يواصل الناقد المغربي الإنصات الى الحراك القصصي في المغرب، وخصوصا منجز القصة القصيرة جدا الذي أمسى يطرح نفسه بحدة في المشهد. بجرأة ورؤيته المتبصرة يكتب عن مجموعة قصصية صدرت حديثا، نتعرف من خلالها على سمات هذا النص الإبداعي ونقط تقاطعه مع جنس القصة.

القصة المغربية القصيرة الأخرى

عبدالرحيم مؤدن

مفاتيح:
فقارئ القصة ترى قبل أن تقرأ. فقارئ القصة القصيرة شاهد إثبات يشهد بقصرها دون حاجة إلى دليل. وعند الانتقال إلى القراءة يقرأ هذا المتن تبعا لطبيعة القصر المتحكمة في الكم والزمان، قبل أن يحتكم إلى الميزان النقدي. فالقصة القصيرة قصيرة ، بالقوة والفعل، سواء كانت قصيرة جدا، أو قصيرة فقط،أو تحت الركبتين، أو فوقهما بقليل، أو ما شئت من مرادفات القصر الذي لا يعد عاهة من العاهات، بل إنه خصيصة من الخصائص المميزة لهذا الجنس الأدبي المراوغ، سواء كان سطرا، أو صفحة مفردة. أما بالنسبة ل[الأخرى] فالقصد هو محاولة متابعة هذا التنوع الغزير في المتن القصصي القصير بعيدا عن النمطية من جهة، وبعيدا، من جهة أخرى، عن "الاحتكار القصصي" الذي احتل سوق الكتابة بالحق والباطل، ومنع القصة القصيرة، من جهة ثانية، من مد رجليها، وهي التي لاتستقر على حال.

كيف تسلل وحيد القرن؟{1}
تنقسم هذه المجموعة إلى قسمين:
1. القسم الأول معنون بالوجبات القصصية السريعة جدا.
2. والقسم الثاني يحمل العنوان التالي: انمساخات قصصية غير متوقعة.
في القسم الأول يقوم المطبخ القصصي على تقديم وجبات سريعة متجددة بعد كل طبخة لا تشبه الطبخة السابقة. فمن خصائص هذا المطبخ الجدة والإستمرار في آن واحد. لا وجود لأكلة خاصة بالمطبخ، ولا وجود ل" سلاطة " خاصة برئيس الطباخين..لا وجود لهذا ، أو ذاك، بحكم خضوع الجميع لهذه الوجبات التي نشترك في تناولها دون تخصيص أو تمييز. من بين هذه الوجبات ما يتعلق بالكوابيس والرغبات المجهضة والأحلام المتبخرة، والصفقات المشبوهة والأوضاع الناشزة والأدوار المفتعلة.. وهذه الوجبات تتوزع بين الخفيف والثقيل. في المستوى الأول فهي لا تغني ولا تسمن من جوع. وفي المستوى الثاني تكون سببا في خلق تخمة مرضية لا مفر منها.

في المستوى الأول- الأفقي- تكون مظهرا من مظاهر الخلل الإجتماعي في المسلكيات والعلاقات الإجتماعية (الركن/ الصفقة/ ناقص واحد...). وفي المستوى الثاني- العمودي- تكون الوجبة دلالالة على عطب مزمن في الكائن من جهة، وفي واقعه من جهة ثانية. وتتحول بذلك الوجبة إلى أزمة- بالمعنى الأنطولوجي- تعكس ضياع الكائن في وضع اجتماعي ونفسي لاينتج إلا الدمار والتدمير الممنهج الذي كان وراء تشييئ كل شئ. (التريكو/ الدولاب/ الأرقام المشبوهة) كيف تسلل وحيد القرن إلى هذا العالم القيامي- نسبة إلى القيامة-؟ والسؤال لايبقى حبيس الإستفهام، بل يمتد إلى الإنكار مادام التسلل، عادة، لا يكون إلا في الظلام، أو- من ناحية أخرى- في غفلة من الآخر. كيف حدث أن أصبحنا على هذا الحال؟ الجواب تجسده أعلى مراحل التدمير عندما يتحول الجميع- الجمهور-إلى قطيع من وحيد القرن الذي لا يلوي على شئ، بعد أن استبدت به غريزة الفناء والإفناء لما هو قائم. ووحيد القرن يرى في كل متحرك عدوا، وفي كل جسم فريسة أو طريدة. ومن الطبيعي أن يظل وحيد القرن مشدودا إلى قانون "انعكاس الفعل الشرطي"- بالمعنى البافلوفي- الشئ الذي يسمح للقارئ بمتابعة قطعان وحيد القرن، وهي تتجه نحو القيم ومظاهر الجمال المختلفة، فضلا عن جوانب مادية ورمزية عديدة.

