يكشف المفكر المصري الكبير هنا عن مجموعة من الأوهام المتعلقة بالتنمية التي يروّج لها المركز، كي تبقي الهوامش متخلفة وتابعة. تتعثر في شباك التنمية الرثة التي لا تتيح أي نهضة حقيقية، ويرسم معالم طريق التحرر من شراك تلك التنمية الرثة واستعادة الاستقلال الاقتصادي، عماد كل أشكال الاستقلال والتقدم.

التنمية الرثّـة .. والتحدي الذي يواجه مصر

رأسمالية ليبرالية أم رأسمالية المحاسيب!؟

سمير أمين

التحدي الذي يواجه مصر في اللحظة الراهنة:
إن تاريخ مصر الحديثة هو تاريخ الموجات المتتالية لمحاولة الصعود (تجربة محمد على، تجربة عبدالناصر) من خلال تبني النموذج الرأسمالي أساسا. وبثورة 25 يناير 2011 دخلت مصر مرحلة جديدة من تاريخها، والتحليل الذي أقدمه هنا يخص من جانب الحركة الديمقراطية الوطنية الشعبية ومن جانب آخر استراتيجيات العدو الرجعي المحلي وحلفائه بالخارج. ويسمح لي هذا التحليل بتصور وجود طرق متعددة للخروج من الأزمة الراهنة في مصر. إلا أنه بالنظر إلي المستقبل القريب يبدو أن مصر ستغرق في مزيج من التنمية الرثة، والخضوع لسيطرة النظام الإمبريالي العالمي. ومع ذلك سيتواصل النضال وربما يسمح بإيجاد مخارج من هذا الطريق المسدود.

أرست مصر في عصر عبدالناصر نظاما اقتصاديا واجتماعيا وجهت إليه انتقادات كثيرة، لكنه كان نظاما متسقا، راهن علي التصنيع باعتباره السبيل للخروج من تقسيم العمل الاستعماري الدولي، الذي كان يحصر مصر في دور البلد المصدر للقطن. واتسم نظامه بتوزيع للدخول يعمل لصالح توسيع الطبقات المتوسطة دون إفقار للطبقات الشعبية. ولكن كل من السادات ومبارك قام بتنفيذ مشروع العولمة الليبرالية الفجة القائم علي تفكيك المنظومة الإنتاجية المصرية، وأحلا محلها نظاما غير مترابط، مبني بشكل مطلق علي ربحية الشركات التي أصبح معظمها مجرد مقاولين من الباطن للاحتكارات الإمبريالية. أما معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة التي امتدحها البنك الدولي علي مدي 30 عاما فلم يكن لها معني علي الإطلاق. ذلك لأنه كان نموا هشا، معرضا لمخاطر التراجع إلي أقصي حد. وفوق ذلك صاحب هذا النمو ارتفاع مذهل في مستويات البطالة واللامساواة، وهو الموقف الذي ظل قابلا للانفجار، ثم انفجر بالفعل.

كانت النتيجة الحتمية، حدوث تدهور سريع في كل الشروط الاجتماعية وفي غضون سنوات قلائل تبدد كل ما أنجز في الدولة الشعبية الوطنية، وأصبح الفقر والبطالة الواسعة النتيجة المنطقية للسياسات النيوليبرالية وهو ما أوجد الشروط الموضوعية للتمرد والثورة. استغرقت فترة الردة نصف قرن تقريبا. فمصر التي استسلمت لمتطلبات الليبرالية المعولمة والاستراتيجية الأمريكية، توقفت ببساطة عن الحضور كعامل نشط في السياسة الإقليمية والعالمية. واحتل مكانها حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيون (السعودية، إسرائيل). وبالتالي تمكنت إسرائيل من الاستمرار في نهج التوسع في الاستيطان بفلسطين المحتلة بتواطؤ ضمني من جانب مصر ودول الخليج.

وقد تسببت عملية نزع السياسة من المجتمع (نتيجة للنهج الفعلي للنظام الناصري) في صعود الإسلام السياسي. ومن ثم كان المَعْلم السائد هو إلغاء الممارسة الديمقراطية. ولا تعني الديمقراطية هنا مجرد إجراء الانتخابات التعددية. وإنما تعني ممارسة الديمقراطية بالمعني الصحيح للكلمة، أي احترام تعددية الآراء والمشروعات السياسية وحق التنظيم السياسي. ولما كان التسييس يتطلب الديمقراطية، فإن الديمقراطية لا توجد إلا عندما يتمتع أصحاب الرأي المختلفون مع السلطة بحرية التعبير. وقد أدي طمس الحق في التنظيم حول آراء ومشروعات سياسية مختلفة إلي القضاء علي التسييس. وقد أعلنت هذه الكارثة عن نفسها في العودة إلي الآراء القديمة (دينية وغير دينية)، وهو ما انعكس أيضا في القبول بمشروع «المجتمع الاستهلاكي»، وهو الاتجاه الذي ينتشر ليس فقط وسط الطبقة المتوسطة المستفيدة من نمط التنمية هذا، وإنما ينتشر أيضا وسط الجماهير الشعبية التي تطالب بالاشتراك في الحد الأدنى من الرفاه، خاصة في ظل غياب بديل واقعي وذي مصداقية.

