يكتب الناقد المصري أن هذه الرواية تتوقف عند ذلك العام الذي تولى فيه حكم مصر الجماعة الإسلامية. وتطوف بنا فوق أرض وعرة شديدة الصلابة، نستعرض فيها تاريخ مرحلة شديدة الوعورة في مسيرة مصر الحديثة، عمت فيها الفوضى، المنبعثة من قلق الفتن، وأثمرت القتل والتدمير، فلم تخلف سوي الحطام والانقسام.

فتنة الإخوان .. في .. «صلاة إبليس»

شوقي عبدالحميد يحيى

لم يكن العنوان هو العتبة الثانية التي يتحتم علينا تخطيها، ولوجا للنص –أي نص- إعتباطيا أو مجانيا، وإنما العنوان هو ما يميز كاتبا عن آخر. وتتجلي عبقرية العنوان في قدرة الكاتب علي جعل عنوانه بالفعل مدخلا لإضاءة العمل، وليس فقط دالا عليه.

فإذا ما تأملنا عنوان أحمد قرني في روايته السادسة "صلاة إبليس"[1] وما يثيره من تساؤل ودهشة، وتقابل مثير للتأمل، إذ كيف لإبليس أن يصلي، وهو ما رسخ في الأذهان والوجدان، بأنه رمز للمعصية، وهو أول من رفض أمر الإله بالصلاة، حين طلب منه السجود لآدم بعد خلقه، فأبي، متكبرا عليه، إذ خلقه الله من نار، بينما خلق آدم من طين. وحيث رسخ في وجدان الإنسان – المسلم خاصة – أن السجود هو الصلاة. فإذا بأحمد قرني يصل بإبليس أن يرفع راية التسليم، ويعلن أن آدم أفضل منه، بل ويتمني أن يصبح مثله، فما يتمني الإنسان أن يصبح مثل غيره، إلا إن كان هذا الغير أفضل منه، علي الأقل من وجهة نظره.

وقد كانت رحلة الإنسان مع إبليس من خلال هاتين النقطتين، البداية والنهاية، أو العصيان والاستسلام، هي رحلة "صلاة إبليس" عبر الزمان، مع تثبيت المكان وحصره في المناشي كمكان للمعيشة الجسدية، وعلي البعد وفي ظلام المجهول في الخور ووادي الحلفاء، للمعيشة الروحية، كما لو أن الأولي (الخور) هي الجنة، بنخيلها وكنوزها الطامح إليها كل من يعيش في المناشي، والساعي للإسئثار بها العمدة "فتوح" أو الحاكم، والثانية (وادي الحلفاء) هي النار بحيَاتها وزواحفها السامة القاتلة، وهو ما يتبين من حديث "صميدة الغابي" بعد عودته من الخور كأول من صعد إليه، بل الوحيد – قبل ولده حريش-:

{أخذ يسألني عن أشياء في الخور وأنا أجيبه، وطلب وصفا لنخلات عطية، قلت طلعها نور، وجريدها ذهب ولون بلحها أحمر ليس كالأحمر الذي نعرفه، بهت الجافي وأنا أقص عليه، ثم سألني عن وادي الحلفاء، قلت فحيح الأفاعي تقشعر له الأبدان، وثعابينها تطير وسنطها كالكلاب، حينها صمت الجافي قليلا .. ثم قال: صاحبكم كان نائما واستيقظ، مجرد حلم لا قيمة له . كيف يذهب إلي أرض الخور ويعود ما بين العصر والمغرب؟}ص148

 وكأننا أمام رحلة الإنسان علي الأرض، في إحدي قراءات العمل الثري، وهو يوحي بالكثير ويتميز بالثراء والتشعب. تلك الرحلة التي لازمت الصراع الأبدي بين الإنسان والشيطان الذي أقسم أمام الله ليغوينه إلي يوم القيامة. وقد تمثلت تلك الغواية في جانبين ملازمين للإنسان، وكأنهما الجزرة الساعي إليها أبدا .... هي المرأة (باعتبار جسدها فتنة)  والسلطة (التي تحمل في طياتها المال). وهما طرفي الصراع عبر "صلاة إبليس". ذلك الصراع القائم علي ما يثيره الشيطان من فتن، وسيلته فيها، استخدام الإنسان نفسه. فكان من الإنس ما يتفوق علي الشيطان ذاته في فساده وإفساده، ويأتي علي رأس هؤلاء ... الحكام بأفعالهم. ولذلك كان فشل كل ثنائيات العشق الجميل، الذي يذكر بقصص العشق الخالدة، روميو وجولييت،  قيس وليلي، عنتر وعبلة.. كلها فشلت إما بسعي الشيطان نفسه، وإما بتدخل الحكام/ العمدة، لإفشال هذه القصص، والاستئثار بها أو اختطافها.

