هذه قراءة في نص الكاتب الأردني رمضان الرواشدة (النهر لن يفصلني عنك) تسعى فيها الكاتبة إلى تناول مشكلة التجنيس الأدبي التي يطرحها والتعامل مع منطق بنيته الفسيفسائية وافتراضاتها.

حلم بوحدة ما شطره النهر

قراءة ٌٌفي آخر أعمال رمضان الرواشدة

هند أبوالعينين

صدر في الربع الثالث من العام الماضي آخر أعمال الكاتب الأردني رمضان الرواشدة إلى اليوم. وهو نصٌ نثريّ يقع في ستٍّ وثمانين صفحة. وقد أطلقت عليه دار الأزمنة للنشر تصنيف رواية، بيد أن الكاتب نفسه لم يكن واثقا من هذا التصنيف، كما يتضح لقارىء النص. ويأتي هذا العمل الأدبي المتمرد على أجناس السرد النثري ليكمل نتاج الكاتب الذي بدأه بمجموعة قصصية عام 1988 بعنوان "انتفاضة وقصص أخرى"، ثم أتبعها برائعته "الحمراوي" وهي رواية حازت على جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية عام 1994، وقد تمت ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية لاحقا في دراسة تناولت الرواية كأطروحة للدكتوراة في جامعة أركنسو الأمريكية، كما حوّلت الرواية إلى مسلسلٍ إذاعي بثته الإذاعة الأردنية. وقد تلت الحمراوي مجموعة قصصية هي "تلك الليلة" عام 1997، ورواية أخرى هي "أغنية الرعاة" عام 1998. أما العمل الذي نحن بصدد قراءته هنا فهو بعنوان "النهر لن يفصلني عنكِ"، وهو عملٌ أدبيٌّ ينبىء بثورة روح الكاتب العربي على كل ما هو ذي قالب في السرد القصصي. هذا فضلا عن كونه دفقٌ روحانيٌّ شَجـِِن ينقل القارىء معه إلى حالة الحلم والحنين . قليلة ٌ هي الكتب التي ما أن يصلَ القارىءُ فيها إلى "تمّت"، حتى تسابقُ أصابعُه بعضَها لتفتح البداية في قراءة ثانية وثالثة ... وفي كل قراءة يجد نفسه غارقا في عمق النص في عاطفة لم تأتِ بها القراءة السابقة.

الجنس الأدبي للنص:
لو حاولنا الابتعاد عن نمطية الفكر في تعريف الفرق بين الرواية والقصة، وذلك من حيث طول السرد وارتباطه بخيط تتابع الأحداث، لوجدنا أن العناصر الأخرى المميّزة لكلا الجنسين لا تشكل فيصلا إذا ما طـُبقت على هذا النص. فعلى سبيل المثال يسرد الكاتب نصّه المتميز هذا بتتبع مجرى الوعي لشخصية السارد: يوسف بن إسماعيل . واستمرارية هذا التتبع من بداية النص إلى آخره هو أول علامات التمرد على قالب الرواية الاعتيادية. إذ معروفٌ أن مجرى الوعي هو أحد الأدوات السردية التي يستخدمها الرواة في قطع رتابة توالي الأحداث، فيعمد الكاتب إلى استخدامه لاستحضار الماضي تارة، وللولوج في روح الشخوص تارة أخرى، أمّا أن يبني هيكل روايته كاملا حول مجرى وعي شخصية وحيدة فهذا يقرّبُ النصّ من تعريف القصة القصيرة ويبعده عن الرواية. هذا في حين أن ما قد يوحي للناقد بأن هذا النص هو رواية هو القفز الزماني والمكاني في السرد. فرغم أن كل الأحداث والشخوص الأخرى في النص تبدو لقارئها وهمية ً ومستقاة من محض خيال السارد إلا أن تعددها وتعدد الشخصيات المتخيلة يجعل صعبا علينا رفض فرضية الرواية. فالكاتب استطاع أن ينقل قارءه بين أزمنة وأماكن متعددة ، تجعل عسيرا الجمع بين فواصل النص إلا بما يوحدها من روح السارد. فقد انتقل الكاتب بخيال قارئه بين الأماكن والأزمنة بطريقة تشبه ركوب السيارة الطائرة في رواية هاري بوتر. في لحظة هو يمر في مدينة السلام، ويبيت فيها " بلا كهرباء، بلا رنين للهواتف، الداخل مفقود والخارج مفقود وحظر التجوال مازال مستمرا" ص 23 ، وفي أخرى هو في طريقه إلى قرى الجنوب " حيث القرى المتناثرة التي تفجر في زائرها الحنين" ص 26. وهو في فصل يعايش واقع مدن فلسطين تحت الاحتلال ويقف على مواقع المعارك التي خاض فيها الجيش الأردني : ""رأيت العربات والمدرعات المحترقة في مكانها كما هي منذ عشرات السنين. وشعرت بالحزن يغلف قلبي" ص41 .وفي آخَر ينقل القارىء إلى متخيله عن واقع عاشه ملكٌ أردنيٌّ نبطي قبل الميلاد: "سنابك الخيل تدكّ مدنهم وبيوتهم وأنا أسير نحوك يا أورسالم ... وأنا ظمآنٌ للثأر ممن حاولوا تدنيس مدينتي" ص54 .

