يبلورالناقد الفلسطيني هنا أطروحة متكاملة وبالغة الأهمية عن مسيرة الرواية العربية من استشراف المستقبل عبر صبي واعد، إلى استبدال الهزيمة به إنسانا معوقا، وصولا إلى آليات نقض البنية الروائية للهزيمة.

النقد الذاتي بعد الهزيمة: راهنية الكتاب النقدي وراهن الهزيمة

فيصل درّاج

 

 

قبل أربعين عاماً عاش العالم العربي هزيمته الكبري في القرن العشرين، التي استأنفت ـ في شروط مغايرة ـ هزيمة محمد علي باشا في القرن التاسع عشر. أراد صادق العظم، في كتابه (النقد الذاتي بعد الهزيمة)، أن يحلّل أسباب الهزيمة، وأن يقترح، نظرياً، ما يردّ عليها، قبل أن يدرك، مثل كثير غيره، أنّها هزيمة متوالدة، لا تصدر عن مؤامرات خارجية ، بل عن عجز عربي مقيم، تتوازعه الشعوب والسلطات معاً. وهذه الهزيمة المتوالدة، التي تردّ علي كل هزيمة بهزيمة جديدة، هي التي تجعل كتاب صادق جلال العظم يحتفظ براهنيته، وإنْ كانت تحوّلات الهزيمة إلي ظاهرة طبيعية، تقضي بطرح أسئلة جديدة. ينطوي هذا الكتاب، الذي تأمل هزيمة الخامس من حزيران (يونيو) عام 1967، علي شهادات ثلاث: شهادة أولي علي نبل الفكر النقدي واغترابه، وشهادة ثانية علي بنية اجتماعية عربية محكومة بركود يتاخم الاستنقاع، وشهادة ثالثة علي مآل قضية فلسطينية، عُرفت بقضية العرب الكبري ، ذات مرّة. وسواء كانت هذه الشهادات الثلاث منقوصة، أو غير منقوصة، فإنّها تشير إلي واقع عربي جدير بالرثاء، أعطاه الاقتصادي المصري فوزي منصور، قبل سنوات، صفة محدّدة هي: (خروج العرب من التاريخ)

ينتمي صادق العظم إلي عقول عربية قليلة حوّلت الثقافة إلي مداخلة نقدية، تتعامل مع القضايا الاجتماعية ـ الوطنية المعيشة، بعيداً عن التجريد المدرسي، وبعيداً أكثر عن أوهام الأصالة و فضائل الخصوصية ذلك أنّه أدرك أن العالم العربي يعيش، شاء أم أبي، في زمن كوني، وأنّ الزمن الأخير يقارن بين منجزات شعب وآخر، دون أن يلتفت إلي أمجاد قديمة ، حقيقية كانت أو متوهّمة. تتكئ المقارنة النقدية، التي مارسها الفيلسوف التربوي، علي عقل برهاني يعتمد المقارنة، مؤكداً أنّ جدارة كل مجتمع تقاس بجدارة مجتمع آخر، لأنّ المجتمعات الإنسانية لا توجد فرادي. وهذا التصوّر، الذي لا يتوقف كثيراً أمام العنصرية الصهيونية وآلة الحرب الإسرائيلية القاتلة، فهي أمور لها شكل البداهة، هو الذي يأمر العقل النقدي بالمقارنة بين مجتمع استيطاني حديث ومجتمع عربي ينوي التحرير ، مكتفياً بالتقليد وإعادة إنتاج التقاليد. اعتماداً علي مبادئ العقل النقدي، تأمل صادق العظم أسباب هزيمة حزيران (يونيو)، ونقد، لاحقاً، الممارسة والنظرية في المقاومة الفلسطينية، وقارب الحقبة الساداتية ، وأعطي رأياً في علاقات المعتقد الديني بالمتخيّل الروائي، وساجل وحاور قدر ما استطاع. كان فيما ذهب إليه، مصيباً كان أو محدود الإصابة، واضحاً، لا يعرف التلعثم و المجاملات النظرية متسقاً، لا يميل إلي المواقف الموسمية. أراد في مساهماته النظرية ـ السياسية أن يكون مثقفاً حديثاً، يربط بين المعرفة الأكاديمية وأسئلة الحياة، وأن ينظر إلي أفق مجتمعي مغاير، ينقض القديم بالجديد، ويواجه استبداد العادات المتوارثة بيقظة العقل المتجدّدة. مارس نقده حرّاً، رافضاً تبرير الهزائم القاتلة باسم شعارات مستقبلية، ورافضاً أكثر وضع مسؤولية الإنسان خارجه، ذلك أنّ المستقبل محصلة لتصرّف الإنسان بالحاضر. بل انّ الحاضر المعيش هو الزمن الجوهري الوحيد، فهو ما انتهي إليه الماضي وهو الذي يتخلّق فيه المستقبل. وكشف في ممارساته النقدية الحرّة عن العلاقة الوثقي بين العقل والحريّة، لأنّ العقل يتكوّن في حرية الرفض والقبول والاختبار، منتقلاً ممّا يعرف إلي ما لا يعرف، علي مسافة شاسعة عن عقل متكوّن مستقر، قطع معه صادق العظم قطيعة كاملة.

