يتناول هذا المقال للناقد المغربي، تجربة شعرية رائدة في القصيدة المغربية الحديثة من خلال ديوان يزاوج في مستويات اشتغاله بين التاريخ والآخر والأنا، موظفا بنية حكائية حيث تتحول الى بؤرة للمتن كله.. إذ تتحول القصائد الى حكايا مسرفة في التخييل وكأننا أمام شعر بالحكي من خلال أقانيم الإنساني والتاريخي والذات الموزعة بين التاريخ والآخر.

شعر بصيغة الحكي وصورة عميقة للآخر والأنا

عمر العسري

عادة ما يبحث الشاعر عن متنفس يفر إليه من هذا الواقع المليء بأنفاس الخيبة وأقباس الإحباط وهذا المتنفس هو الشعر؛ لما يحقق له من لحظات الانتشاء بالخيال ولو على بياض الورقة، فيُسم أوراقه لغة تنضح بالخيال وتعبث بالوجود لكنها تصبو إلى إعادة ترتيبه ولو بإيقاعات النصر المستحيلة. وفي الشعر يعترف الشاعر ويقدم صكوك البوح مراهنا على لحظة صفاء تُبعد عنه دنس اليومي فيبوح ويعترف إلى أن تنكشف القصيدة بإيماءاتها ورموزها المتمنعة عن قول كل شيء. هكذا، لجأ الشاعر المغربي العميق محمد الشيخي إلى الشعر فأسماه "وردة المستحيل"1، وهو ثالث عمل شعري بعد « حينما يتحول الحزن جمرا»2، و"الأشجار"3. وبصدور هذه المجموعة الشعرية يعود بنا الشيخي إلى مسقط إبداعه ولكن هذه المرة بحلة جديدة باعثا بواكير ه الإبداعية صورا ومعاني قوية تحيل على المدرك والمحسوس، فهو لم يحتف باللغة تركيبا وإسنادا وإنما هو من طينة الشعراء الذين قال عنهم شوقي بزيع: «ينهضون بالكتابة نهوض الشجرة من جوف الأرض وتتدلى قصائدهم على جذوع أرواحهم بتلقائية الثمار على الأشجار»4.

اللافت للنظر هو تحول قصائد الديوان والمقاطع الشعرية إلى حكايا بسيطة مكرورة وباختلاف طفيف، مسرفة في تخييلها موقظة للمدارك، والذي أكسبها هذه السمة هو الحس الحكائي الذي انكتبت به، ولهذه المزاوجة قيمتها الفنية والقصدية في منح القصيدة بعدا آخر بعيدا عن التخييل قريبا منه في الآن نفسه، ولن نستغلق على القارئ هذا المفهوم، الشعر بالحكي، لأن القصد منه؛ كتابة الشعر بحس حكائي، فعوض الاستعارات المحضة والموازنات الصرفة تتبدى الحكاية بأحداثها ومواضيعها. وغالبا ما كانت متوزعة بين عنصرين: الآخر والتاريخ.

1/الحكي بالآخر
يخاطب الشاعر في قصيدة "أول الكلام" مخاطبا، أسميناه الآخر، هل هو الشاعر نفسه؟ أم ما تبقى من أنداده؟ المهم أن هذا المشهد الشعري يؤكد هذا النسق الحكائي المتحدث عنه. يقول الشاعر:

فلتفتح في صمت الليل نافذة
أشعل موسيقى العمر
فوق سرير النشوة {ص5}

وبعد مسيرة ليل ملأى بالحنين ونداءات الطفولة والذاكرة، يستقل هذا الآخر أول الصباح. يقول الشاعر:
شرع في وجه الفجر
ما تبقى من شهوة الليل.. {ص7}
ليدعوه في منتهى هذا المشهد بقوله
:
وامش خفيفا
فوق بساط الرًغبة
واعزف جوابك
في بستان القصيدة
..
في عرس ذاك المساء. {ص8}