البُنية الفسيفسائية:
كثيرا ما يقع الناقد في زلّة افتراض أن السارد هو ظلُّ الكاتب، وذلك لأن الأدب هو تفريغ لنور الروح، وقد تتفاوت قدرة الكتـّاب على تمويه نورهم عن القارئ، إلا أن أحدا منهم لا يستطيع طمسه كليّا. لكن الناقد الواعي يقاوم البدء بهذه الفرضية قبل أن يمسك الكتاب موضوع نقده. إلا أن إلغاء فرضية التوحّد بين الكاتب والراوي في هذه الرواية يصبح صعبا للغاية إذا تعمّقنا في النص. فمن القراءة الأولى للنص نجد أنه مبنيّ على شكل تجميع فسيفسائي لخواطر كـُتبت في أوقات متقاربة، لكنها ليست بالضرورة متتالية. ونستدل على التقارب هنا من أن الحالة الروحانية للسارد فيها واحدة، بيد أنها متأثرة بشكلٍ مباشر بعنصر المكان، وبعاطفة قوية تُرك سببها مفتوحا للتأويل.

وإذا عمدنا إلى تقسيم النص إلى فواصل كلما بدأت صفحةٌ فيه من منتصفها، لوجدنا أن الكتاب عبارة عن تسعٍ وثلاثين خاطرة غير مترابطة إلا بتفريغ ذلك النور. ونجد الكاتب يعترف بذلك إذ يقول " خربشت بعض الأوراق قد أسميها رواية، وقد تكون نصاً نثريا لا أعلم· كتبت صفحات كثيرة لا أعلم ما الواصل بينها" ص74. حتى أن بعضا من هذه الخواطر نشز تماما عن وحدة الموضوع، وكأنها اقتبست خطأ ً من مدونة الكاتب الشخصية، كالخاطرة الثلاثين:
" كل شيء هادئ
كل شيء عادي
لا مفر من الروتين القاتل الناخر للجسد وللروح، هل ثـَم كسر للرتابة وللجفاف والقهر المعشش في الأعماق هل ثم نبض جديد للحب والحياة ؟ لست ادري·" ص72

والحادية والثلاثين :
" أحبك· أُسميك الحب·فالحب معانقة الطاعة ومباينة المخالفة·
تأتينني بفرح جديد للحياة وتبشرينني بالمحبة والرقة والعطف· كيف لا أحنو وأنت من علمتني الحنو · كيف لا أفرح وأنت الفرح القادم لينير قلبي· أعلم أن يديك الدافئتين وعينيك الحانيتين ستعلمانني الحب أكثر مما تعلمت حتى الآن·فتعالي وأسرعي لتحتلي قلبي وتعلميني الحب، يا من أجهل حتى الآن أينك· " ص73

والسادسة والثلاثين :
" الجسد معرفة وحقيقة مطلقة، ولادة وأفول، حياة وموت، مبتدأ وخبر، روح كاملة وماض سحيق وحاضر باهر ومستقبل يفيض حنانا ..." ص 80 - 82

وغيرها كثير ...

