً هو عبارة تنظيم أو تأليف رمزي تشبيهي، ليكون بمثابة تمهيد للتأليف الذهني التي ستحققه المقولات. ولأن المخيلة عملاً باطنياً فلا بد أن تتخذ صورة الحس الباطن نفسه، أي صورة الزمان والمكان، ولا بد من وجود حدس الزمان كي تتمكن من أن ترسم أطر تندمج فيها الظواهر(10). وهكذا عند كانط لا يكون الخيال مناقض للواقع، بل هو عند كانط ما يؤسس الواقعي الموضوعي(11).

الخاتمة

تبقى فكرة كانط عن تصورات لا تستمد من التجربة ولكنها تشكلها، إرث فلسفي ذو قيمة حقيقية إلى يومنا. فكانط ينكر قيام تجربة خالصة تكون مجرد استقبال سلبي للانطباعات ما لم يكن في ذهننا تيارات قبلية تحولها إلى أفاهيم. ولكن مشكلة كانط التي يواجهها اليوم، والتي أغرقته بشيء من الذاتية كما يقول رسل هو أنه لم يقبل وضع الزمان والمكان بشكل مستقل ولهذا كانت الأشياء في ذاتها مجهولة عند كانط، ولو أنه ألغى فكرة المكان والزمان القبليان لما احتاج إلى فكرة الأشياء في ذاتها، التي يعتبرها رسل لا يمكن التدليل عليها. وأقصى ما يمكننا التوصل إليه هو أن نستدل على وجود هذه الأشياء في ذاتها من المصدر الخارجي المفترض للانطباعات لكن لو شئنا الدقة لكان هذا نفسه مستحيلاً(12). ولكن ينبغي أن نحتفظ لأفكار كانط حول المكان والزمان بقيمة كبيرة، وعلى الفور توعز فكرتا المكان والزمان بمقارنتها بالنظرية النسبية. يقول أستاذ الفلسفة النظرية رولان أوميس: إن فروض كانط تسلم أن الملاحظين المختلفين، الحدوس المختلفة، سوف يتفقون بالضرورة في أحكامهم التركيبية الأولية. إلا انه أشار أن هذا قد يكون منزلق في الاستدلال هاهنا لأن مثل هذه المقارنة تنتمي إلى المجال التجريبي حيث التحليل المتعالي الأولي ينبغي أن يأخذ في اعتباره كل البدائل الشتى أي الاتفاق أو الاختلاف المحتملين بين تمثلات الملاحظين المختلفين، وبهذا المغزى يمكن القول أن إينشتين قد سار بحجج كانط إلى ما هو أبعد، وبطريقة أكثر حذراً من كل من سبقها، بعبارة أخرى، النظرية النسبية لا تنتهك مبادئ المقاربة الكانطية بشكل مباشر كما لا حظ إرنست كاسرر، ولكن اومنيس لم يستطع مجاراة كاسرر أكثر من ذلك فعند مناقشة نقائض كانط التي هي عنده بلا أجوبة خصوصاً نقيضة كانط الأولى التي تفرض أطروحتان الأولى تقول "العالم له بداية من الزمان وأيضاً محدود في المكان" بينما تقول الأطروحة الأخرى "أن العالم ليس له بداية وغير متناهي مكانياً". تقوم أراء كانط على عدم إمكانية معرفتنا للجواب الصحيح، وأن العقل لن يصل إلى الجواب. ويقول اومنيس يرى غالبية علماء الكونيات المحدثين أن عندهم أدلة قوية على أن الكون له بداية، ويعتبرون أن تناهي الكون يمكن معرفته من حيث المبدأ. وهكذا وجد هؤلاء حسب اومنيس أجوبة لنقيضة اعتبرها كانط لا يمكن أن تحل(13)، لأن علماء الكونيات يعتمدون على مفهوم رياضي هو الزمكان - الزمان والمكان معاً برفقة بضعة قوانين فيزيائية - والتي تنتمي إلى نسق الظواهر عند كانط، فأنه لا يخضع لأحكام كانط، وكذلك مسألة تحدب الزمكان، ومفارقة التوأمان في الفيزياء الحديثة. من الثابت أن اينشتين قرأ أعمال كانط الرئيسة قبل بلوغه السادسة عشرة، وهي نقد العقل المحض ونقد العقل العملي ونقد الحكم. وكان على إينشتين أن يقرأ كانط مجدداً أثناء دراسته في معهد البولي تكنيك الاتحادية السويسري في زيورنيخ، حيث واظب إينشتين على حضور محاضرات أوغست ستادلير حول كانط صيف عام 1897 وقرأ غيره من الفلاسفة. وقد لاحظ مؤرخو الفلسفة هذه الميزة الفلسفية في كتابات إينشتين منذ الصفحة الأولى من ورقة بحثه في النسبية الخاصة 1905(14) ولعل هذا يوضح تأثير كانط على إينشتين.