ثمة تواطؤ بين الشعر والحكاية تختزله الانتقالات الزمنية ويوحده المكان وخصوبة الذاكرة الباحثة عن لحظات العمر الجميل. تشتغل الذاكرة لتنتشي بما مضى وتستوقف الآتي ولو لبضع هنيهات:
لك أن تستقدم نايك

أوتحضن الغائب الآتي
قد تعزف قبل النوم قليلا،
قد تحلم بالنهار يأتيك
يملأ الجرار المغروسة
في تربة الليل.{ص26}

حتى وإن لم يسعفك الحلم يا أيها الآخر، فارجع بجسدك إلى مراتب الطفولة المشاكسة والخائفة:
كنت طفلا يرعبه الماء
إن الطفولة
تقفز أحيانا
من أدغال الذاكرة (ص68}

وإذا ما سلمنا بالصلة الوثيقة التي ينسجها الشاعر بين الشعر والحكاية والآخر، فإن الأمر أدعى بالضرورة إلى التوحد على مستوى الرؤية، وعلى مستوى التصوير. فهذا الآخر لا ينفك يبوح للأزمنة ويشقى بالحاضر، لكنه ينزع إلى الغيب والطفولة، وهي مراحل مستحيلة ومحالة التحقق ما دام قد تجاوزها، وحتى اشتغالات الذاكرة بدت متمنعة
تمهًل وأنت تُحدق في قعر الكأس
سمر عينيك في شبق المجهول
ورتل ماقد تيسًر من سورة المستحيل..{ ص7}

2/الحكي بالتاريخ
كل شيء غدا مستحيلا عند شاعرنا ومثقلا بالحنين ومتمنعا عن التحقق، وطال هذا الذي لا يمكن وقوعه التاريخ العربي، فكتب عن الممكن في ما مضى بالمحال. وسمًى أندلسا أندلس المحال، تلك الأرض التي دقً الشعراء طبول جمالها بعد أن دق العرب طبول نصرها، غذت اليوم مستحيلة الوجود ممكنة التذكر.

هل غادر الشعراء
كهف الليل
هل دقوا طبول النصر
.....................
ثم هل أغفوا قليلا؟
أشعلوا نيرانهم
في شهوة الزمن المقدًد. (ص ص10-9}
قد نقتنص من التاريخ لحظات لا تأتي ثانية ويصعب استرجاعها، فأين هي مثلا صباحات غرناطة وحيواتها الجميلة، انتثر كل شيء، لكن الذاكرة تختزن القليل من ذالك النصر.
ها ذاكرة الصبوات

تُشرع أبوابها
فاشرب قهوة هذا الصبح الأنيق الذي
يتبختر في غرناطة...
يسبح في الأعين الناعسه. ( ص66}

كل شيء احترق وبدا التاريخ رمادا من السهل أن تُطوح به ريح الصباح، وبدت الذاكرة عنيدة والعيون ناعسة، وما تبقى من هذا التاريخ سوى روائح يعبث بها الهواء فتلاحقها الأنوف إلى أن تمل ويستحيل التشمم.
ولا بحر في غرناطة

لكن رائحة الموج
أراه يدُب خفيف الظل
هل ترى ذلك الطفل
يبني من حجر الوهم
عُش المجهول
لكنه
يخشى عنف الريح
والغيمة الناعسة. (ص ص 74-73-71}

هكذا هو الشاعر؛ كائن عنيد وباسل يُواصل باستمرار حفر أسرار التاريخ بعيدا عن الحاضر قريبا منه. لقد أتانا محمد الشيخي من سنوات البطولات والانتصارات الشعرية، لكن مؤرقاته مازالت تستفزه وتبعثه على الكتابة. فما أن تؤرقه الذاكرة يُلاينه الحلم، وما أن يصبو به التاريخ إلى سنوات النصر يزعجه الواقع مهرولا إليه لحظة الاستفاقة.