ومن الملفت للاهتمام أن الكاتب عمد إلى استخدام أساليب سردية غير اعتيادية ليعكس واقعية مجرى وعي السارد، أي أنه جعل لغة السارد قابلة للتحول حسب شعوره في الحدث، فاستخدم العامية ولغة المتصوّفة والقصيد النثري واقتباسات شعرية وأقوال مأثورة وحوارات متخيّلة ومناجاة ً للخالق... والعديد مما يساهم في توحيد القارىء بالنص. وهذا التنويع في أساليب السرد أيضا ساهم في تعرّج بنية النص ورفع صفة التشويق فيه، فالقارىء لا يستطيع التنبؤ بالآتي، لا حدثا ولا لغة ً ولا عاطفة. ومما هو غير اعتياديّ أيضا في هذه الرواية أننا إذا حاولنا إعادة ترتيب قطع الفسيفساء المكونة لها فإن الناتج لن يختلف في عمقه عن الرواية الحالية. فيستطيع القارىء إذا ما عاد إلى الرواية بعد قراءتها الأولى ، يستطيع أن يقرأها بشكل عشوائي غير متتال، مادام يحافظ على القراءة داخل وحدات الخواطر. ولا تشبيه لهذا إلا أعمال الفن التشكيلي التي يلمس الناظر جمالها بقوّة دون أن يعرف لها بداية ً أو نهاية، وحتى لو قلب الإطار باتجاهات مختلفة تظل الصورة معبرّة وجميلة. حتى أن بعض فقرات الشعر النثري التي نظمها الكاتب على لسان سارده تحتمل قراءة ًعكسيّة - من الأسفل إلى الأعلى - دون أن يمسّ ذلك بمعناها : هنا مثلا :
"تصرخ أصوات القبور
ويصرخ فيّ الليل
وأرى وجه أمي في ليل المنافي البعيدة
تطفئ الريح قناديلي
من أين لي مصباح غير وجهك يا أمي
وأنا ما حلمت بغيرك
أخبريني ماذا أفعل" ص 38

أخبريني ماذا أفعل
وأنا ما حلمت بغيرك
من أين لي مصباح غير وجهك يا أمي
تطفئ الريح قناديلي
وأرى وجه أمي في ليل المنافي البعيدة
يصرخ فيّ الليل
وتصرخ أصوات القبور

أو هنا :

" لن يصبح غدي كأمسي
سأكفر بالصمت الظاهر في خشوع
لا أريد الركوع
سأبقى واقفاً بوجه الريح اللعينة
الحب عزمي وعزيمتي
سأمتشق الحب حساماً كي أقاتل
فالحب طريقي ولن أضل الطريق" ص 40

الحب طريقي ولن أضل الطريق
سأمتشق الحب حساماً كي أقاتل
الحب عزمي وعزيمتي
سأبقى واقفاً بوجه الريح اللعينة
لا أريد الركوع
سأكفر بالصمت الظاهر في خشوع
لن يصبح غدي كأمسي

الموضوع وبؤرته:
لعلّ من أكثر ما يجعل هذا الكتاب مغر ٍ لإعادة القراءة هو تعدد الثيمات المختبئة تحت سرد مجرى الوعي. فحتى لو سلـّمنا أن الثيمة الرئيسية في الكتاب هي عمق وروحانية العلاقة بين الشعبين الفلسطيني والأردني، فإن النص يأتي أيضا بثيمات أخرى يشعر قارؤها أنها حبيسة النص، ولم يشأ لها الكاتبُ الظهورَ الفاضح. فهناك مثلا إشكالية حرية الكتابة التي طالما صرّح بها الرواشدة في مقالاته الصحفية " كل الحرية في العالم لا تكفي نصف كاتب" . لنجد أن هذه العبارة مزروعة في مقدمةٍ لنصٍّ تخيّلي رمزيّ، يقول في بدايته: " أردتُ أن أكتب، فخفت أولها ثم أدركت أن كل الحرية في العالم لا تكفي نصف كاتب" ص 53 . نتابع فنجد أنفسنا أمام مقاطع سينمائية يتخيلها السارد في جلسة في مقهى، وتحكي قصةَ دفاع ملكٍ أردني من الأنباط عن مدينته الحبيبة وهي البتراء. ثم يقول :
" في المقهى أُحدث نفسي إنها استعارة قديمة بالية·
ربما هي في ظنك كذلك· يقول قريني · إياك أن تقرأها بواقع يومك الحالي" ص 56.
ويستمر بعدها في وصف المعارك التي يخوضها ذلك الملك، ووقوف الرجال النشامى خلفه، " نحن معك يا ملك العرب ·سر بنا إلى الجبال نسير معك· سر بنا إلى الموت نسير معك· خذنا معك خذنا معك· " ص 56.
ثم يعود إلى نقطة وعي السارد ويقول :
"الزمان مختلف
المكان مختلف
زمانان مختلفان" ص58

ويبدو لنا أن الكاتب لم يكن ينوي بهذا الفصل الرمزي السينمائي أن يفصح للقارىء عن أية أحلامٍ تراوده عن اختلاف الأزمنة والأحوال متعمدا، بل كان بكل بساطة يسكب ما في روحه من ألم أو حسرة ربما، لكن بضمن ما تسمح له الحرية التي يشتكي شحّها.

