يكشف الباحث والأكاديمي العراقي في هذه الدراسة عن المعالم الثقافية المشتركة بين بلدان ضفتي حوض البحر الأبيض المتوسط، الشمالية منها والجنوبية. وتعالق مصائر الضفتين، ومسئولية الشمال الأخلاقية والاستراتيجية عما يدور في الجنوب، وينتهي بمجموعة من القضايا التي تحقق التقارب بين الشعوب وتنهض بمن يحتاج إلى النهوض فيها، كي يتحقق في المستقبل.

حوض البحر الأبيض المتوسط والمعالم الثقافية المشتركة

وليد صالح الخليفة

1ـ تقديم

على الرغم من تنوع شعوب وثقافات سكان حوض البحر الأبيض المتوسط واتّساع المسافات التي تفصل بين البلدان المطلة عليه، شمالاً وجنوباً أو شرقاً وغرباً، فإنّ عين المُلاحظ لا تفتأ ترى السمات المشتركة، والتقارب المذهل الذي لا يخفى على العين المحايدة التي لا تنشد غير الواقع، بعيداً عن التوظيفات السياسية أو الممارسات العقائدية. ذلك التشابه الذي لا يشمل الإنسان فحسب، بل يمتد إلى الطبيعة والعمران وغيرهما. فعلى المستوى الطبيعي نرى تشابهاً قد يصل إلى حدّ التطابق بين أجزاء مختلفة من الأقاليم المتوسطية. فغابات أشجار الزيتون العامرة بمدينة صفاقص التونسية، أو بمدينتي فاس ومكناس المغربيتين، لا يمكن تفرقتها عن مثيلاتها بغرناطة أو جيّان الإسبانيتين. ومزارع النخيل في "إلتش" بإقليم "أليكانتي" نجد جذورها في حقول النخيل في تونس أو الجزائر أو سوريا. والشواطئ المالطية تكاد تكون نفس الشواطئ اللبنانية أو الليبية.

أما من حيث العمران فإنّ الكثير من الرحالة العرب وغير العرب من الذين كانوا يجيبون مياه هذا البحر الخالد على متن قواربهم، لم يكونوا يميزون بين مختلف المدن لشدة تشابهها وتقارب بنائها وعمرانها. فكلّما كانوا يقتربون من مدينة متوسطية، كانوا يعثرون على نفس المشاهد: الموانئ الصغيرة المليئة بقوارب الصيادين، والبنايات المطلية باللون الأبيض، وذات الارتفاع المتوسط أو المنخفض. كانوا يرون ذلك في الجزر اليونانية، وفي قبرص أو في الشواطئ الجزائرية أو الإيطالية.

والإنسان المتوسطي تكونت ملامح شخصيته على مرّ القرون، فاندمجت فيه عناصر من مختلف الثقافات، وانصهرت في ذاته مكونات متباينة ومتنوعة أثرت في النهاية شخصيته، وجعلته إنساناً منفتحاً على الآفاق، ذا توجه عالمي عام بعيد عن الإقليميات الضيقة والمحدودة، التي تقيد الفرد وتحدّ من انطلاقته. ليكون إنساناً متحرراً بالمعنى الإيجابي من قيود الزمان والمكان. فالفينيقيون وهم شعب سامي استوطنوا لبنان حوالي 2800 ق. م. وامتزجوا بشعوب ماقبل التاريخ وانتشروا على الساحل المتوسطي وأنشؤوا مدناً مثل جُبيل وصور وصيدا وبيروت وأرواد، وارتبطوا بعلاقات وثيقة مع الفراعنة في الألف الثالث قبل الميلاد. تمكنوا من مدّ نفوذهم التجاري حتى حماة ودمشق وأسسوا على شواطئ المتوسط المصارف والمتاجر والمستعمرات وبلغوا شبه الجزيرة الإيبيرية بحثاً عن الفضة والقصدير. بلغوا قمّة ازدهارهم ما بين 1000 و500 قبل الميلاد. وأسسوا مدينة قرطاجة سنة 814 ق. م. ومدينة سبراطة. وفي أوروبا ملقة وقادش في اسبانيا ومالطة. وقد وصل الفينيقيون في تنقلاتهم ورحلاتهم إلى بحر البلطيق، والمحيط الأطلسي والبحر الأحمر. وعلموا شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط على الملاحة والتجارة والصناعة. وحروف كثير من لغات العالم القديم تعود في جذورها إلى الحروف الفينيقية. واكتشف الفينيقيون أيضاً صناعة الزجاج التي تعلمها منهم باقي شعوب المنطقة.

