بمناسبة مرور ستين عاما على مؤتمر باندونج الشهير، يكشف المفكر المصري الكبير الدلالات العميقة لحركة عدم الانحياز التي تكونت أجنتها فيه ثم تبلورت بعده باعتبارها حركة مناوئة للعولمة التي سعت الرأسمالية الجشعة لفرضها على العالم الثالث منذ ذلك الوقت، وعن أهمية الوعي بهذا كله في الدورة الراهنة لصحوة شعوبه.

في أصول مشروع باندونج

نشأة المبادرات المستقلة في آسيا وإفريقيا

سمير أمين

احتفلنا في شهر أبريل بمرور ستين عاما على انعقاد مؤتمر باندونج. فأود هنا تذكير الجيل الجديد بما كانت عليه أصول المشروع ومغزاه. فللمرة الثانية في التاريخ المعاصر، يتعرض البعد الإمبريالي للرأسمالية للتحدي، وكانت المرة الأولى في غداة الحرب العالمية الثانية.

فمنذ عام 1947 أعلنت الولايات المتحدة، وهى القوة الإمبريالية المسيطرة في ذلك الوقت، انقسام العالم إلى معسكرين.« العالم الحر» و«الشمولية الشيوعية». وتجاهلت هذه النظرة «العالم الثالث» الذى اعتبرته تابعا "للعالم الحر"، نظرا لأنه "غير شيوعي"، واقتصرت هذه "الحرية" على حرية تحرك رأس المال، متجاهلة الاستبداد الاستعماري الذى يتعرض له العالم الثالث. وفى العام التالي صدر تقرير جدانوف الشهير، وقسم بدوره العالم إلى مجالين: العالم الاشتراكى (الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية)، والعالم الرأسمالى (أى بقية العالم). وتجاهل التناقضات في داخل المجال الرأسمالي بين المراكز الإمبريالية وبين شعوب وأمم التخوم التي تناضل من أجل التحرر.

وكان الهدف الأساسي لمبدأ جدانوف هو فرض التعايش السلمى وتخفيف التوجهات العدوانية للولايات المتحدة وحلفائها التابعين في أوروبا واليابان. وفى مقابل ذلك قبل الاتحاد السوفيتي أن يهدئ من حماسه، وأن يمتنع عن التدخل في شئون المستعمرات التي كانت القوى الإمبريالية تعتبرها من شؤونها الداخلية. بل إن حركات التحرر أيامها بما فيها الثورة الصينية، لم تحظ إلا بتأييد محدود من الاتحاد السوفيتي، وفرضت نفسها بجهودها الذاتية. وفرض نجاح هذه الحركات، وبالدرجة الأولى انتصار الثورة الصينية، تغيرا في علاقات القوى الدولية. ولم تقدر موسكو هذه التغييرات حق قدرها إلا بعد باندونج، حيث أدت مساعداتها للبلدان التي تناضل ضد الإمبريالية إلى كسر طوق العزلة حولها، وإلى تحولها إلى لاعب رئيسي في الشئون العالمية. وهكذا يمكن القول دون مبالغة، إن التحول الرئيسي في النظام العالمي قد جرى بفضل هذه "الصحوة الأولى للجنوب"، والتي بدونها لا يمكن تقدير عملية ظهور القوى الجديدة "البازغة".

وفيما أعلم، لم تجر كتابة تاريخ صياغة نظرية البدائل التي تبلورت في مؤتمر باندونج عام 1955، ثم في حركة عدم الانحياز ابتداء من عام 1960. ويبقى هذا التاريخ مستترا في أرشيفات بعض الأحزاب والدول. ويقتضى الأمر كتابة هذا التاريخ حتى يصحح الفكرة الخاطئة بأن باندونج قد نتجت عن اختمار الفكرة في رؤوس بعض الزعماء الوطنيين (خاصة نهرو، وسوكارنو، و عبد الناصر). فالحقيقة هي أنها كانت نتيجة للنقد الراديكالي اليساري. وقد انتهى تفكير هذه الطليعة التقدمية إلى النتيجة التالية: إن النضال ضد الإمبريالية على الصعيد العالمي يجمع القوى الاجتماعية والسياسية التي سيؤدي انتصارها إلى فتح الطريق أمام التقدم نحو الاشتراكية في العالم المعاصر.