اتخذت عملية نزع السياسة في المجتمعات الإسلامية شكلا سائدا وهو «العودة» الواضحة أو الظاهرية «للإسلام». فقد أصبح خطاب المسجد مع خطاب السلطة هما الخطابان الوحيدان المسموح بهما في الفترة الناصرية، وازداد الأمر كثافة في عهدي السادات ومبارك. واستُخدِم هذا الخطاب لإيقاف صعود أي بديل قائم علي إرساء طموح اشتراكي. وقد شجع السادات ومن بعده مبارك الخطاب «الدينى» ليصاحب ويتمشى مع تدهور الظروف المعيشية الناجمة عن إخضاع مصر لمقتضيات العولمة الإمبريالية. ويتطلب فهم نجاح الإسلام السياسي المزيد من التوضيح للعلاقة بين نجاح العولمة الإمبريالية من ناحية وصعود شعارات جماعة الإخوان من ناحية أخرى. فقد أدي التدهور الذي صاحب العولمة إلي انتشار أنشطة القطاع غير المنظم في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، والتي تعتبر المصدر الرئيسي لدخل أغلبية السكان في مصر (تقدرها الإحصائيات بـ60%). وتملك تنظيمات الإخوان المسلمين قدرة حقيقية علي العمل في هذه الظروف، وبدوره أدي نجاح الإخوان في هذه المجالات إلي المزيد من تضخم تلك الأنشطة، ومن ثم ضمان إعادة إنتاجها علي نطاق أوسع. وتتصف الثقافة السياسية التي يضطلع الإخوان المسلمون بنشرها بتبسيط شديد. إذ تضفي هذه الثقافة في مضمونها «المشروعية» علي مبدأ الملكية الخاصة وعلاقات السوق «الحرة»، دون اعتبار لطبيعة الأنشطة المعنية، والتي تتمثل في أنشطة بدائية غير قادرة علي تحقيق التنمية. يُضاف إلي هذا أن الوفرة المالية الهائلة في بلدان الخليج قد سمحت بطفرة كبيرة في تلك الأنشطة، حيث تضخ تلك الدول الأموال المطلوبة لهذه الأنشطة من خلال القروض والمنح الصغيرة.

لا تهدف دول الخليج إلي المساهمة في تنمية القدرة الإنتاجية للاقتصاد المصري وإنما ترمي فقط إلي تنمية هذا الشكل من «التنمية الرثة»، لإدراكها أن إحياء مصر كدولة تنموية سوف يهدد نظم دول الخليج، التي ترفع شعار أسلمة المجتمع لتتفادي مواجهة متطلبات الشعب الحقيقية، وتخضع للسيطرة الأمريكية (التي تريد مصر دولة تابعة يضربها الفقر المتزايد)، وتسمح بالسيطرة الإسرائيلية (التي تدرك وزن مصر في مواجهة التوسع الصهيوني). لقد كان «الاستقرار» الظاهري للنظام المصري موضع مديح متواصل من جانب المسئولين الأمريكيين المتلاحقين وآخرهم هيلاري كلينتون، وقد قام هذا الاستقرار علي عاتق جهاز أمني مهول وأطلقت أيدي هذا الجهاز في ارتكاب الانتهاكات اليومية. وزعمت القوي الإمبريالية أن ذلك النظام قد «حمى» مصر من تهديد الإسلام السياسي. وهو زعم لا يتعدى أن يكون كذبة خرقاء. ففي واقع الحال أدمج النظام الإسلام السياسي الرجعي في بنية السلطة، بمنحه السيطرة علي التعليم والقضاء ووسائل الإعلام الرئيسية. فكانت الخطب العامة الوحيدة المسموح بها هي خطب السلفيين في المساجد، بما سمح للإسلاميين بالظهور بمظهر «المعارضة». وقد توافقت خطابات المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة – بازدواجيتها المثيرة للسخرية – مع تلك الأهداف.

أدي الدعم الفعلي للإسلام السياسي إلي تدمير قدرة المجتمع المصري علي مواجهة تحديات العالم الحديث (مثل التدهور الكارثي في التعليم والبحث العلمي). ولجأت واشنطن إلي إدانات عَرضية لانتهاكات الإسلام السياسي (مثل الاعتداء علي الأقباط) كي تضفي شرعية علي تدخلاتها العسكرية في إطار «الحرب علي الإرهاب». وكان بإمكان النظام أن يبدو بمظهر «المتسامح» مادام لديه صمام الأمان الذي توفره هجرة أعداد كبيرة من الفقراء والطبقة المتوسطة إلي الخليج. غير أن استنفاد هذا الترتيب (بسبب حلول المهاجرين الآسيويين محل العمالة الوافدة من البلدان العربية) أدي إلي بعث الحركات المعارضة. فكانت الإضرابات العمالية عام 2007 (أقوي إضرابات في القارة الأفريقية علي مدي الخمسين عاما الماضية)، وحركات المقاومة لصغار الفلاحين، وتَشكُّل جماعات الاحتجاج الديمقراطية (مثل حركتي «كفاية» و«6 أبريل»). وهو ما أنذر بالانفجار الحتمي الذي توقعه المصريون، بينما شكل مفاجأة «للمراقبين الأجانب».

