يقدم الباحث المصري وخبير الشؤون الإفريقية المرموق هنا رؤية المجتمع الأثيوبي لأزمة مياه النيل، بصورة تكشف عن مدى إهمال السلطة المصرية وتعاملها العشوائي مع تلك القضية المهمة، والتي تشكل تهديدا مصيريا لمصر نفسها، وبصورة تكشف عن الفرق الكبير بين المقترب الأثيوبي الرصين، والمقترب المصري الغبي والرديء.

رؤية المجتمع المدني الأثيوبي لأزمة مياه النيل

حلمي شعـراوي

من يقرأ المصادر الاثيوبية، يمكنه أن يتأمل نقاط الضعف المصرية والاثيوبية على السواء .. وهذا مما يفيد عملية التفاوض، أو قل يساعد على تأمل مستقبل الأزمة! منذ البداية سأعرض هنا محاورات أثيوبية تأسست منذ مطلع هذا القرن على الأقل - مالم تكن ثقافة شعبية قديمة - لكن جديدها هو مايعكسه المكتوب باسم جماعات المجتمع المدنى والصحافة، مما توفر لى فى كتاب اثيوبى باسم الموارد المائية عابرة الحدود فى حوض النيلTrans Boundary water Resources in the Nile Basin"" وعنوان فرعى: "دعم انخراط المجتمع المدنى فى مبادرة حوض النيل – مناقشات منتدى حوار المجتمع المدنى الاثيوبى ديسمبر 2005".

ومنذ البداية أيضا نقول أن المجتمع الاثيوبى، يتحاور مع حكومته منذ وقت مبكر حول "الهمَّ المائى"، ويستجيب للحوار خاصة فترة الزعيم الكاريزمى (الراحل) ملس زيناوى الذى فجر هناك مسألة "المشروع القومى" ممثلا فى اقامة "السد" المسمى أولا "سد الحدود" ثم "الالفية" ثم أصبح "سد النهضة". وذلك فى اطار خلق ثقافة سياسية وطنية للمجتمع الاثيوبى متعدد الهويات، الذى تم إعداده ليلقى بأسباب الفقر ومعاناة الجفاف، على عدم اقتسام اثيوبيا لموارد مياه النيل خاصة!

ولم تكن الحوارات الاثيوبية فى مسألة مصيرية مثل التصرف في المياه، عملية سرية، فقد وجدت ضمن تاريخهم مع هذا الاهتمام، تطلعهم إلى استخدام "مبادرة حوض النيل" المؤسسة منذ 1999 لهذا الغرض، بل والى التفاوض حول حقهم فى "الاستخدام العادل" للمياه، كأحد حقوق الانسان في استعمال مياهه! (وهو المطلب الذى تركز عليه مصر وحدها الآن)! بل ونستطيع القول أيضا أننا لم نقرأ جيدا الدستور الأثيوبي الذى تتيح مادة (51) منه للحكومة إدارة "استعمال المياه العابرة للحدود"، مما يجعل مفكرا اثيوبيا مثل "سيفو العزيز ميلاس" يلمح لها وهو يرى – ضمن الكتاب المذكور- أن الفقر والجفاف سيؤديان إلى "مخاطر الصراع"، خاصة بسبب تزايد السكان إلى الضعف، وإن كان يشير في دراسته إلى ضعف احتمالات اللجوء للتحارب.

وبهذا الطرح المبكر، كنا نتوقع بالطبع أن تكون "الادارة المصرية" منذ عام 2005 على الأقل واعية بهذا التيار الأثيوبي فى طرح القضية بإلحاح وصل إلى حد تحليلهم لإمكانيات الصراع الحربى. فى هذا الوقت كان أحد وزرائنا (للري) في قيادة المؤتمر الدولي للمياه – لفترة - (د. محمود ابو زيد) قبل 2009، واعقبه فى وزارة الرى د. نصر علام من 9-2011. كما كان وزير خارجيتنا من 2004 – 2011 (احمد ابو الغيط) هو الخبير فى الدبلوماسية الدولية بتمثيله مصر فى الأمم المتحدة قبل تولية الوزارة الهامة، فضلا عن زعم المتابعة الخاصة لمسألة المياه في أعلى مستوى سيادي أيضا مع المرحوم عمر سليمان. الأمر الذى يجعلني بإخلاص اطالب بالمساءلة التاريخية لهذه الشخصيات، عن افتقاد الوعى المصري المقارن في وقته.

