يحاول الكاتب والناقد العراقي الاقتراب من عالم رضوى عاشور الإبداعي والنقدي، بناسبة رحيلها مؤخرا عن عالمنا، ويسلط الضوء على شذرات من مواقفها السياسية والإنسانية والأخلاقية وانشغالاتها بكل ما يحيط بها من حيوات من خلال سيرتها المعنونة "أثقل من رضوى ـ مقاطع من سيرة ذاتية".

رضوى عاشور الأكاديمية والمبدعة

الحياة وقفة نقد

باسم المرعبي

استهلال
تحاول هذه الكتابة الاقتراب من عالم الكاتبة والناقدة رضوى عاشور وإن عبر ملمح من ملامح سيرة ضاجة بما هو حيوي ومميّز وكاشف. يتمثل هذا الملمح في موقفها السياسي والإنساني عبر شذرات منه، لأن الإحاطة بجملة مواقفها يحتاج الى ما هو أوسع من مقال بكثير، بل قد لا يفيه حقه من التغطية حتى كتاب. إن الاقتصار على تناول هذا الجانب يدعو اليه حضوره اللافت في سيرتها "المكتوبة" حتى لو كانت مجتزأة كما في "أثقل من رضوى ـ مقاطع من سيرة ذاتية". إنّ أيّ متابع أو دارس لسيرة ونتاج الكاتبة لابدّ أن يستوقفه، مليّاً، حراكها وآراؤها، وهو ما يذكّر بما كتبه الناقد د. صبري حافظ حين شرع بالكتابة عن إحدى رواياتها، وسرعان ما أرجأ ذلك لأنه وجد نفسه مدفوعاً للحديث عن انشغال الكاتبة بما أسماه بلبال العالم من حولها، وبما يدور في واقعها من أحداث. وهو ما عبّر عنه في دراسته القيّمة: "رضوى عاشور.. وقدرة الفن على استنطاق المحو".

حزمة مواهب
شخصية مثل رضوى عاشور متعددة المواهب والانشغالات تحتاج إلى أكثر من وقفة وأكثر من مراجعة. فهي القاصة والروائية والناقدة والأكاديمية والمترجمة، لم تنفصل في انشغالاتها هذه عن موقفها مما يدور قريباً منها في وطنها، مصر، انطلاقاً من الجامعة. وقد دفعت ثمن ذلك  تشتتاً عائلياً لسنوات وتضييقاً ومحاربة، منذ السبعينات وحتى السنوات الأخيرة. في مواقفها تتجاوز عاشور حدود الوطني إلى العربي والإنساني. كما تمتاز بخصوصية موقفها من القضية الفلسطينية فهو يتتوأم وما هو وطني خالص، فالتداخل حاصل بينهما بضرورة التاريخ والجغرافيا والدم، لتعبّر سلوكاً وكتابةً عن هذا الشاغل، عن هذا الشاغل، الذي يخالط الدماء الصحيحة عادةَ، كما في كتابها النقدي الأول "الطريق الى الخيمة الأخرى"، الذي كرّسته لتجربة غسان كنفاني، مثلما أوقفت روايتها الموسومة بـ "الطنطورية" للمجزرة المغفَلة التي شهدتها قرية الطنطورة الفلسطينية، من أعمال حيفا، العام 1948. هذا إذا تجاوزنا الشخصي في علاقتها بفلسطين، كونها زوجة الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي. ان كل جملة مما خطته الكاتبة يجد جذوره في أرض الغضب والانتفاض على لا عدالة العالم. منذ موضوعها للدكتوراه (1975) عن الأدب الأفروأمريكي، لصلته بواقع النضال الشعبي، كما تعلّل. وهو ما يشهد على انحيازها الإنساني ووعيها بهذا التفاوت بين القوى المسيطرة وتوابعها. حتى ليمكن القول برياديّتها فيما يتعلق بموضوعة النقد أو الأدب والكولونيالية، عموماً. سيرة رضوى عاشور هي سيرة الذكاء والتوهج والاحتدام، سيرة الكفاح والمشاركة الإنسانية، حتى في أحرج وأعسر ظروفها. تفصح في كتابها "أثقل من رضوى" عن ضيقها كونها بعيدة عن أرض الأحداث حين اندلعت الثورة ضد نظام مبارك في يناير 2011، لوجودها للعلاج في أمريكا. لكن الثورة لم تفتها تماماً رغم مرور عدة شهور على غيابها عن مصر، فقد تمكنّت من "حجّ" ميدان التحرير، لاحقاً، وقد كانت شاهداً بشكل أو آخر، وقد ولدت الثورة ثورة أخرى كما هو معروف. ان ولوج عالم رضوى عاشور الشخصي واكتشافها انسانةً، في قوتها وضعفها، بحميميتها وعمَليتها، باحثة وأديبة وناقدة وناشطةً سياسية يتم عبر كتابَي سيرتها، الأول: الرحلة ـ "أيام طالبة مصرية في أمريكا" دار الآداب 1983. والثاني، الآنف ذكره: "أثقل من رضوى" ـ دار الشروق 2013، وهو آخر كتبها، ومن البديهي الإقرار أن الكاتب موجود أصلاً في أعماله، مهما تنوّعت أو اتخذت من أشكال، لكنّ الحديث هنا عن ما هو مباشر وشخصي وتقريري.

