روائيون ورحالة بأصوات متعددة

في ندوة علمية بالدار البيضاء حول الحسن الوزان وابن عثمان المكناسي

علاء نعماني

 

حول موضوع : (الأدب والتاريخ :نصوص بقراءات متعددة)،التام عدد من الباحثين من حقول معرفية مختلفة تنتمي،إجمالا، إلى الأدب والتاريخ، في يوم دراسي بكلية الأدب بنمسيك – الدار البيضاء، يوم الثلاثاء 29 ماي 2007 بقاعة الاجتماعات ،حيث يعتبر هذا اللقاء الحلقة الثانية في الموضوع، والذي يستهدف استجلاء نصوص ثقافية من الأدب والتاريخ من خلال قراءتين: أدبية وتاريخية للنص الواحد، لنقاد ومؤرخين. وهو انشغال يأتي في سياق ما ميز القرن العشرين من انفتاح الحقول المعرفية المرتبطة بالعلوم والإنسانية والاجتماعية والأدبية على بعضها، ما حذا بها إلى الاستفادة من مناهج بعضها البعض، بل ومن استعمال نفس النصوص والمتون في إطار دراساتها. إذ أصبحت النصوص السردية و نصوص الرحلات وعدد من التآليف التاريخية حقولا مشتركة بين الدرس الأدبي والدرس التاريخي. حيث أن الرصيد المعرفي لمدرسة الحوليات قد جعل من النص الأدبي والروائي شاهدا في المقاربة والتحليل. وعلى نفس النهج سار كثير من المؤرخين المغاربة الذين وجدوا في النصوص الأدبية والروائية والرحلات إشارات مســتفيضة حول قضايا أصبحت محورية في حقل الدراسات التاريخية كالمتخيل والعقليات والتاريخ الكلي والديمغرافية التاريخية.

روايات تفند التاريخ

انطلقت الجلسة الصباحية الأولى برئاسة محمد الفلاح العلوي الذي قدم لهذا اللقاء بورقة تمهيدية،ثم تدخلت فتيحة بناني (أستاذة الأدب الفرنسي بآداب بنمسيك- الدار البيضاء ) في موضوع إستراتيجية السرد بين الحقيقة الروائية والوهم التاريخي،مقترحة تحليلا سرديا شمل عددا من المكونات البنائية لنص الرواية من رؤية منهجية موسعة.كما قاربت البعد التاريخي والمحتمل موظفة مفهوم التخييل الذاتي لإدراك كنه الرواية الدلالي والشكلي واستيحاءاتهما.

محمد جادور (أستاذ التاريخ الحديث بآداب بنمسيك) أعاد قراءة الرواية مستنتجا أن سالم حميش قدم ابن خلدون من خلال الصورة التي أرادها لنفسه. وحلل الباحث بعد ذلك الرواية انطلاقا من سؤال جوهري، هو كيفية استخلاص الدروس التاريخية...لتتناسل أسئلة أخرى في نفس السياق..وليخلص إلى تقديم ملاحظات المؤرخ حول نص تخييلي يوظف التاريخ بمرجعيات معينة وتقديمها بطريقة فنية. واعتبر الباحث بان سالم حميش ظل محكوما بتوجهه الفلسفي / المفاهيمي في الكتابة الروائية واستطاع التعبير من خلال ابن خلدون عن ذاكرة نخبة في تلك المرحلة.