وتركت هذه النتيجة الباب مفتوحا أمام التساؤل: من الذى "سيقود" هذه المعارك ضد الإمبريالية؟ أو بعبارة أخرى: هل ستقودها البرجوازية (المسماة أيامها بالوطنية)، أو جبهة من الطبقات الشعبية "يقودها" الطليعة التقدمية لا البرجوازية (المعادية للوطنية بالفعل)؟ وبقيت الإجابة على هذا السؤال متراوحة بل ملتبسة أحيانا. وفى عام 1945 سادت النظرة التي توصل إليها ستالين، وهى أن البرجوازية في جميع أنحاء العالم (في أوروبا المرتبطة بالولايات المتحدة، كما في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة طبقا للتعبير السائد أيامها) قد "ألقت بعلم الوطنية فى الوحل"، وأن الشيوعيين وحدهم هم القادرون على تجميع جبهة متحدة من القوى التي ترفض الخضوع للنظام الأمريكي الإمبريالي /الرأسمالي. وكانت هذه النتيجة متفقة مع ما توصل إليه ماو في عام 1941. وكان معنى هذه الأطروحة أن الطريق الطويل نحو الاشتراكية لأغلب شعوب العالم لا بد أن يمر عبر "ثورة وطنية ديمقراطية شعبية ضد الإقطاع وضد الإمبريالية تحت قيادة الشيوعيين. وكان ذلك يعنى ضمنا أن التقدم نحو الاشتراكية غير وارد في المراكز الإمبريالية، فلا يمكن توقعها هناك إلا بعد أن توقع شعوب التخوم هزائم حاسمة بالإمبريالية.

وساهم انتصار الثورة الصينية في تأكيد هذه النتيجة. وبدأت الأحزاب الشيوعية في بلدان جنوب شرق آسيا، وخاصة في تايلاند وماليزيا والفلبين حروبا تحررية مقتدية بالمثال الفيتنامي. وفى عام 1964، اقترح تشى جيفارا في إطار الروح نفسها قيام "فيتنام ثانية وثالثة  .. وكانت الاقتراحات الطليعية بمبادرات "لشعوب آسيا وإفريقيا" مستقلة ومعادية للاستعمار، التي قدمتها الطليعة التقدمية المعنية مبكرة ودقيقة، وظهرت في برنامج باندونج وعدم الانحياز. وتركزت هذه المقترحات حول ضرورة استعادة السيطرة على عملية التراكم (أي التنمية المرتكزة على الذات وفك الارتباط).

وما حدث هو أن هذه المقترحات قد جرى تبنيها، مع الكثير من التخفيف، في الأعام 1955 – 1960، من أغلبية الطبقات الحاكمة في القارتين، وفى الوقت ذاته، هُزمت جميع حروب التحرر الوطني في بلدان جنوب شرق آسيا (فيما عدا فيتنام بالطبع)، وماذا بعد؟ كانت النتيجة التي بدت منطقية هي أن "البرجوازية الوطنية" لم تستنفد بعد كل طاقتها للنضال ضد الإمبريالية. وتوصل الاتحاد السوفيتي هو أيضا لذات النتيجة، وقرر دعم جبهة عدم الانحياز في حين أعلن الثالوث الإمبريالي (الولايات المتحدة ، أوروبا، اليابان) الحرب المفتوحة ضدها.