في القسم الثاني المعنون ب: انمساخات قصصية غير متوقعة يستمر النفس القيامي في التمدد والإمتداد، علما أن النص، بدوره، خضع لهذا التمدد بعيدا عن كثافة القسم الأول. فلحظات الإنمساخ الأربع تتأرجح بين الصفحة الكاملة وزيادة- صفحة ونصف أحيانا- بعيدا عن الكم الشكلي الساذج. فقصة جيفة تزاوج بين عطالة الروح وعطالة الجسد، والإنمساخ الثاني يعكس صورة صد يقين ظل أحدهما عاشقا للألوان، محبا للحياة، في حين انخرط الثاني في العتمة بعيدا عن كل الألوان، مكتفيا بطقطقات المسبحة. أما الإنمساخ الثالث، فهو العجز عن المواجهة، ولو كان'العدو" حشرة تافهة بالمعنى الرمزي. في الإنمساخ الرابع نجد سيطرة كابوس الرغبة ، بعد أن تداخل مع أحلام اليقظة، وتشابكات الوهم والحقيقة والقاسم المشترك بين قصص هذا القسم يتجسد في المسخ والتشويه، ولإصرار على ذلك سواء من قبل المشوه- بالكسر- أو من قيل زمن المشوه( بالفتح). .

هذا العرض السريع للقصص الواردة في القسمين، يستند إلى كتابة موا زية للنص المكتوب. وتقوم هذه الكتابة على:

أ- المزج بين الكتابة والتشكيل، من خلال توزيع حروفي يسمح بالتحكم في بياض الصفحة من جهة، و يسمح، من جهة ثانية، بتنويع هذه الخطوط ، عموديا وأفقيا، فضلا عن الخطوط المائلة، يمينا أو يسارا، وكأنها مجتزأة من جسد حي تقتلع منه أعضاؤه دون أن يستطيع حراكا. وهذه اللعبة الشكلية تعكس لحظات الخلل المادي والنفسي للكائن وهو يعاني موتا بالتقسيط.

ب- بموازاة هذا التشكيل، يستند النص إلى الفراغات ، أحيانا، ولغة الصمت ، أحيانا أخرى. إنه الخواء الروحي الذي يصدر عن امتلاء مادي زائف طغت عليه حالات الإستهلاك المرضي، و" البزنسة" الدائمة، شعار المرحلة.

ج- وفي السياق ذاته ، خضع النص للعنونة والترقيم ، والمقطعية، والعلامات المميزة للجملة السردية، والحروف المؤطرة للحدث أو الموقف... كل ذلك يعكس حالات التشظي السائدة في الإنسان والمكان والزمان.

د_ لعبة الضمائر، عن طريق تبادل المواقع بين المتكلم والمخاطب، بين المتكلم ‘ ضميرا أو شخصية، والغائب، بين ضمير المذكر وضمير المؤنث ، بين السارد وبين المسرود له الذي يتحول إلى سارد بعدأن نفض السارد يده منة الحكاية. تصبح القصة، إذن، صناعة جماعية (ولا أبرئ نفسي}. (بين هذا وذاك يصبح الكل مسؤولا عن المأساة خاصة أن السارد لايتردد في القول: (لم أفهم ما حدث. فأنا جد مرهق. لذلك ألتمس إتمام هذه القصة) ص55.

ه- هكذا يصبح النص أشبه بلوحة من لوحات " سلفادور دالي"- وهو الذي كان يتجول في نيويورك على ظهر فيل احتجاجا على الأوضاع ـالتي تتكون، عادة، من مواد مختلفة، ومتباعدة، لكنها تنتمي إلى واقعنا اليومي الذي تنسجم فيه المفارقات، ويتعايش الحمل مع الذئب، والبنزين مع النار، والعقل مع الجنون. ومن ثم يصيح الغريب عاديا، والعجيب مستساغا بعد أن أجهز قطيع وحيد القرن على كل شئ.

 

هامش:
محمد تنفو: كيف تسلل وحيد القرن؟ ا- منشورات الكوليزيوم القصصي. م. شريف للطباعة. مراكش. 2005.