أما مداخلة عبد اللطيف محفوظ (أستاذ السميائيات والسرد بآداب بنمسيك – الدار البيضاء) الموسومة ب " تمظهرات المعنى في " جارات أبي موسى "فقد تشكلت من تقديم حول علاقة الكتابة التاريخية بالرواية التاريخية، وفي هذا الصدد قدم التقسيمات الأساسية التي حددها هيكل، والتي هي التاريخ الأصلي والتاريخ النظري والتاريخ الفلسفي، وفد وضح كيف أن رواية جارات أبي موسى، تتماس مع أشكال الكتابة الثلاثة، رغم أنها تبدو من حيث المسافة الفارقة بين زمن الكتابة وزمن الحكاية المحايثة للرواية، أقرب إلى التاريخ النظري. وبعد أن وضح أساس العلاقات الأخرى، انطلاقا من أدلة مستنتجة بفضل القراءة التداولية التي توسلها في هذه المداخلة، ومؤكدا على أن الخطاب التاريخي يقبل الخضوع للتقييم الحقائقي بينما يقبل الخطاب الروائي التقييم الأيديولوجي فقط، وذلك بسبب خضوع الأول لثنائية البث الحقائقي (الصدق والكذب) قياسا إلى ما يفترض أنه واقعي، وعدم خضوع الثاني لهذه الثنائية. انتقل إلى تحليل الرواية التي قاربها انطلاقا من خمسة مستويات متدرجة أكد أنها، في تظافرها، تشيد البعد المعنوي لرواية "جارات أبي موسى". وهي تباعا :

1-     العالم الممكن للرواية والوهم المرجعي، وقد عالج >لك انطلاقا من تتبع الدلالات الخفية جاعلا منها مؤشرات على التاريخ المغرب، ليستنتج أن الحكاية تعود إلى نهاية عهد السلطان المريني أبو الحسن علي وعهد ابنه أبي عنان فارس، محددا حاضر الرواية بين 1351 و1357، مؤكدا أن الرواية تقتطع حكايتها من الحياة العامة للرعية بمدينة سلا آنذاك.

2-     بناء المعنى في جارات أبي موسى: وقد عالج فيه المحفزات السردية التي تشكل مولدا لحركية وتنامي السرد، ولاحظ أن كل المولدات ترتبط بمحفز سردي أساسي يتمثل في المكيدة والدسيسة.

3-     تعارض السلط: وعالج فيه نوع الصراع السردي بين ممثل السلطة عامل سلا جرمون، ورموز النقاء الاجتماعي الممثلين بنقيب السرفاء والزاهد أبي موسى

 4ـ صورة السارد: وحدد فيها خصوصيات السارد من حيث المستوى والعلاقة بالحكاية.

 5 – علاقة الرواية بالراهن: وقد خصصه لتأويل الرواية بالنظر إلى دوافع التوفيق في الزمن الحالي للكتابة عن تلك الحقبة بالذات. ليخلص في الأخير إلى ذكر أهمية الرواية وفي سياق تطور الرواية التاريخية بالمغرب والعالم العربي.

أنا الحسن الوزان!

في الجلسة الزوالية تدخل عبد المجيد القدوري( أستاذ التاريخ- عميد الكلية)مفتتحا الحديث عن مؤلف (وصف افريقيا ) للحسن الوزان منطلقا من سؤال العلاقة بين الأدب والتاريخ، والتمييز بينهما، إذ أكد أن الأدب إبداع يستعمل الخيال من أجل المستقبل، بهدف تحقيق المتعة، ويسعى إلى الكونية. في حين أن التاريخ استحضار للماضي انطلاقا من هموم الحاضر انطلاقا من إشكال موجه. ثم بعد ذلك، سلط الأضواء على شخصية الحسن الوزان، في ارتباط بالسياق التاريخي للبحر البيض المتوسط، ومكانته العلمية ورحلاته وانتقالاته، وكيف تم أسره وظروف تأليفه لكتاب وصف إفريقيا. وفي جوابه عن سؤال كيف نتعامل مع كتاب وصف إفريقيا باعتباره مصدرا للتاريخ؟ طرح مشكلة الترجمة، هل نتعامل مع الأصل أم الترجمة؟ ثم أشار إلى اهتمامات المؤرخين والدارسين الغربيين بالكتاب الذي مازال يثير الكثير من التساؤلات. ثم في الأخير قام بدراسة تطبيقية لطريقة تعامل المؤرخ مع نص من نصوص الكتاب والذي تحدث فيه عن مدينة تيدسي. وأكد أن النص يبرز طبيعة الأنشطة الاقتصادية والعلمية وطبيعة النظام السياسي الذي كان معمولا به في المنطقة.