الرحلة
بعذوبة وتمكّن تسطّر رضوى عاشور أحداث رحلتها طالبة للدكتوراه في جامعة ماساشوستس الأميركية. أيام مليئة بالحركة والاكتشاف والمكافحة. من يقرأ هذه السيرة ويلمس الاسلوب "الروائي" الشيّق الذي صيغت به، لا يستغرب، لاحقاً، النتاج الإبداعي الثَّر للكاتبة، إن كان قصة أو رواية. ربما بسبب من هذا الاسلوب صنّف البعض هذه المذكرات على انها "رواية". ولأن هذه الكتابة تنزع الى الإضاءة على مواقف الكاتبة السياسية والإنسانية فسيكون التركيز، أساساً، عليها. لقد وافق اندلاع حرب تشرين 1973 وجود الكاتبة في أميركا، فقد كان التحاقها للدراسة قبل حوالي شهرين من نشوب هذه الحرب. وما أن تصلها أنباؤها حتى تبادر مع ستة طلاب من زملائها العرب الى تشكيل "لجنة الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني والعربي" ولم تقتصر اللجنة على العرب فقط بل (انضم لها طلبة أميركيون من الشبيبة الشيوعية والتروتسكية وطلبة من إفريقيا وأميركا اللاتينية وقد حققت هذه اللجنة حضورها بين نشاطات طلاب العالم الثالث داخل الحرم الجامعي). وكانت مهمتها اضافة الى توزيع المنشورات وبيع الكتب، الإجابة على الأسئلة والاستفسارات أو الدخول في النقاشات التي يروم الطلبة اثارتها حول الموضوع. وبطبيعة الحال كانت المهمة صعبة بسبب الرصد من قبل الطلبة اليهود الموالين لإسرائيل والمضايقات التي تعمدوها وإن كانت صامتة! ولأنّ وعيها كمثقفة، هو وعي بما هو انساني شامل، فلا تدع الكاتبة مناسبة تمر إلا وتعبّر عن هذا الوعي بالضحية، أينما كانت، وما يؤَشَّر أن نزعة كهذه هي نوع من تكوين وليس ادعّاءً أو قناعاً، لذا نراها تبدي شغفها الكبير، مثلاً، بعمل بيكاسو، الشهير، "الغرنيكا"، على إثر مشاهدة النسخة الأصلية له في متحف الفن الحديث في نيويورك، لتغوص في شرح تفاصيله ودواعيه وهو ما تعاوده، بعد عقود، بشكل أوسع في سيرتها الثانية "أثقل من رضوى"، مُسقِطةً موضوع اللوحة على راهن اللحظة، مصريةً كانت أم عربية، مستحضرة في الوقت ذاته، الفنان المكسيكي "سيكييروس" الذي ساهم برسومه الجدارية في الثورة المكسيكية، من خلال حديثها عن فن الغرافيتي الذي لم يكن، حسب قولها، "مجرد فعل مواكب للثورة يعبّر عن مطالبها ويوثق يومياتها وحولياتها في مسار موازٍ فحسب، بل كان جزءاً من مجراها". لتكمل القول "إن رسوم الغرافيتي المَشاع في الشارع كانت تجربة جديدة لمعظمهم، تستوقفهم وتثير فيهم البهجة والأسئلة. مستشهدة برأي ظريف لفنان بارز في هذا الفن هو لـ(جنزير): "من مزايا الغرافيتي أنه يقدم تسلية لفناني الشوارع!".