وفي تصورنا أن أي مخرج لهذه الأزمة المجتمعية لو لم يستطع ترجمة مطالب هذه الجماهير الثائرة، في مشروع وطني ديمقراطي وشعبي، فلن يكتب له النجاح. وأقدم هنا العناصر الأساسية لهذا المشروع:

أولا: لا يمكن أن يتحقق الخروج من الأزمة الراهنة دون وجود سياسة ثابتة للدولة تستند إلي كتلة اجتماعية مريحة، تمنح المشروعية والقدرة علي بناء مشروع متماسك يتطلع إلي توجيه منظومة الإنتاج الوطني نحو الداخل، بمعني إخضاع العلاقات مع المنظومة الرأسمالية العالمية لمنطق واحتياجات التقدم الداخلي. كما يجب أن يضمن هذا مشروع مشاركة الغالبية من الطبقات والفئات الاجتماعية في الحصول علي ثمار التنمية. ويتحدد الإطار العام لهذا التحدي، في كيفية تحقيق السيادة الوطنية علي جميع جوانب الحياة الاقتصادية، التي تقتضي تدعيم وتطبيق سياسات تحمي السيادة الغذائية، وتحقيق السيادة الوطنية علي الموارد الطبيعية، وإدخال إصلاحات أساسية علي القواعد التي تحكم توزيع الدخل، وتشكيل الاستهلاك، واتخاذ القرار في مجال الاستثمارات. وهو ما يتناقض بطبيعة الحال مع سياسات رأسمالية المحاسيب التي تخضع لمتطلبات المنظومة العالمية السائدة، من الخصخصة، وتحرير الأسعار والأجور، وتخفيض الإنفاق العام ولاسيما علي الخدمات الاجتماعية، وإلغاء دعم الاستهلاك الشعبي.

نعني بذلك أن هذا التحدي لا ينحصر في الجانب الاقتصادي فقط، وإنما هو مشروع سياسي شامل يتوجه إلي الحد من الوسائل التي تتمكن من خلالها المراكز الرأسمالية المسيطرة من إدامة سيطرتها من خلال تحكمها في مجالات التطور التكنولوجي، والسيطرة علي الموارد الطبيعية، والهيمنة علي المنظومة المالية العالمية، وكذلك السيطرة علي توزيع المعلومات، وأخيرا احتكار أسلحة الدمار الشامل، بما يتيح لها الهيمنة الاقتصادية والسياسية. وبالإمكان ملاحظة أنني لا أصنف هذا المشروع الوطني للتنمية باعتباره رأسماليا أو اشتراكيا، ذلك لأن عملية التنمية التي أطرحها تتسم بالتكامل والصراع في الوقت نفسه، بين منطق الإدارة الرأسمالية للاقتصاد، ومنطق الإدارة غير الرأسمالية ــ ربما الاشتراكية ــ للمجتمع والسياسة. فهو مشروع يسمح بالتقدم في طريق طويل نحو الاشتراكية.

ثانيا: يتطلب ذلك كسر سلاسل التبعية الاقتصادية والسياسية، سواء التي تربطنا بدرجة أولي بالولايات المتحدة الأمريكية، ومحاولة الاستغناء عن المعونة الأمريكية. وإيجاد علاقات بديلة مع دول مثل الصين والهند والبرازيل، وتجديد روح باندونج. فالبديل لانحباس مصر في إطار ديكتاتورية ثلاثية (أمريكا، الخليج، إسرائيل) يدعو إلي تدعيم علاقات تعاون مع الدول البازغة القادرة علي الاشتراك معنا في إعادة بناء منظومتنا الانتاجية الوطنية.

ثالثا: يجب ألا يقتصر فهمنا لفكرة الديمقراطية علي صندوق الاقتراع (وإن كان إحدى آليات الديمقراطية). ولكن بإبراز مضمونها الاجتماعي بجانب المضمون السياسي من تكريس لحقوق المواطنة، والمساواة بين المواطنين، واحترام الحريات الخاصة والعامة، والحرص علي إيجاد أجواء من التوافق العام تتيح لكل القوي الحية في المجتمع المشاركة في العملية السياسية.

أولا: رأسمالية ليبرالية أم رأسمالية المحاسيب؟
يعتمد نمط الرأسمالية الليبرالية المطروح ــ بل المفروض بناء علي الادعاء بأنه «لا بديل له» ــ علي سبعة مبادئ تعتبر صائبة لجميع مجتمعات الكوكب.