ولكن بعد ما يقرب من خمسة عشر عاما كان زخم باندونج قد قارب على الاختفاء دلالة على محدودية البرامج المعادية للإمبريالية "للبرجوازيات الوطنية"، وهكذا تحققت الشروط لنجاح الهجمة المضادة للإمبريالية، وتحويل اقتصاديات الجنوب مرة أخرى للكومبرادورية، بل في الحالات الهشة، إلى إعادتها للأوضاع الكولونيالية. ولكن، فى تحول بدا كإنكار للرجوع إلى الأطروحة القائلة بأن "البرجوازيات الوطنية" قد تخلت تماما عن التطلعات الوطنية حيث كانت مرحلة باندونج مجرد مرحلة عابرة في إطار الحرب الباردة - ها هي بعض بلدان الجنوب تفرض وجودها كبلدان "بازغة" في إطار ذات العولمة التي تسودها الإمبريالية. ويبقى السؤال: "بازغة" بأي معنى؟ هل هي عبارة عن أسواق مفتوحة أمام احتكارات الثالوث في المراكز الإمبريالية، أو هي أمم بازغة قادرة على فرض مراجعات جادة لشروط العولمة الإمبريالية؟ وهل ستتمكن من الحد من سلطات الاحتكارات في داخل هذه العولمة، وتوجيه التراكم نحو التنمية الوطنية لبلدانها؟ وهكذا يعود التساؤل حول المضمون الطبقي للسلطات الحاكمة في البلدان البازغة (وفى غيرها من بلدان التخوم) للأولوية على جدول الأعمال للنقاش الحتمي حول ما سيكون عليه-  أو قد يكون العالم "بعد الأزمة".

إن الأزمة المتأخرة للرأسمالية الإمبريالية للاحتكارات المعممة المأمولة والمعولمة باتت مفتوحة. ولكن حتى قبل أن تدخل المرحلة الجديدة التي أنتجها الانهيار المالي في عام 2008، كانت الشعوب قد بدأت تنفض عنها حالة السبات التي رزحت تحتها بعد استنفاد زخم الموجة الأولى من نضالها لتحرير العمال والشعوب. وتبدو أمريكا اللاتينية (التى غابت عن مرحلة باندونج رغم جهود كوبا وحركة العالم الثالث) قد حققت سبقا ملحوظا فى هذا الاتجاه. وتعود إلى جدول الأعمال، وإنما في ظروف مغايرة بشكل كبير، ذات الأسئلة التي كانت قائمة في أعوام الخمسينيات. فهل سيستطيع الجنوب (ببلدانه البازغة وغيرها) اتخاذ مبادرات استراتيجية مستقلة؟ وهل ستستطيع القوى الشعبية فرض التحولات في السلطات الحاكمة التي ستسمح دون غيرها بالتقدم الثابت فى الاتجاه الصحيح؟ وهل سيمكن إقامة الجسور التي تربط بين النضال الشعبي للجنوب ضد الإمبريالية، وبين تقدم الوعى بحتمية تجاوز حدود الرأسمالية في الشمال؟

ولا أستطيع أن أتقدم هنا بإجابات متسرعة على هذه الأسئلة الصعبة التي لن يحسمها إلا النضال والنتائج التي توصلت إليها مجموعات النقاش في الخمسينيات، قد عبرت عن التحدي باستنتاجات لا تختلف كثيرا عن تلك الصحيحة اليوم، ألا وهى: على شعوب التخوم أن تقوم ببناء اقتصادها الوطني بالاعتماد على الذات مع فك الارتباط (مستندة إلى التجمعات الإقليمية وإلى الجنوب ككل)؛ وأنها لا يمكن أن تحقق ذلك إلا في إطار التوجه نحو الاشتراكية؛ وأنها في سبيل ذلك، عليها أن تتحرر من الوهم البديل وهو "اللحاق" في إطار النظام الرأسمالي المعولم. وقد جسدت باندونج اختيار الاستقلال فى الحدود التي بينها تاريخ تلك الحقبة.