ثم جاءت الإمبراطورية الرومانية (سواء المملكة 753 ـ 509 ق. م. أو الجمهورية 509- 31 ق. م.) التي مدّت سيطرتها على الكثير من مناطق البحر المتوسط فضمّت إليها أقاليم إيطاليا واحتلّت ماكدونيا واليونان وآسيا الصغرى وسوريا وحوّلتها إلى أقاليم رومانيّة. ثمّ جاء العرب والمسلمون فبسطوا نفوذهم على مناطق شاسعة من إفريقية وآسيا ووصلوا إلى أجزاء من أوروبا، فاختلطت الثقافة العربية الإسلامية مع ثقافات الشعوب الأصلية، سواء في مالطة أو صقليّة أو البرتغال أو إسبانيا. واستطاع العرب المسلمون أن ينقلوا لتلك الدول الكثير من العلوم والمعارف والعادات والتقاليد وسبل العيش التي لا تخفى على أحد. فصارت لغة كاللغة الإسبانية مليئة بالكلمات ذات الأصل العربي، وما زالت وسائل الري والزراعة العربية متبعة في الكثير من مناطق إسبانية أو برتغالية. وعلى الرغم من الكثير من المواجهات ذات الطابع الديني أو السياسي منذ القرون الوسطى وحتى يومنا هذا بين دول شمال حوض البحر المتوسط الغربية وبين الشعوب القاطنة خاصّة في جنوب حوض هذا البحر، وخاصّة خلال الحروب الصليبية، على الرغم من ذلك فقد بقيت القواسم المشتركة العامة بين سكان هذه المناطق بشكل عام، وبقي إنسان البحر المتوسط متميزاً ومتفتحاً على الشعوب والثقافات، وبقي قريباً من شعوب المناطق المجاورة، يشترك معها في الكثير من المميزات والصفات التي يلحظها المتنور والمتبصر.

2 ـ مشاكل المجتمعات العربية الإسلامية القاطنة في حوض البحر الأبيض المتوسط:

هناك تباين واسع بين مجتمعات شمال حوض المتوسط وجنوبه من حيث مستوى العيش والمستوى العلمي والثقافي ونوعية الأنظمة السياسية وغير ذلك من الأمور التي تساهم إلى حدّ ما في عزل بعض الشعوب عن بعضها الآخر. فمعظم الدول العربية الإسلاميّة المتوسطية ليست فقيرة بل تمّ إفقارها، حيث تُنهب ثرواتها وتُصرف على ملذات المسؤولين، وعلى ما هو ثانوي لا ينفع الشعوب عادة بل تستفيد منه الطبقة الحاكمة وحلفاؤها. والنتيجة هي ظهور طبقة صغيرة من الأثرياء الذين يتنعمون بخيرات البلاد، وطبقة كبيرة معدمة لا تنال من الموارد التي تعود إليها إلاّ النزر اليسير. وكثير من هذه الدول تتميز بغياب الديمقراطية، حيث لا الحاكم يُنتخب ولا السلطة، بل يتمّ تنصيبهما دون أن يكون للشعوب أي رأي في ذلك. وعليه فإنّ غياب حرية الرأي هو القاسم المشترك الأعظم، والممارسات القمعية والبوليسية هي السائدة، وقهر المواطنين واحتقارهم وسلب حرياتهم هو الخبز اليومي، الذي يعتاش عليه الفرد في حياته التي لا تعرف الهدوء والاستقرار.

فإهمال الشعوب ومصائرها وعدم الاهتمام بحياتها ومستقبلها أو توفير سبل التقدم والازدهار لها، أدّى إلى نتائج وخيمة وبائسة صار يعاني منها الفرد أو المجموع، ولم تقتصر آثارها على تلك البلدان فحسب، بل شملت بشكل أو بآخر بلدان الجوار وبعض الدول الأخرى التي وجدت نفسها أيضاً مكتوية بنار المساوئ التي بلغتها لسبب أو لآخر لمجرد ارتباطها بتلك البلدان بروابط الهجرة أو غيرها. فمن النتائج المباشرة لتلك السياسات ضعف الوعي الاجتماعي للغالبية الكبرى من أبناء تلك الشعوب، حيث أنّهم لا يدركون بوضوح دور الفرد ومكانته الاجتماعية، وإمكانية مساهمته بشكل فعّال في الحياة العامّة، بحيث أصبح كلّ فرد يفكر بمصالحه الضيقة وخاصّة المادية منها. كما أنّ الفرد في هذه الحالة يبقى على هامش الحياة الاجتماعية ولا يساهم في بناء المجتمع المرجو الذي يشعر فيه جميع المواطنين بأنّهم متساوون في الحقوق والواجبات.

ومن المشاكل الكبرى الناتجة عن تلك السياسات معضلة الأميّة. وحسب الإحصاءات الرسمية فإنّ ما يقارب ثلث سكان العالم العربي تعاني من هذا الوباء الذي يشل طاقات المواطنين، ويحدّ من إمكانياتهم ويهدر طاقاتهم. فمن مجموع ما يزيد قليلاً على 300 مليون عربي هناك أكثر من 70 مليون أمي حسب أخر الإحصائيات الرسمية. وللأسف فقد عرف العالم العربي كمثال تراجعا واضحاً في هذا الميدان، لأنّ عقود السبعينات والثمانينات كانت أفضل مما هي عليه الآن من هذه الناحية. وكما هو معلوم فإنّ هذه المشكلة تخلق مشاكل أخرى أكثر خطورة في التعايش وفي الممارسات اليومية وكثيراً ما ترمي الفرد الأمّي في أحضان التطرف والانغلاق وسوء التقدير، وتجعل التفاهم بين الناس صعباً ومعقداً، ثمّ إنّها تحرم المجتمعات من كثير من الطاقات التي يمكن أن تكون خلاّقة ومنتجة إذا توفرت لها الظروف المناسبة، وبالتالي فإنّ في ذلك مضيعة كبيرة للجهود والقدرات التي يمكن أن تُستخدم في خدمة المجتمع ككل.

ومن النتائج السلبية الأخرى الهجرة التي يُضطرّ إليها الكثير من شباب تلك البلدان، من الذين يشعرون باليأس من العيش في بلدانهم الأصلية، ويدركون بأنّهم لا مستقبل لهم فيها، فيخرجون للبحث عن مستقبل أفضل، بنيّة تحسين المستوى الاقتصادي والتعليمي والاجتماعي وغير ذلك. وليس كلّ من هاجر وتمنّى الحصول على حياة أفضل استطاع تحقيق أهدافه. لأنّ الكثيرين من هؤلاء يصطدمون بصخرة الواقع الصلدة، وتتبخر أحلامهم، وتتردّى حياتهم إلى درجة كبيرة، بحيث يتمنون الأيام التي كانوا فيها بين أهليهم وأحبابهم، على الرغم من صعوبتها وقسوتها.

ولا تقتصر الإشكاليات التي تسببها الهجرة على الدول الأصليّة المُصدّرة فحسب، بل تمتدّ لتشمل الدول المستقبلة التي تصل إليها أعداد كبيرة من المهاجرين وبشكل غير متوقع. وكثير من الدول المستقبلة تنقصها سياسة واضحة وفاعلة من أجل حلّ مشاكل المهاجرين، ليس فقط على المستوى الإداري والعملي، بل أيضاً على النطاق الاجتماعي والإنساني وعلى مستوى العلاقات الإنسانية التي تربط المهاجرين بأبناء البلد الأصليين. وبذلك ينعزل المهاجرون في كتل مستقلة بعيدة عن أهل المدينة التي يحلّون بها كضيوف في المرحلة الأولى وكمواطنين بعد ذلك عندما تستقرّ بهم الأمور.

3ـ السياسة الدولية غير المتوازنة:

تميزت السياسة الدولية وخاصّة سياسة الدول الكبرى ونعني بها الولايات المتحدة الأمريكية والاتّحاد الأوروبي،[1] وكذا تصرفات الأمم المتحدة بعدم التوازن واستخدام أسلوب القياس بمعيارين في كثير من الشؤون. وخاصّة فيما يتعلّق بقرارات الأمم المتحدة التي يُجبر البعض على تنفيذها بحذافيرها، ويُترك للبعض الآخر حرية تنفيذها أو عدم تنفيذها. فالتعامل المميز الذي خُصّت به دولة إسرائيل من طرف القوى المذكورة، وعدم محاسبتها على التجاوزات الخطيرة التي ميّزت سياستها تجاه الفلسطينيين والعرب عموماً، ودعمها مادياً وعسكرياً، أدّى إلى شعور المواطنين العرب والمسلمين، وخاصة دول الجوار وهي في معظمها متوسطية، بالإحباط والمرارة والظلم. على عكس تعاملها مع الكثير من الدول العربية التي أجبرت على تنفيذ جميع قرارات الأمم المتحدة بقوة السلاح. وخير مثال على ذلك حالة العراق سواء سنة 1990، أو ما قامت به الولايات المتحدة مؤخراً من احتلال وتدمير لهذا البلد، باستخدام حجج واهية ومغرضة.

وحتى من الناحية الاقتصادية فإنّ الدول المصنعة الغنيّة التي نصبت بعض المعامل والشركات في البلدان المتوسطية الفقيرة بدعوى مساعدة اقتصاد تلك البلدان، ليس همها في الواقع سوى الإثراء على حساب فقر تلك الشعوب، لأنّ تلك الشركات المزعومة لا تترك لسكان البلاد سوى بعض الوظائف، في حين أنّ كامل الأرباح التي تجنيها تلك المصانع تذهب إلى جيوب أصحاب الأموال من الدول الغنية. وعليه فإنّ أصحاب رؤوس الأموال هؤلاء يستفيدون من رخص الأيدي العاملة لتلك البلدان الفقيرة. وكمثال على ذلك الشركات الإسبانية والفرنسية والأمريكية التي استثمرت في المغرب وتونس، سواء في القطاع الزراعي أو في ميدان تصنيع النسيج.

وقد أدّت تلك السياسات إلى تدهور الأحوال الاقتصادية للغالبية الكبرى من أبناء الشعوب العربية والإسلامية. ويكفينا مثلاً على ذلك لو ذكرنا بأنّ مستوى دخل الفرد السنوي في العالم العربي لا يتجاوز 1000 دولار، في حين أنّه يصل في دولة مثل إسرائيل، وهي متوسطية أيضاً، إلى 13.000 دولار. وهذا يدل بوضوح على الفوارق الكبيرة بين مستوى العيش بين مختلف شعوب المنطقة.

وهناك شيء أخطر من كلّ ذلك وهو بيع السلاح من قبل الدول المنتجة له بكميات هائلة لكثير من دول الحوض البحر المتوسط الفقيرة. وهذه المسألة لها الكثير من المخاطر. فبالإضافة إلى استهلاك أجزاء كبيرة من مداخيل تلك البلدان الفقيرة، فيما لا ينفع المواطنين، فإنّ توفر تلك الأسلحة بتلك النوعية والكمية في أيدي سلطات لا تحترم حقوق الإنسان، تؤدي إلى نتائج مأساوية، وإلى موت الكثير من الأبرياء، وإلى ممارسات لاإنسانية وصراعات ومعارك وحروب تأتي على الأخضر واليابس، كما وقع لأكثر من مرة بين بلدان المنطقة. وقد أدّت تلك السياسات إلى شعور الكثير من المواطنين العرب وخاصّة الشباب منهم باليأس وحاولوا أن يعثروا على حلّ لمشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وعندما صعب عليهم الأمر وقعوا في أحضان التطرف الديني الذي جلب لهم ولشعوبهم الكثير من المآسي والآلام، وخلقت الكثير من التوترات ليس في داخل البلدان نفسها فحسب، بل بين تلك الدول، والكثير من دول الجيران، سواء من البلدان الإسلامية أو الغربية.

وقد وجدنا في الأيام الأخيرة نموّ وتزايد نشاط الحركات الأصولية في بعض الدول العربية والتي نفّذت أعمالاً هجومية على بعض المصالح الغربية. وقد قامت الكثير من وسائل الإعلام كالعادة بربط تلك المجموعات المتطرفة بالإسلام، ووصفوا الإسلام بالتطرف والعداء، علماً بأنّ الإسلام بريء من تلك التهم، فهو كدين لا يدعو أبداً إلى العنف، ولا إلى قتل الأبرياء، غير أنّ تلك الظروف التي تعرضنا لها سابقاً أدّت إلى ظهور مثل هذه الجماعات، التي أعطت لنفسها حق الردّ على الممارسات غير العادلة لبعض الدول الغربية تجاه الدول العربية والإسلامية[2].

4 ـ صراع حضارات أم صراع مصالح؟

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن صراع الحضارات القادم، وقام بالتنظير له عدد من المفكرين الغربيين وخاصّة في الولايات المتحدة الأمريكية مثل "فوكوياما" و"هانغتنتون" اللذين أكدا على أنّ الإسلام سيصبح العدو الحقيقي للحضارة الغربية، وذلك بعد اختفاء خطر المعسكر الشرقي، وانتهاء الحرب الباردة. ولا شك أنّ هناك جهات ومجموعات تحاول أن تدفع العالم إلى مثل هذه المواجهة والصراع، لأنّ لها في ذلك مصالح وفوائد كثيرة. وهي تروج له في وسائل الإعلام، وتوظف الكثير من السياسيين لنشر تلك الأفكار، لتهيئة الرأي العالم العالمي لذلك. غير أنّ واقع الأمور تبعدنا عن هذه الاحتمالات على المدى القصير على الأقل. فقد جاءت أحداث العراق الأخيرة لتؤكد فساد هذه الفكرة، حيث وقفت الغالبية العظمى من المجتمعات والحكومات الغربية ضدّ الهجوم على العراق واحتلاله من قبل الولايات المتحدة. وحتى موقف الكنيسة كان موقفاً مشرفاً حيث اعترضت بقوة على التصرف الأمريكي، وقام بابا الفاتيكان بنقد هذا الاعتداء واعتبره شيئاً غير مبرر. وعليه فإنّه لو كان هناك صراع حضارات وثقافات لكان في هذا الظرف مناسبة جيدة للتعبير عن هذا النوع من المشاعر. والواقع أنّ بعض السياسيين وأتباعهم، وبدافع من مصالحهم الاقتصادية والاستراتيجية قد دعموا الحرب على العراق وخلق حالة من التوتر.

وعلينا أن نتذكر بأنّ المجتمعات الغربية نفسها قد عانت في القرن الماضي من حربين كونيتين، دمّرتا الكثير من البلدان وقتلتا الملايين من البشر، وكانت هاتان الحربان أصلاً بين الدول الغربية التي تنتمي نظرياً إلى نفس الحضارة، ونفس الثقافة، وتدين بالمسيحية. ولم يمنع انتماء تلك الدول والمجتمعات إلى نفس الثقافة من وقوع الحروب الطاحنة والتي كانت تقوم لأسباب اقتصادية واستراتيجية، وليس من منطلق الصراع الثقافي أو الحضاري.

5 ـ دور الاتّحاد الأوروبي في تحسين العلاقات المتوسطية:

منذ سنوات يحاول الاتّحاد الأوروبي البحث عن نقاط التلاقي بين دول حوض البحر الأبيض المتوسط من أجل تقريب وجهات النظر بين الشعوب وحلّ مشكلاتها، على الرغم من أنّ تلك الجهود ما زالت قليلة وغير كافية. فشعور الاتحاد بضرورة العمل على تحسين علاقات تلك الدول وخاصّة بين دول شمال حوض المتوسط وجنوبه أمر يستحق التنويه والدعم. غير أنّ الصعوبات التي يواجهها الاتّحاد كثيرة وكبيرة، ولا بدّ من الاستمرار في هذا السبيل من أجل الوصول إلى التفاهم والعمل المشترك.

ومن أكبر الصعوبات التي تواجه الاتحاد في هذا الميدان هو سياسة بعض القوى الكبرى ومصالحها في المنطقة وخاصّة الولايات المتحدة الأمريكية التي تختلف عن الاتحاد في المسؤولية والإحساس تجاه مشاكل هذه المنطقة. وقد جاءت الأحداث الأخيرة في الهجوم على العراق واحتلاله بدون غطاء قانوني، وبشكل أحادي ليفتح شرخاً جديداً بين الطرفين. ففي الوقت الذي وقفت غالبية دول الاتحاد، وبضغط من شعوبها، موقفاً معارضاً من ذلك الهجوم، فقد اتّخذت الولايات المتحدة، وبدعم من الحكومة البريطانية والحكومة الإسبانية، موقفاً مغايراً وتصرفت تصرفاً إمبريالياً وعدوانيا،ً بدافع من مصالحها الخاصّة، وليس بدوافع إنسانية كما كانت تدّعي.

وهكذا فقد رأينا أنّ بعض الحكام ورجال السياسة الغربيين والعرب لم يكونوا في مستوى شعوبهم التي عبّرت وبمسؤولية عن موقف أخلاقي وإنساني، على خلاف هؤلاء المسؤولين الذين اندفعوا وبشكل مغامر وراء أهوائهم ومصالحهم الذاتية، فدفعوا بالإنسانية إلى حافّة التدهور والسقوط، وساهموا في خلق المواجهات والأحقاد التي أخذت تظهر في الآونة الأخيرة، والتي ستزداد حتماً في المستقبل القريب.

6 ـ من أجل التقريب بين مجتمعات المنطقة:

إذا كان المتعلمون والمثقفون من أبناء حوض البحر المتوسط واعين ومدركين لأهمية التعاون بين دول المنطقة وشعوبها، من أجل تحقيق الرفاهية وحقوق الإنسان، بالنسبة لجميع السكان بلا تمييز، فإنّ أمامهم عملاً كثيراً لا بدّ من القيام به وإنجازه، بهدف الوصول إلى ما يرجونه. وقد تصطدم مصالح هؤلاء المتعلمين مع مصالح السياسيين والحكام، من الذين قد يبحثون عن أهداف أخرى، ليس من الضروري أن تتوافق مع مصالح الغالبية العامة من الشعوب. لذا فإنّ على طبقة المتعلمين والمثقفين أن يبذلوا كلّ ما في وسعهم لنزع حقوق شعوبهم التي هي في أمسّ الحاجة إلى من يدافع عنهم وعن مصالحهم. ولا بدّ من الضغط على الحكومات، لكي تمنح الناس ما يستحقونه وما هو لهم من حقوق ومصالح.

فمن أجل تحقيق التقارب بين مجتمعات حوض المتوسط وتحسين العلاقات بين مختلف الشعوب، فإنّه لا بدّ من أن تجتمع الجهود الرسمية والشعبية من أجل تحقيق تلك الأهداف[3]. فعلى مستوى الحكومات لا بدّ من تنفيذ جملة من الأمور التي هي مسؤولية المجموعة الدولية وبصورة خاصّة دول منطقة حوض المتوسط، ومنها:

1ـ فضح الأنظمة الشمولية والدكتاتورية وعدم التعاون معها، أو تزويدها بالمساعدات المادية والعسكرية. والكلّ يعرف بأنّ هناك الكثير من أنظمة الحكم غير الديمقراطية في المنطقة، أو أنّها ديمقراطيات مشلولة، تُطبق على بعض أبناء الشعب دون البعض الآخر، حيث تمارس ضدّ هؤلاء الأخيرين سياسة قمعية، أو عنصرية ظالمة، وتقوم بنهب ثرواتهم وممتلكاتهم. وعلى عكس هذا فإنّ الأنظمة الديمقراطية مسؤولة مسؤولية مباشرة في إيجاد نظم إنسانية وديمقراطية في تلك البلدان، ودعمها ومساعدتها من أجل تحقيق الحرية، وممارسة حقوق الإنسان بصورة واقعية لا مزيفة.

وقد كثر في الفترة الأخيرة الحديث عن أنّ الشعوب العربية والإسلامية غير مهيأة أو جاهزة لممارسة الديمقراطية، أو أنّ الإسلام كدين لا يتوافق مع هذا المبدأ. وكل هذه التعليلات مغرضة وغير موضوعية، وبعيدة عن الواقع. فليس هناك شعب في العالم تتعارض مصالحه مع الممارسة الديمقراطية. وليس هناك إنسان على وجه الكرة الأرضية لا يرغب في التعبير عن رأيه بشكل حرّ، أو ينتخب المسؤولين الذين يتحكمون بمصيره، ومستقبل أولاده. فالعرب كغيرهم من الشعوب يعشقون الحرية، ويحبون أن يعاملوا باحترام وتقدير، غير أنّ الظروف السياسية لم توفر لهم الفرص المناسبة لممارسة مثل هذه الحقوق. ولدينا مثل واضح على ما نقوله: قبل حوالي عقدين من الزمان كانت معظم دول أمريكا اللاتينية تعاني من أنظمة قمعية ودكتاتورية. أمّا اليوم فإن غالبية تلك الدول تتمتع بأنظمة ديمقراطية، وتمارس حقها في التعبير وصنع القرار.

2 ـ تطبيق سياسات اقتصادية أكثر عدالة، من حيث توزيع الثروات، ورفع مستوى العيش لدى الغالبية من أبناء الشعوب بالمنطقة. ونحن نعلم بأنّ الكثير من ثروات بلدان حوض المتوسط لا يستفيد منها أبناؤها، بل تذهب إلى جيوب كبار الشركات الرأسمالية، أو الطبقات المتحكمة المستفيدة، وهي طبقات ضيقة تستولي على خيرات شعوبها، وتترك الغالبية بدون موارد. مما تضطرّهم للعيش في ظروف من الفقر المدقع، أو الهجرة القسرية إلى دول أخرى، وما يعنيه ذلك من مشاكل اجتماعية وإنسانية.

3 ـ التعاون الحقيقي بين مؤسسات الدول المختلفة، سواء الحكومية منها أو الأهلية، وذلك من أجل التنسيق والتنظيم. وبما أنّ مؤسسات دول شمال المتوسط هي أكثر تطوراً وتكاملاً، فإنّ على عاتقها تقع مسؤولية أكبر. فمن الضروري أن تقام لقاءات دورية بين تلك المؤسسات من أجل تنفيذ الكثير من المشاريع المشتركة، أو التي يمكن أن تؤثر على مصالح غالبية تلك الدول.

4 ـ إعادة النظر في المناهج التعليمية لدول المنطقة، وخاصّة فيما يتعلّق بالجوانب التي يجري التحدّث فيها عن الشعوب أو الأديان الأخرى. فقد تميزت تلك المناهج في الكثير من الأحيان بعدم موضوعيتها، وبنظراتها العنصرية التشويهية، بحيث قامت بتربية الكثير من الأجيال من خلال تلك الأفكار المزيفة الخاطئة، والتي أدّت إلى خلق الكثير من الأضرار وسوء الفهم بين شعوب المنطقة المتوسطية.

5 ـ تنظيم الهجرة، وقطع دابر الهجرة السريّة، التي تعرّض حياة الكثير من شباب الدول الفقيرة للمنطقة للخطر. وهذه هي مسؤولية الدول المصدّرة والدول المستقبلة للمهاجرين على حدّ سواء. فإذا كان المهاجرون ضرورة لا بدّ منها، فإنّ من حقهم أن يُعاملوا معاملة إنسانية، ويحصلوا على حقوقهم، ويمارسوا عملهم وواجباتهم بشكل منظم، بعيداً عن جشع بعض رجال الأعمال، أو إهمال بعض الحكومات لمصالح المهاجرين.

أمّا على المستوى الشعبي، فإنّ هناك الكثير ممّا يمكن عمله في سبيل خلق تفاهم وانسجام بين شعوب المنطقة المتوسطية. فمن الأمور التي يمكن لأبناء هذه الشعوب ممارستها ما يلي:

1 ـ جعل التسامح والتعايش السلمي واحترام التنوع والاختلاف وسيلة للتعامل بين مختلف الشعوب والمجموعات. لقد علّمنا التاريخ بأنّ احتقار الآخرين ورفضهم، والاعتزاز بالنفس على حساب الغير، لا يؤدّي إلاّ إلى الانعزال والتباعد، وكذا إلى التصادم والاختلاف. فإذا كانت الشعوب راغبة في العيش بسلام، فلا بدّ لها من قبول الآخرين والتعامل معهم باحترام، وبدون تعال. فالتنوع الثقافي والإنساني إنّما هو أساس طبيعي يثري حياة الإنسان وليس مشكلة تحتاج إلى الحلّ.

أمّا دور الفرد في هذه العملية فيكمن في محاولاته في نشر الوعي في المحيط الذي يعيش فيه، بين أفراد عائلته وأصدقائه والمقربين إليه. ومن أهم واجبات الأفراد عدم التعاون مع الأنظمة الشمولية، ومحاولة فضحها كلّما سنحت الفرصة له بذلك. فدور المتعلمين في هذه الظروف كبير وأساسي، ونحن متأكدون من أنّ الكثير من الأنظمة الشمولية لم تكن تعيش طويلاً، وأنّ أعمارها لكانت تكون أقصر بكثير، لو أنّ المثقفين والمتعلمين رفضوها، ووقفوا منها موقفاً مضاداً، ولم يتعاونوا معها.