1.  ضرورة لا حياد عنها لإدارة الاقتصاد علي قاعدة الملكية الخاصة. وذلك لأن المؤسسات الخاصة هي الوحيدة التي تعمل طبقا لمقتضيات المنافسة الشفافة، ولأن هذه الممارسات تؤل إلي نتائج صالحة للمجتمع ككل؛ إذ إنها تضمن معدل نمو ملحوظ بالتزامن مع استخدام رشيد للموارد وصرف العائد المناسب لكل عامل من عوامل الإنتاج (العمل ورأس المال والطبيعة). وبالتالي، ففي فرضية أن الدولة تملك موجودات ورثتها من النمط «الاشتراكي المنحوس» ــ سواء كانت ممتلكات إنتاجية أم مؤسسات مالية أم أراضي زراعية أو صحراوية ــ فلا بد من خصخصة هذه الموجودات فورا.

2. ضرورة لبرلة سوق العمل، والتخلي عن تحديد حد أدني للأجور. أما قوانين تنظيم العمل فلا بد من اختزالها إلي تلك القواعد التي تضمن احترام مبادئ الأخلاق في العلاقات بين صاحب العمل والعامل ولا غير. وبالتالي فلا بد من احترام سلم الأجور الناتج عن التفاوض الحر بين الطرفين، وكذلك قبول تقسيم الدخل القومي بين عوائد العمل ورأس المال الملازم لحرية سوق العمل.

3. لابد أيضا من خصخصة إدارة الخدمات الاجتماعية (التعليم والصحة وتوفير المياه والكهرباء والاسكان والنقل والمواصلات). فإذا كانت الدولة والهيئات المحلية قد وفرت هذه الخدمات في الماضي، فلا بد من التخلي عن هذا المبدأ العام. بحيث يصبح المستفيد من الخدمة هو الذي يتحمل ثمنها وليس المواطن المجهول من خلال الضرائب.

4. لا بد من تخفيف العبء الضريبي إلي الحد الأدني المطلوب لتغطية مسئوليات السيادة (الدفاع والأمن الداخلي) وأن تظل نسب الضرائب معتدلة بحيث لا تصبح عائقا في سبيل المبادرات الخاصة، وأن يُضمن لها عائد عادل تستحقه.

5. لا بد من تسليم إدارة الائتمان للمصالح الخاصة؛ وضمان التحرك الحر للعرض والطلب، ومن ثم تلاقيهما «الطبيعي» في سوق نقدي ومالي رشيد.

6. لا بد من ضمان التوازن في الموازنة العامة بحيث لا يحدث عجز عالٍ في ظروف عارضة ومؤقتة. فإذا كانت الدولة تعاني من عجز هيكلي موروث من ممارسات الماضي غير الصائبة فلا بد من القيام بالإصلاح المطلوب الذي من شأنه أن يخفف فورا عبء العجز. وإلي أن يتحقق هدف الإصلاح فلا مناص من أن تلجأ الدولة إلي الاقتراض بشرط أن تتوجه الدولة إلي الأسواق المالية الخاصة الوطنية والخارجية.

●●●

ويُنظر إلي هذه المبادئ الستة علي أنها تنطبق ليس فقط علي المستوى الوطني بل أيضا علي مستوي العلاقات الدولية والإقليمية (علي سبيل المثال في إطار الوحدة الأوروبية). فلا بد أن يتمتع رأس المال الخاص بالحرية في تعاملاته الدولية، وأن يُعامل المال الأجنبي علي قدم المساواة مع المال الوطني.

وتشكل هذه المبادئ معا جوهر مذهب الليبرالية (الأصولية). بيد أنني سوف أشير هنا إلي التناقض بين هذه المبادئ وواقع الأمور، وذلك ــ باختصار ــ لأن حرية الأسواق المعمَّمة لا تحقق توازنا بين العرض والطلب، وذلك حتي في الفرضية المتطرفة الخيالية بأن تسود الشفافية في معاملات السوق. يُضاف إلي ذلك أن النظرية الاقتصادية الليبرالية لم تبرهن بالدليل العلمي علي أن مثل هذا التوازن المتوقع حدوثه من شأنه أن يحقق أيضا الحل الأمثل اجتماعيا. وعلي خلاف كل هذه الأقوال فإن حرية الأسواق تئول فقط إلي انتقال النظام من وضع اختلالي إلي وضع اختلالي آخر دون أن تميل الحركة إلي انجاز التوازن المزعوم. ويرجع السبب في اتجاه هذه الحركة من اختلال إلي اختلال آخر إلي فعل صراع المصالح الاجتماعية والوطنية؛ وذلك هو العامل الذي يتجاهله المذهب الليبرالي. وبالمثل، فإن الفرضيات التي تقوم علي أساسها الطروحات الليبرالية تصف عالما خياليا لا علاقة له بالواقع القائم، وهو رأسمالية الاحتكارات المعممة.

وقد توصلت، بناء علي هذه الملاحظة، إلي الاستنتاج بأن الليبرالية نظام غير قابل للاستقرار، وأن انفجاره ــ الذي يتجلى في أزمة متفاقمة – كان متوقعا. وبالتالي فإن تطبيق مبادئ الليبرالية علي مجتمعات التخوم التي ترضي بالخضوع لها لن ينتج سوي قيام رأسمالية المحاسيب التي تلازم تكريس دولة كومبرادورية في خدمتها، ولن يُسمح بإقامة دولة وطنية تعمل من أجل تنمية اقتصادية واجتماعية قابلة للدوام. فلا بديل هنا لهذا النمط من رأسمالية المحاسيب التي يصاحبها نمطٌ من التنمية الرثة، ولا غير.وتجربة مصر شاهد علي ذلك.