فهل سيكون الرد أفضل اليوم مع قيام "الصحوة الثانية للجنوب"؟ وخصوصا هل سيمكن هذه المرة تحقيق الالتقاء بين نضالات الشمال والجنوب؟

والواقع أن هذا الالتقاء كان مفتقدا بشدة في مرحلة باندونج، فقد بقيت شعوب الشمال حينئذ سائرة وراء طبقاتها الحاكمة الإمبريالية. والبرنامج الاجتماعي الديمقراطي لتلك الحقبة لم يكن ممكنا دون الاستناد إلى الريع الإمبريالي الذى استفادت منه مجتمعات الشمال المرفهة. وكان يُنظر إلى باندونج في تلك الأيام على أنها مجرد حلقة في الحرب الباردة، بل ربما أنها من ألاعيب موسكو. أما أن البعد الحقيقي لهذه الموجة الأولى من حركات التحرر في آسيا وإفريقيا قد أقنعت موسكو بدعمها، فقد تعذر فهمها.

ويبقى التحدي كاملا، وهو تأسيس الدولية المعادية للإمبريالية للعمال والشعوب.

نستطيع الآن أن نلقى نظرة على ماضينا الذى يمنحنا درسا جميلا لما كنا عليه وما ينبغي أن نعود إليه من جديد. تكونت حركة دول عدم الانحياز في عام ١٩٦٠ على نهج مؤتمر باندونج لعام ١٩٥٥ لتثبيت حقوق شعوبنا وبلادنا في آسيا وإفريقيا والتي لم يكن معترفا بجدارتها كشريك متكافئ في إعادة بناء النظام العالمي.

لم تكن حركتنا نتيجة ثانوية للصراع الدائر بين القوتين العظميين آنذاك-  الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي كما تكرره بلا ملل وسائل الإعلام الغربية.

فى صبيحة الحرب العالمية الثانية كان الجزء الأعظم من آسيا وإفريقيا مازال يرزح تحت الاحتلال الغاشم. وكانت شعوبنا مازالت رهينة مقاومة جبارة من أجل استرداد استقلالها سواء سلميا أو بحروب التحرير إذا اقتضى الأمر. وبعد حصولنا على الاستقلال وإعادة بناء حكوماتنا وجدنا أنفسنا في صراع مع النظام العالمي الذى أرادوا أن يفرضوه علينا وقتها. فجاءت حركة دول عدم الانحياز لتنادى بحقنا في اختيار مناهج تطورنا وطبقت هذا الحق وأجبرت القوى العظمى آنذاك على الانصياع لمتطلبات التطور الخاصة بنا.

وقد قبلت بذلك بعض قوى هذه الحقبة. ورفضته قوى أخرى. القوى الغربية متمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية والدول التي شكلت فيما بعد الاتحاد الأوروبي-  والتي كانت مشتركة منذ عام ١٩٤٩ في الحلف الأطلسي-  لم تخف أبدا عداءها لمشاريعنا التنموية المستقلة. فحاربونا بكل الوسائل المتاحة لهم.

وقوى أخرى، على رأسها الاتحاد السوفيتي والصين، انتهجت طريقا آخر باتجاهنا. لقد قبلت بل وساندت أحيانا مواقف حركة دول عدم الانحياز. وساعدت القوة العسكرية للاتحاد السوفيتى آنذاك فى الحد من احتمالات العدوان من قبل بعض الذين كان ينتابهم الحنين للاستعمار، والذين أصبحوا اليوم مدافعين مخلصين عن النظام الدولي الظالم.

نستطيع القول إذن إنه حتى ولو لم يعد العالم اليوم مشابها لعالم ١٩٦٠-  وهذه حقيقة بديهية - فإن حركة دول عدم الانحياز التي كانت موجودة منذ ستين سنة، كانت من وقتها حركة عدم انحياز للعولمة التي كانت الدول الإمبريالية تريد فرضها علينا في ذلك الوقت.