ومع أنّ العقل الإطلاقي المتكلّس، الذي يرتضي بالعادة ويقدّسها، يستطيع أن يغدق علي العظم صفات التطاول والمروق والعبث بما لا يجوز العبث به، فإنّ البرهان الجلي علي ما قال به قائم، إلي حدود الفضيحة، في واقع عربي متداع، يعيد إنتاج بؤسه، محقِّقاً ما يُدعي اليوم بـ الاستثنائية العربية ، أي تفرّد المجتمعات العربية برفض قواعد الحياة الديمقراطية. وواقع الأمر أنّ هذا التفرّد الذي لا يقبل به الحس الإنساني السليم، هو الذي صيّر كلّ معركة عربية هزيمةً، وكل هزيمة مقدّمة أكيدة لهزيمة لاحقة.

في مطلع القرن العشرين، عام 1906 تحديداً، أصدر نجيب عزوري كتاباً، حظي ببعض الشهرة عنوانه: (يقظة الأمّة العربية) فسّر الكاتب الذي كان صحافياً نشيطاً، رثاثة الوضع العربي بالسيطرة العثمانية، مؤمناً بأنّ التحرّر من هذه السيطرة مدخل إلي زمن ذهبي جديد، يعيد للأمّة مجدها الغابر، ويتيح لها أن تلحق هزيمة كاسحة أكيدة بمشروع جهنمي قادم هو: المشروع الصهيوني. رحل العثمانيون وازداد الوضع العربي تداعياً، إلي أن جاء قسطنطين زريق، في أوائل العقد الخامس من القرن الماضي، ووضع كتابه (في الفكر القومي)، معتبراً أنّ أفق العالم العربي السويّ مرتبط بمشروع قومي عربي متبلور. وما أن جاء سقوط فلسطين ـ 1948 ـ حتي رُحّلت المسؤولية إلي التجزئة العربية و الأنظمة المتواطئة ، التي أسقطتها، سريعاً، حركة شعبية، جاءت بأنظمة وعدت بالقضاء علي التخلّف والتجزئة وجعلت من استعادة فلسطين قضية العرب الكبري في كل مكان. أما الاختبار الأعظم لـ جوهر العروبة، فأتي مع هزيمة حزيران (يونيو)، التي أعطت القضية الكبري، في أطوار متراجعة متتابعة، مسميّات متلاحقة: الصراع العربي ـ الإمبريالي، الصراع العربي ـ الصهيوني، الصراع العربي ـ الإسرائيلي، الصراع الفلسطيني والإسرائيلي، وصولاً إلي اتفاق أوسلو ، الذي اختزل فلسطين التاريخية إلي جملة سجون صغيرة متجاورة. والواضح في هذا كلّه أمران: تجدّد الهزائم في شروط اجتماعية ـ سلطوية مختلفة، وإعادة إنتاج علاقات التخلّف بشكل متجدّد، بما يسمح بهزائم متوالية، تخرج العرب من التاريخ .
نقد صادق العظم، في كتابه (النقد الذاتي بعد الهزيمة)، بنية اجتماعية عربية ثابتة في هزائمها: فهي مهزومة في الزمن العثماني، وهي مهزومة في فترة ما قبل الاستقلال، وهي مهزومة أكثر في زمن دولة الاستقلال، ولا ينفتح واقعها الراهن، إذا استمرّت الاستثنائية العربية، علي آفاق مختلفة. وبداهة، فمن السخف كل السخف أن يشتق العقلُ الهزيمة من الجوهر العربي، وأن يشتق هذا الجوهر من طبع أبدي مهزوم، ففي هذا ما يحوّل النصر والهزيمة إلي سؤال مستحيل، وما يحوّل النقد إلي أمرٍ نافل لا ضرورة له. مع ذلك فإنّ البحث عن محاصرة الهزيمة يقضي بالاعتراف الواضح بها، دون بلاغة أو تدليس، فمن أراد شيئاً عليه أن يعرف اسمه. ولعلّ مواجهة الزيف بالحقيقة، أي الاعتراف بالظواهر واضحة، إذ الهزيمة هي هزيمة وإذ النصر هو النصر، هي فضيلة كتاب صادق العظم الأولي، الذي يرسي النقد الواضح علي تصوّر لا يفصل بين الكلمات ومواضيعها. عالج العظم ظواهر السلب التي حايثت مجتمعاً متخلّفاً، بلغة معينة، أو وحدة الأيديولوجيا النظرية والأيديولوجيا العملية، بالمعني المجتمعي، بلغة أخري. توقف، بأسلوب سجالي، أمام خمس ظواهر أساسية: الجهل بالذات وبالآخر، أو الجهل بحقائق جملة