ثانيا: رأسمالية المحاسيب ونمط التنمية الرثة في مصر (1970 ــ 2013)
سارت جميع الحكومات منذ تولي السادات زمام الحكم إلي يومنا هذا ــ أي في ظل رئاسة مرسى، وأيضا حكومة حازم الببلاوي ــ في تطبيق مبادئ الليبرالية، وذلك دون أدني تردد أو تشكيك في صوابها. والنتائج التي ترتبت علي ذلك واضحة في واقعنا المصري، وهي التالية:

1. قام السادات بتفكيك المشروع الناصري لإقامة دولة وطنية تنموية. وأعلن ذلك منذ بداية توليه السلطة، فصرح للمحاور الأمريكي أنه يسعي إلي رمي الناصرية والاشتراكية وكل الكلام الفارغ هذا في سلة المهملات، وطلب معونة أمريكا من أجل تحقيق هذا الهدف. وبالطبع وفرت الولايات المتحدة هذه المساعدة المطلوبة. وفي هذا الإطار تم «بيع» كثير من ممتلكات الدولة من مؤسسات صناعية ومالية وتجارية وأراض زراعية وصحراوية. ولكن، لصالح مَنْ تم هذا «البيع»؟ لقد كان لصالح «رجال أعمال» قريبين من السلطة: مثل كبار الضباط، وكبار الموظفين، وتجار أغنياء ــ ولاسيما هؤلاء التجار المنحازين للإخوان المسلمين الذين فتح السادات باب عودتهم من المنفي في الخليج (وقد عاد هؤلاء حاملين ثروات هائلة). كما تم جزء من هذا «البيع» لصالح عرب الخليج وشركات أجنبية أوروبية وأمريكية. ويُلاحظ أن الصفقات تمت بأسعار تافهة لا علاقة لها بالقيمة الحقيقية للأصول المعنية.

وهكذا تكونت طبقة جديدة من «الأغنياء» المصريين والعرب. وهذا النوع من التكوين الاجتماعي يستحق تماما ان يُطلق عليه اسم «رأسمالية المحاسيب». ويلي ذلك عدد من الملاحظات:

(أ) غيَّرت الملكيات المحوَّلة للقوات المسلحة تماما طابع المسئولية التي كانت تمارسها هذه القوات سابقا في إدارة بعض قطاعات المنظومة الانتاجية. فبينما كان الجيش الوطني في الماضي يدعم هذه المؤسسات (المصانع الحربية) بصفته مؤسسة تابعة للدولة، أصبحت الحقوق في الإدارة شيئا آخر تماما قائما علي تكريس حقوق الملكية الخاصة. كما أن بعض الضباط من ذوي المناصب العليا قد «اشتروا» ممتلكات أخرى، ولاسيما تجمعات تجارية وأراضٍ حضرية وتجمعات سكنية فخمة وقري سياحية.

(ب) يُلقي الرأي العام المصري علي هذه الممارسات صفة «الفساد»؛ الذي يمكن أن يُحل علي أرضية الأخلاق؛ مفترضا أن وجود نظام قضائي صالح هو الأداة القادرة علي التخفيف من الفساد. بل إن هناك أجنحة من اليسار تميِّز بين الرأسمالية المنتجة-المُرحَّب بها-والرأسمالية الطُفيلية المرفوضة. وهؤلاء جميعا لا يدركون أن رأسمالية التخوم في إطار سيادة الليبرالية لا يمكن أن تكون مختلفة عن نمط رأسمالية المحاسيب – فليست هذه الطبقة برجوازية في سبيل التكوين كما يزعم البنك الدولي؛ اذ إن ظهور هذه الطبقة يفترض وجود عامل دولة كومبرادورية في خدمتها.

(ج) تشكلت الثروات المصرية والعربية والأجنبية المذكورة من خلال تملك موجودات قائمة دون إضافة تُذكر لقدرة الاقتصاد الانتاجية. فالعملية انتهت إلي تكريس وضع مؤسسات احتكارية خاصة أصبحت تسيطر علي الاقتصاد المصري بعيدا عن خطاب المنافسة الشفافة!

ثم إن النصيب الأكبر من هذه الثروات يخص موجودات عقارية: (قري سياحية «مارينات»، مجمعات سكنية فاخرة محصنة وراء أسوار مغلقة علي نمط أمريكا اللاتينية، أراضٍ صحراوية مخصصة مبدئيا للتوسع الزراعي). بيد أن ملاك هذه الأراضي ينتظرون أن تقوم الدولة بالاستثمارات الضخمة المطلوبة لجعلها صالحة للمزارعة كي يبيعونها؛ دون أن تُخصم تكاليف الاستثمار من أرباحهم الخيالية المقبلة. فهي عملية مضاربة سهلة ليس إلا.