في الورقة التي قدمها شعيب حليفي (أستاذ السرد والمناهج آداب بنمسيك – الدار البيضاء)حول الحسن الوزان ومؤلفه وصف إفريقيا،قدم لموضوعه بأهم البحوث الحديثة التي سعت لتقديم رؤى نقدية حديثة تهم الحسن الوزان الباحثة الأمريكية نتالي زيمون دايفز والباحثة المغربية أم المؤمنين زهيري بالإضافة إلى أبحاث ماسينيون والحجوي وحجي وغيرهم.

بعد ذلك اشتغل شعيب حليفي على محورين اثنين: الأول بسط خلاله المنظور الثقافي لقراءة الوزان وخطابه الثقافي،وقد اتخذ شكل التأريخ والمعطيات الجغرافية، فالمؤلف هو نتاج مراحل وسياق وتيارات مختلفة ومتناقضة وملتبسة في لحظة تحولات كبرى وحاسمة.فما هو خاص تشكله غرناطة وفاس ثم روما بيناعماه في التجارة والديبلوماسية ثم العلم والتأليف. أما ما هو خاص فقد سعى شعيب حليفي إلى رصد الملامح الكبرى لأسئلة التحول، فبحث في ما شكل هذه المعطيات خلال نصف قرن، عاش فيه الوزان حياته بكل تقلباتها وعطاءاتها، فعلى المستوى الثقافي نهاية عصر الملحمة وبداية ملامح الرواية مع لازرودي تورميس، وتيل الألمانية ودون كيخوتي، أما المستوى الديني فقد كان لاستعادة الأندلس وغرناطة فرصة لصحوة المسيحية وحملات التنصير وما صاحب ذلك من دخول البرتغال إلى بعض مدن المغرب، وسط سيادة أشكال ومفاهيم ثقافية كانت أوربا قد بلورتها منذ القرن الرابع عشر. وهذه المعطيات متصلة بعلوم جديدة واكتشافات وكتابات ترسم نسيج التحولات. المحور الثاني بحث فيه الباحث عن الرؤية في (وصف إفريقيا) منطلقا من الأسئلة التالية:

كيف يمكن للوصف أن يكون وسيلة للانتقال إلى بناء تقييمات ومعرفة علمية موازية لأشكال التفكير الموجودة والمشبعة بطموح التحولات والاكتشافات وتجاوز المعارف القديمة؟. وفي تحليله للمؤلف الذي هو مغامرة في الشكل ودلالات المقدمة، اعتبر شعيب حليفي نص (وصف إفريقيا) نصا ثقافيا مغامرا ساهم في تحويل المعرفة حول إفريقيا في أوربا خلال حوالي أربعة قرون.

الكتاب الثاني موضوع الدراسة هو رحلة البدر السافر لابن عثمان المكناسي.وقد تدخلت ليلى مزيان (أستاذة التاريخ بآدآب بنمسيك) بالحديث عن عمل المحققة ومنهجها في التحقيق وتبويب الكتاب والوثائق المعتمدة، وأكدت أن المحققة وفقت في دراستها التي أحاطت بظروف السفارة والأوضاع الجيوسياسية لحوض البحر البيض المتوسط. ثم قدمت نظرة شاملة عن ظروف الكتاب، من خلال انتعاش الحركة الديبلوماسية في عصر سيدي محمد بن عبد الله، والسعي إلى الصلح من خلال بعثات افتكاك الأسرى. كما ركزت على قضايا الرحلة، إذ أكدت أن ابن عثمان صرح بمهام السفارة، والتي تتمثل في إبرام الصلح مع مملكة نابولي، وتركيزه على بعض المظاهر الحضارية، وإعجابه ببعضها، وإشارته إلى اماكن الترفيه. كما لا يتردد في انتقاد ما لا براه موافقا لمنطلقاته وثقافته. أكدت في الختام على أن رحلة ابن عثمان تعكس روح عصر محمد بن عبد الله، الذي يتميز بتقنين القرصنة وتعزيز العلاقات الديبلوماسية