وثيمة أخرى ترتبط بهذ الدفق الروحاني : هي معضلة تمرد الروح المعرّضة للتدجين. أيكون أو لا يكون؟
يغزل السارد متخيلة أخرى، هي لقاؤه بتجسيد روحه المتمردة، المرأة ذات المدرقة السوداء التي تعتب عليه : " همتُ عنك زمنا، وها أنت سائرٌ مثلهم نحو التدجين" ص 45. فتغضبه المواجهة، لكنها تذكره بحقيقته. ولا يصعب على القارىء - إذا ما ربط بين ثيمات السرد - أن يعي عمق حكاية التمرد والتدجين. وثيمة ثالثة هي البحث عن الماضي وأسباب اختلافه عن الحاضر، وهو ما يرمز إليه الكاتب بأسرار الذاكرة.
"هنا يعيدنا المكان إلى الذاكرة والتعاويذ والرهبة وأغنية الموتى· هنا سال دمنا وأقسمنا قسم "الأخوة" أن لا نجعل أحداً يخرّب بيننا وان لا نَخُونَ العهد"······
"من الشرق أتيت والى الغرب أتجه بحثاً عما فقدته من أسرار الذاكرة.. إنني أبحث عن الحقيقة في داخلي· " القدرة لله وحده"·هكذا هتف قريني" ص50 ولو كان لكل نص ٍ سرديّ بؤرة، تنبع منها الفكرة ويصب فيها المراد، فهي في هذا النص " عهد الأخوّة" . ويرتبط هذا بعودة الذاكرة التي يبحث السارد عن أسرارها. والأخْوَة ُ هم الأردنيون والفلسطينيون إذ كانوا واحدا في الذاكرة. وبعهدٍ جديد تعاد أخُوّة الماضي..
"في محرابك أتلو دعائي الذي يوثّق بيننا ويعيد التأكيد على رباطنا الذي إرتبطنا به منذ القدم·
"·······

اقسم بالله القدير وأنا واقف موقف الخشوع والخضوع في هذا المكان، وأحلف بقدرتك يميناً مقدسة وبشرفي أن أتعهد بالمحافظة على قوانين الإخوة قولاً وفعلاً، وأعتبر أن وضع يدي في يد أخي إعادة للعهود وللأخوية بيننا " ص 51
" فلتفترق كلّ خلية من جسدي عن أختها إن أنا خنتُ "العهد" " ص64

" نصفيْن قلبي لم يزل، وأنا المشظّى بين أمسي وغدي ،بين واقعي ،اليوم، وما بين الحلم الذي أعيشه في بلاد مقدسة جئت إليها بسحري المفتون وغرامي وهيامي بها· ومن حيث أتيت تركت نصف قلبي هناك معلقاً ، وها أناذا الآن أسير بنصف قلب·كيف يمكن للإنسان أن يكون منشطراً هكذا ؟ إنه ليس الانشطار بل الوحدة التي ترف بأجنحتها حولي أينما توجهت · سواء كنت هناك من حيث يشرق النور من الشرق الجميل أم كان على أعتابها المتضوعة بالحنين إلى شرق جديد، وها هي ذي أضلعي امتدت لهم جسراً، يوصل ولا يفصل، يجمع ولا يفرق ···يوحد ولا يشتت·إنه الحب·· إنها المحبة ··إنه القدر الذي جُبلنا عليه·كيف لي أن أكون شرقيا وقلبي معلق بهواء اورسالم ، أو أن أكون غربيا وروحي ما زالت معلقة فوق جبال الشراة؟ " ص 27
نصٌ روحانيّ ٌ يكاد ينفطر له القلب.

نصٌ مفتوحٌ للتأويل:
في أداءٍ لمشهدٍ سينيمائي يجسد رواية ً لإرنست همنجواي، جلس الكاتبُ بجانب المخرج يتابع أداء الممثلين لما كـَتب، فاعترض على أدائهم لإحدى الفقرات مدّعيا أنه لم يكتب هذا. قال له المخرج " اذهب واقرأ ما كتبتَ" ، فذهب همنجواي وبعد أن قرأ عاد وقال" نعم .. ما كتبتـُه يحتمل هذا، لكنه ليس ما قصدتـُه به" . فإذا كانت النصوص الأدبية تحتمل التأويل الشخصيّ حتى إن لم يقصد كاتبُها فتحها لذلك، فكيف بنصّ تعمّد كاتبه فتحه للقارىء فتحا مبينا...؟

أعتقد أن لن يُجمع قارئان اثنان على فهمٍ واحد لمثل هذا النص. ففي روايتنا هنا تمويه متعمد بين المراد بضمير الكاف في (عنكِ) الواردة في عنوان الكتاب. فالعنوان يخبرنا أن هناك معضلة تعانيها روح السارد، وهي الفصل بينها وبين ما على الضفة الأخرى من النهر: " أيمم نحو الجسر الخشبي اللعين ···النهر المقدس عبر آلاف السنين ما عاد يفصل القلب عن القلب" ص 14. إلا أن ماهية المراد عبور النهر لأجله مموّهٌ في عدة مواقع في الرواية. فبعض الفقرات تجزم بأن الراوي يتوق لملاقاة المدينة المقدسة خلف النهر ويحنّ إليها:
"أسير نحوك أنت مسرى القلب ومعراج الخيال، فأنتظريني مهما طال هذا الليل فالنهر لن يفصلني عنك" ص22 .
"كيف لي أن أكون شرقيا وقلبي معلق بهواء اورسالم" ص 27
"عبرت حيث كنيستي الأولى مهد التكوين ، والقيامة منذ البدء كانت كلمة، آية من الآيات وروعة من روائع الزمان" ص35
أما إن أراد المتلقي أن يتخيل قصة حبّ فيها فراق ولوعة على حبيبة هجرت إلى ما بعد النهر، فله ذلك أيضا :
" يا حبيبتي النهر المقدس لن يفصلني عنك وعنه ·وأنا يوسف يا حبيبتي فاطمئني وقرّي عينا فأنا الآن أسير في دروب الجنوب مسلحا بحبك·أسير نحوك أنت مسرى القلب ومعراج الخيال، فأنتظريني مهما طال هذا الليل فالنهر لن يفصلني عنك ·
إطمئني ، فانا لك ·أنا لحبيبي وحبيبي إلي· " ص 22.
" قال لي: لكنها من قوم غير قومنا كيف أحببتها؟

نظرت إليه وتذكرت أيامي معها· إن لغة العشق لا تعرف التمييز·إنها جزء من كل وأنا كل من جزء فأينا يا ترى رأى ما سأروي من حكاية لا ترتوي معها ولا تروى لأحد لم يمسه بعد ضرب من الجنون· قلت له: ألم تسمع بما قاله يحيى بن معاذ ؟ سألني وماذا قال ؟ قلت له قال "إن مثقال خردلةٍ من الحب أحب إلي من عبادة سبعين عاماً بلا حب"·

خبأتُ سارا عن أهلي وأدمنت في قلبي عشقها، وقد غابت عني الآن ،سرقت مني· لا يهمني ما تقولون عني، لقد سرقت عقلي وقلبي ووجداني منذ اليوم الأول الذي صرخت فيه بوجه هذا العالم الحقير المجنون·" ص49
كما استطاع السارد بطريقة خفية أن يوحي للقارىء أن مشاعره تجاه المدينة المقدسة مندمجة بمشاعره تجاه الأم، وذلك بأن يشير إلى الأولى باسم الأم تكرارا:
" الآن أيمم نحو الشمال في رحلة العودة إلى الأم المقدسة" ص26.
" وها أنذا أهم بلثم تراب أرضك يا أمنا جميعا " ص30
وهو يستحضر من ذاكرة طفولته مشاعر الطفل الذي يحنو إلى دفء حضن أمه.
" جسمي يتثلج وقلبي يرتجف حباً وأحنّ إلى حضنك الدافئ· كنت أهرب من بين إخوتي التسعة في غرفتنا الضيقة التي كنا نحشر فيها حشرا لأندس قربك·رجلي في الجبس وألمي يزداد وأنت تحملينني على كتفك إلى المستشفى" ص16.

خاتمة:
هو نصٌ ثائرٌ على أي متوقع، عصيّ على القولبة أو التنميط. لا نستطيع أن نبعد عن الذهن احتمال أن الكاتب لم يشأه هكذا، بل جعله أقرب ما يكون إلى طبيعة الروح. أما النتيجة فكانت أنه يملؤ روح متلقيه بالحنين إلى ما كان يوما واقعا، ووحدةٍ نمت مع النفس، وإلى الأرض المقدسة، والأم، والحب، وحالة الحب، وكل ما دفق من روح السارد إلينا بإبداع يد الكاتب. وما كُتب من القلب يصل إلى القلب.