2. سعت الدولة إلي تدعيم الوضع الاحتكاري لرأسمالية المحاسيب من خلال إمدادها بالقروض المصرفية السهلة، حتي صارت هذه القروض-ومنها تلك التي استُخدمت لتوفير مال الشراء-تمتص معظم أموال البنوك، وذلك علي حساب تمويل صغار ومتوسطي المنتجين الحقيقيين.

3. تم تدعيم هذه المواقع الاحتكارية أيضا من خلال دعم مولته موازنة الدولة، وذلك بمبالغ ضخمة. ومن ذلك، علي سبيل المثال، الدعم المخصص لاستهلاك بعض الصناعات الكبرى (الصلب، الكيماويات، الأسمنت، الألومنيوم، الغزل والنسيج) من البترول والغاز والكهرباء. بيد أن «حرية الأسواق» أتاحت لهذه الصناعات أن ترفع أسعارها حتي تكون قريبة من أسعار المواد المستوردة البديلة. وبالتالي صار الدعم مصدرا لمزيد من الأرباح الخيالية. ويُلاحظ إذن أن منطق هذا الدعم لا علاقة له بما كانت عليه وظيفة الدعم سابقا، والذي استفاد منه القطاع العام في مقابل قبوله أسعارا منخفضة لصالح المستهلك.

4. عانت الأجور الحقيقية بالنسبة إلي أغلبية العمال والموظفين أصحاب الكفاءات المتوسطة من تدهور متواصل نتيجة حرية سوق العمل وقمع نشاط النقابات والعمل الجماعي، حتي أصبح مستوي هذه الأجور في مصر أدني مما هو عليه في بلاد ذات متوسط مماثل في الدخل القومي للفرد. وبمعني آخر فهناك تلازم بين ارتفاع الأرباح الاحتكارية من جانب وتواصل تفاقم الفقر من الجانب الآخر.

5. أدي النظام الضرائبي إلي تكريس التفاوت الاجتماعي، وذلك من خلال رفض مبدأ الضريبة التصاعدية. وظل العبء الضرائبي خفيفا بالنسبة إلي الاغنياء، حسبما يطالب البنك الدولي، دون اعتبار إلي أن التفاوت المعني تجلي في صعود الأرباح الاحتكارية لا غير.

6. لم تنتج مجموعة الممارسات الليبرالية المذكورة سوي معدل نمو معتدل-حوالي 3 بالمائة سنويا، وصاحبه بالتالي صعود البطالة. وإذا كان معدل النمو قد ارتفع عن هذا الحد الأدنى في بعض السنوات، فإن ذلك لم ينتج إلا عن التوسع في بعض الصناعات الاستخراجية (النفط)، أو نتيجة ظروف أتاحت رفع أسعار منتجات هذه الصناعات، أو ارتفاع إيرادات قناة السويس، أو توسع أنشطة السياحة، أو زيادة تحويلات العاملين في الخارج. أي أن ارتفاع معدل النمو أحيانا لم يكن ناتجا عن تقدم في القدرة الإنتاجية للاقتصاد.

7. كذلك لم تتح هذه السياسات تخفيف عجز الموازنة العامة وخفض عجز ميزان التجارة الخارجية، بل أدت إلي تدهور متواصل لقيمة الجنيه المصري، وفرضت استدانة صاعدة؛ وهو الأمر الذي أتاح لصندوق النقد الدولي فرصة فرض شروط قاسية لتنفيذ مبادئ الليبرالية.

برنامج فورى لمواجهة التدهور
أبدأ بالاعتراف بأن كاتب هذه السطور لم يقم بإبداع شخصي في طرح عناصر البرنامج التالي، بل اكتفي بجمع اقتراحات طرحتها مختلف الأطراف المكونة للحركة الثورية في مصر. وفيما يلي أهم البنود التي تشكل هذا البرنامج المحتمل:

1. لابد من إعادة النظر في صفقات بيع موجودات الدولة. وهناك دراسات دقيقة ــ من مستوي «لاوديت» ــ تتيح تحديد القيمة الحقيقية لهذه الأصول. وبما أن المشترين لم يدفعوا هذا الثمن، فلابد من تحويل الملكية المعنية إلي كيان جديد (شركة) يحدد رأسماله بقيمة الموجودات الصحيحة، وأن يكون المشتري صاحب حصة من رأس المال هذا تعادل ما دفعه، بينما يكون الباقي ملكا للدولة، وأن يكون للدولة حق عرض حصتها للبيع بثمنها الحقيقي. ولابد أن ينطبق هذا المبدأ علي جميع المشترين المصريين والعرب والأجانب.

2. لابد من تحديد حد أدني للأجور بحكم القانون، ومستواه المقترح هو 1200 جنيه شهرياً (ما يعادل حوالي 155 يورو بسعر الصرف الجاري أو 400 يورو حسب القيمة الشرائية)، علما بأن هذا المستوي قد حُدد في مارس 2012. ويُلاحظ أن هذا الحد الأدنى يقل عما هو عليه في بلدان أخري متماثلة في مستوي دخل الفرد. ويجب أن يكون الحد الأدنى المقرر قابلاً للتعديل بالموازاة مع تطور الأسعار (نظام السلم المتحرك)، وأن تشارك النقابات جهاز الدولة المسئول عن تنفيذه في جميع قطاعات النشاط الخاص والحكومي. وقد أثبتت دراسات دقيقة أن الموقع الاحتكاري للأنشطة التي تسيطر علي الاقتصاد، والتي تستفيد من حرية تحديد الأسعار، قد أدي إلي تصاعد الأرباح الاحتكارية. وبالتالي، فإن رفع الأجور لن يؤثر في مستوي الربحية الطبيعية العادلة. كما أن رفع الدعم المشار إليه آنفاً، من جانب، وزيادة موارد الموازنة المتوقعة من خلال الإصلاح الضرائبي المقترح فيما بعد، من جانب آخر، من شأنه أن يعوض تكلفة رفع مرتبات موظفي الدولة.

وهناك اقتراح يلازم ويكمِّل تحديد الحد الأدنى للأجور، ألا وهو تحديد حد أقصي للأجور والمرتبات بحيث لا يزيد الحد الأقصى علي 15 ضعف الحد الأدنى.

3. لابد من فتح مفاوضات ثلاثية تجمع النقابات وأصحاب الأعمال والدولة من أجل التوصل إلي اتفاق علي مشروع قانون يخص حقوق العمال (شروط العمل والفصل، التأمينات الاجتماعية، المعاشات، الرعاية الصحية... وما إلي ذلك). ويبدأ الإصلاح باعتراف الدولة بحقوق النقابات المستقلة وبحق الإضراب. وهناك اقتراح مكمِّل يتعلق بمنح «معونة بقاء علي قيد الحياة» (وهي ليست بمستوي التعويض الذي يُمنح عادةً للعاطلين عن العمل) للعائلات التي تعاني من الفقر المدقع. وتُحدد شروط المنح وقيمتها ووسائل تمويلها من خلال مفاوضات بين النقابات والدولة.

4. لابد من إلغاء أشكال الدعم الممنوح للاحتكارات الخاصة. وهنا أيضاً تثبت الدراسات المتوفرة في هذا المجال عدم صلاحية هذا الدعم ما دامت المؤسسات المعنية تعمل في ظل حرية تحديد الأسعار.

5. لابد من القيام بإصلاح النظام الضرائبي علي أساس إدخال مبدأ التصاعدية؛ وتحديد معدل الضريبة علي أرباح المؤسسات الإنتاجية (شركات ومؤسسات فردية تستخدم أكثر من 20 عاملاً). والمقترح هنا نسبة 25 بالمائة، هذا إلي جانب إلغاء الإعفاءات التي منحتها الدولة لصالح الاحتكارات العربية والأجنبية. وجدير بالذكر أن عبء الضريبة المفروضة علي المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هو حالياً أثقل (نعم أثقل) في كثير من الأحيان. ولذلك، فلابد من تخفيفه.

وفيما يتعلق بمعدل الضريبة علي الشريحة الأعلى من دخل الأفراد ــ والمقترح بهذا الصدد هو نسبة 35 بالمائة ــ فالملاحظ أنه أخف ما هو عليه في المقارنات الدولية.

6. أثبتت الدراسة أن مجموعة الاقتراحات المطروحة هنا تضمن إنجاز التوازن في الموازنة العامة. فسوف يحقق تنفيذها التخلص من العجز الجاري (في السنتين 2009 و2012)، بل وتكفل تحقيق فائض ملحوظ يمكن تخصيصه لرفع مستوي الإنفاق علي التعليم والصحة ودعم الإسكان الشعبي، وتجدر الإشارة إلي أن إعادة بناء قطاع حكومي في مجال توفير الخدمات لا تستلزم اتخاذ إجراءات تعوق استمرار عمل الأنشطة الخاصة في هذه المجالات.

7. لابد من العودة إلي وضع الائتمان تحت رقابة البنك المركزي، فلابد من التخلي عن المغالاة في تقديم القروض السهلة للاحتكارات، وإعادة توجيه القروض المصرفية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة النشطة. وقد أثبتت دراسات دقيقة في هذا المجال أن هناك وسائل لتشجيع إنتاج القطاعات الحرفية والصناعة والنقل والخدمات إذا توافرت لها القروض اللازمة. ويتيح هذا للكثيرين، وخاصة في صفوف الشباب المتعلم والعاطل حالياً، القدرة علي خلق وظائف عمل لهم ولغيرهم.