ولنقرأ ماذا كان يقال على الارض الاثيوبية منذ 2002 وفق الكتاب الأثيوبي ثم يقال الآن في الصحافة الاثيوبية وفق متابعتي الاخيرة (يناير/ فبراير 2016)؟ أشير هنا انى لا أضع المسائل الفنية عن السد ضمن مناقشتنا هنا، وأشعر أن الرأي العام في مصر الآن يعكس أفكارا غير فنية نتيجة غياب المعلومات الضرورية والحوار الاجتماعي اللازم مع السلطات، على نحو ما سنرى على المستوى الأثيوبي.

ما تعكسه الكتابات الاثيوبية وهى تتحدث عن "الخطاب الواجب تداوله"، يعكس عقلنه ملفته، أشعر أن مسئولينا تجاهلوها، ليصيغوا تحاورنا المبكر معها، بينما حاول الأثيوبيون تصديرها لمجتمع حوض النيل سواء عبر "المبادرة" أو خارجها "لخلق – ما أسموه- خطاب مجتمع مدنى دولي مبكر حول حقهم في مياه النهر بدورهم."

وقد بدأ الخطاب الأثيوبي مبكرا بتصوير معاناة الشعب الأثيوبي من "أثر الجفاف"، وواقع "الفقر"، والحاجة إلى تنمية الزراعة لمعالجة "الأمن الغذائى". وأنه لضرورات تنظيم الري وتخزين المياه لفترات الجفاف، يرون مراجعة ما تدعيه مصر عن "حق الاستيعاب المصري المطلق لمياه النيل "(مع اشارات قليله لدول المصب أو الممر الأخرى)، بينما يرون ضرورة "الاقتسام العادل" للمياه مادامت تصدر فى معظمها من النيل الأزرق (أباى)، ولذا لابد من "بدء الحوار" "والحل السلمى لمخاطر الصراع" فى اشارة دائمة إلى مخاطر"الصراع الذى سيتزايد مع الزمن"!

وقد لاحظت بقراءة ما توفر من كتاباتهم تطور المطلب؛ من "توفير مياه الزراعة "ومواجهة الجفاف كمطلب وطني محلى، إلى أن المشروع يتعلق الآن بتوليد الكهرباء وتوفير الطاقة، ليس لأثيوبيا وحدها، وانما لمجموعة دول حوض النيل من السودان وما تحتها، ولا تذكر هنا مصر فى موضوع الطاقة، مع أن السائد فى مصادر أخرى أن الطاقة سوف يتم ترويج بيعها فى الشرق الأوسط، او منافسة مشروعات حوض الكونغو فى غرب وجنوب أفريقيا. ولكنه العِند الذى بات يولِّد الكفر في اثيوبيا!

وقد اهتمت أعمال التعبئة الشعبية من خلال المجتمع المدني في اثيوبيا بمناطق الجفاف أساسا، بل ومحاولة نقل جماهير إلى مناطق محيطة بالنيل، وتصوير الفائدة من ذلك، خاصة مجتمع بنى شنقول/ جوميز قرب الحدود السودانية وموقع سد النهضة.

من هذا التطور بدأ أيضا مشروع تعبئة جديدة للمجتمع المدني في حوض النيل حول المطالب الاثيوبية "للتقسيم العادل للمياه" وحقوق الانسان الأثيوبي فيها، فى تنظيمات خاصة بالمجتمع المدني لحوض النيل ، مركزا على ما بدأ يسميه قناه شرق افريقيا للطاقة E.A.Power Pool وليس فقط حوض النيل. واتسعت دائرة النشاط لتكوين خطاب جامع لدول شرق افريقيا فى ندوات نظمت بتمويل مؤسسات فورد وروكفلر، ومعهد التنمية لما وراء البحار البريطانى، وسيدا الكندية، وبنك التنمية الأفريقي، ونسقت ذلك – لفترة - جماعة وطنية اثيوبية باسم "الجماعة" الافريقية العابرة Inter Africa Group"، التي نظمت اهم المؤتمرات الافريقية. بل واستجابت الجماعة الأكاديمية بدورها، فقامت بتطوير معهد التنمية الأثيوبي إلى معهد الدراسات الاستراتيجية والعلاقات الخارجية لتطوير علاقات اثيوبيا بالخارج. وقد طرحت مجتمعاتهم المدنية بصراحة "مشاكل الطاقة، والتعاون لا المواجهة" وتجنب آثار سوء الفهم وعدم الثقة واخطاء المعلومات". وأظن أنها نفس الجمل التي نعانى آثارها الآن فى مصر، والتى لم يتح للمجتمع المدني المصري معالجتها بسبب موقف بيروقراطي فاسد في دوائر الري المصري المتابعة للمبادرة (واقول ذلك دون ذكر تفاصيل محاولة فى مصر لهذا الاشتباك المبكر من قِبل مجتمعنا المدنى فقيل لنا ان شركة علاقات عامة كبرى تتولى ذلك!" ولم أعرف أنا ولا د. إجلال رأفت معنى "ذلك" هذه! فى مناقشة مبكرة لدورنا في تلك الفترة عن نشاط مجتمع مدنى وعمل أهلي واسع في مصر!"