الأطراف التي اندرجت، ذات يوم، في الصراع بين القوي الرجعية و القوي التقدّمية والتبرير، الذي يرحّل الوقائع عن مواقعها الحقيقية إلي مواقع وَهمية، بما يبرّئ العرب من المسؤولية، ويري في الهزيمة ظاهرة غير أخلاقية، أشرفت عليها قوي بعيدة عن الفضائل العربية. والتلفيق، الذي يجزّئ الوقائع وينسي أن يوحّد بينها، كأن يفصل البعض بين أسباب الهزيمة وممارسات السلطات الحاكمة، أو أن يقرأ معارك حديثة بمعايير منقطعة عن الزمن الحديث، أو أن يبحث عن معادلة مستحيلة، تشتق التكنولوجيا الحديثة من الفروسية العربية. وهناك تلك القَدَرية المتجدّدة، التي تذيب الوقائع اليومية في ثنائيات الكفر والإيمان، والرشاد والضلال، والرذيلة والفضيلة، كما لو كان أعداء الإسلام ينتصرون علي أعدائهم بالإيمان لا بغيره. وصولاً، طبعاً، إلي مواطن لا وجود له يمسح المصالح الوطنية بمصالحه العائلية والقبلية والطائفية، محوّلاً الوطن إلي مكان محايد، يتعرّف بالمصلحة ونقيض المصلحة، لا أكثر.
أراد صادق العظم، وهو يحلّل مظاهر السلب إثرْ هزيمة حزيران (يونيو)، أن يحلّل الظواهر الاجتماعية التي تقود لزوماً إلي الهزيمة، قبل زمن حزيران (يونيو) وبعده. فحلّل صادق، بهذا المعني، التخلّف، من حيث هو، قبل أن يحلّل مهدي عامل السياسات السلطوية، التي تؤمّن شروط تنمية التخلّف، وتقترح أسس علم تجديد الهزيمة، ذلك أن السلطة السياسية المسيطرة في العالم العربي استأثرت، منذ ولادة دولة الاستقلال بـ القرار الوطني محوّلة المجتمع إلي استطالة زائدة لا ضرورة لها والسؤال المشروع، بالتأكيد، هو التالي: ما الذي يجعل المثقّفين العرب، من نجيب عزوري إلي طه حسين، ومن قسطنطين زريق إلي ياسين الحافظ، ومن مهدي عامل إلي فوزي منصور وسعدالله ونوس، يواجهون مجتمعاً يجمع، بثبات، بين الهزيمة والتخلّف؟.
نقد صادق العظم، في كتابه، أفكاراً مختلفة، توزّعت علي اليمين واليسار مشيراً، بقدر، إلي فكر عربي شبه متجانس، يُغَلِّب المجرّد علي المشخص، ويحوّل تغيير الواقع إلي عملية تذهين فقيرة. ومع أنّ السلطة السياسية لم تأخذ في خطابه الموقع الذي ستأخذه، لاحقاً، في خطاب مهدي عامل، فقد أحال عليها في مواضيع مختلفة، تمس الإنتاج والسياسات التعليمية والوحدة المفترضة بين النظرية والممارسة. وواقع الأمر أنّ العظم، وهو الليبرالي الماركسي، لم يكن يؤمن بذلك الفصل الشكلاني بين اليمين و اليسار، ولا بتلك البلاغة العائمة عن التقدّم و التقدميين ، لأنّه كان، ولا يزال، يدافع عن إمكانيات الحداثة الاجتماعية، التي تمدّ الإنسان بمنظور حداثي للعالم. فالاستقلال في بلد متخلّف يلغي معني الاستقلال، مثلما أنّ الوعي المتخلّف يبدّد معني الأفكار المتقدّمة. هذا المنظور الحداثي، الذي يرفض اختصار الصراع مع إسرائيل إلي قاموس نفعي فقير، جعله، وهو يعالج هزيمة حزيران (يونيو)، يتحدّث عن تصوّر علماني للعالم، يحرّر العقل المحارب من الأساطير والخرافات والضمان المتعالي المجاني، وعن العلم كقوّة اجتماعية منتجة، وعن العقل المبادر الذي يختار حرّاً إجابات مطابقة، وعن تحرّر المرأة الذي هو شرط تحرّر المجتمع، وعن الإنتاج الوطني الذي لا يكون عقلانياً إلاّ إذا أخذ بمعايير عقلانية، دعي في هذه الأفكار إلي ثقافة حداثية، تنتج فرداً ينتمي إلي إمكانياته العقلية الحرّة، وإلي وطن لا يلتبس بالمراجع العضوية الفقيرة.