في ورقة هشام زين العابدين( أستاذ الأدب الايطالي – بنمسيك الدار البيضاء) حول البدر السافر لابن عثمان المكناسي: بين الوثيقة و المؤلف الأدبي،اعتبر في البداية بان لا أحد يمكنه أن ينفي كون الأدب و المؤلفات الأدبية كانت دائما تعتبر مصادر تاريخية مهمة. لدرجة أن العديد من المهتمين و الباحثين يستخدمون و يستفيدون من الأدب و من المؤلفات الأدبية في بحثهم عن الحقائق التاريخية للعصور و الحقب التي كتبت أو ألفت فيها. صحيح أيضا أن الأدب لا يمكنه أن يؤخذ كمرآة تعكس المجتمع بصورة حقيقية و لكن إذا ما دققنا بمقاييس و مناهج البحث التاريخي يمكن أن نحوله إلى أرشيف غني بإمكانه تقريبنا من المجتمعات التي نشأ فيها. و هذا يعني أن العالم الحقيقي هو الرحم الذي تمخض منه هذا الأدب. و من بين الأشكال الأدبية التي نقلت لنا هذا الواقع الذي تمخضت عنه هو أدب السفر أو أدب الرحلة. وفي ما يخص السفر أو الرحلة في القرن الثامن عشرأشار زين العابدين إلى تاريخين مهمين لفهم التطور التدريجي لأدب السفر أو الرحلة خصوصا في أوروبا، فهناك يوميات سفر إلى ايطاليا لميشيل دي مونتانين و السفر العاطفي القصير للورانس ستيرن 1768. النص الأول دشن لفكرة السفر ذو الأهداف المتعددة و منها رؤية الملامح و الخصائص الطبيعية و السياحية المميزة للأماكن التي يمر منها الكاتب المسافر، أهداف سياسية، اجتماعية و ثقافية مع الميل اتجاه توحيد الأهداف المختلفة للسفر التي كانت تبرر في الماضي تحركات أو سفريات التجار و الحجيج و طالبي المعرفة و الموظفين. أما النص الثاني فهو يقترح محاكاة ساخرة للسفر و لقوانينه، مُمَكِّنا في الوقت ذاته من جعل السفر،نفسه،هدفا ساخرا مُمْكنا. و في السياق ذاته – يضيف الباحث – بان خصائص الرحلة الكبيرة تكمن في كون الإنسان يسافر لكي يتعلم، لكي يعرف أقواما آخرين و لكي يعمق معارفه الثقافية التي اكتسبها، اما من خلال الدراسة أو التجارب التي عاشها. بمعنى آخر كان للسفر هدفا ديداكتيكيا و تكوينيا بطريقة عملية تبنى على التجربة الفعلية المعيشة. وفي محور آخر، قدم زين العابدين قراءته للبدر السافر لهداية المسافر إلى فكاك الأسارى من يد العدو الكافر لمحمد بن عثمان المكناسي ليرى كيف أن المؤلَّف ٬ الذي هو إبداع فني احترم خصائص الكتابة الأدبية الخاصة بأدب الرحلة، هو وثيقة ديداكتيكية بامتياز تقرب القارئ من عدة معطيات و حقائق تاريخية خاصة بمجتمعات، عادات و تقاليد إلى غير ذلك من المعطيات الاقتصادية و الجغرافية التي يزخر بها هذا الكتاب و التي اكتسبها ابن عثمان من خلال رحلته.

وقد اختتم هذا اللقاء بمناقشات أبانت عن ضرورة فتح ورشات أخرى للقاءات مقبلة.وهو ما أكدت عليه التوصيات.

نظم هذا اللقاء من طرف مختبر المغرب والعوالم الغربية: التاريخ والعلوم الإنسانية والاجتماعية، ومختبر السرديات،و ورشة الآداب العالمية،والجمعية المغربية للتنسيق بين الباحثين في الاداب المغاربية والمقارنة بكلية الاداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء.