لاتزال القضايا التي يتناولها هذا المقال ـ من التمدن والتجديد والمثاقفة ـ في أواخر القرن التاسع عشر مطروحة على العقل العربي الآن دون أن يتوصل فيها إلى حلول ناجعة.

تأثير التمدن الجديد في الشرق

تقديم أثير محمد علي

نقولا شحادة


الشرق هو الأسبق بالعمران والأقدم بالمدنية. فيه وجدت الشعوب القديمة كسكان سورية ومصر وفارس وغيرهم. وأهله هم الذين سنّوا الشرائع والنظامات والقوانين. وبينما كان الانكليز والألمانيون وغيرهم من سكان أوربا عراة الأبدان عائشين عيشة حيوان البر كانت بابل ترفل بأثواب عزها ومصر تتباهى بشامخ أبنيتها ودمشق بيانع رياضها. وبينما كانت أراضي أوربا عقيمة لا تأتي إلا بما منحتها إياه الطبيعة أصاب اسحق بن ابراهيم الخليل مئة ضعف بزراعته. وبينما كان لباس الأوربيين جلود النمر والثعلب كان لباس الشرقيين البز والبرفير. وهذه الأمور راهنة لا ينازعنا فيها أحد وكثيراً ما طنطن بها كتّابنا حتى صار ذكرها عادة لنا. وصرنا نتأسى به عن حالتنا الحاضرة. وعندي أن هذا سبب قوي من أسباب تأخرنا الحالي. لأننا صرنا إذا نظرنا إلى الأوربي ورأيناه قد سبقنا بمراحل، ورأينا أننا لا نلحقه إلا بالتعب الشديد، نحدّث النفس قائلين على مَ الكد والجد والسعي فالدنيا أدوار والدهر يومان يوم عليك ويوم لك. وهذا هو يوم الأوربي فليلعب دوره في يومه كما أننا نحن لعبنا دورنا في يومنا. وكأن لسان حالنا يقول اعلم أيها الغربي أنني أنا الشرقي كنت السابق فعش هنيئاً وتاجر براً وبحراً ووسع نطاق سطوتك وتسلط عليَّ تسلط السيد وكفاني شرفاً أنني أقدم منك في الحضارة. فيضحك ذاك مستهزئاً مسروراً بتقاعدنا عما فيه خيرنا واكتفائنا بالضروري الذي لاقيام لحياتنا بدونه. وهكذا مرّت علينا السنون ونحن نتأخر وأهل الغرب يتقدمون. إلا أنني أرى الشرق قد هبَّ من رقاده منذ خمسين سنة أو حواليها وكأنَّ صوتاً ينادي في جهاته الأربع ويقول "الإصلاح. العلوم. التقدم". فالأحداث اليوم لايشبهون الأحداث الذين كانوا منذ خمسين سنة والبنات اليوم ينكرون علينا أن نعاملهنَّ معاملة أمهاتهنَّ.
وما ذلك إلا لأن انقلاباً عظيماً فاجأ هذه البلاد وأكثر بلدان المشرق. ولما كان من طبع الإنسان الرغبة في معرفة مركزه الحالي بالنسبة إلى أبيه وجده ومعرفة حاله في يومه وما كان في أمسه اخترت أن أجعل موضوع خطبتي هذه تأثير التمدن الجديد في الشرق ناظراً إلى التغيرات الطارئة عليه حاصراً الكلام في ما عدا الدين والسياسة لأنهما ليسا من موضوع جمعية الاعتدال موجهاً كلامي إلى الذين تغيرت أحوالهم في مصر وسورية كأكثر سكان المدن تاركاً أهالي أرياف مصر وسهول سورية الداخلية لأن أحوالهم لم تتغير تغيراً يذكر. فمن هذه التغيُّرات:

أولاً تغير اللباس. إن الفريق الأكبر من الحضور في هذه القاعة مرتد بالثياب الإفرنجية وكثيرون من أهالي المدن رجالاً ونساءً قد ارتدوا بالثياب الإفرنجية بعد أن كانوا هم أو آباؤهم يلبسون ثياباً وطنية وسيعة متينة قليلة الثمن جداً بالنسبة إلى بساطتها وطول إقامتها. والواحد منا ينفق الآن على ثيابه أكثر مما ينفق والده بعشرة أضعاف أو أكثر. والنساء ولاسيما المتطرفات في اتباع الزي بلغت نفقات ثيابهن مبلغاً لا يصدق. فالمصيبة العظمى على من كان متوسط الحال أو متوقف الأشغال. وثالثة الأثافي وأشد المصائب شكل الثياب من الحذاء الضيق الرفيع الكعب إلى الكورست (المشد) الذي يضغط الصدر والأحشاء ويغير شكلهما الطبيعي. قال أحد وزراء الانكليز يجب أن يقاص الأساكفة بالقتل بلا محاكمة ولا شفقة كما يقاص القرصان. ولو سئل هذا الوزير عن حكمه على الذين اخترعوا الكورست ونحوه لما حكم عليهم بأقل من القتل. ومما زاد في الطنبور نغمةً أن كثيرين من الشبان لا ترضيهم الصفات التي يتجمل بها الرجل كالمروءة والفتوة وعزة النفس فتراهم يجدُّون ليتشبهوا بالنساء في استعمال الطيوب والبودرة وما أشبه.



رابعاً انتشار الحرية أو ما يسمى بالحرية. لا أنكر أن لبعض أنواع الحرية التي انتشرت عندنا حديثاً شيئاً من النفع ولكن إذا أُريد بالحرية عدم التقيّد بالربط الدينية والعائلية كما هو مفهوم الحرية عند كثيرين فهي ضرر محض ولا يمكن أن تُمدح بوجه من الوجوه بل إن التغاضي عن ذمها وإظهار شرها تقصير في الواجب.
انظروا إلى أين أدت هذه الحرية فإنها هي التي بنت تلك البيوت الجهنمية وجمعت إليها العواهر ما بين إفرنجية وتركية وعربية ونصبت شراكها لتصيد الشبان وتسلب مالهم وشرفهم وصحبتهم وأدارت كؤوسها لتسكرهم بخمرة الجهل فتسرهم يوماً لتحزنهم سنةً وتضحكهم ساعةً لتبكيهم العمر كله. وهذه الحرية التي رفعت عن الناس قيود الدين والربط العائلية لحرَّية بأن تُعدَّ من موارد جهنم ومخترعات الأبالسة. انظر إلى ذاك الشاب تراه كئيباً أصفر الوجه فتظنه مريضاً أو متعباً من كثرة الشغل أو متكدّراً من فراق أهله ووطنه أو أن أحد أقاربه مات وهو حزين عليه والصحيح خلاف ذلك والواقع أنه سكير أو مقامر أو فاسق يشتغل الشهر كله ليصرف تعبه في ليلة واحدة ولا يستطيع أحد أن يعارضه لأن العصر عصر حرية وكل إنسان متروك إلى هواه. حبَّذا العبودية على هذه الحرية بل حبَّذا عصر الجاهلية الذين كانوا يدفنون بناتهم خوفاً من العار إن كانت هذه هي الحرية.
وإذا قابلنا بين أهالي المدن الذين تمذهبوا بمذهب الحرية الجديد وبين أهالي الأرياف أو الأماكن الأقرب إلى الفطرة رأينا هؤلاء أكثر بساطة وأحسن بنية وأسلم طوية وأحفظ للآداب الصحيحة وما ذلك إلا لأن لواء الحرية الجديدة لم ينتشر فوق رؤسهم حتى الآن. ولولا وجود فئة صغيرة تعتبرالدين أو تحافظ على مبادئ الشرف لكنا نرى أعظم مما رأينا. والحق أن الحرية أمر شريف واجب ولكن إذا تخطت قانون الحق والفضيلة بطل كونها حرية وصارت أسراً بل أشر من الأسر.