تتبدى رؤية الكاتب العراقي النقدية في تناوله لأعمال الماجدي الموسومة بـ "الشعر الشرقي"، فيؤكد على أن شعرية الشرق هي مرجعية هذا الشعر، كما ويتناول تقنيات الاشتغال اللغوي والتشكيل البصري والتركيب الاستعاري فيه، ويتلمس رغبة جامحة للتخلص من هيمنة الشكل.

غواية الكتابة في الشعر الشرقي

في أعمال خزعل الماجدي

علي حسن الفواز

يقول الشاعر خزعل الماجدي إن طاقة الشعر غير مبددة مثلما هو حادث في الحقول المعرفية والسردية، وهذه الطاقة المتوهجة تحفظ نفسها عبر الكثير من الأسرار واللمعان والغواية والعصيان. ومع إعادة صدور كتاب الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر خزعل الماجدي، نكون أمام فسحة شعرية ونقدية لقراءة هذا اللاتبدد المسكون بالشهوة والاعتراف والبوح. مثلما نكون أمام لحظة قراءة لظاهرة ثقافية/ إبداعية أثارت الكثير من الجدل في تاريخ الشعر العراقي المعاصر، أو ربما أثار نصها المغامر عصفاً نقدياً في سياق قراءة الموروث الصاخب للأجيال الشعرية منذ الستينيات، إذ حاول ان يقترح لنفسه خطاباً إشكالياً في وعي الأسئلة الشعرية كمفهوم وإجراء في مواجهة التقاليد الشعرية السائدة. مهيمنات قدمت هذه الأعمال خلاصات لمنجز الماجدي الشعري الممتد عبر أكثر من ثلاثين عاما، كان فيها الماجدي صوتاً للشاعر والمنظر والباحث في ميثولوجيات الأثر العراقي القديم وأساطير ذاته المهووسة بالمغامرة والسحر، والانكشاف على أناشيدها الطاعنة وأسئلتها التي تلمس جوهرها الشعري عبر ما تلمسه في جوهر الخلق واللذة والمدونات والخلود وقدامة الوجود.

خزعل الماجدي شاعر حسي بامتياز، يكتب بمزاج خاص وغواية باذخة، له مجساته وحفرياته التي تبحث في جسد الكائن، مثلما البحث في الجسد اللغوي للشعر وعمقه المتوهج كما يقول، تبحث حداثته بوصفها لعبة في تحولات تلك المغامرة، تؤسس لمستويات كتابتها وعياً استثنائياً يستقرىء ما في "كيمياء" الشعر من أسرار وتوهجات ومعادلات، لها مركباتها و صورها وعوالمها المتمظهرة عبر عملية كشف دقيقة لما هو غائر في سيرورة السحر في الشرق، وأسرار عوالمه، وعبر ما يستعيده الشاعر في اللغة من فنطازيا هذا السحر الذي يتجوهر حول أصل الأشياء، وان ما في تشكلاته الشعرية هو امتداد لهذا الأصل الحافظ الانثروبولوجي لجذوة الإنسان وقوته وخصائصه الروحية التي وقفت عند أول عملية ميتاسحرية للخلق الكوني التي اكتشف فيها الكائن النار واللذة والحكمة والصلوات. استهلال الكتاب يبدأ من قراءة توصيفيّة وضعها المؤلف مدخلاً لمعاينة ما يكمن خلف ما يجس به عنوان مقدمة الأعمال الكاملة الموسومة بـ "الشعر الشرقي" ليقين الشاعر أن أهم جوهر في مرجعياته الشعرية هو الشرق في تراثاته وكنوزه ونصوصه الفكرية والسحرية والوجدانية والغنوصية بكل ما حملته من جذوات، بدءا من الجذوة السومرية التي صنعها العقل العراقي كأول علامة لصيرورة الوجود المعرفي للكائن، والتي تمثلتها التوهجات الأسطورية التي تعرّفنا على بعض ألواحها وهي تدوّن لأسفار كلكامش وطوفانه وقوته ورغبته العميقة لأنسنة الوجود والجسد خارج متاهات أنصاف الآلهة وقلقهم النصف آدمي الصانع للشعرية!! مروراً بموروثات الشرق الأدنى والأقصى عبر حضارات وادي الرافدين ووادي النيل وحضارات الهند والصين وصولا الى لحظته الراهنة المشرعة الى قلق كوني هو قلق الإنسان الباحث عن حريته ولذته. يلمس الماجدي حنينه إلى هذه اللحظات الممتدة في حميمية زمنه الشعري من خلال الإيهام بأن "شلال الشعر السومري ما زال متدفقاً في أغاني الجنوب الحزينة وفي قصائد الشعراء الشعبيين الفطريين العظام سليلي أجدادهم السومريين وفي حكمهم وأمثالهم وهوساتهم. كانت أغاني الجنوب تعينني على مسك روح الشعر السومري الذي كنت أقرأه في الألواح الطينية"(ص9).