ماهو هام أيضا فى الحوار المدني الأثيوبي، هو تناولهم لمسألة تمويل بناء السد ... وقد بدأوا بالطبع بالحديث عن الطلب من الممولين الدوليين .. لكن الكتابات تعكس حتى وقت قريب (في الصحف والنشرات) قلقا شديدا من "تعويق مصر لذلك عند الهيئات الدولية مثل الصندوق والبنك الدولى" ومن هنا نشأت أفكار التمويل الداخلي من باب إثارة الحمية الوطنية لبعض الوقت، حتى تمكنوا من الحصول على تمويلات من خارج المؤسسات الدولية لبناء سد "تكيزى" فوق عطبره امام أعيننا عام 2009، وحيث "لم يجدوا أي رد فعل مصرى "وفق النصوص ... فتحولت النغمة إلى فرصة مناسبة للتعبير عن إمكانية تجاوز تعويقات مصر في المؤسسات الدولية، وعن فكرة الاتفاقات الثنائية لتمويل قطاعات مختلفة من مشروع سد النهضة. لأن ذلك بنصهم: خلق حقائق على الأرض بما تعنيه رسالة بناء "تكيزى" إلى كل المعنيين عن وصول اثيوبيا إلى مرحلة جديدة، وأن "أيام الوضع الراهن قد انتهت"، حين لم تكن دول المصب (تقصد مصر) تشعر قبل "تكيزى" بأى رغبة فى التفاوض، "بل كانوا واثقين أنه في كل الحالات سوف تصلهم مياه النيل"، وإن كانت رسالة "تكيزى" تعنى أيضا الرغبة في التفاوض الجاد وفق أسس التوزيع المتكافئ." ومع ذلك تم اللجوء أيضا لمحاولة الدعم الأهلي، رغم ان هذا الأخير لم يتجاوز وفق احدى الصحف الاثيوبية (الهيرالد 30/12/2015) ما يعادل 500 مليون دولار خلال السنوات الاخيرة، مع الشكوى من عزوف الاثيوبيين بالخارج عن التمويل بالدولار مباشرة!).

والاحساس الذى تبعثه هذه المصادر الاثيوبية أن ثمة احساس بأزمه داخلية دائمة حول السد ناتجة من ضعف الواقع الاقتصادي الأثيوبي نفسه، الذى لا تتجاوز صادراته حوالى ربع احتياجاته من الواردات (3 الى 13 مليار دولار). كما لا تتجاوز القوة الشرائية لخمسه وتسعين مليونا من البشر 145 مليار (ومصر مع ظروفها 946 مليار) وهذا ما يجعل الشكوى من حالة "الفقر الأثيوبي" شهيرة في الدراسات الافريقية رغم كل هذا الضجيج حول مشروع النهضة الأثيوبي.

وتعمل السلطة الاثيوبية نتيجة لذلك على دعم مكانتها الاقليمية لتيسر اتصالها بالعالم الخارجى والتأثير عليه من أجل التمويل، فهي ذات نفوذ عسكري فى الصومال، وتعرف ثروته القادمة من البترول، كما تقترب من أوغندا التي اكتشفت البترول على أرضها، وتنتبه لمخاطر نفاذ الصين والامارات في مشروعات "الموانى" الكبيرة فى جيبوتى، رغم أن للدولتين مصالح كبيرة أيضا في اثيوبيا. وهى تحاول النفاذ إلى الشرق الأوسط ليس بالمنافذ التقليدية مع اسرائيل، وإنما لإغراء تركيا بالتقارب مادام للاخيرة 2.5 مليار دولار من الاستثمارات هناك، فضلا عن تعاونهما فى الصومال، مما جعل صحيفة اثيوبية تتحدث عن "أن اثيوبيا وتركيا، عنصرا استقرار فى منطقتيهما"!

هذه هي الصورة التي تتحرك اثيوبيا على أرضيتها فى مواجهة "المعتدين على مياهها". ويبدو لي أن نغمة التعنت الأثيوبي قد تزداد مع تأكيد البنك الدولي مؤخرا تحفظه على التمويل دون موافقة الدول المتشاطئة. والذى أقصده من كل هذا العرض – غير الفني - أنى لم اقرأ في الادبيات الاثيوبية، أنواع الصراخ الذى اتابعه فى مصر، وانما أجد مجتمعا مدنيا يتحرك لخدمة قضاياه، "ومشروعا قومياً" يعتمد الى حد كبير على أهله، رغم فقر اثيوبيا الشديد في الزراعة والغذاء والتنظيم الأهلي نفسه!