8. ينظر البرنامج أيضاً في مطالب صغار الفلاحين، وإن كان ذلك دون الدخول في التفاصيل. وجدير بالذكر أن هذا النقص يرجع لتفتت حركة صغار الفلاحين، حيث مازالت حركة الاحتجاج إلي الآن حضرية أكثر منها ريفية. وبهذا الصدد هناك اقتراحاً أولياً مفاده إصدار قانون يمنع (مؤقتاً) نزع ملكية صغار الفلاحين الذين يواجهون صعوبات في دفع إيجار الأراضي. بالإضافة إلي اقتراح مكمل يسعي إلي العودة لقانون تحديد الإيجارات، وهو قانون أُلغي في عهد السادات ولايزال ملغياً إلي الآن. كذلك هناك تكتلات من مهندسين زراعيين تقدميين طرحوا مشروعات مدروسة لإحياء إنتاج صغار الفلاحين بوسائل مختلفة، منها إصلاح نظام الري (الري بالتنقيط)، وتشجيع الزراعة الكثيفة لمنتجات ذات قيمة عالية (خضراوات وفواكه)، وتأطير أسعار المدخلات (أسمدة وكيماويات) بالرقابة الحكومية (علي أن تشترك الجمعيات التعاونية في متابعة التنفيذ)، وتدعيم موقع الفلاحين في مجال تسويق إنتاجهم من خلال إقامة جمعيات تعاونية حرة وصحيحة ... وما إلي ذلك. ولا جدال في أن نجاح مثل هذا البرنامج يتطلب تدعيم العلاقات العضوية بين منظمات الفلاحين من جانب وتكتلات المهندسين الزراعيين من جانب آخر، كما أنه يفترض إصدار قانون يعترف بشرعية تكوين منظمات الفلاحين.

9. من شأن تنفيذ الاقتراحات المذكورة أن يدفع في اتجاه تنمية اقتصادية صحيحة. ويزعم أعداء هذا البرنامج من أنصار الليبرالية المتطرفة أنه برنامج يغلق الأبواب لمشاركة الأموال الأجنبية في التنمية. وهذا القول فاسد وينكره واقع التطورات الحديثة في الاقتصاد العالمي. فقد أثبتت التجربة أن الدول التي رحبت بالمبادئ الليبرالية دون تحفظ، وتنازلت عن أي برنامج تنموي وطني لصالح الاعتماد علي فعل «حرية الأسواق»، لم تنجح في جذب الأموال الخارجية. وفي هذه الأحوال، اكتفي رأس المال الأجنبي بغزو الموارد الطبيعية المحلية ولا غير. وفي المقابل نجد أن الدول التي طورت مشروعاً تنموياً وطنياً مستقلاً (مثل الصين) هي التي جذبت الأموال الخارجية التي وجدت في هذا الإطار فرصاً حقيقية للعمل والكسب، فقبلت الشروط التي تفرضها الدولة الوطنية والتي تضع حدوداً لأرباحها، ومن ثم اكتفي رأس المال الأجنبي بمعدل ربح طبيعي ومعقول.

10. دلت ممارسات الحكومات المتعاقبة بعد الثورة 25 يناير وحتي الآن- وبالأخص حكومة الإخوان المسلمين-علي تمسكها بالمبادئ الليبرالية المتطرفة، بل أبدت جميعها نيتها في الإسراع بتنفيذ برنامج «البنك الدولي». ولهذا دلالته المهمة ففي الحقيقة كل هذه الحكومات هي تنويعات مختلفة لنفس نظام مبارك. فدولة مابعد الثورة ظلت هي نفس الدولة الكمبرادورية التي تعبر عن مصالح رأسمالية المحاسيب. والوعي الشعبي يدرك ذلك كما تشهد عليه الشعارات المكتوبة علي جدران القاهرة والقائلة: «الثورة لم تغيِّر النظام ولكنها غيَّرت الشعب».

11. ومن المهم الاشارة إلي أن البرنامج المذكور عاليه يخص فقط الجانب الاقتصادي والاجتماعي للتحدي. بيد أن الحركة الثورية حاملة لمشروع وطني ديمقراطي له أبعاده السياسية التي تطالب بإقامة «دولة المواطنة»، واحترام الحقوق الديمقراطية الفردية والجماعية، وتكريس السيادة الوطنية في مواجهة مشروع الإخوان المتمثل في «دولة الجماعة الإسلامية». وأن كان هذا المشروع لم يتبلور بعد في رؤية متماسكة. وهو ما يفسر رفض الجماهير الثائرة بوعيها التاريخي، المرة تلو الأخرى للنخب الحاكمة المعبرة عن مصالح متشابكة لرجال الأعمال، والأمريكان، ودول الخليج. ولن تهدأ ثورة الجماهير إلا اذا جاء في الحكم من يمثلها ويطرح مشروعها هى، التي عبرت عن خطوطه العريضة، ببساطة ووعي عميق في الشعار الذي أطلقته «عيش، حرية، عدالة اجتماعية.»

•••

أين تقف الحكومة الحالية من هذا؟ للأسف لم تخرج بعد عن إطار الليبرالية الفجة المناهضة للنهضة. وكأنها لا تدرك أن هناك بديلا. إن تحقيق أهداف الثورة (العدالة الاجتماعية، الكرامة الوطنية، احترام حقوق المواطنين الديمقراطية) يقتضي إدراك وجوب الخروج من المأزق المزدوج الوجه، أي مأزق الليبرالية الاقتصادية المنفلتة والخضوع للإملاءات الأمريكية. علما بأن وجهي التحدي لا ينفصلان. فعلي العناصر الفاعلة في حركة الثورة أن تدرك ذلك، وأن تجعل الحكومة والمؤسسة العسكرية تعمل طبقا لما يقتضيه ذلك البرنامج.

 

خبير اقتصادي ورئيس المنتدي العالمي للبدائل بداكار