أخيرا يعد كتاب نقد العقل المحض قفزة حقيقية في المعرفة البشرية. وكما قال غوته عقب قراءته الكتاب: إن قراءة هذا الكتاب لهي أشبه ما تكون بالدخول فجأة إلى غرفة ساطعة باهرة الأضواء. ولكن تأخر فهم كانط في الدراسات العربية، وبقيت فلسفته لا تمس الواقع المعرفي العربي من بعيد ولا قريب. ربما كانت صعوبة فلسفة كانط حجة للبعض فهذا د زكي نجيب محمود أوصى بعدم قراءة كانط نفسه بل القراءة عنه لصعوبة أفكاره.

ولكن د زكريا إبراهيم لم يرتضِ هذا القول فقال معقباً عليه: فليس العيب في هذا الكتاب أنه غامض أو مبهم أو عديم الوضوح بل ربما العيب فيه أنه ممعن في النصاعة والإشراق والوضوح(15).

وأختم بمقولة الفيلسوف شوبنهاور: لا يزال المرء طفلاً حتى يفهم كانط.

 

المراجع

1- البحث هنا يعتمد بشكل رئيسي على كتاب كانط نقد العقل المحض ولهذا لن نعود إليه في الهامش عند الاقتباس منه

2- كانت أو الفلسفة النقدية زكريا إبراهيم ص12.

3- معجم الفلاسفة جورج طرابيشي، ص 474-477، دار الطليعة بيروت.

4- موجز في تاريخ الزمن ستيفن هوكينغ.

5- الثقافة و المعرفة البشرية، ميشيل توماسيللو، تر. شوقي جلال، ص 35، سلسلة عالم المعرفة.

6- المرجع السابق، ص55.

7- تعليق على مؤلف كانط نقد العقل المحض، محمود شريح، ص99.

8- حكمة الغرب الفلسفة الحديثة والمعاصرة، برتراند رسل، تر. فؤاد زكريا، ج2، سلسلة عالم المعرفة، ص138.

9- تعليق على مؤلف كانط نقد العقل المحض، محمود شريح، ص62.

10- حكمة الغرب الفلسفة الحديثة والمعاصرة، برتراند رسل، تر. فؤاد زكريا، ج2، سلسلة عالم المعرفة، ص138.

11- تعليق على مؤلف كانط نقد العقل المحض، محمود شريح، ص62.

12-مجلة فكر ونقد، ع. 33، محمد طولح، ص7.

13- حكمة الغرب الفلسفة الحديثة والمعاصرة، برتراند رسل، تر. فؤاد زكريا، ج2، سلسلة عالم المعرفة، ص138.

14- فلسفة الكوانتم، رولان اومنيس، تر. أ. د أحمد فؤاد باشا و أ. د يمني طريف، سلسلة عالم المعرفة، ص112-113.

15- كانت أو الفلسفة النقدية، زكريا إبراهيم، ص12.