أطلس شرقي، أول المجموعات التي تعمد نصوص "البلبالات السومرية وأدب الكالا وأدب النار والتراتيل والصلوات وقصائد الغزل الحارة بين انانا ودموزي"(ص11). تنحو هذه المجموعة إلى توظيف الكثير من البنيات النصوصية ذات المرجعيات الشرقية التي يسمها الشاعر بدالة الخلق، مع مدونات يضعها في سياق فهمه للمركب الشعري ونصوصه التي تؤسس وعياً يدرك فيه الكثير من خاصيات التلاقي بين الشعر العراقي القديم مع الشعر المصري، خاصة في توظيفاته للنص الهرمسي والنص التحوتي والنص التياميتي. هذه السراديب تعبد فيها الكلمة، انكي قريب من السراديب يقذفه بطاسته، أكل الكهنة الثمار وظهروا يضحكون على مياه الآبار.. العقارب تمطت وحركت سنابلها.

أنت تتكحلين بسين وهو متحد بكمالك. (ص71).

كما أنه حاول توظيف شعر الحب في محاولة سرية لتأنيث العالم الذي يحوطه بالرعب والأسئلة، من منطلق الاندفاع نحو تركيب مجموعة من المكونات التناصية التي تمزج بين مرجعيات الشعر السومري القديم مع شعر البرديات المصري، وفي رغبة لتشكيل نص شعري شرقي يجسد روح الإنسان الباحث عن وجوده عبر استحضار الأنثى/ صورة الخلق وعبر استحضار القوة/ صورة اقتحام العالم.

اصطدم إصبعي بالبرق فازداد جسدي ظلمة.

منديله الأحمر غسل به رأس نعامة غاضبة ثم أمسك يد السماء وتشبث بها وصعد.. كان طفلاً طامحاً، ترك كتبه وتصاويره ورسائل عشيقاته على الضفاف وسبح في لجة البحر يفتح الأصداف والسفن الغارقة بصبر.

لم يخرج إلى الضفة الثانية..

ما زال هناك يتوغل في الكنوز(ص47)

وفي قصائد مجموعته "فيزياء مضادة" يضع الماجدي النص إزاء الجسد في لعبة تبادل إيروسية وكونية، يستعير من النصوص القديمة فضاءاتها في التعاطي مع الوجود والجسد والروح، وأظن ان هذه اللعبة الأثيرة عند الماجدي تمثل أكثر مناطق اشتغاله الشعري والمعرفي إثارة، إذ يضع كشوفاته عن طبقات الوجود الإنسي القديم للفكر الشرقي العراقي والمصري أمام عملية تشريح معقدة، يكشف من خلالها جوهر الخلود الذي هو الفيزياء المضاد للفناء أمام قوة الحياة واللذة التي يقترح لها الشاعر القديم الخطوط والإشارات والصور، وكأن هذه الدالات هي سمات مبكرة لقوة الشعري في الفكر الشرقي.

أراك وأنت تكرعين بكأس الذهب

الفخم اللذات،

وأنت تنحدرين مثل سيول

وتزمجرين مثل لبوة..

ولعل مجموعته "قصائد الصورة" من المجاميع التي أثارت لغطاً حول مرجعياتها الفنية والأسلوبية، وهو رغم دفاعه عنها باعتبارها قصائد تنتمي الى الموروث الشرقي وطبيعتها في أن تكون فضاء شعرياً يعتمد (الاختزال والتركيز ورسم الصورة) الذي يلتقي مع بعض مكونات تجربة الماجدي الشعرية والصورية، لكنها ظلت مع ذلك مقاربة في التأسيس على النمط الشعري التقليدي الذي كتبه اليابانيون في قصائد (الهايكو) والتي ترجمت نماذج كثيرة عنها الى العربية. واجد أن جذوة المغامرة عند الماجدي هي في كثرة المثيرات التي حرضته على مقاربة هذا النمط الشعري في سياق يجعل هذه القصائد جزءا من لعبة مركبة في التعاطي الدقيق مع الزمن واللغة والرؤيا، والتي يجد فيها الماجدي إغواء لمراودة ما يسكن خارجه، أي أنها أشبه بالإغواء الشخصي في السيطرة على الزمن الوجودي والزمن اللغوي، والزمن الكينوني الذي يسكن الجسد عبر شهوة الحياة والموت.