ولم يكن التناص الواضح طوال الرواية مع النص الديني، القرآن والسنة، والذي يسري في عروق الرواية كسريان الدم في عروق الإنسان، إلا تعبيرا عن تلك الرحلة المشار إليها، باعتبار القرآن (نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم) وفقا للحديث الشريف - الذي يذكر- أيضا ما أشارت إليه الرواية من الفتنة والذي تحدث فيه الحارث في حديثه مع علي رضي الله عنه {ستكون فتن قلت وما المخرج منها قال كتاب الله . فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم...}.

وإن ظل التناص هنا صريحا، فللإحالة والدلالة عن الثقافة المسيطرة، ودعوة للتأمل بين ما كان وما هو كائن منها. ولإحداث التوافق بين الشكل والمضمون، وحيث أن الثقافة الدينية، هي الثقافة السائدة، أو المسيطرة، ليس علي أبناء المناشي فقط، وإنما أبناء مصر عموما.

ثم إن القرآن يتحدث عن الإنسان منذ خلقه الله. وقبل أن ينزل إلي الأرض، وبعد أن نزلها، ومسيرته مع أنبيائه. وصولا لما أصبح عليه الآن. حيث تتعمق الرؤية – في الرواية - بفساد المجتمع في تلك الفترة، واحتياجها لنبي كي ينقذها مما هي فيه.

فإذا كانت رحلة آدم قد بدأت علي الأرض باستسلامه لوسوسة حواء، التي رآها الشيطان نقطة ضعف آدم وصولا إليه، وسيره وراء مشورتها، كغواية أو فتنة أولي، بل ومستمرة، فهي ما أشارت إليه الرواية في:

{في حكايات المناشي التي تروي لم أجد سببا لنزول جدنا من أرض الخور إلي بر المناشي، الحكايات تُجمع أنه كان مضطرا، هبط مرغما... جدنا الأول حاصرته الحيات هناك في الخور، لذا فالناس هنا ما زالوا يعتقدون أن السبب وراء نزول جدنا كان انتشار الحيات والعقارب. نزل جدنا حيث الشقاء والتعب، قالت لي أمي إنها سمعت أن جدنا ترك نعيم الخور من أجل جدتنا التي رآها في حلمه }ص158.

  فنعيش مع "حريش الغابي" الذي أراد أن يسير علي خطي أبيه في الصعود للخور، ذلك المكان ذو الكنوز المخبوءة، والذي زرع "عرنيش الجافي" مستخدم الجان في السيطرة علي عقول أهل المناشي، بإيعاز من العمدة " فتوح" الذي بدوره أراد الاستئثار بكنوز الخور له وحده. إلا أن حريش لم يكن يريد الصعود للخور لنفسه فقط، وإنما أراد أن يأتي بالخير للطيبين من أهل المناشي  {لماذا لا يكون الخور ووادي الحلفاء هو ملكوت الله الذي نبحث عنه هنا في بر المناشي ولا نجده؟}ص142.

 أراد أن يصنع سفينة يحمل فيها الطيبين فقط علي ظهر سفينة (نوح عليه السلام: ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأٌ من قوم سخروا منه ......... قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين (هود الآية 40)). وهو ما أراده حريش الغابي: 

{ أريد أن أصنع مركبا علي هيئة سفينة عظيمة، تحمل من كل زوجين اثنين من بر المناشي}ص159.

وإذا كان التناص هنا ظاهر، في التزاوج اللفظي، فإن تناصا غير ظاهر، ويبين في الرؤية المكملة أيضا، حيث ترفض "سماح" – محبوبته، وما تبين في النهاية أنها زوجته – ترفض الفكرة، وترفض ان تركب معه السفينة، أيضا في استحضار صورة زوجة نوح:

[ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأةلوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما ](سورة التحريم آية 10).

وفي استحضار قصة "زليخة" مع سيدنا يوسف عليه السلام، يدخل بنا الكاتب عالم النساء اللائي جلسن يستمعن حكايات "ذوات" عن لحظاتها الحميمة مع زوجها "حسن المرادني":

{هذه المرة جلست أمامهن وفتحت البؤجة وأخرجت قمصانها أمامهن وأعطت كل واحدة منهن سكينا وأخذت تحكي ما كن يردنه منها حين حكت لهن ما جري في ليلة تكال شيخ الخفراء الذي دق باب بيتها وحملها بين ذراعيه جبرا حتي ألقاها علي السرير، كانت تحكي والنسوة يقطعن أيديهن}ص121.

وبعد عودة "صميدة الغابي، حيث كان الوحيد الذي صعد الخور، نتمثل فيه سؤال موسي لربه أن يراه، فيرد عليه الله سبحانه وتعالي بأن ينظر إلي الجبل، فإن استقر مكانه فسيراه، فيحكي "صميدة" عن الخور:

{وحين ألقيت السلام ردوا، هامت علي رأسي حمامات بيضاء لم أر مثلها، وضحكات رنت بأذني، لمستني أجنحة بريش ناعم، قلت أريد أن أراكم، قالوا:"لو سكنت النخلات مكانها سترانا}ص79.

واستحضارا – أيضا- لقصة سيدنا إبراهيم مع مريم العذراءن رمز الشفافية والطهر. تشيع حكاية "مرعي البرادعي" مع المسيحية "سفيرة القمص" التي يذهب بها أبوها القمص إلي الدير والرهبنة. غير أن عذابها بجسدها، واحتياجها لمرعي، يعذبها، فيعطف عليها أحد الرهبان في الدير { كلما دخل عليها الراهب المحراب وجدها تبكي..} استحضارا للآية الكريمة[كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا...].

وتستمر رحلة التناص مع القرآن، واستحضار صور الأنبياء، لنصل إلي محمد (صلي الله عليه وسلم) في بداية دعوته وتكذيب الكفار له، والسيدة خديجة، أول من آمن به:

{ سماح هي أول من صدقني في بر المناشي البعض ظنني أهذي بحكايات مجنونة، أما سماح فصدقتني حين كذبني أهل المناشي...}ص152.

وكما كانت رحلة الإسراء والمعراج، وما حدث فيها للرسول (ص)، أكثر الأحداث التي أحدثت قلقا لدي الكثيرين حوله، وشكك فيها الكثيرون. عبر قرني عن رحلة "حريش" للخور، وما تسببت فيه من تصديق وتكذيب لدي أهل الخور، وعلي رأسهم بالطبع عرنيش الجافي،  فعبر عنها في:

{حكيت له ما شاهدته في رحلة الصعود، كان عرنيش الجافي جالسا، حضر توا وقرع بيت العجوز ودخل دون استئذان بعد أن عرف ما جري. أخذ يسألني عن أشياء في الخور وأنا أجيبه، وطلب وصفا لنخلات عطية، قلت طلعها نور، وجريدها ذهب ولون بلحها أحمر ليس كالأحمر الذي نعرفه، بهت الجافي وأنا أقص عليه، ثم سألني عن وادي الحلفاء، قلت فحيح الأفاعي تقشعر له الأبدان، وثعابينها تطير وسنطها كالكلاب، حينها صمت الجافي قليلا .. ثم قال: صاحبكم كان نائما واستيقظ، مجرد حلم لا قيمة له . كيف يذهب إلي أرض الخور ويعود ما بين العصر والمغرب؟}ص148.

كما كان للأحاديث النبوية نصيب من التناص الدال عند قرني، حين أشار إلي ذلك الغريب الذي أتي الرسول (ص) في مجلسه بين أصحابة، والذي رواه مسلم:

" بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ r ذَاتَ يَوْمٍ، إذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ. حَتَّى جَلَسَ إلَى النَّبِيِّ r . فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخْذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنْ الْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إنْ اسْتَطَعْت إلَيْهِ سَبِيلًا. قَالَ: صَدَقْت . فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ! قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِيمَانِ. قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. قَالَ: صَدَقْت. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِحْسَانِ. قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ السَّاعَةِ. قَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا؟ قَالَ: أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ. ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلَبِثْنَا مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ: يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنْ السَّائِلُ؟. قَلَتْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ [

 فيحكي فتوح العمدة عن وراثة جده وأحقيتهم بالعمودية:

{ رآه الناس غريبا أتي المناشي ذات صباح، لا يُري عليه أثر السفر، دخل دوار جدي فتوح وجلس بين يديه وأخذ يسأله عن أشياء وجدي يجيب حتي انتهي وقام من مقامه وقال لجدي: "ستغلبون بيت خروشه في بضع سنين، وستكون سيد المناشي وما عليها" مضي ولم يعرفه أحد في بر المناشي}ص63.

ومع العديد من تلك الاستشهادات التي لعبها أحمد قرني، وكأنه يستدعي كل أنبياء الإنسانية، فربما استطاعوا أن ينقذوا بر المناشي/ مصر من الفتنة التي ألمت بها. وما يمكن بالتوقف عندها النظر إلي الرؤية العامة للرواية علي أنها رؤية الإنسان علي الأرض متأرجحا بين الرغبة والرهبة، بين الجنة، ممثلة في الخور، والنار الممثلة في وادي الحلفاء، بين الرغبة في المجهول مدعوما بالمأمول، والرهبة من المجهول المحفوف بالخوف والرعب وكل ما هو علي النفس غير مقبول.

التقنية الروائية

إذا كان أحمد قرني قد تخطي في روايته "سماء الحضرة" كل سنوات الجمهورية المصرية الأولي، والتي امتدت من العام 1952 إلي العام 2011، معبرا عن كل سوءات الفترة، رافضا لها، فإنه لم يتجاوز في "صلاة إبليس" العام الواحد فقط. ذلك العام الذي امتطي فيه حكم مصر الجماعة الإسلامية، وكأنه يعادل ما بين تلك السنين، وهذه السنة. فضلا عن رغبته في استكمال مسيرة تاريخ مصر في سنواتها تلك. وقد استخدمت اللفظ (امتطي) عامدا متعمدا، تعبيرا عن تلك الرؤية التي أرادها قرني، والتي ستضح بعد قليل.

فعلي الرغم من تعدد شخصيات الرواية، وارتفاع المسافة المكانية المغطاة، حيث شملت المناشي الإقليم، معادلا للأرض باتساعها، وللسماء بأبعادها الامتناهية. إلا أننا نشعر أننا لم نغادر المكان المحدود، المعادل لمصر كلها، ولزمن محدود، وإن امتد في العمق، إلا أنه ليس حاضرا إلا في المخيلة، كعمق للزمن الحالي، وصانعه. ساعده في ذلك استخدام تقنية "رواية الأصوات". حيث نشعر أن الزمن لم يتحرك، وأن الرواية في فصلها الأخير "سماح تروي النهاية" والذي لم يكن النهاية فقط، وإنما هو النهاية وهو البداية.

ففي كل فصل يتناول أحد شخوص الرواية (حكي) الحكاية من وجهة نظره، لنجدنا أمام حكاية واحدة، هي صعود الجماعة الإسلامية للحكم. والتي مهد لها منذ البداية، ومن الصفحة الأولي للرواية، دون أن يشير لذلك من قريب أو بعيد، حتي ليظن القارئ أن عملية امتطاء الجماعة للحكم جاءت مفتعلة، ودخيلة، لو أنه لم يركز في جملة تكاد تكون عابرة، في فصلها الأخير، جاءت فاتحة وكاشفة عن روح المرحلة كاملة، وجوهر وصول الجماعة للحكم، وأفعالهم فيه.

والذي يبرز أحد سمات كتابة أحمد قرني، والتي تعتمد علي المسافات الفارغة التي يتركها قرني، حتي يتولي القارئ شغلها، بحثا عن حالة الإشباع المبتغاه. مستخدما إسلوب التداعي في الكشف عن الكثير من المخبوء، أو إلقاء الضوء علي كثير من الشخصيات خلال الحكي، دون شعور بالنشاز، أو الخروج عن السياق.

من  الصفحة الأولي في الرواية { ربما يتخيل نفسه حرا طليقا ككل المخدوعين الذين يظنون أنهم أحرار .. لا يوجد أحرار في بر المناشي.. هم في الحقيقة يقبعون داخل غرف مغلقة بإحكام ويتحركون في فضائها كالعرائس التي نشاهدها في مولد الحناوي....} ليزرعنا منذ البداية في محيط الكبت الذي يعانيه أهل المناشي. والذي يوجهنا علي الفور لتحديد بوصلة الرؤية للعمل. حيث نتعرف علي الصراع الدائر بين طبقتي المجتمع. طبقة العمدة "فتوح" ويعاونه قائد الشر ومستخدم الجن "عرنيش الجافي" ومعه شيخ الخفر "تكال" الذراع القوية للعمدة. وصراعه غير الظاهر مع منافسه علي العمودية "عائلة خروشة". بينما الصراع الواضح والأكبر، مع طبقة الفقراء والمعدمين من أهل المناشي: "حريش الغابي" ومحبوبتة "سماح" التي يسعي العمدة لامتلاك جسدها وتأبًت عليه. و"مرعي البرادعي" ومحبوبته "سفيرة" و "عنتر النوبي" ومحبوبته "عزة لبيب"– ومن قبلهم "صميدة الغابي" والد حريش -. والذين يشكلون ثنائيات لا تخلو –أيضا- من الصراع الداخلي فيما بينهم، بين الرغبة والمقدرة، بين الاحتياج والممكن، بين التقاليد والأعراف والرغبة في الانطلاق والحرية. حتي أنه يمكن تمثيل العمدة ومجموعته بجيل الماضي، أو جيل الآباء، بتصوراتهم وأوهامهم. و عريش ومرعي وعنتر، يمثلون جيل المستقبل أو الشباب، بطموحه وجسارته، ورغبته في الوجود.

فالأول -"العمدة" -يري أحقيته في امتلاك، لا المناشي فقط ومن عليها، وإنما أرض الخور بكنوزها كذلك. يقول العمدة فتوح ل"تكال" شيخ خفرائه:

{ حلم حريش في كنوز الخور وحلمه في جسد سماح الذي هو جسدي، أشتهيه كما أشتهي أرض الخور، لن أتركه أبدا لأي أحد مهما كان ... هل سمعت يا تكال قصة الملك الذي تنازل عن العرش من أجل حبيبته؟ هل تعرف لماذا ؟ لأن الحب والملك لا يجتمعان... هو اختار الحب وترك العرش. أما أنا  فلا أستطيع أن أترك ملك المناشي الذي تعب أجدادي في بنائه، أتركه لبيت خروشة من أجل قلب سماح، أنا لا أريد قلبها أريد جسدها الشهي، لن أحتاج ساعتها أن أتخلي عن ملك المناشي،}ص66.

و { العمدة فتوح هو الذي يدبر لك الشر، الشر الذي نراه يقع لكن الله لا يريده في ملكه، أما فتوح فيفعل الشر ويريده في بر المناشي، لذا لن يترك سماح حين أرسل إليها عويس تكال شيخ خفرائه يطلبها له جسدا}ص119.

وعلي الجانب الآخر يسعي حريش للخور من أجل الجميع:

{ ولما لا أفعلها وأصعد الخور وألمس كنوز وادي الحلفاء بكفي وأُسعد أهل المناشي جميعا وأخرجهم من الفقر الذي يعيشون فيه؟}

و {لم يعد لي من غاية بعد اليوم إلا أن تطأ قدمي وادي الحلفاء ليعلم أهل المناشي كلهم أن حريش جدير بها، إذا وصلت إلي وادي الحلفاء سأفكر مليا في أن أبني السور الكبير الذي يفصل بين المناشي وأرض الحلفاء، وحينها لن تصل العقارب والحيات إلي بر المناشي.........ساعتها سيجتمع كل أهل المناشي حولي وأقول لهم أعينوني بما تستطيعون، سأبني حائطا من زبد الحديد والنحاس وأصبه عند حافة الخور، لن تستطيع الجان نقبه..}ص22 – ونلحظ هنا استحضار صورة ذي القرنين في سورة الكهف [قُلنا ياذا القرنين إن يأجوجَ ومأجوجَ مُفسِدون في الأرض فهل نجعل لك خَرْجاً علي أن تجعلَ بيننا وبينهم سدا...}.

واستخدم "أحمد قرني" مجموعة الشباب في إطلاق شرارات الغضب في كل اتجاه، علي ألسنة كل منهم مثل اهتمام الحكومة بالمركز وإهمال الأطراف، وأن الحكومة حكومة جباية لا حكومة عطاء. انتشار الجهل والفقر في المجتمعات المهمشة، وصولا للطامة الكبري التي حبس بها العمدة فتوح المناشي، حين بني سجنا يحيط بالمناشي، بما له من دلالات مادية ومعنوية، والذي يكاد يكون الشرارة الأكبر في نعش العمد ونظامه:

{ أكمل العمدة فتوح بناء السور الذي طوق المناشي وجعل أهلها كأنهم في سجن كبير، السور الذي أحاط بالمناشي أحاط بنفوسنا أيضا، الجدار حال بيننا وبين أحلامنا}ص157.

إلا أن ذلك لم يمنع من أن يكون لكل من هذه المجموعة دور يدفع بالحركة الداخلية للرواية إلي مبتغاها. ف"عنتر النوبي" ابن الحفافة، تغلب عليه ضعفه الداخلي، فساهم في دفع مرعي لما سار إليه. حيث ذهب عنتر فرحا وأخبر صديقه مرعي بأنه مدعو للخطابة من فوق منبر "عزبة الحناوي" وتهيأ لها، وحين آن أوان الصعود للمنبر.. تخاذل ولم تسعفه شجاعته للصعود، وأخبرهم بأن من سيصعد للمنبر هو "مرعي" فكانت فاتحته للسير في هذا الطريق.

و"حريش الغابي" الوحيد الذي سار علي خطي أبيه "صميدة" في الصعود إلي الخور. وهنا لماذا كان صميدة هو الوحيد الذي صعد للخور، رغم تحذيرات الجميع وخوفهم من تلك المغامرة التي لن يعود أحد منها سالما؟.

يقدم قرني الإجابة المستترة وراء الأحداث حين يسوق لنا حكاية صميدة، الذي أنهكه التعب في رحلة العودة راكبا حماره، ساحبا جاموسته خلفه، فأخذه النعاس، وحين وصل البيت، لم تكن الجاموسة في خلفه. وبعد أن أعياه البحث، ويأس من العثور عليها، استجاب لمشورة زوجته، وأهالي المناشي، فلجأ للشيخ الجافي الذي يلجأ إليه أهلها في كل ما يلم بهم. فأخبره الجافي. بأن الجاموسة ذهبت للخور، ذهبت لمالكها. اشتاط "صميدة رافضا أن يكون للجاموسة مالك غيره، هو مالكها: {ليس أمامي إلا صعود الخور، الجاموسة هناك، الجافي قال لي ذلك.

فترد عليه زوجته "هداية":

الجافي قال لك إنها ذهبت إلي صاحبها.

  • أنا صاحبها وسأذهب خلفها حتي آخر الدنيا}ص69

 ليلقي لنا بتشعب الرؤي .. فمن جانب، يمكن النظر أن ذهاب الجاموسة إلي الخور، أنها صعدت للسماء، في رؤيتنا الأولي (الجانب الديني والإنساني). ومن جانب يلقي لنا بالرؤية الاجتماعية السياسية، بأن الحق لابد له من مطالب يصر عليه ويسعي للوصول إليه. مؤيدا بتلك الرؤية التي ساقها الراهب ل"سفيرة" في الدير والتي حكي لها { أن السيد المسيح كان يسير بين أصحابه، فوجدوا رجلا يقذف بالحجارة السماء ويصرخ: لماذا لا ترزقني؟! لماذا لا ترحمني؟! لماذا لا تكرمني؟1 فهمً أصحاب المسيح به. صرخ فيهم المسيح قائلا: اتركوه .. إنه أكثر إيمانا منكم}ص115. وهو يشبه ما حدث مع الرسول (ص) حين رأي أحدهم يمكث في المسجد طول الوقت، فسأل عمن يطعمه، فأجابه أصحابه بأن له أخوة هم من يطعمونه، فقال الرسول (ص) بأن إخوته أعبد منه. أي أن "حريش" ورث التمسك بالحق عن أبيه.

وأما مرعي فقد دفعته الصدفة – كما سبق – للصعود للمنبر، ومعها رأي أن عشقه ل"سفيرة" يتنافي مع صعود المنبر، فرآها الجني "جون" الذي هام بها، وسعي إليها. ولما حال سيده "عرنيش" بينه وبين الدخول عليها بهيئته، دخلها كل ليلة في صورة الحبيب الغائب المتخاذل "مرعي". عَشِقَتْ الحالة، وهي تتصور أن من يأتيها ليلا هو مرعي، ولا تدري أن من يأتيها ويُدخلها جنات اللذة وسعادة الخيال، هو الجني "جون". وعندما علم "مرعي بالحكاية، ورأي جثة سفيرة طافية علي الماء، ثار غضبه وقرر.... الانتقام... من عرنيش الجافيسيد الجني، وخادم السلطة. وكان العمدة "فتوح" قد انشغل في عراكه مع عائلة "خروشة":

{ مرعي البرادعي سكن بيت الجافي واجتمع حوله خلق كثيرون، قال أنه يعبد الله في بيت الجافي، والحقيقة أن حديثا انتشر علي ألسنة الناس في المناشي أن أصحاب الجلاليب الخضر يشربون الحشيش والبانجو ويتركون أجساهم تتمايل طوال الليل}.

{مرعي أعلن عصيان بيت فتوح وأنه لن يطيع  لهم أمر بعد اليوم.. وبيت فتوح منشغلون بالعراك مع بيت خروشة ودوار العمدية فارغ. مرعي البرادعي استولي ومعه أتباعه علي الدوار وحملوا السلاح وصاروايحطمون كل شئ في طريقهم}ص169.

وهكذا استغلت جماعة الإسلاميين الفرصة واستولت علي القيادة، وراحت تنشر الرعب والخوف والانتقام : {الفتنة وأيام العراك التي حلت علي بر المناشي أكلت الأخضر واليابس، أتت علي الزرع والضرع}ص76.

ثم نصل في استنكار أفعال مرعي وجماعته، بوصمها بالأفعال الشيطانية، حيث غاب العقل، وتحكم الانتقام، وغادر الفعل كل منطق.

فبعد أن استطاع الجني "جون" دخول جسد "سفيرة" في صورة هواء، راسما في مخيلتها صورة "مرعي". دفعته الرغبة في أن يدخلها في صورة إنسي، وصورة "مرعي" الذي تحلم به. يساوم سيده "عرنيش" علي أن يسمح له بذلك، إلا أن الأخير يرفض في البداية، ويدور بينهما الحوار الذي يخبر فيه "جون" بمعرفته ما لم (يسطع) هو معرفته:

{ماذا سمعت يا ملعون، لا يجب أن تخفي عني شيئا مما علمت.

{لن أطلق سراحك حتي تخبرني بما علمت، هل هو شئ يتعلق بملك فتوح؟

ضحكت ساعتها وقلت له :

وجسد مرعي الذي طلبته؟

  • سيكون لك.. لكن دعني أفكر في الوسيلة لذلك. قل ما عندك.. هيا.
  • ملك بيت فتوح سيزول.

قلبه انخطف وعلا صياحه:

-معقول .. العمدة فتوح سيترك العمدية وسيزول ملكه عن بر المناشي!!

- نعم هذا ما علمته وتيقنت منه...}.ص128 ، 129.

كما يكشف الحوار السابق،والذي لم يُجزم فيه عرنيش لجون، بأن جسد مرعي سيكون له { سيكون لك.. لكن دعني أفكر في الوسيلة لذلك.}. يكشف عن خاصية أخري في كتابة أحمد قرني، إثارة الأسئلة، وانفتاح التأويل، حيث يثور التساؤل:

ما إذا كان الفعل (القتل والتدمير من مرعي وأصحاب الجلابيب البيض) هل هو فعلهم، أم فعل الجني جون؟.في تزاوج بين الحالتين، الإنسية والشيطانية.

ويعضد تلك الرؤية (الاجتماعية السياسية) ذلك العنوان الذي وضعه للفصل (8) وهو{حكاية مرعي..حكاية المناشي} والذي ذكر فيه واقعة الخطابة في (عزبة الحناوي) والتي كانت بداية التحول في حياة "مرعي" والتي يعتبر هو التحول الجوهري في الرواية. وهو ما يعود بنا –أيضا- من خلال هذه الرؤية للعنوان "صلاة إبليس". فها هو "إبليس" يتمني ويساوم كي يصبح إنسيا، أي يتمناه، وما يتمني المرء لدي الغير إلا إذا رأي في هذا الغير خيرية منه. ولو أن عرنيش أمر الجني أن يسجد له كي يحقق أمله، لفعلها.

       علي الجانب المباشر، وفي إطار قراءة الحياة علي أرض مصر فيما بعد ثورة يناير 2011، وعلي ضوء الفتن التي اشتعلت في ربوع البلاد، شمالها وجنوبها، تلك التي أثيرت للوقيعة بين طوائف المجتمع، تلك التي أثيرت حول علاقات قامت بين مسلم ومسيحية، وعلي ضوء الاعتقادات السائدة، والقائمة علي الانغلاق العقلي المتوارث، قُتل من قتل، وشُرد من شٌرد، من المسيحيين بعد مطاردات العناصر المتأسلمة- وإن لم ينف ذلك تلك الغضبات والرفض من قبل الجماعات المسيحية أيضا لمثل تلك العلاقات -. وهو ما عبر عنه، بلا انفعال أو خطابية، في العلاقة بين "عنتر النوبي" ومحبوبته "عزة لبيب"(ابنة القمص راعي كنيسة العذراء). والتي احتجزها والدها في الدير، حتي يبعدها عن عنتر {- هذه فتنة عظيمة يا ولدي، ابتعد عنها ولا تشعل النار في المناشي}، فكان أن هزل "عنتر" وإزداد شعوره بالدونية، وكانت {عزة لم تكن ترغب في تلك النهاية، حلمت كأية إمرأة بحبيب وبيت وأولاد، لكن تمردها علي شرائع المناشي حملها إلي دير واسع داخل صحراء بعيدة وترانيم سماوية لم تفك طلاسمها كي تخرج من الجسد وعشقه الفاني كما نصحها الراهب داوود}ص115.

الروح والجسد

علي الرغم من قيام الرواية بالدرجة الكبيرة علي عشق الجسد، باعتباره أحد عناصر الفتنة - مع الشيطان – الأمر الذي كان معه توق القارئ لقراءة المزيد من المشاهد أو اللقاءات الحسية، إلا ان قرني خالف ذلك التوقع، ولم يُستَدرج لتلك المشاعر المُشهية، والتي تداعب شهوة القارئ، علي العكس من ذلك، ولأنه لم يرد بالجسد إلا أنه رمز للغواية، فقد جاء التعبير أقرب للرومانسية التي تحلق في سماوات الطهر والخيال. فنقرأ عن عزة لبيب محبوبة عنتر:

 {البنت التي خُلقت ليست كنساء العالمين من ماء صاف يجري من جنة الخلد وشجرة طلعها جمال الخلق وتمامه، عيناها تفرشان صبحا لم يخرج بعد إلي الناس، كأنها نور مشكاة يُضاء من قمر صاف، حين اقتربت، مسني لطف خفيف}ص110.

وتقول سفيرة عن مرعي:

{ذات يوم أمسك بيدي ومرر كفه علي رقبتي وهم أن يضع قبلة علي شفتي، هم بي وهممت به لكنه لم ير برهان ربه، عدل ولم يشق عصا طاعته}ص117.

وتتحدث عن لقاءاتها الموهومة مع الجني جون، وهي تظنه مرعي:

{كلما أغمضت عيني رأيته، يأخذني إلي أرض بعيدة، أرض بلا غطاء.. بلا سماء.. أطير وحدي كعصفور شريد، يُدخلني واحة خضراء.. واحة تشبه جنينة الليمون، تعبرها نسائمباردة ومياهها تنساب في وديانها بوداعة، حين أنام علي فراشي أراه يحملني كفارس بكلتا يديه ويُدخلني فضاء من الغناء والموسيقي}.

       ولنستطيع في النهاية القول بأن أحمد قرني، يحملنا في روايته علي محفة من الحرير الناعم، يطوف بنا فوق أرض وعرة شديدة الصلابة، نستعرض فيها تاريخ مرحلة شديدة الوعورة في مسيرة مصر الحديثة، عمت فيها الفوضي، المنبعثة من قلق الفتن، وأثمرت القتل والتدمير، فلم تخلف سوي الحطام والانقسام، الذي أكل الأخضر واليابس علي أرض النيل التي ...كانت خضراء.

Em:shyehia48@gmail.com

 

[1]- أحمد قرني – صلاة إبليس – رواية – دار النسيم للنشر والتوزيع – ط1 -2015 .