2 ـ المساواة الاجتماعية والثقافيّة. هناك ضرورة قصوى لإعطاء الفرص المتكافئة سواء الاجتماعية منها أو الثقافية، لمختلف الشعوب والقوميات.

3 ـ جعل المساواة بين المرأة والرجل قاعدة أساسية للعمل وللقوانين، والممارسات الإدارية والاجتماعية. فالمرأة في كثير من دول المنطقة المتوسطية عانت وما زالت تعاني، من الظلم أو التهميش، ولكي تكون المجمعات صالحة والحياة فيها سليمة، لا بدّ من منح المرأة حقوقها كاملة. ولا ننسَ دور التربية والتعليم في سبيل تكوين ثقافة المساواة، وليس لنا إلاّ التأكيد على ضرورة البدء من المراحل الأولى للتعليم، فكما يقول المثل العربي: التعلّم في الصّغر كالنقش على الحجر.

ولكي نكون واقعيين فعلينا أن نعترف بأنّ حالة المرأة في الدول العربية والإسلامية بحاجة إلى مراجعة كاملة، لكي تنال حظّها من العلم والمعرفة، وتمارس حقها ونصيبها في الحياة العامّة.

كما أنّ دور العائلة في بسط ثقافة المساواة بين الجنسين أمر مهم وأساسي. فالعائلة هي الخلية الاجتماعية الأولى التي تزرع القيم والتقاليد. وكلّما كانت تلك القيم سليمة وإيجابية، كلّما تكوّن المجتمع بصورة سليمة وطيّبة.

7 ـ دور الشباب:

الشباب هو القوّة الفاعلة في أي مجتمع. وهو المستقبل الواعد، فهو الذي سيأخذ على عاتقه مسؤولية البلد في المستقبل غير البعيد. وعليه فإنّ تكوين الشباب تكويناً قائماً على الأسس الصحيحة والسليمة يضمن لذلك البلد المستقبل الزاهر. ولذا فإنّ على المجتمعات ألاّ تتردد في بذل كلّ ما في إمكانياتها من جهود، لدعم هذا التكوين الثقافي والفكري والعلمي. وهناك ضرورة قصوى في الانطلاق من واقع الحياة اليومية، بعيداً عن الخيالات والطموحات البعيدة، التي تحلّق في عالم الأحلام. ولا بدّ من أن تكون الأقدام منغرسة في أرض الحقيقة، لأنّه بهذه الطريقة يتمكّن المجتمع المعنيّ، وبشكل خاص طبقة الشباب، من مواجهة الصعاب التي تواجههم وتجاوزها بيسر وسهولة. وشباب اليوم، ولحسن الحظ، يشعر بالمسؤولية، ويتجاوب مع الأحداث بالصورة الطبيعية الصحيحة، وقد رأينا ذلك في الأحداث الأخيرة في الهجوم على العراق، بعيداً عن القوانين الدولية، وقرارات المنظمات العالمية. وما زلنا نرى كيف أنّهم وقفوا، وما زالوا يقفون حتى اليوم، موقفاً صريحاً وواضحاً وشجاعاً من كثير من القضايا الدولية، التي تقلق بال كل صاحب ضمير. ليس لي إلاّ أن أهنّئ شباب اليوم بمختلف انتماءاته ونزعاته وجنسياته. وليس لي إلاّ أن أشدّ على يديه متمنياً له المستقبل المشرق والغد الأفضل.

جامعة أوتونوما بمدريد



[1] ـ صدرت مؤخرا دراسة قيمة تتعلق بهذا الأمر بعنوان "الاتحاد الأوروبي في نظرة الرأي العام العربي" ونشرت في كتاب بعنوان الاتحاد الأوروبي والعالم العربي، وقام باصدارة البيت العربي بمدريد عام 2010.

[2] ـ انظر كتاب الجناح المتشدد للاسلام : الاسلام السياسي بين الحقيقة والوهم لوليد صالح، منشورات سغلو XXI مدريد، ط2 ـ 2007.

[3] ـ كثرت في الآونة الأخيرة المؤتمرات واللقاءات والمشورات والكتب الصادرة بخصوص تلاقح وحوار الحضارات. نخص بالذكر:

El diálogo de las culturas mediterráneas Judía-Cristiana-Islámica en el marco der la Alianza de Civilizaciones desde la Biblioteca de Alejandría a la actualidad. Edición de Antonio Monclús, UIMP, Fundación de la UIMP – Campus de Gibraltar, 2009.