حين ألمسك

يتحول كل جسدك الى قلب

أيتها المدينة

أعطني الأمان

وإذا لم تتمكني فأعطني امرأة

الورد، الذهب، الخمر، الشمس

عناصر جسدها الأربعة

في قصائد مجموعته "اناهيت" ثمة تماه سري مع جوهر الأنوثة، تلك التي تتكشف عبر مجموعة من التجليات التي يتجسد فيها الحسي وهو يتمثل الرموز الموغلة في الإنشداد الى المعنى الإيروسي، وهو ليس معنى مجرداً قدر ما هو استحضار يتشكل عبر تلاقي مجموعة من الشفرات السحرية مع شفراته الشخصية التي يجعل سحرها هو سحر الجسد، الأنثى، اللذة، العناصر الفيتشية العالقة بها، إذ تتلاقى شفرة المعبد والقرابين في المكون العبادي مع شفرة حبة الرمان في الميثولوجيا الشعبية، وهذا التلاقي هو تتمة لجعل "اناهيت" مركزا للخلق والخصب واللذة، ولعل قدرة الماجدي على توظيف الفضاء الاستعاري للنص الأسطوري القديم في سياق اشتغاله الإجرائي يجعل من نصه أقرب الى نص التوصيف المرآوي الذي يكشف سرية الأشياء وهي متورطة بلذتها أو الشروع في تحقق اكتمالها، لذا تبدو القصائد وكأنها كتابة في هذيان اللذة. التوظيف الأسطوري يبدو خارجاً تماماً، أو شفرة محركة لفكرة يومية تمارس إعلانها وكشفها عن أصل اللذة، وهو يعكس تماماً ما اعتدنا على أن نقرأه في قصائد السياب مثلاً عن التوظيف الأسطوري في قصائده، إذ تبدو قصائده وهي تنحاز الى معان كونية في فلسفة حزن الشاعر أو قراءة الموت والحياة والقوة والخلق، وهي تمثل توظيفاً داخلاً في البنية النصية..

هبني أدخل عليك

فسأبل فمك بكلام غريب

وسأطعمك الحروف وأشرق في لسانك.

ما عليك سوى فتح بابي

ونهب عقلي

وخطف سحابي

في قصائد مجموعة "اسمعي رمادي.. اسمعي موسيقى الذهب" ينطلق الشاعر من مفارقة العنونة، فالرماد هو إيحاء للاشتعال الداخلي الفالت ما بعد الحريق، أو ربما هو صوت الشاعر الشخصي الخبيء، مقابل (اسمعي موسيقى الذهب) التي هي استعارة كاملة، تجعل من قصائد المجموعة برمتها أقرب إلى القصائد التي توحي أكثر مما تفسر، والتي تستخدم تقنية الفراغات كمعادل لإيقاع بصري كما يقول الشاعر، لكنها في حقيقتها تبدو وكأنها نص تعويضي للصورة الغائبة التي تستبطن توحشات الشاعر إزاء لذته التي لا تنتهي. هذه التشكلات تمنح الشاعر مجالاً لشمولية الاستعارية الواسعة تبدأ من إشراقاته القديمة ذات التوظيف الرمزي والإيروسي وصولاً إلى اشتباكها بلحظته اليومية المفعمة بالتوصيف الأيقوني للموصوف والرغبة في جعله مركزاً للنداء والإغواء واستحضار اللذة..

شمعدان يلّف قامة شمعدان يخلط الفراشات

في ذلك المطب إقليم مدجج بالأسماك

والكلام يتحمى

غبار عليك غبار على جزمتك غبار على

الكمنجة وماسة تريث فالثلج يعمل

هناك ما يؤخذ

اشمّ موسيقى الذهب تحوم في جسدك

قصائد الماجدي التي حافظت على التوهج عبر الاحتفاظ بطاقة الشعر اللامبددة، انحازت الى وظيفة التركيب النثري ليس لتبديد طاقة الجسد على حساب اللغة، وانما للكشف عن مجموعة من التحولات التي تسبغ على نصوصه معاني إضافية، تلك التي تجعل تجربته مفتوحة على عوالم غير محدودة خارقة للفطرة والعفوية، الشعر فيها منطقة جذب واغواء مركزي، يعمد الى ترسيم التصاقات البنيات اللغوية عبر ما توفره تقنيات اشتغالاته الشعرية التي يجدها الشاعر بمثابة (الصبوة اللغوية) كما يسميها في مقاربة الكتابة الشعرية عبر تقنية الصورة والتشكيل البصري وفي نص النداء واستحضار الرغبة أو في ما سماه الشاعر اللغة السرية للغجر.

وأعتقد أن هذا هو المثير دائماً في تجربة الماجدي الحيوية التي تجعلنا دائماً روح المغامرة والرغبة الجامحة في التخلص من هيمنة الشكل الذي يقول عنه أدونيس بأنه القفص.