أثقل من رضوى
هذا الكتاب أكثر من سيرة وأشمل و"أنأى" عن مفهوم السيرة، بمعناها الشخصي المباشر، وهو مؤشر اضافي يُفصح عن شخصية الكاتبة بانشغالها بالعام ربما أكثر من الشخصي. وعلى الرغم من استفاضة الكاتبة في وصف رحلتها العلاجية في أمريكا وما خضعت له من عمليات جراحية كبرى، إلا أنّ القسم الأكبر من الكتاب ينصرف الى ما هو عام، كما سلفت الإشارة، سواء كان هذا العام، شأناً سياسياً أم فنياً أم ثقافياً، ما يجعل القارىء يخرج بحصيلة معرفية، وعلى أكثر من صعيد. وهو شأن المؤلفات الجادة التي تحترم عقل قارئها عادةً. وعلى سعة ما تحقق في الكتاب، إلا أن هذه الفقرة آلت أن تكشف ما يبدو، للوهلة الأولى مجرد "جزئية" في الموضوعة المكرّسة للثورة المصرية بمرحلتيها، أو موضوعة ـ موضوعات الكتاب ككل. هذه "الجزئية"، لكن الجوهرية والجبّارة، تكشف عن الروح العظيمة لشعب مصر، بل هي لمن يتقصّاها ويتأملها تبدو "عجيبة" من العجائب تليق بمصر، ألا وهي روح الإيثار والتضامن والتضحية لدى أبناء وبنات مصر. إن القارىء ليقرّ في نفسه، إن شعباً بهذه المواصفات لا يمكن له إلا أن ينتصر. وهو ما تحقق في الواقع عبر ثورتين مذهلتين في غضون عامين تقريباً، صنعها الشباب بدمائهم وأرواحهم. شذرات كثيرة ومؤثرة حدّ الدمع يحفل بها الكتاب، منها ما أوردته الكاتبة عن نوارة نجم، ابنة الشاعر أحمد فؤاد نجم وهي كاتبة وناشطة، حين يُصاب زميل لها، يُدعى مالك، أثناء المواجهات في عينه اصابة بالغة، تكتب نوّارة: "عسى الله أن ينعم عليّ بالاستشهاد وأتمكن من منح مالك عيني كما كتبت في وصيتي". وتكمل.. "إذا كان الإخوان يكرّرون علينا: موتوا بغيظكم. نعم أنا أكاد أموت بغيظي من فشلي في درء البلاء عن الأصدقاء، بل حتى فشلي في الإستشهاد". شذرة ثانية عن فتى اسمه يحيى يُصاب، في المواجهات بقدمه، فيطلب منه الطبيب العودة الى منزله للعناية بإصابته فيرفض: "ولما احنا نروح مين اللي يحميكو؟ مين يحمي الحريم والعيال الصغيرة والدكاترة والناس اللي مالهاش في اللبش زيّنا؟" مواصلاً القول: "احنا بنحميكو (منهم) ويشتم الداخلية، وانتم بتحمونا من الجهل، كدة نبقى خالصين". وترد شهادة لآخر، بنفس ظروف يحيى، تفيد المضمون السابق، قاله لفتاة أصرّ على ابعادها عن موقع المواجهات: "انتِ شكلك بنت ناس ومتعلمة، خلونا احنا الفقرا نموت عشان لما الدنيا تهدى يفضل المتعلمين اللي يقدروا يفيدوا البلد". كما تنقل الكاتبة عن المحامي والناشط مالك عدلي الذي دوّن في يومياته شهادة مؤثرة جداً، بل ربما صادمة: يوم الأحد 20 نوفمبر حوالي السادسة مساءً كنت بصدد دخول شارع محمد محمود للمشاركة في المعركة الدائرة بين الشباب وبين ميليشيات الداخلية، استوقفني ثلاثة شباب يتأبط كل منهم ذراع الآخر وأحدهم يقول لرفاقه بصوت مرح: "لو وقعت إوعوا ترجعوا أنا دمي مايروحش هدر". فيرد عليه أصدقاؤه: "آمين يا صاحبي". فبادرتهم بالقول: "بعد الشر عنكم يا شباب وخلوا بالكم من نفسكم". ردّ عليّ أحدهم: "ياحنا ياولاد الكلب دول في البلد دي ويانعيش بكرامة يابلاش..." يقول ابتسمت وأكملت طريقي وغابوا عن نظري بسبب كثافة الغاز الذي كانت تطلقه ميلشيات الداخلية. في نفس المساء يذهب مالك الى المشرحة لمعاينة الجثامين، نيابة عن أهاليهم بوصفه محامياً، فيجد الشباب الثلاثة جثثاً داخل المشرحة مصابين اصابات وحشية.

ان تفاعل رضوى عاشور مع ما أوردته من تفاصيل بخصوص الثورة، هذا بتجاوز ما قامت به هي شخصياً من المشاركة والدعم، عبر أكثر من شكل، رغم مرضها وسنّها، يشفّ عن معدن فذ وروح تواقة للانعتاق ونشدان كل ما من شأنه أن ينتصر للإنسان وكرامته، وهو ما يشير الى رسالة أو دور مضاعف تصدّت له الكاتبة في حياتها ولم يثنها عن ذلك أيّ نوع من المتاعب.