إن ما نحتفظ به من هذا الشعر هو سطوة الحكاية وقوة المعنى والمدركات. لقد ضيق الشاعر المسافة بين الشعر والحكاية، وهو ما يحول مقاطع الديوان إلى حكا يا خالصة بطلها الآخر والتاريخ وبينهما تتمرأى الأنا التي تختزل مشروعها في تيمة المستحيل.(فضاء المستحيل ص/12صهوة المستحيل ص27/وحشة المستحيل ص32/درج المستحيل ص36/وردة المستحيل ص79...}.

عند محمد الشيخي كل شيء مستحيل، فالحياة نفسها كومة من الاستحالات، ما أن تطلب الممكن تجيبك مستحيلا وكأنك تبحث عن المستحيل في الممكن وممكناتك مستحيلات، إنها لعلاقة شائكة وميتافيزيقية بين هذا المستحيل البعيد والممكن المتمنع، يذكرنا موقف الشاعر ببيت أبي العتاهية، رغم اختلاف السياق:

طلبت المستقر بكل أرض            فلم أر لي بأرض مستقر

لذلك نجد الشاعر يجوب الأفق والتاريخ والمعيش بحثا عن هذا المستحيل، وليس من قبيل المصادفة بأن يوشي قصائده بهذه التيمة وإنما نفسه نزًاعة وتوًاقة إلى ملاقاة المستحيلات حتى وإن تجاوزت إنيته:

لهذا المساء الرًمادي

رائحة الدمع

تلك السماء البعيدة

مثقلة بالحنين،... (ص ص79-78}

ماذا بقي لك أيها الشاعر البسيط في هذه الحياة المعقدة وما يسعفك؟ هل هي الأحلام الشاردة أم الأضواء الهاربة؟. كن كما أنت أو كن كما قلت وقد أصبت:

تلك السماء البعيدة
تزرع دهشتها
في مألوف القول والفعل.
تخرق قانون الضوء.
تومض في فسحة القلب
أو تستريح قليلا
في ديوان الرغبة... (ص 61}

في مقام الكتابة كل شيء ممكن وكل شيء مستحيل، والكتابة على حد تعبير محمد بنيس"مصاحبة للمستحيل واللامسمًى"5. لقد اختار محمد الشيخي هذا الدرب أي الكتابة باللانهائي لينأى قدر الإمكان عن وجوده وعن إنيته، فترك رجاءه سماويا وسمًى زمنه مستحيلا:

لعل السحابة

تأتي أخيرا

معطرة بالقوافي

تسيح على باحة القلب

تومض في وردة المستحيل. (ص79}

في ديوان محمد الشيخي "وردة المستحيل"، وجدت أن القصيدة لديه صور عميقة تقترن بالتاريخ والآخر والأنا، وذات بنية حكائية؛ بمعنى أن الحكاية بؤرة المتن كله. لقد اعتمد في منجزه الشعري على ثلاث مفردات:

أ-النموذج الإنساني أو الآخر

ب-العمق التاريخي

ج-الأنا الموزعة بين التاريخ والآخر.

لاشك وأن الشاعر عندما كان يستقرئ وجوده كان يستأصله من تاريخ الإنسانية المليء بإشكالاته المتباينة، والقصيدة في مبناها الحكائي ومتنها الشعري تؤسس نظرة نقدية صريحة لهذا التاريخ الذي تحًمل هزائمنا الآنية وما يزال.

 

ناقد من المغرب

 

الإحالات

1. محمد الشيخي، وردة المستحيل، فضاءات مستقبلية- الدار البيضاء..2002
2. محمد الشيخي، حينما يتحول الحزن جمرا، منشورات الجامعة-الدار البيضاء.1983
.
3. محمد الشيخي، الأشجار، دار قرطبة للطباعة والنشر-الدار البيضاء.1988
.
4. شوقي بزيع، جريدة الحياة.2003/10/17
.
5. محمد بنيس، مقدمة أعماله الكاملة
.