في حضرة المبدع محمد صوف

الكلمة-المغرب

شريشي الساوري

وأضاف نور الدين صدوق إلى ان النقد المغربي المعاصر لم يواكب هذه التجربة باستثناء احتفائه بالرواية الأولى. وقد يعود ذلك إلى ما اتسمت به المرحلة من هيمنة النقد الإيديولوجي والاقتصار على تناول مجموعة من الأسماء دون أخرى. ويمكن القول بان اهتمامات محمد صوف في المجال الروائي والقصصي قد اقتصرت على الجانب الاجتماعي في محاولة لرصد التفاوتات التي طبعت المجتمع المغربي، هذا فضلا عن اهتمامه بالطبقات العمالية وقضاياها الحساسة وختم الباحث مداخلته بالإشارة إلى أن محمد صوف ما يزال مواكبا وصامدا في ميدان السرد المغربي بإصداه لرواية "يد الوزير" التي لامست ظاهرة السلطة في المجتمع من خلال استثماره لحكاية تتعلق بإحدى الشخصيات السياسية. المداخلة الثانية لعبد الرحيم مؤدن (أستاذ جامعي وأكاديمي) جاءت تحت عنوان)حكاية شخص هامشي جدا ، محمد صوف أو لعبة الدمية الروسية)،مبررا في البداية اختياره للقصة المدروسة، إذ اعتبرها من أهم تجارب المؤلف. ثم انتقل إلى دلالة كلمة "حكاية" الواردة في عنوان القصة، والتي أكد أنها تضطلع بعدة أدوار، منها:
لكن الحكاية تتخذ أبعادا اخرى عندما تنتقل إلى المكتوب فتصير بؤرة حكائية داخل البنية القصصية، باعثة على الحكي، وهي التي فجرت كوامنه نحو بناء قصة قصيرة، تميزت بخاصيتين وهما: تقنية النهاية التي لم تكن بلا بداية. هذه التقنية لا يقدمها الكاتب دفعة واحدة. بل يقدمها من خلال مستويين؛ مستوى الحوار ومستوى المونولوج. وانتهي عبد الرحيم مؤدن في هذه الفقرة إلى أن النهاية تتحول إلى افتتاح سردي أو تمهيد حكائي. ثم طرح بعد ذلك السؤال التالي: ما الذي تقدمه العنونة؟ مؤكدا انها تدمر الخطية السردية التي تسمح بتداخل الأزمنة، كما تسمح بتقديم معطيات متنوعة عن الشخصية، كما أن العنونة مطعمة بالمرجعية السينمائية فهي بمثابة زوم لتبئير المأساة والرفع من حدة درجة المعاناة. كما تلعب العنونة دور الدمية الروسية وما تتميز به من انشطارات، فيبدو لنا عنوان القصة واضحا، لكن بعد الشروع في القراءة نكتشف مجموعة من المفاجآت وهو ما سماه بتقنية التوالد النصي. وأشار عبد الرحيم مؤدن في الأخير إلى ان النص القصصي عند محمد صوف ومجايليه كان ذا قضية وهو أمر أصبح مغيبا في الإنتاج القصصي الذي يفكر في ذاته أويحيل على ذاته.
المداخلة الثالثة قدمها بوشعيب الساوري (ناقد وباحث) بعنوان: (العين الساردة عند محمد صوف قراءة في رواية دعها تسير). الذي انطلق من خاصية جوهرية تميز الكتابة عند محمد صوف وهي الكتابة البصرية التي تراهن على الصورة، وتجعل منها آلية لإنتاج كتابة سردية تنسجها العين قبل أن تحول إلى اللغة التي تبقى عنده مجرد أداة مترجمة وناقلة لاشتغال العين وما تلتقطه وما تشكله من صور. حتى وإن كانت اللغة هي الوسيط الأساسي في عملية الكتابة، فهي مجرد وسيط للعين تلك الأداة السحرية التي يؤثث بها محمد صوف عوالمه السردية. ثم انتقل بعد ذلك إلى دراسة العنوان في رواية (دعها تسير) إذ اكد أنه يؤدي وظيفة الإثارة والتشويق ودفع المتلقي إلى خوض غمار القراءة. وذلك لاعتبار أساسي وهو تضمنه لضمير متصل (ها) لا نعرف على ماذا أو على من يعود، الأمر الذي يرغمنا على طرح السؤال التالي: على ماذا يعود الضمير(ها)؟ أو على من يعود ؟ وللجواب عن السؤال نكون ملزمين بالشروع في قراءة النص. وقادت القراءة الناقد إلى العثور في الصفحة 99 من الرواية على الجملة التالية"عش حياتك. ودعها تسر." ليكون، بذلك، عنوان الرواية جزءا من جملة داخل النص الروائي اعتبرها الساوري هي الجملة الأساس في الرواية، وردت في حوار بين شخصيتين داخل الرواية. يحيل الضمير المتصل على الحياة؛ إذ تجد كل شخصيات الرواية نفسها مرغمة على الدخول في مسار حياتي معين يصعب عليها تغييره، وبالضبط تجربة الحب تلك العاطفة التي تتملك الشخصيات وتتحكم فيها وتجد نفسها عاجزة عن مقاومتها. وفي نقطة أخرى متعلقة بالسرد أكد الناقد أن السرد يتأثث عبر تلاحق سريع لمجموعة من الصور والمشاهد وبشكل سريع والأوضاع الحكائية أساسه التغيّر السريع للأمكنة أو تغير المشاهد التي تكون إطارا للقاء أو لحوار بين شخصيتين أو أكثر، يعكس ذلك انفتاح السرد على تقنيات السرد البصري السينمائي. كما كان من تجليات السرد البصري هيمنة التكثيف مع تركيز السرد على انفعالات الشخصيات. وكذلك كان له أثره على حضور الزمان والمكان اللذين لم يكونا سوى مجرد إطار لعدة مشاهد. كما كان من تجليات السرد البصري هو خلق صور روائية وأهم صورة وهي قلب الصورة التي تكون عليها الشخصية في بداية الرواية. وهي سمة تنطبق على جل شخصيات الرواية مما فتح الرواية على لعبة المرايا فجعل الشخصيات مرايا لبعضها وتجلى ذلك في النقط التالية: الارتباط بالمحبوب إلى حد الهوس والضعف، الحب من طرف واحد، ظهور الشخصيات المحبوبة في الرواية على شكل ألغاز بالنسبة للشخصيات المحبة، تتماهى الشخصيات كذلك لتقدم لنا صورة عن الحب، وهي اقتناع الشخصيات بأن الحب قدر أو وهم تجد نفسها متعلقة به.
ليست الرواية غذن اداة للتحليل الاجتماعي ولا التليل النفسي. إنها لاتبحث عن قوانين وغنما تبحث عن كائنات.. عن شخوص.. صحيح أن الرواية التقليدية كانت تمنح للقارئ كرسي المتفرج، ثم تمنحه حظوة الدخول به إلى اعماق الشخصيات. ومن ثم ترشده.. تملؤه بالحكم.. ندعوه غلى الاستفادة والاتعاظ. لم يعد هذا دور الرواية الان.. لعل الروائي اصبح وسيطا بين الشخصيات والقارئ. يسلم مفاتيح هؤلاء لأولئك ويظل هو -إن استطاع- في مساحة الحياد. هناك من يتساءل: وماذا تقول أنت.. عنك؟ ككل من يكتبون.. وككل الذين يجدون ان الحياة حافلة بالمفاجآت. حافلة بغياب المنطق والإجحاف أحيانا.. ارى أن الكاتب يتشبث يقلمه وقرطاسه ويخربش اولا ثم يكتب ثانيا. شهرا شهرين سنة.. سنتين.. عشرين سنة.. يضحي خلالها بالكسل الجميل وبنوع من الرضا ويجد في نهاية المطاف أهمية لا ترى إلا بالمجهر لدى القراء.. لدى النقاد.. لدى البلد الذي يعيش فيه.. وقد يبتسم القراء والنقاد والبلد إشفاقا لمن لم يتحملوا هذا الهم بنفس الهم. ومع ذلك فيه تدور..
أدركت كذلك ان الكاتب يحمل داخله دائما احتمالات الفشل. ولعل هذا حافز على نجاح حققه عدد من الكتاب في عدد من المؤلفات. ثم إن احتمال الفشل مدرسة ومنبع للمعرفة والتعلم. اعتقد اني كل مرة افشل وكل مرة اتعلم ولم اصل بعد إلى لحظة الذروة تلك التي تتمخض عن عمل يلقى إقبالا نسبيا.. أما الإقبال الواسع بين ظهرانينا فلا يوفره سوى تقرير العمل في المدارس.. وتلك قصة اخرى. اجمل صفة منحها الكون للإنسان هي الاختلاف.. والاختلاف هو ما يصنع الكاتب أيضا.. النجاح في التعبير عن هذا الاختلاف لا يتيسر للكل. فهناك من يخطئ في تصور اختلافه لعل هذا ما حدث لي وأنا افكر في العمل الروائي الول"رحال ولد المكي" بما ان المحيط الذي كنت اعيش فيه حافل ببذور أمكار.. واقتنصت فكرة رحال ولد المكي من طفولتي ومراهقتي وشبابي. وعندما انهيتها واخلدت غلى الراحة، رايت البذور التي زرعتها لقصة رحال ولد المكي لم تكن بذورا.. لربما كانت أي شيء ما عدا بذور رواية. ومع ذلك وجدت اني انساق خلف حديث صغير دار ذات يوم في مكان ما لأجدني أخط دون أن أعي الرواية الثانية "الموت مدى الحياة" وخلف ملاحظات ذاتية لأكتب "السنوات العجاف" وخلف خبر صحفي في صفحة المنوعات لأكتب "كازابلانكا". ولو كنت أستعمل مذكرة كما نصحني بذلك الشاعر إدريس الملياني مرارا، لتمكنت من توظيف ما ألاحظ لفائدة ما اكتب.. فاستعمال المذكرة إسعاف في لحظات القحط. وقد تتضافر ملاحظتان وتعطيان عملا روائيا.