ولهذا يمكن أن يُقرأ الكتاب الذي نحن بصدده في مستويين: مستوي أول يحيل علي واقعة تاريخية أسبابها قابلة للتفسير، ومستوي ثان، أكثر عمقاً، يحيل علي ثقافة الحداثة الاجتماعية، التي تري إلي النظر في ممارسته، وإلي الخطاب في آثاره، وإلي العلم في تطبيقاته، وإلي العقل في اللغة التي يستعملها، وتري، تالياً، الهزيمة المتجدّدة في المراجع الثابتة التي تنتجها. كان سؤال صادق العظم، في كتاباته المختلفة، هو التالي: من أين يأتي التخلّف؟ وما هي الآثار الفاعلة الناتجة عن التخلّف؟ هذان هما السؤالان اللذان طرحهما صادق العظم، بشكل سجالي، منذ أكثر من أربعين عاماً حتّي اليوم.
في كتابه الصادر حديثاً: (الاغتراب في الثقافة العربية)، استأنف حليم بركات أسئلة صادق العظم في سياق آخر. درس الأخير أسباب الهزيمة في زمن بدت الهزيمة فيه قابلة للتجاوز، فلم تكن الأنظمة قد استقرّت في قرار العجز، ولم يكن الفضاء الشعبي قد سقط في شعبوية إيمانية تهجس بعذاب القبر، وترحّل أسئلة فلسطين إلي زمن غير منظور. ولم تكن فلسفة التقدّم قد تناثرت إلي أوصال ممزّقة صعبة التوحيد. رصد حليم بركات سيرورة الهزيمة الفاعلة منتهياً إلي مقولتين أساسيتين: الأولي منهما قال بها صادق العظم، تتمثّل بـ العائلة مرجعاً للفعل والنظر يحدّد معايير الفرد ومعني الوطن والأخلاق والفضيلة. أما الثانية، فهي تلك التي لم يتوقعها العظم ولا غيره، أي: العجز، الذي يضع أسئلة التاريخ في فضاء ويضع الإجابات العربية عنه في فضاء آخر، قصيّ وبعيد، كما لو كان من عالم آخر.
ومع أنّ في العالم العربي ما يوهم بحراك اجتماعي، أي بتمرّد علي العجز والهزيمة، فهذا الحراك هامشي فقير، بسبب تجانس المنظور السلطوي ومنظور الشعبوية القدرية اللذيْن يختلفان في المضمون ولا يختلفان في البنية. فالأول في معظم الحالات منهما قمعي وحيد الصوت لا يعترف بالآخر، والثاني إيماني يقيني يدّعي احتكار الحقيقة المطلقة. والغائب، في الحالين، هو الواقع المعيش الذي أدار صادق العظم حديثه حوله. وفي الحالات جميعاً أنتجت الهزيمة، في طورها الأول، أزمة اجتماعية، عثرت السلطات علي حلها في سياسات تفقر المجتمع وتدفنه، وعثر المجتمع المدفون علي حلها في ميتافيزيقا الخلاص النهائي، الذي يستدعي زمناً راشداً لا يعود، أو ينتظر حلاً مباركاً لن يأتي. وواقع الأمر أنّ صادق العظم وضع كتابه في زمن مأزوم يعلن، رغم ارتباكه، أنّ تجاوز الأزمة ممكن، لأنّ الشعور بالأزمة تعبير عن وجود حيّ وعن إرادة في الدفاع عن الحياة. بينما وضع حليم بركات كتابه في زمن موت الأزمة، أي موت المجتمع، فلا السلطات العربية قادرة علي تجديد ذاتها، بعد أن استقرّت في الاستثنائية ـ الفضيحة، ولا الجبرية المطلقة، المنتصرة شعبوياً، معنية بشؤون الأرض. والمتبقي الأخير، في الحالين، هو الخصوصية الشرقية، التي توزّع علي طرف إنساني الاستبداد والفساد والعجز والجهل والإفقار، وتوزّع علي طرف آخر، الديمقراطية والعلم والتقنية ودولة القانون وحقوق المواطنة.
إذا كان تحرير فلسطين فعلاً وطنياً ـ قومياً ينطوي، لزوماً، علي الحرية ، وإذا كان هذا الفعل لا يستوي إلاّ بمنظور حداثي لأنّ العدو الصهيوني يأخذ بأدوات حديثة، فما الذي يتبقّي من مشروع تحرير فلسطين في فضاء عربي لا يقبل بالحريّة، ولا يعترف بالحداثة الاجتماعية؟
لامس صادق العظم في كتابه موضوع حرب التحرير الشعبية، بلغة ليست من هذا الزمان، مؤكداً دور العقل والإرادة والحرية، الذي يصيّر غيابهما البندقية إلي شيء يحملها شيء آخر. فلا غرابة في زمن اتساع مملكة الأشياء أن تصبح فلسطين، تقريباً، شأناً فلسطينياً، وأن يتحوّل الصراع من أجل فلسطين، فلسطينياً، إلي صراع علي أشياء صغيرة أو كبيرة، مرجعها الأول هو: السلطة. فقد اختُزلت قضية فلسطين إلي السلطة السياسية الناطقة باسم فلسطين، وأصبح الصراع بين الفصائل صراعاً سلطوياً، وانتهت فلسطين إلي سلطات فلسطينية وهمية متصارعة، المقرّر الوحيد بشأنها هي سلطة التفوّق الإسرائيلي. من الطريف أن يعود القارئ العربي اليوم إلي الأدبيات العربية التي أعقبت سقوط فلسطين، وإلي تلك الأخري الموازية لها، بعد نكسة حزيران ، كي يتقرّي المسار المأساوي الذي حوّل قضية العرب الكبري إلي أمر يومي عارض أقرب إلي الابتذال. قال الأديب الفرنسي أندريه مالرو ذات مرّة: الإنسان محصّلة لجملة الأمور التي أنجزها !!
وقد يقال إنّ صادق العظم، كما حليم بركات، ربما، لا يتحدّث عن المقاومة. ولكن ما هي هذه المقاومة العجيبة إن لم تكن، بالمعني الحقيقي، هي ذلك الفعل النقدي المقاوم الذي يطمح، ولو بقدر، إلي مجتمع عربي يحترم الإنسان، الذي هو مبتدأ المقاومة وغايتها.

في كتابه (أقنعة الناصرية السبعة)، وهو كتاب تستثير موضوعيته الإعجاب، تحدّث الراحل لويس عوض عن مأساة جمال عبد الناصر، القائد القومي الصادق، الذي أراد تحرير فلسطين بـ جنود مقيّدين، ناسياً كما يقول الأدباء أن: السجناء لا يحاربون. ما قال به عوض هو ما قال به صادق العظم، وما قال به الطرفان مع حليم بركات قال به قسطنطين زريق. وسبق الجميع إلي القول طه حسين، الذي قال في كتابه مستقبل الثقافة في مصر: إنّ الاستعمار أهون شراً من بلد مستقل متخلّف. وبداهة فإنّ هذه المواقف المقاوِمة المختلفة تنتمي إلي حيّز يدعي بالثقافة، التي يحوّلها غياب الديمقراطية إلي فعل مغترب، يتوارثه كل مثقف وطني عن مثقف مغترب سبقه.
لا يزال كتاب النقد الذاتي بعد الهزيمة ، الذي صدر قبل أربعين عاماً تقريباًَ، يحتفظ براهنيّته حتّي اليوم لأكثر من سبب: فالهزيمة التي فسّر أسبابها لا تزال مستمرة، والأسباب التي نقدها لا تزال حاضرة، والعقلية التي تبرّر ما لا يمكن تبريره متنامية متوالدة نشطة. بيد أن أهمية الكتاب الحقيقية لا تتمثّل في إضاءة مأساة تاريخية، محددة الزمن، بل في المنهج النقدي الطليق، الذي يفسّر الخيبات الإنسانية بأسباب إنسانية، دون الإحالة علي مرجع من ضباب.
كلمة للناقد الفلسطيني في الطبعة الجديدة من كتاب العظم صدرت مؤخرا عن دار ممدوح عدوان في دمشق