يعتبر معد هذا التحقيق الأدبي أن المشهد الثقافي المغربي شهد طفرة حقيقية في غناه الفلسفي والابداعي هذا من جانب، ومن جانب اخر يشهد بزوغ جيل جديد من المبدعين في الأجناس الأدبية من شعر وقصة ورواية، كسر سلطة الأسماء المكرسة، ليصبحوا إضافات مهمة في المشهد الثقافي العربي.

راهن المشهد الابداعي المغربي

خالد حمّـاد

إعداد وتقديم:

لاشك أن راهن المشهد الابداعي المغربي يخطو خطوات واثقة الحضور في المشهد الثقافي العربي، حتى يمكن لى القول إنه صار درة التاج للمشهد الثقافي العربي، ذلك إذا عرفنا ان اغلب ما يتلقفه المشهد الثقافي العربي من منجز فكري ونقدى هو نتاج مفكرين ومبدعين مغاربة، ليصبح لهم السبق دوما في التأطير والتنظير للنظريات النقدية الحديثة، غير ذلك أن المعطيات الحضارية وجغرافيا المكان اعطت للمجتمع المغربي مثقفيه ونخبته سهولة التعاطي والانفتاح على ثقافات اخري ليصبح العقل المغربي أكثر من غيره انفتاحا ووعيا.

وفي ظل الانفجار المعرفي الحاصل اليوم يصير المشهد الثقافي المغربي النموذج الامثل الذي شهد طفرة حقيقية في غناه الفلسفي والابداعي هذا من جانب، ومن جانب اخر يشهد بزوغ جيل جديد من المبدعين في الأجناس الأدبية شعر قصة رواية، كسر سلطة الأسماء المكرسة، ليصبحوا إضافات مهمة في المشهد الثقافي العربي. لذا كان هذا الملف.

عن الرواية المغربية
1- عبد اللطيف محفوظ

إن المتتبع لمسار الرواية المغربية يدرك أنها قد أثبتت اليوم جدارتها باستقطاب مختلف أجيال المبدعين واختياراتهم الفطرية للكتابة في جنس معين، ذلك أن الرواية المغربية الآن لا يكتبها الروائيون، فقط، بل القصاصون والشعراء والحقوقيون والمفكرون وغيرهم، ويعتبر هذا التنوع في تخصصات وميول وثقافة الكتاب عنصر إخصاب فريد أثرى الرواية وجعلها متنوعة، من حيث الموضوعات المقتطعة من الموسوعة الشاملة المكتنزة لمختلف الأحداث والوقائع والأفكار بخصوص الذوات والعوالم الفعلية أو الممكنة عبر التاريخ. ومن حيث العوالم التخييلية المؤثثة للحبكات والعلائق بين الشخوص. ومن حيث الصوغ السردي المجسد، في النهاية، لكل تلك التوليفات المضمرة في صيرورات الإنتاج. وقد نتج عن هذا الوضع كون الرواية المغربية، الآن، تستعصي على التنميط أو التأطير ضمن صنف معين، حيث تتجاور النصوص التجريدية التي تحاول سرد الأفكار مع النصوص التسجيلية التي تحاول تشخيص وضع الكائن في زمن ومكان محددين، كما تتجاور النصوص التجريبية التي تتغيا المكر بالحكاية عن طريق التجديل بين الحكي التاريخي والسيري والأسطوري والمتبدي الاجتماعي على مستوى اقتطاع المادة الحكائية من الموسوعة (بمعناها عند أمبرطو إيكو)، وعن طريق اعتماد المفارقات الزمنية، والنسبية في معرفة السارد بحقيقة موضوعه، والمجاز في تشخيص حالات الأشياء والوعي والروح، على مستوى الصوغ السردي؛ مع النصوص التقليدية التي تعمد إلى اقتطاع حكايات ممكنة مشاكلة للحكايات المعتادة في العالم الفعلي، وصوغها وفق آليات السرد المألوفة، إما انحيازا للتواصل مع مختلف طبقات المتلقين، أو انحيازا للشكل الأكثر بساطة.

بيد أنه، حتى بتجاوز الاختلافات الجوهرية السابقة، يصعب على المتتبع، وإن اقتصر على إنتاجات سنة بعينها، أن يحدد المُهَيْمِنَ في الرواية المغربية الآن؛ لكن يمكنه ملاحظة ندرة النصوص التي تحقق، فعلا، المعايير الأساس للرواية الفانتاستيكية، ولرواية الخيال العلمي، وللرواية البوليسية. بمقابل حضور مهم للنصوص التي تقبل، كليا أو جزئيا، التصنيف ضمن أصناف الواقعية والتخييل الذاتي والسيرروائية والتاريخية. وتحيل هذه الملاحظة – حسب اعتقادي - إلى ثلاث حقائق يمكن اعتبارها من أهم سمات الرواية المغربية: تتصل الأولى بحدود التخييل، والثانية بنوع الكتابة المهيمن، والثالثة بالرغبة في حرية غير مقيدة. بالنسبة للحقيقة الأولى يعكس انحياز النصوص نحو التخييل الذي يمتاح من المتبدي الواقعي والمتبدي التاريخي ومن التجارب الذاتية مؤشرا على محدودية فعل التخييل الذي ينضدد على معطيات يجري تنسيقها في شكل محكيات يقترب الكثير منها من المحكيات الشفوية. ولا تستطيع الصيغة التي تحاول إضفاء سمات الأدبية على المحكي أن تحول الشكل إلى أداة لاستدراك العجز المحايث للتخييل؛ أما الحقيقة الثانية فتتصل بتكييف التخييل والصوغ السردي مع التجارب التي حققت نوعا من النجاح على مستوى التلقي أو الاحتفاء النقدي بأنواعه المختلفة، وقد تمظهر ذلك أولا بالعودة إلى الاحتفاء بالحكاية نظرا لكون التجارب السابقة الناجحة "جماهيريا " قد ارتبطت بها، على خلاف التجارب التجريبية التي كان نجاحها محدودا جدا، وثانيا باستيحاء التاريخ ومحاولة إعادة كتابته روائيا. بيد أن ما يسم هذه العودة هو كونها ليست نابعة من تصور واضح للكتابة الروائية، بوصفها مشروعا تكون، بفضله، الروايات المنجزة من قبل كاتب بعينه حلقة ضمن سلسلة متناسقة تسفر في النهاية عن رؤية ما للعالم، بل مجرد استعارة لأشكال موجودة تُخْضَعُ للتحويل. ولعل التأمل في الرواية التاريخية المغربية، مثلا، يفيد ذلك، ليس فقط لأنها لا تستجيب لشروط الرواية التاريخية كما حددها جورج لوكاش، ولكن لأنها تشكل انقطاعا داخل نسق الكتابة عند أغلب الكتاب، ولأن اقتطاعها من المتبدي التاريخي لا يشكل بالضرورة إجابة كنائية أو استعارية واضحة عن الراهن، الشيء الذي يحيل أغلبها إلى تجريب مخصوص لا يتجاوز من حيث القيمة الرواية التسجيلية. أما الحقيقة الثالثة المتصلة بالرغبة في الحرية فتتمثل في اهتمام غير الروائيين بكتابة الرواية، من جهة لأنها توفر شروط التعبير الحر بشكل ملموس عن مختلف الأفكار بخصوص الكينونة والوجود والنظم .. مع إمكانية تجسيدها وفق أشكال متعددة موجودة مسبقا في ذاكرة الجنس الروائي أو مولدة، ومن جهة ثانية في قدرتها على استيعاب كل الأجناس والأساليب، وعلى تضمين النصوص على اختلاف مشاربها. ولعل هذه الحقيقة الأخيرة تفسر التنوع الغني لمضامين وأنماط الرواية المغربية مثلما تؤكد صلابة تنظيرات باختين ولوكاش، وخصوصا ما يتعلق بالانفتاحية والتعبير عن الكلية الممتدة.

لكن لا بد من الإقرار بأن هذا التنوع والتفاوت في مستوى التجارب والنصوص، لا يجسدان سوى اختلاف داخل وحدة تتمثل في الرغبة في التعبير عن عالم ينتصر على التشيء وأفول القيم؛ وبأن أغلب النصوص تشخص الظهورات التي تعطى من قبل المتبدي الراهن دون توفر القدرة على تشخيص الجوهري في الواقعي، ذلك الجوهري الذي يكون سببا حقيقيا لتلك الظهورات، وبغياب تجارب عظيمة تجعل تحول الموضوع المعرفي من وقائع ما إلى أفكار ممكنا. إن هذه الغيابات تجعل الرواية المغربية الآن، وقد حققت تراكما هاما، مطالبة بالتفكير أكثر في موضوعاتها المعرفية وأشكالها الجمالية، حتى تستطيع بعض تجاربها أن تصبح حاملة لرؤية ما واضحة للواقع.

كما لا بد من الإقرار بأن العديد من التجارب الرواية المغربية الآن تحتاج إلى إعادة النظر في لغتها وأشكال تمثيلها لموضوعاتها، وألا تغتر بكتابات نقدية، منجزة من قبل مغاربة أو عرب، مجاملة وفارغة من حيث البعد المعرفي، ذلك أن العديد من الروايات التافهة والحافلة بشتى الأخطاء الفادحة اللغوية والتقنية والجمالية حظيت بقراءات نقدية يحتار المرء إن كانت ناتجة عن جهل الناقد باللغة العربية، وبتقنيات الكتابة الروائية، أم أنها كتابات مجانية من أجل "تبييض" كتابات لأسماء غدت ذات سلطة شرعنها الوهم العربي..

2- سعيدة تاقي
قبل البدء: لنتفق أولاً أن أي محاولة للإحاطة بالمشهد الروائي المغربي راهناً ستكون مجرد ادعاء لن تسـلم سريرته "البـريئة" من جـنوح غـير مقـصود إلى النـسيان أو الإهمال أو القصور أو الإقـصاء. فما تراكـمه الـروايـة حاليا في المغــرب من منجَــز نـصي مـوسومٍ بالـتـنـوع والكثافة والتجدد والنضج والانفـتاح لا يمكن حصره في وقفة نقدية واحدة تسارع حيز المقال، للانتقال من نص روائي إلى آخر، مثلما لا يمكن حصره في دراسة أدبية واحدة تروم استيعاب الكل "الروائي" دون البحث في الخصوصيات النصية.

للرواية بداية: قد يقال إن شأن الرواية المغربية الحديثة في ذلك شأن الرواية العربية الحديثة عموماً، تنحـت في تبيئتها لمساراتها المجدِّدة تراكماً على مستوى الكم والكيف يَمتنِع على الناقد أن يسعه في وقفة تأمُّل واحدة. لكن لَمَّا كانت الرواية المغربية قد مهدت لبداياتها متأخرةً في أربعـيـنات القـرن العشرين بمنحى سـير ذاتي (مع التهامي الوزاني وعبد المجيد بنجـلون) وواصلت المراوحة بيـن البـعـد الـذاتي السيـري والبعـد الواقـعي (الاجتماعي والسياسي والإيديولوجي) في فترة الستينات إلى غاية بداية الثمانينات. وخاضت منذ الثمانينات معترك التجريب الفني، ووازت المنحى الواقعي بالانشـغال بتشـييد "الرواية المجدِّدة" شغفا بمد الرواية الجـديـدة مع آلان روب غرييه وغيره، وذلك عبر تـجـارب عـديـدة متـفـاوتة ومتـبايـنة من حيث النـسـق التجـريـبي والعـناية بـتسريد الحـياة والإنسان والاحتـكام إلى سـطوة النـقـد. فخـاضت الرواية منذ أواسط الثمانينات في السيرة السجـنية وتجربة الاعتـقال السياسي وفي تكسير الحواجز بين لغة الشعر ولغة النـثـر، وفي استــلـهام عـوالـمها الحكـائـية من النـسـغ التـاريخي والـديـني والـعـجائــبي والأسطوري والشعبي، وفي محاورة الفلسفة والتراث والرحلة واليوميات والمذكرات وغيرها. فإن ما تحقِّقه الرواية المغربية حاليا منذ بداية الألفية الثالثة يمثل طفرة نوعية تضع الرواية أخيرا عند اكـتمال وعي الكـتابة الروائية بـذاتها في التصور والإنجاز والتمثيل والتجاوز.

الألفية الثالثة:
قد يكون أسهلَ على التأمل أن يحصر حدود منظوره في محاور مضبوطة يتكئ عليها في الانتقال من موطن إلى آخر، ويقيِّد بها ما يتوسَّمه من توصيف للرواية المغربية مع بداية الألفية الثالثة، غير أن ما يشيده التفريع والتصنيف والإحصاء من محاولاتِ احتواء بنيوية تنظيمية قد تُلغي ضمنياً ما تحفل به النصوص الروائية من تباين وتعدد على مستـويات محافـل التـسـريد وتطـريزات الحـكايـة وتـشابكـات الأنـسـاق الموازية على صعـيد اللـغة والخطاب والتخييل.

إن الرواية المغربية في الخمس عشرة سنة الماضية تستوعب إبداعيا أجيالا روائية مختلفة؛ ترسم جميعها صورة المغرب الثقافية والإبداعية من منطلقاتها الخاصة. ولا يفضي هذا القول إلى افتراض أن سلطة الكتابة أو الحكي أو التسريد قد انفلتت من يد الأسماء المعروفة والراسخة في أزمنة الكتابة الروائية السابقة، لصالح الجيل الروائي الجديد؛ فالمنحى الواقعي ما زال يجايـل على مستوى التحقق النصي رفقة المنحى التذويتي التجارب الجديدة ويواكبها بقوة وهيمنة حينا أو بهدوء وتراجع حينا آخر. ومازال كتّاب الموجة التجريبية (من محطة الثمانينات وما بعدها) يكتبون الرواية وفق ما طوَّروه ضمن مختَبراتهم الروائية من إمكانات للكتابة واحتمالات للتخييل. لكن في عمق هذا التزامن الذي تقترحه الرواية المغربية بين أصوات روائية من أجيال متعددة، تكمن موازين سطوة أخرى ستكشفها السنوات القادمة ليس على مستوى التجاذبات (الطبيعية والمنطقية والحتمية) بين الأجيال، وإنما على مستوى التأسيس لتجاوز ضوابط السرد التقليدي وتخليق رؤية أصيلة تستثمر المتحقق السالف لبناء هوية خاصة.

الكتابة الروائية والوعي المركَّب:
تقترح الرواية المغربية في مستهل الألفية الثالثة تصورات جديدة حول الكتابة الروائية، يتمُّ تفعيلُ إدراكها الإبداعي وصيغها الجمالية ووعيها الإيديولوجي ضمن ما تستحدثه من داخل الكتابة الروائية للرؤى المجدِّدة. فالرواية المغربية حاليا ـ فيما تشـيـده من رهانات تجديدية ـ لا تنظر إلى واقع المجتمع لتصوِّره، أو إلى العالم لكي تتمثَّل أبعاده وتعيد تشكيلها وفق ما قد يتيحه لها السرد ونسق التخييل من احتمالات للكتابة والحكي، ولا تنغلق على الذات الساردة لترى عبرها العالم في سرد أوتوبيوغرافي يستعيد لصالح وجود تلك الـذات الفردية ما تخـتزنه الكـينـونة في الـعالم من دلالـة وإحـالة وتأويل. إن التجربة الروائية الجديدة تزحزح رتابة الواقع وتعيد تنضيد تمثلات الإنسان للعالم وتمثيلات العالم للإنسان. إنها تنتفض ضد "قوانين" السرد التقليدي لكن ليس في اتجاه النأي عن الحكاية لحساب خواص الخطاب السردي. إنها تدرك ما رسَّخته أقدار الرواية المغربية من ميل كلي نحو أحد المنحيين: "تدوين الواقع بالحكاية" أو "تجريب إمكانات الخطاب السردي". ولأجل ذلك ربما هي تقـف حاليا في منـتصف المـسافة بين "تقديس" الحكاية و"تأليه" السارد.

تجارب التسريد المضاد:
قد تكون المقاومة في عمق الكتابة أهم مداخل الإبداع والصمود والتجديد والاستمرار، فالكتابة الروائية وإن كانت لا تُعرِّف عن نفسها من منطلق التحرر والتمرد، إلا أن فعل التشخيص الروائي لا يمضي بعيدا عن قيم المقاومة. ولا يُقصد بالمقاومة نسقُ التثوير الذي من شأنـه أن يكـون مـصاحـبا للـتـحولات الكـبرى والمـصيـرية التي تشارك فيها الجـماعات ويحفظها تاريخ الأمم، وإنما المقاومة بوصفها فعل الوجود الأول المنوط بتميُّـز الإرادة أو إرادة التميُّـز. في ضوء ذلك يمكن القول إن الأصوات الروائية الجديدة (بتوجهاتها وخلفياتها ورهاناتها ومداركها المختلفة والمتباينة) تحـيِّـنُ في وعي الكتابة فعْلَ مقاومةٍ متعدد تنضوي تحته مقاومات متنوعة ضد المركز لصالح الهامش وضد الراسخ لصالح المجدِّد وضد الثبات لصالح التغيير وضد السلطة لصالح العدالة وضد الإكراه لصالح الحرية.

تنطـلـق التجـارب الروائية الجديدة في معظمها من الهـامش، والهـامش مـدن صغرى أو قرى، رغم انخراطها التاريخي منذ زمن طويل في بناء المدونة الثقافية المغربية، لم تُتِح لها خريطةُ التسيير والتدبير مَوقعَ تميُّز أو رصيد إشعاع. ولأجل ذلك تخوض الكتابة من وعي مسبق بالمَواقــع والأرصدة لتعيد ـ باسم المقاومة ـ للهـامش ما يستحقه من انـشغال. وهكذا تستعيد التجارب الجديدة قدرة التخييل الروائي على كتابة الراهن/التاريخ الحديث من خارج الصيغة الرسمية المدونة في سجلات المؤرخين. ولا تقف تلك الاستعادة عند استلهام بذرة الحكـاية "التـاريـخـية" وإنما تشـيِّـد في عمق التـخيـيل مقـاومة للحـكاية "الـرسـمـية" أو "الإيديولوجية". إن التجارب الجديدة تعي قـدرة الكتابة على بناء الذاكرة المضادة بتصحيح الصيغ الرسمية أو الإيديولوجية التي يكتبها القادة والمنتصرون، وذلك عبر منح المستضعـفـين والمعطـوبين والمهـزومـين والمقصيـيـن والمهمشين والذين تحولوا إلى مجرد أرقام لعدد الضحايا أو القتلى أو المفقودين دون تسميتهم بأسمائهم المثبتة من السجلات المدنية، (عبر مَنْحِهم) حقَّ امتلاك "سلطة الخطاب" من منطلقات تخييلية، وهذا ما تحققه الرواية الحديثة حين تترك لكل أولئك فرصةً ديموقراطية تكفل العدالة إلى جانب المساواة في أن يتحولوا جميعهم إلى أصوات سردية في منجَزها النصي لها كل حقوق الحكي وكل إمكانات التعبير.

خارج التصنيف:
إن التسريد المضاد في الرواية الحديثة لا يمكن نعته بـ "الحساسية جديدة" لأنه خارج التصنيف النقدي، بل لأنه يمضي في نسق التعـدد الثـقافي والإثـني واللـغوي الذي يسم المغرب، وهو ما يتيح لكل قلم روائي أن ينطلق من محدِّداته الوجودية ومن جذوره الثـقافية المحلية والخاصة ضمن انتمائه إلى الوطن الواحد، ومن ثم قد يكون التباين بين تلك التجـارب على مستـوى روافـد الكـتـابـة وصـيـغ التخـيـيل وتمـثلات الـقيـم الجـمالـية والتصورات المعرفية وإبـدالات التسريد وأساليب التشخيص سبيلاً ثانيا للمقاومة يمانع بقدرة الإبداع المتحرِّر أدواتِ النقد التنميطية التي تبحث عن البنية الكلية المجرَّدة لكل النصوص الروائية بعيدا عن تمايزات تشخيصها لذلك المجرَّد أو عن ما تستحضره من أنساق ثقافية متعددة موازية.

3- شجون الكتابة

عبد العزيز الراشدي

(1)

أنتمي لجيل من الروائيين جاء بعد مرحلتين أساسيتين في تاريخ النصّ المغربي. فالمرحلة الأولى عُرفت بمرحلة التأسيس، وكانت ملتزمة بقواعد الكتابة الكلاسيكية الخطية، يسكنها هاجس الأرض والوطن والاستقلال، وظهرت فيها نصوص قليلة من أشهرها: (الزاوية) للتهامي الوزاني( 1942) و( في الطفولة) لعبد المجيد بنجلون (1957)و( سبعة أبواب) لعبد الكريم غلاب (1965) و( دفنا الماضي) لعبد الكريم غلاب (1966) و( جيل الظمأ) لمحمد عزيز الحبابي( 1967). وتميزت المرحلة الثانية وسماها الباحثون مرحلة "التشبّع" والنموّ، بتطوّر في النصّ الروائي، وتميّزت موضوعاتها بمحاولة مناهضة السلطة السياسية، بعد خيبة الاستقلال الوطني، الذي لم يحقّق للمثقف المغربي كلّ طموحاته في الديمقراطية والتحرّر. ومن رواد هذه المرحلة محمد زفزاف، عبد الكريم غلاب، مبارك ربيع، ومحمد شكري، ومن أهم إصدارات المرحلة الثانية: الخبز الحافي لمحمد شكري (1982) والأبله والمنسية وياسمين للميلودي شغموم (1982)، ووردة للوقت المربي لأحمد المديني (1982) وقد حاول النص المغربي خلال هذه الفترة أن ينفصل عن سطوة النص المشرقي، وأن يصوغ لنفسه تجربته الذاتية، ويختطّ طريقه.

أما المرحلة الأخيرة، التي امتدت من الثمانينيات حتى الآن، والتي أنتمي لمناخها، فتطوّرت خلالها الرواية المغربية وأصبحت تنظر إلى نفسها في مرآة الكتابة وتكتشف فضاءات جديدة. إذ أصبح همّ الكتابة حاضرا في النصّ الروائي المغربي، ولكن مع العودة إلى الحكاية، فتميزت هذه المرحلة بتعدّد الأقلام وتنوّع مشارب الكتابة وارتياد آفاق جديدة لم يطرقها الروائيون من قبل. ولا نستطيع أن نمثّل لهذه الفترة بنصوص ولا بأسماء لأنها كثيرة جدا ويستحيل حصرها، لكن من الأعمال التي تحدّث عنها النقاد هناك محمد الهرادي في أحلام بقرة (1988) وامرأة النسيان لمحمد برادة (1998) وخميل المضاجع للميلودي شغموم (1998)، ونصوص كثيرة أنتجها الرجال والنساء.ولازالت تُنتج فيها النصوص، وتتعدّد، فيشير الباحث حسن المودن، في معرض حديثه عن هذا الموضوع، بموقع وزارة الثقافة المغربية، إلى أنّه قد " ازداد عدد الروائيات في السنوات الأخيرة، خلافا للعقود السابقة، بشكل لافت للنظر. نستحضر منهن خديجة مروازي والمرحومة مليكة مستظرف، منهن من وصلت إلى العمل الروائي الثاني كزهور كرام التي تجمع بين النقد والإبداع، ومنهن من وصلت إلى العمل الروائي الثالث كزهرة المنصوري، ومنهن من جاءت من القصة إلى الرواية، وأصدرت روايتها الأولى كوفاء مليح، ومنهن من جاءت من الشعر إلى الرواية كفاتحة مرشيد التي أصدرت روايتها الأولى، ومنهن من تمتح من مصادر إبداعية ومرجعيات نقدية مغايرة، كأسمهان الزعيم التي أنجزت رسالتها لنيل الدكتوراه حول الأدب الاسباني في اسبانيا وأمريكا اللاتينية، وأصدرت روايتها الأولى. في حين ازداد عدد كتاب الرواية من الرجال، وتعدّدت مشاربهم الثقافية والجغرافية، يضيف المودن، فهم كتّاب ينتمون إلى فضاءات اجتماعية وثقافية ومعرفية مختلفة ومتنوعة، أصدروا رواياتهم الأولى في التسعينات وبداية القرن الجديد، ونذكر منهم بنسالم حميش ويوسف فاضل وأحمد التوفيق ومحمد الأشعري وحسن نجمي وشعيب حليفي وعبد الحي المودن وبهاء الدين الطود ومحمد غرناط ومحمد أنقار والحبيب الدايم ربي وعبد الكريم الجويطي وجلول قاسمي ونور الدين وحيد ومحمد أمنصور وجمال بوطيب وأحمد الكبيري وحسن طارق وأحمد اللويزي ومصطفى الغتيري وعبد العزيز الراشدي."

(2)

بالنسبة لي، كتبتُ أول نصّ روائي عن الصحراء عنوانه "بدو على الحافة"، وهو أول نصّ روائي كُتب عن هذا الفضاء، في المغرب، بلغة عربية، حسب علمي.إذ اهتم الروائيون المغاربة بالمركز على حساب الهامش، وبالمدينة على حساب الأطراف، ولهذا انتبهتُ إلى ما ينبغي أن أسير فيه. كانت رواية "بدو على الحافة" بداية لرحلة في الكتابة الروائية، لم تكتمل بعد، فالنصوص القادمة، عن الصحراء، تتبعُ الخيط الدقيق الذي تركته هذه الرواية في فضائي السردي. إذ ما زالت الشخوص والأمكنة تقول الكثير، وتعد بالكثير..

أما روايتي الثانية "مطبخ الحب" فكانت انعطافة خفيفة في المسار، باتجاه الواقع المغربي وأسئلته الحارقة، فيتناوب في الرواية صوت الحب وصوت السياسة، في تضاد (وتلاحم)، لخلق الخطاب الذي أردتُ بناءه تجاه الواقع المغربي الذي تعترض تطوّره العوائق. كتبتُ هذه الرواية وعيني على الشباب الذي يتخبّط دون إرادته في طاحونة الألم.

ليس مطبخ الحب في الرواية مطبخ حبّ سهام وعبد الحقّ اللذان تظلّ الحياة والبطالة تصفعانهما من كل ناحية وهما يقفان وسط الريح باحثين عن مساحة غير لزجة يضعان فيها قدميهما، بل هو محاولة لتحديد ماهية الحبّ في بلد تصعب فيه أسباب الحياة، ويتسع الحب ليتجاوز الحبّ الجسدي لينسحب على حبّ الوطن وحبّ الحقيقة وإدانة الفساد السياسي والنفاق الاجتماعي والأخلاقي وسياسة النعامة التي أصبح يُتقنها مجتمع يائس. لكن الأمل يظلّ يقضا في ابتسامة طفلة صغيرة أو إصرار فتاة على القراءة رغم الضوء الخفيف..

(3)

أكتب القصة القصيرة أيضا، وقد أصدرتُ طفولة ضفدع وزقاق الموتى بالمغرب، وأصدرتُ وجع الرمال عند دار العين بالقاهرة. للقصة مكانة خاصة في القلب، إذ ترصد بوضوح تلك اللحظات المنفلتة من بين الأصابع كالزئبق. كتبتُ نصوصي القصصية (في أغلبها عن الصحراء) ورغم ما يقال عن القصة، وعن كونها بنت المدينة، إلا أن هذه النصوص حاولت رصد لحظات منفلتة من زمن صحراوي ممتد سرمدي مثل خط طويل.

القصة القصيرة في المغرب لها حضور وإشراق في المشهد الثقافي العربي، خصوصا بعد سنوات التسعينيات التي عرفت نموّا مطّردا في الأسماء والتجارب، يشهد على ذلك ظهور أندية القصة في مختلف المدن المغربية، بعد أن كان التنظيم الثقافي حكرا على الدار البيضاء والرباط، وهو مؤشر ثقافي له دلالة خاصة، تشي بتطوّر المغرب وانتباه أطرافه إلى خصوصياتها الثقافية والجغرافية والمعرفية. واليوم، نقرأ بانتظام خبر صدور عناوين قصصية مغربية في مختلف بقاع العالم العربي، كما نشهد على حصول أدباء مغاربة، يكتبون القصة، على جوائز قيّمة في حقل السرد.

عن القصة القصيرة
وئام المددي
روائية وقاصة حاصلة على جازة الطيب صالح

تعرف القصة القصيرة بالمغرب تطوراً مستمراً من أجل مواكبة الواقع ورصد الحياة اليومية بأدق تفاصيلها، هذا التطور أدى بها إلى بلورة أدواتها وتقنياتها السردية وتجديد أشكالها القصصية التي قد يستعصي على النقد، أحياناً، الإحاطة بها، خاصة في ظلّ التجريب الذي يصدر عن تمرس في الكتابة واطلاع على الإنتاج النظري بالنسبة للبعض، بينما يعتبره البعض الآخر موجة عابرة أو مجرد "موضة". ومن النقاد من افتتن بالقصة القصيرة، فاعتبرها فن القرن العشرين وجنساً أدبياً له استقلاليته الخاصة، نظراً للإمكانيات التي تتيحها ولا يتيحها أي جنس أدبي آخر. وإذا ما تذكرنا أن النشأة الأولى لهذا الجنس الأدبي كانت في الغرب، فإن استنبات هذا الجنس في تربة الأدب العربي كان مغامرة حقيقية، إلا أن القصة القصيرة استطاعت مواجهة التحديات التي تمثل أمامها، وتخطي المآزق التي تتعقبها بفضل جهود ثلة من كبار القصاصين الذين رسخوا دعائم القصة القصيرة المغربية والعربية عموماً، بل هناك من حاول تأصيل هذا الجنس فغاص في أعماق النصوص التراثية كي يبحث عن جذور له في الموروث الأدبي العربي، معتبراً أن المقامات والحكايات، كألف ليلة وليلة والأزلية وحمزة البهلون.. كانت الشكل الأقدم للقصة العربية.

للأسف الشديد، هناك من الكتاب من يمتطي صهوة القصة القصيرة استسهالاً منه لها، على الرغم من كون القصة القصيرة جنساً مخاتلاً ومراوغاً، وحده القاصّ البارع من يستطيع الإمساك بخيوط سردها دون أن تتشابك أو تترهل، ذلك أن القصة القصيرة قبل كل شيء هي فن الإدهاش، فن التلميح والتكثيف، فن اقتناص تفاصيل اليومي والهمس بين السطور والاكتفاء بالإيماءات الصامتة التي تشي للقارئ بفداحة الواقع وتكشف له عمق الأمور. لهذا، كان لزاماً على القاصّ أن يتسلح بالأدوات والتقنيات السردية والنظريات النقدية قبل أن يقتحم مغامرة الكتابة القصصية، وألا تغريه إمكانيات النشر التي تتحيها الشبكة العنكبوتية فيسقط بذلك في فخ الاستسهال، لكن هذا الوضع لم يمنع من ظهور مجموعة من كتاب القصة الشباب المتألقين، إنْ في المغرب أو في العالم العربي، قدموا للقصة القصيرة إضافات نوعية وبصموها ببصمة الإبداع الشبابي المتميز.

هناك أيضاً من المبدعين من يعتبر القصة القصيرة مجرد تمرين من أجل التمرس على كتابة الرواية، متذرعين بكون كبار الروائيين قد دشنوا مشوارهم الإبداعي بكتابة القصة القصيرة، لكنهم نسوا أن القصة القصيرة جنس مستقل له أدواته وأساليبه الخاصة التي تختلف عن أدوات الرواية وأساليبها، كما أن القصة قد خرجت، منذ زمن، عن وصاية الرواية وسيطرتها، واجترحت لنفسها خطاً خاصاً بحثاً عن آفاق أرحب للإبداع، وأظن أن القصة قد اختارت البساطة عنواناً لها، وابتعدت عن التعقيد والغموض من أجل أن تلاقي أذناً صاغية لدى المتلقي.

لقد صار القراء يميلون إلى قراءة القصة القصيرة نظراً لحيزها الإبداعي الصغير والمكثف الذي يتماشى مع سرعة العصر ويمرر معانيَ كثيرة وعديدة، بل منفتحة وقابلة لأكثر من تأويل. إنها رحبة في ضيقها، ومتفرعة في كثافتها. فصارت بذلك الجنس المفضل لدى أكثر من قارئ.

عن الشعر المغربي
1- نور الدين الزويتني

لا غرو أن الشعر العربي يعرف اليوم مرحلة زاهية جدا، وذلك على مستوى كل البلدان العربية، بل يمكن القول أنه يعرف طفرة جديدة شبيهة بطفرة التجديد التي شهدتها الستينيات. وإذا كان النقاد دأبوا على ربط طفرة الستينات بعوامل ثقافية وسياسية أساسا مثل نكسة حزيران 1967، فإن هذه الفورة الشعرية الحالية يمكن تأطيرها والتأريخ لها بالطفرة المعلوماتية والتواصلية الكبيرة التي يعرفها عالمنا المعاصر.

لكن إذا كانت طفرة الستينات الشعرية قد همت بالأساس المشرق العربي لعدة عوامل تاريخية وثقافية وسياسية، وجعلت من بلدان عربية كالعراق ومصر وسوريا ولبنان بلدانا رائدة على مستوى التجديد والانتشار الشعري، ورافعة للوعي الشعري الجديد في باقي الأقطار العربية خصوصا بلدان المغرب العربي، فإن الطفرة الشعرية الجديدة همت كل الأقطار العربية بشكل متواز جدا..ذلك أنا نلاحظ اليوم بشكل ملموس غياب المركزية المشرقية التي هيمنت بظلها على المشهد الشعري لعقود كثيرة. بل يمكن القول أن المركز نفسه تشظى بشكل رهيب جدا، لأن المركزية التي نتكلم عنها كانت مركزية تراتبية، بمعنى أنها كانت مؤسسة على هيمنة الإعلام الورقي كمجال إنتاج ثقافي تتحكم في وسائل إنتاجه نخبة ثقافية معينة تسهر بعناية على ترتيب المشهد الثقافي حسب شروط واعية إرادية وغير واعية يصعب الدخول في تفصيلها الآن...وقد كان الانهيار الذي عرفته هيمنة الإعلام الورقي وصعود المد المعلوماتي التواصلي عبر كل وسائطه الاجتماعية هو ما كشف هذه التراتبية، وقد تجلى ذلك في أفول نجوم أسماء شعرية مشرقية كانت إلى عهد قريب ترقى إلى مستوى المرجع الشعري كالشاعر أدونيس على سبيل المثال وفي مقابل ذلك الصعود الهادر لأسماء كانت شبه منسية رغم مجايلتها للأولى مثل الشاعر العراقي الكبير صلاح فائق على سبيل المثال لا الحصر أيضا.

يمكن الحديث داخل هذا الإطار العام عن الفورة الشعرية التي تعرفها بلدان المغرب العربي والتي يمكن ملاحظتها في المستوى العالي للنصوص التي ينشرها شعراء هذه البلدان على مواقعهم وصفحاتهم الخاصة، وأيضا في ما تنشره لهم مجلات إلكترونية رائدة كمجلة ك ت ب، ومجلة أفق الشعر المغربي ومجلة قصيدة النثر، ومجلة أتارغاتيس، ومجلة الكلمة وغيرها. والمغرب الأقصى، كبلد مغاربي، لا يشذ عن هذه الفورة التي بدأت معالمها في الاتضاح تماما ابتداء من العشرية الثانية للقرن العشرين كما سنسهب في ما تبقى من هذه الورقة.

فقد كنت لاحظت مع دخول العشرية الثانية للقرن العشرين شيئين هامين: أولهما ظهور انعطافة نسقية Paradigm shift جديدة وعميقة حتى لا أقول جذرية على مستوى الحساسية الشعرية في المغرب، وهي انعطافة قد لا يكاد يراها المنغمسون إلى العنق في النسق القديم. وتتسم هذه الانعطافة النسقية بحساسيات وجماليات وانشغالات جديدة جدا وغريبة عن جماليات وحساسيات الأجيال السابقة التي كان يتم تصنيفها فيما قبل بشكل أجيالي، وهي في الحقيقة أجيال ثلاثة، جيل السبعينات وجيل الثمانينات وجيل التسعينات ثم بعد ذلك إرهاصات وبداية الطوفان المعلوماتي.

يمكن رصد هذه الجماليات والاشتغالات الجديدة على مستوى اللغة البسيطة والثيمات اليومية المتداولة والرؤية التي يغلب عليها مرح المكاشفة والاحتفال بالذات والعلاقات الصغيرة مع الأشياء، وأيضا اللعب بالكلمات والأشياء والرؤى بكل ما يعني اللعب من شغب وشقاوة ونزق، بعيدا عن رصانة أجيال السبعينات والثمانينات خصوصا، وأنماط تصوراتهم العليا Archetypes من قبيل الشاعر الملتزم سياسيا، الشاعر النبي، أو الرائي أو الزعيم أو الحكيم أو الرائد أو غير ذلك من أنماط كانت تحكم متخيل تلك الأجيال وما سبقها من أجيال هي أيضا. وقد انتبه الكثير من النقاد العرب الشباب خصوصا المتتبعين للإبداع الشعري الرقمي إلى هذه الحيوية والكثافة التي باتت تطبع الإبداع الشعري المغربي الذي لا تكاد تخلو منه مجلة أدبية اليوم.

الأمر الثاني الذي لاحظته مع ابتداء العشرية الثانية من القرن العشرين هو بزوغ أسماء شعرية جديدة سجلت حضورها الشعري بعنفوان قوي على الساحة. أذكر على سبيل المثال لا الحصر الشعراء محمد بنميلود، عبد الإله المويسي، يونس الحيول، فاطمة الزهراء بنيس، كريمة نضير، سامح درويش، محمد مقصيدي، محمد كنوف، نجيب مبارك، عبد الرحيم الصايل، دامي عمر، وداد بنموسى، عز الدين بوركة، حسن بولهويشات، لحسن هبوز، حسنة أولهاشمي، حسن حجازي، نزار كربوط، علية الإدريسي البوزيدي، هادي السعيد، عبد الله بلحاج، واللائحة طويلة .. إذ يكفي أن تقرا نصوص هؤلاء حتى تدرك حجم وعمق الانعطافة المفصلية التي تميز اللحظة الشعرية الراهنة بالمغرب. شعراء تسكنهم انشغالات بعيدة جدا عن الانشغالات التي كانت متداولة لدى الأجيال السابقة من اهتمام بالنشر الورقي الذي لم يعد هؤلاء الجدد يعيرونه انتباها، أو انتزاع اعتراف من أب أو أخ شعري، أو ولاء لجهة ما. إنهم آباء وإخوة أنفسهم. لا يدينون بالولاء إلا لتكنولوجيا الوسائط المتعددة التي منحتهم الحرية والاستقلالية والوسائل لتحقيق ذواتهم الشعرية كما لم يتح لشاعر تحقيقها من قبل.

نقرأ مثلا للشاعر عبد الإله المويسي في قصيدته "أقتني الشعر باستعمال Mastercard" التي تجسد شعريا وبالملموس ما عنيته بالانعطافة المفصلية أو النسقية:

أدونيس يموت،

لن أحضر جنازته،

لن أفوّت موعد قابضة السوبرماركت،

صابغة شعرها بالبني

دسَّت لي رقم هاتفها مع الفكة.

سأقبلها في السينما وفي رأس الدرب،

سأحضنها بشدة،

أنظر في عينيها التجاريتين

وأقول لها كم أنت سوقية يا حبيبتي .

الشعر مصاب بالفشل الكلوي

والفشل الدراسي.

في كل مرة يموت شاعر في رأسي.

سأركل محمد بنيس وسعدي يوسف من عقلي.

سأكتب بحامض “الستريك”

سأكتب كعامل نظافة

ويكتب الشاعر محمد بنميلود نفس الحساسية المغايرة والمناهضة للجماليات الشعرية المستهلكة:

جئتُ من الجهة الأخرى

الّتي لم تخطر للّغة على البال

الشّاسعة

والمهيبة

الّتي فيها حشائش وحشيّة

وقبور منسيّة

وحلازين سابتة بين الأشواك

وشظايا زجاجٍ

عكستْ

في عينيّ

أبعد الأقمارْ

طفلاً

بلا عائلةٍ منَ الأعيانْ

أشعثَ

وحيدًا

حافيًا

وجائعًا

لأسرق الدّجاج من صحون عشائكم

ومن خمّ العالم

وتكتب الشاعرة دامي عمر في قصيدة "لست كنساء تيرانا":

أنا الهابطة من ضفيرة الشمس

إلى ظلال العوسج والغضا والتين الشوكي

لي طين ..

أخطر من الكوارث والأوبئة والحروب

فالقد قناة

واللحظ قوس

والخصر خنجر

والعيون رماح

و…

وأنا القاتلة مجردة كالأسير من كل سلاح

حين لا يكفي التوت

أقصف على نفسي

من اللحاء ما يكسي عورات العيون

أعري الأشجار التي تموت

من تشبهها بالماء

وأمشي كسلحفاة

تختنق تحت ذَيلها الفراشات..

كخلاصة أخيرة يمكن القول أننا أمام نسق شعري جديد واعد جدا وقمين بإعادة الاعتبار للقصيدة المغربية في نقائها وأصالتها بعيدا عن ولاءات الماضي ومركزياته.

3- الحساسية الجديدة تجريب واستدراج
عزالدين بوركة شاعر وناقد أدبي وجمالي مغربي

بتنا اليوم في المغرب نعرف، منذ أزيد من عقدين أمام تقعيد فعلي لما سمي بالحساسية الجديدة، هذه الحساسية التي لا تتعلق بفئة أدبية أو فنية دونما أخرى، بل جاءت مصاحبة لما عرفه عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ما بعد الحداثة. وإن كان الفن، التشكيلي منه بالخصوص، أول ما تأثر بهذا الاتجاه الفلسفي مع ثلة من الفنانين الذين درسوا واحتكوا في/ بالعالم الغربي. إلا أن الأدب، شعرا وقصة ورواية، لم يتمكن له ذلك إلا أواخر سنوات الثمانينيات وأوائل سنوات التسعينيات من القرن المنصرم، مع جماعة من النقاد المغاربة الذين كانت تدفعهم التجددية والتغيير، كما شعراء وروائيين شباب –آن ذاك- متأثر بمآلات الشعر الغربي والقصيدة المعاصر في الشرق.

مع مطلع العقد التاسع وبروز أسماء أدبية وأخرى فنية يحوزها التجريب في المجالين، عرف المغرب ظهور كتاب وفنانين كانت رغبتهم الملحاحة، هي إيجاد بصمة مغربية خاصة ومنفردة فنيا وأدبيا. أسماء أمثال أحمد بركات، محمد بنيس، عبد الله راجع، أحمد بوزفور، محمد الأشعري، فريد بكاهية، محمد قاسمي، الهبولي، وغيرهم القادمين من سنوات قبل التسعينيات إلا أنهم استطاعوا ركوب هذه الحساسية والإبحار في مياهها.

لا نقصد بالحساسية الجديدة، سوى تلك الفلسفة التي جاءت تؤمن بالتجريب والنسبية في كل شيء، غير مؤمنة باليقينية والمطلق، والثابت. فكما يقول الراحل إدوار الخراط إنها مرتبطة بالتطور الاجتماعي والتاريخي. هذه الحساسية التي تنتمي لحداثة الوضوح. فلم تأتِ هذه الحساسية المنتمية لفلسفة ما بعد الحداثة كقطيعة مع الماضي، بل هي دمج له واستدراج التراث في مفاهيمها وتجاربها. الحساسية الجديدة في الشعر، كما سبق وأشرنا سابقا، هي مفهوم تاريخي، موجود في الزمان، يرتبط شعراءها بتطور كل ما هو اجتماعي وتاريخي وسياسي بمختلف تمظهراته، قبل أن تكون تعبير عن اليومي وما يخالج الشاعر. وتتنوع إلى مدارس وأفكار حداثية. وما هي إلا نظام متجدد، ومكسر للنظام التقليدي وتحطيم للترتيب العقلي والمنطقي للعمل الفني، وتغييرا للطاقة اللغوية واستغناء عن السياق التقليدي في التعبير. لهذا نستغرب لكل من يدعي أن قصيدة النثر هي قطيعة مع الماضي، والقصيدة الكلاسيكية والحرة، بل هي استمرارية وخلق جديد.

عرف المغرب شعراء وكتاب متعددين تمكن لهم أن يلجوا ويجددوا في الأدب المغربي داخل هذه الحساسية، محمد مقصيدي، عبد الرحيم الخصار، عبد الرحيم الصايل، إيمان الخطابي، وفاء الزياني، محمد عريج، محمد العياشي (داخل القصيدة الكلاسيكية)، لحسن هبوز، عبد الله زريقة، أنيس الرافعي، عبدالهادي السعيد، محمد بنميلود وغيرهم...

الترجمة والإبداع في المغرب
محمد آيت لعميم

تهدف الترجمة إلى تجديد شباب النص فهي تجدده على مستوى لغته محاولة بعث إمكانياته الخفية مما يزيد في حسنه وغناه، فالترجمة في جوهرها عملية تأويلية تستند بالأساس إلى الفهم، "وهي قول الشيء نفسه بطريقة أخرى" (بتعبير بول ريكور)، وبتعبير إيكو "هي قول الشيء نفسه تقريبا" Dire presque le même. فكل "لغة تبدو ضامرة في وحدتها ونحيفة ومعاقة فبفضل الترجمة أي بفضل هذه الإضافة اللغوية التي تقدم عبرها لغة معينة بطريقة متناغمة ما تحتاج إليه لغة أخرى، فإن الالتقاء بين اللغات يضمن نموها ويتم الإعلان عن ذلك في عملية الترجمة عبر خلود الأعمال أو النهضة اللامتناهية للغات" (جاك دريدا، بسيشي، ابتكار الآخر).

إن الترجمة بهذا المعنى هي كتابة النص في لغة أخرى، ومن تم فهي إبداع حقيقي، حتى نخرج من عقدة المترجم الخائن، والمترجم الوسيط بين سيدين، اللغة المنقول منها واللغة المنقول إليها، هذا التصور للمترجم /المبدع مازال لم يتبلور بشكل جلي في الحركية الترجمية العربية بصفة عامة، وآية ذلك أن اسم المترجم غالبا ما يتوارى عن وجه الغلاف وكأنه اقترف شيئا منكرا لأن الصورة التي تكونها دور النشر أنه وسيط وناقل.

عرفت حركة الترجمة في المغرب منذ نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات حركية ملحوظة على مستوى ترجمة النقد والفكر، وكان موطن الترجمة يركز بالخصوص في الجامعة حيث بادر مجموعة من الباحثين والنقاد الجامعيين (محمد برادة، عبد السلام بن عبد العالي، سعيد بن كراد) إلى ترجمة كتب أو فصول من كتب نقدية. قد تركز الاهتمام في هذه اللحظة على ترجمة نقاد كان لهم تأثير كبير على النقد في المغرب من أمثال رولان بارت، ميخائيل باختين، تودروف، أمبرطو إيكو، ياوس، آيزر، الشكلانيون الروس، جاكبسون، جوليا كريستيفا ونقاد آخرون. لقد مكنت ترجمة هؤلاء سواء ترجمة كلية أو جزئية من خلق دينامية نقدية مغربية متميزة جعلت المغرب يصنف باعتباره بلد نقاد، له ميل شديد إلى الفكر والأفكار على حساب الإبداع، هذا التصور بدأنا نلاحظ أن المغاربة شرعوا في تعديله مركزين حول ترجمة الإبداع العالمي، ولقد اضطلع بهذه المهمة مجموعة من الكتاب والأدباء والنقاد أيضا. لكن يبقى التساؤل المطروح هو، إذا كانت ترجمة النقد والفكر قد أحدثت طفرة في النقد المغربي فهل تمكنت ترجمة النصوص الإبداعية من خلق تميز مغربي على مستوى الكتابة الإبداعية؟

نشأت ترجمة الإبداع في المغرب في البداية عبر نزوع فردي ولم تكن منبعثة من مشروع مؤسساتي. ولذلك إذا حاولنا أن نقوم بمسح أولي لمواطن اهتمام التراجمة المغاربة للإبداع، سنلاحظ أن جل الذين قاموا بهذا النوع من الترجمة كانوا يلبون مطامح مرتبطة بمشاريعهم الشخصية من حيث التوجهات الإبداعية، فحيثما يجد الأديب ذاته فإنه يهتم بأديب أو كاتب معين ويقدمه للجمهور. فنجد مثلا أن الشاعر والأديب المهدي أخريف قد قدم للمكتبة المغربية والعربية ترجمات رصينة للكاتب العالمي البرتغالي فرناندو بيسوا وللكاتب المكسيكي الكبير أوكتافيو باث (راعي القطيع، اللاطمأنينة، اللهب الأزرق) ترجم هذه النصوص من لغتها الأصلية البرتغالية والإسبانية. وقد قدم الناقد والكاتب إبراهيم الخطيب نصوصا قوية إبداعية لكتاب عالميين على رأسهم الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (المرايا والمتاهات، الدنو من المعتصم)، وكنا نتمنى لو ترجم أعماله كلها إلى العربية لتمكنه من اللغة الإسبانية ولرصانة ترجمته، وقد ترجم كذلك نصوصا للكاتب الإسباني الكبير خوان غويتيسولو (الأربعينية، حصار الحصارات، أسابيع الحديقة). لقد استأنف هذا العمل الترجمي من اللغة الإسبانية إلى العربية كل من الشاعر خالد الريسوني الذي ترجم دواوين شعرية كثيرة لشعراء إسبان، وكذلك الناقد والشاعر مزوار الإدريسي الذي بدوره قدم ترجمات لنصوص إسبانية مشهورة وأيضا هناك المترجم سعيد عبد الواحد الذي ترجم من اللغة الإسبانية والبرتغالية نصوصا قصصية مهمة، وكذلك الشأن بالنسبة إلى المترجم الشراطي الرداد الذي يترجم عن الإيطالية.

لقد أطل المغاربة على الإرث المكتوب بالإسبانية والبرتغالية وبعض النصوص بالإيطالية بفضل جهود هؤلاء الكتاب التراجمة الذين فسحوا المجال أمام القارئ للاطلاع على ثقافة مكتوبة بهذه اللغات تربطنا بها أواصر التاريخ والجغرافيا.

وفي السياق ذاته اضطلع بترجمة إبداع كتاب أمريكا اللاتينية ثلة من الدارسين والقصاصين المغاربة المنضوين تحت مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب بجامعة بن مسيك بالدار البيضاء، فقد ترجموا نصوصا قصصية ومجاميع لكتاب من أمريكا اللاتينية خصوصا في القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا حيث رسخوا مجموعة من الأسماء القصصية في المشهد الترجمي بالمغرب، وقد كانت تجربتهم موفقة للغاية لاسيما وأنهم خلقوا دينامية حقيقية في الإبداع القصصي بالمغرب ومن الممكن أن نعتبر عملا هذا عملا مؤسساتيا مرسوم الأهداف وموثقا بمجموعة من المنشورات سواء مجاميع قصصية مترجمة عن الإسبانية أو عبر مجلتهم "قاف، صاد" التي تعكس مشروعهم القصصي بالمغرب.

كذلك هو الشأن بالنسبة إلى بيت الشعر بالمغرب الذي تمكن من إرساء تقاليد ترجمة الشعر العالمي وإبراز مجموعة من الأصوات الشعرية المتميزة في لغات العالم. فقد نشروا مجموعة من الدواوين الشعرية المترجمة وأيضا ضمنوا مجلة "البيت" التي يشرف عليها الشاعر حسن نجمي والناقد خالد بلقاسم مجموعة من النصوص الشعرية الباذخة من لغات مختلفة.

في الآونة الأخيرة، بدأنا نلمس شيئا جديدا على مستوى ترجمة الإبداع بالمغرب خصوصا في الجانب الروائي الذي أصبح مطلوبا سواء من لدن بعض دور النشر أو من لدن القراء. لقد انتبهت بعض دور النشر المغربية اللبنانية (المركز الثقافي العربي) أو العربية مثل دار الجمل إلى قيمة المترجم المغربي ورصانته ودقته فشرعت في التعاقد مجموعة من المترجمين المشهود لهم بالخبرة الترجمية لاسيما من اللغة الفرنسية إلى العربية (نصر الدين شكير، خالد بلقاسم، أحمد اللويزي، محمد بنعبود، محمد آيت حنا...). أذكر على سبيل المثال المترجم الرصين شكير نصر الدين الذي يوازي في مشروعه الترجمي بين ترجمة النقد وترجمة الرواية، فقد تمكن من ترجمة كتاب هام جدا للناقد الروسي ميخائيل باختين حول "رابليه" وهو كتاب مرجع وعمدة حول رابليه والثقافة الشعبية وترجم أيضا نصوصا أخرى للناقد نفسه ما زالت المكتبة العربية في حاجة ماسة لأفكاره لاسيما وأن المترجم حرص على ترجمة هذه الأعمال في كليتها، وقد ترجم مجموعة من النصوص الروائية سواء في المركز الثقافي العربي أو في دارالجمل مثل "فتاة من ورق" (غيوم ميسو) و"الأيادي الموهوبة" (كاميلا لكبيرغ) و"صمت الآلهة" (جيلبير سينويه) و"الملكة المصلوبة" (جيلبير سينويه).

رغم هذه الجهود الترجمية الفردية، أو التي تأتي بطلب من دور النشر مازالت ترجمة الإبداع في المغرب محتاجة إلى مشروع كبير ذي طبيعة مؤسساتية حتى نتمكن من مجاراة ما يجري في اللغة الأخرى. ويلاحظ أيضا أننا نحن المغاربة نترجم في الغالب الأعم عن لغتين ورثناهما هما الفرنسية والإسبانية، فأين هي الآداب المكتوبة باللغة الإنجليزية والإيطالية والألماينة. إننا نحتاج إلى توجيه محكم نحو الترجمة من لغة أخرى حتى نتمكن من الاطلاع على آداب هذه الأمم، ونحن مطالبون بإعادة ترجمة النصوص الكلاسيكية المشهورة عند الأمم بأيادي مغربية. يبقى أيضا أن مجموعة من النصوص المهمة كتبها كتاب مغاربة في لغات أخرى لم تشملها إلى حدود الآن عملية الترجمة نذكر على سبيل المثال لا الحصر نصوص الروائي والشاعر الكبير محمد خير الدين الذي ترجمت بعض أعماله القليلة وبقي أغلبها في اللغة الفرنسية وأيضا أعمال الكاتب والمفكر عبد الكبير الخطيبي والروائي الشرايبي وكتاب آخرون آن الأوان كي تترجم هذه النصوص حتى يستفيد منها ليس المغاربة وحدهم بل الجمهور العربي المتعطش لهذه الأعمال.

أحمد بوزفور الشاعر الذي تأبط قصة
 فاطمة الزهراء الرغيوي

يصعب في حضرة كاتب كنت أتهجى اسمه وأنا أتعلم الحياة، أتعلم القراءة والكتابة، كاتب انطبع اسمه بين أسماء كبار قرأت لهم وتعلمت منه، أن أقدم شهادة عن ذ. أحمد بوزفور. شجرة الحكايات الوارفة. اخترت أن أكتب ورقة مفتوحة تزاوج بين الشهادة والأسئلة المفتوحة، وأنا أعرف أن الأستاذ بوزفور يحب الأسئلة، طبعا تلك التي تحرك المياه الساكنة. وطبعا لأني لا أعرف سي أحمد تلك المعرفة الوافية التي تجعلني أتحدث عنه كما أتحدث عن شجرة الأوكالبتوس، فقد سمحت لنفسي أن أغرف في ورقتي هذه، من ذاك الحوار المطول والأخاذ الذي أجراه معه أبو سلمى عبد القادر وساط ونشر في كتاب جميل حمل عنوان "الخيول لا تموت تحت السقف.

منذ التقيت أحمد بوزفور في المرة الأولى في ملتقى مشرع بلقصيري للقصة سنة 2008، وقد كنت قد اكتشفت عوالم القصة كتابة حديثا، منذ تلك الوهلة وأنا أومن تماما أنه خلف الوجه الطيب لسّي أحمد، يوجد شلال هادر من الأسئلة وربما من الغضب أيضا. وإن كان أستاذنا لا يطرح تلك الأسئلة علينا فلأنه متواضع حدّ الانسحاب إلى الخلف والمراقبة بعين ذكية ومُحبة. لا يبتغي بوزفور اعترافا من أحد، ولا يهمه البريق. لكنه مولع بالقصة ومتحمس لها. وهو المحب للشك يتركه جانبا أحيانا لينتصر للنص القصصي مغلبا جانب العاطفة، مثل أم لا تفرق بين أبنائها. وغضب سّي احمد لا نراه. لكنه يخرج في شكل مواقف جريئة ولم يحسب لها حسبان. لكن هذه المواقف هي التي منحته ذاك البريق الأخاذ الذي لا تشوبه مجاملات نحو المسؤولين أو محاباة لجهة نافذة ما. أغلبنا يتذكر ذاك الرفض الجهوري لجائزة المغرب للكتاب سنة 2002، صرخ بوزفور رفضه للجائزة في "ظل تردي ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان في المغرب، وفي ظل تفاوت طبقي هائل وتدني الأجور، وتدهور الوضع الثقافي بسبب تفشي نسبة الأمية وانخفاض نسبة القراءة" وفي ظل "معاناة" الكتاب المغاربة من الإهمال، وكذا بسبب الأوضاع السياسية التي لا تحقق تقدما على الصعيد الاجتماعي والثقافي للبلاد، بل تكرس الأمية والجهل. ذاك البيان الذي نجد أنه ما يزال ساريا على أوضاعنا الحالية. فلا شيء تغير. هل إذن صوت المثقف الحقيقي إن هو إلا صوت واهن، وغير مؤثر؟ كيف يمكننا أن نخلق له صوتا فاعلا في الفضاء السياسي والثقافي؟

إن غضب بوزفور لا يتوجه فقط إلى المؤسسات والجهات الرسمية. يحدث أن يغضب، بحب شديد، على كتاب القصة أيضا. فهو الذي ألقى شهادة جريئة حول التجريب والتخريب في القصة في الملتقى الوطني حول التجريب في القصة القصيرة بمدينة المحمدية السنة الماضية، إذ أوضح أن الاهتمام صار منكبا على الكاتب بدل الكتاب، وعلى اللقاءات والإلقاءات بدل القراءة والكتابة، وكذا لغة القصة التي تفصح عن نقص في القراءة وإهمال للغة العربية، ثم مشكل اللجوء إلى المشرق للنشر بدل إيجاد حلول هنا في الداخل لمشكلة القراءة. والحقيقة أنني وأنا أقرأ هذه الشهادة، كنت أشعر بهذا القلق الدفين الذي يسكنني حول معنى وجدوى الكتابة. نحن نكتب بأخطائنا. نحن نتعلم. لكن هل يجوز أن نحظى بفترة تعلم ونحن ندعي أننا نكتب أدبا؟ ثم لماذا أصبحنا نسير إلى القصة متخففين من كل قواعدها، كأننا نلهو. لا نلعب بالطبع، مادامت لكل لعبة قواعدها التي تحترم؟

لكن وبعيدا عن هذا الغضب الطيب، أجد في أحمد بوزفور طفلا حافظ على ألق طفولته. لأنه يكتب تحديدا من زاوية اللعب بما يكفي من الجدية لكي يقنعنا بعوالمه العجائبية. يقول عن القصة: "أعدتني باللعب وأعديتها بالجد". وقد جرب أن يلعب بأشكال شتى، وما يزال يجرب –لحسن حظنا- فيعبئ القصة بالشعر وبالرواية وباللغة التي يجعلها طوع قلمه، لغة فصحى ودارجة وأمازيغية. "أكتب في القصة كل الأجناس الأخرى" يقول لنا. لكن لماذا القصة تحديدا؟ ألأجل رشاقتها المكثفة، مثل شجيرة عليق، عليك أن تكون ماهرا لترى انحناءاتها؟

أحمد بوزفور، شيخ القصة، أقول شيخ بمحبة وإعجاب وبعيدا عن لغة الشيخ والمريد، شيخ بمعنى الضليع في خبايا القصة، وفي كُتابها وروادها، كتب رواية في أول عهده. اختار لها عنوانا "غرام في الريف". لكن القاص ظل مختبئا أو متواريا إلى غاية السبعينيات. حدثت أشياء كثيرة في السبعينيات. الرواية التي لم نقرأها، كانت حسب خال سّي احمد الذي قرأها، تلمح لمستقبل واعد في الكتابة، كان يجب أن يمر الكاتب المستقبلي من أحداث عديدة ومن قراءات فارقة في 1966 بكلية الاداب حيث جايل مجموعة من الكتاب الذين أثروا المشهد الأدبي المغربي: جامعة نهارية وأخرى ليلية. في الجامعة تعلم سّي احمد التعلم والنضال وحب الوطن ... لماذا في جامعتنا الآن لا نجد هذا الحب للتعلم وللنضال وللوطن؟ كيف انتقلنا من جامعة تفتح أفق طلبتها إلى جامعات تخمد الأمل؟

يعتبر الأستاذ بوزفور أن منهل القصة لديه، هو المدرسة والقراءة والطفولة. فطفولته التي كانت بقرية البرانس القريبة من تازة، هي طفولة أثثت بحضور النساء والأطفال وبالعم ملك الحكايات، راس الما، كما يسميه. في الطفولة جبن المعز، واللعب، والحصان الأدهم الذي مثل لورد إنجليزي. سّي احمد لم يسعَ للتخلص من ذاك الطفل/ الأب الذي كان، "أنا لن أقول (أف) لأبي". إنه متسامح معه. يراه بعيدا وصغيرا جدا ربما بما يكفي لكي لا يشعر بحقد تجاهه. ثم كان الانتقال بقرار من الأم إلى القرويين للتمدرس. أن تنتزع شجيرة من أرضها هو قسوة لا تحتمل. يمكن أن يفهم حب الأم القاسي ذاك الذي جعل الطفل ينتزع من محيطه الأسري ومن بين أقرانه القرويين إلى القرويين المدرسة، إنه اقتلاع لأجل نمو أفضل، لأجل فتح باب المعرفة على مصراعيه.

في القرويين سيتعلم سّي احمد سريعا، وبعين ناقدة، لأنه سيمل حفظ كتب التفسير وحواشيها وشروحها. لذلك ولمدة سنتين سيهمل الدروس لأجل الكتب الأخرى، وسيكتب روايته التي فتحت عينيه على الكتابة. وفي القرويين سيتفتق إضافة إلى الحس الأدبي، حس النضال والوطنية لديه. حتى إنه طرد من الثانوية واضطر مع زمرة من زملائه أن يقدم حرا في الباكالوريا ونجح هو أصدقاؤه، لينتقل بعدها إلى الجامعة. في فترة الطرد تلك تعرض إلى تجربة الاعتقال. قرأت كثيرا من الكتب التي تحدثت عن تجربة الاعتقال. حتى إنني شاركت حياة معتقل ضمن أحداث 1984 هنا بمرتيل. ولكني فوجئت بحديث أستاذنا المفعم بالتواضع والخجل وبالتعلم. هو الهارب من "شبهة استغلال اعتقال قصير وقديم"، والذي لا يريد أن يحشر نفسه مع "النجوم" التي يهتدي بها في قناعاته ومواقفه، أي المعتقلين السياسيين وضحايا سنوات الرصاص. تجربة استثنائية، قضى جزءا مهما منها في طانطان في ثكنة عسكرية، يبني مع أصدقائه أسوارها ويطبخون وينظفون. كانت حياة عسكرية صارمة، لكن سّي احمد يتذكر الضابط المشرف بكثير من الاحترام. يخبرنا أنه تعرف في تلك الفترة على الطاقة النفسية الهائلة للصداقة، وانحاز وقتها نهائيا ومنذئذ إلى الفقراء والمظلومين والضعفاء. انحياز نفسي كما يسميه وليس سياسيا، لأنه قرر في تلك الفترة أن يصير كاتبا لا سياسيا. ولكن أليست الكتابة ممارسة للسياسة؟ أليست الكتابة التي تخلو من السياسة هي كتابة واهنة و"مْسُّوسَة" لا تسمح لنا بتذوقها؟

هل ولدت القصة هناك في طانطان؟ هل ألهمت سماء الصحراء الشجرة القادمة من الريف؟

وللقصة حكاية طويلة مع أستاذنا، نشرت له قصة أولى في سنة 1971، بعنوان سهل وممتنع: يسألونك عن القتل (أنا أكن إعجابا لا محدود للعناوين التي يختارها سّي احمد: النظر إلى الوجه العزيز، الغابر الظاهر، ققنس، قالت نملة ... وربما لا تدهشني مثله في اختيار العناوين إلا الشاعرة اللبنانية الرائعة سوزان عليوان: الحب جالس في مقهى الماضي، شارع نصف القمر، لأن القمر وجه دمعة). منذ تلك القصة الأولى دخلنا شجرة الحكاية العجيبة "البوزفورية"، يتداخل فيها الممكن واللاممكن والحاضر والقادم والآن. يُرَكّب بوزفور قصصه برفق، يركبها قلتُ. لأنه لا يحب فكرة الإبداع من لا شيء أو الخلق. والتركيب هو البناء على كل القراءات وكل الحكايات الشفوية (حكايات العم راس الما). ولكن التركيب يأتي بالجديد، مثل طفل يقول لنا سّي احمد، يحمل جينات والديه ولكنه مختلف عنهما رغم كل محاولاتهما لضبطه.

يعتبر بوزفور أن الكتابة "حُمى يؤججها الشوق واللهفة لمعرفة ما وراء المعطف"، ويحرص أن يضبط هذه الحمى المتلهفة بقراءة واعية لا تتوانى عن اللجوء إلى الحذف والتصويب. وهو لا يصل إلى رضى كامل عما يكتبه. دائما هناك نص كامل في الأفق، "نسعى إليه ولا نصله أبدا". وعندما يحصل الرضى الجزئي يَنْشُر. والنشر هنا هو حاجة ماسة إلى "أن نعرف هل ما نصنعه يستحق الاهتمام". حتى إن سّي احمد يعترف أنه غير مهتم كثيرا بالنشر. نُشِرت مجموعته الأولى بفضل جهد الراحل الذي غادرنا بغتة ولم يذوِ ورد الحزن عليه بعد، مصطفى المسناوي الذي قام بجمع نصوص المجموعة وبترتيبها وبتصحيحها، ولم يكن على سي احمد إلا أن يوافق على النشر. وهو إلى الآن لا يرسل نصوصه إلى المنابر الإعلامية إلا إذا علم أنها مطلوبة فعلا. إنه يدلل قصته. يتركها لديه ولا يستعجل في إطلاقها. ولا يطالبها بغير الجمال حتى تفتن القارئ. فهي الطفلة التي تلعب، لا يحملها مسؤولية اقتراح حلول أو معالجة مشاكل ما. "كيف نسألها عن رأيها في مشكلة الشرق الأوسط؟ ومع ذلك فلنسألها كجزء من اللعب." يقول لنا سّي احمد مراوغا رأيه السابق.

هم الكاتب أحمد بوزفور، الذي يفضل لقب الكاتب على كل الألقاب الأخرى، همه الفني الأساسي هو أن يجعل السرد شعرا. إنه اعتراف متوقع من عاشق للشعر، القديم منه والحديث، العربي وغير العربي. أليس هو الذي جعل طرفة يتأبط شعرا بدل الشر الذي وسم به؟ سي احمد قارئ نهم. قارئ كبير. بالقراءة يولد كل يوم. "إذا لم أذق جمالا متّ". يخبرنا أنه يسرق من وقت القراءة ليكتب." أمثالي من هواة القراءة لا يمكن أن ينجزوا أعمالا كبيرة". هو الذي يسمي القراءة والكتابة عادتيه السريتين. يهتم بالنص وليس بالكاتب. النص هو الأبقى، هو الأجمل.

وإلى مدرسة تأبط (هكذا يسميه بألفة)، "المدرسة التي صبت في نهر الشعر العربي (والأدب العربي؟) رافدَ الإنسان المتوحد، المستقل بنفسه عن القبيلة والحزب والأمة، ورافدَ الحديث إلى الذئب (الكاتب الذي يميل إلى العزلة) ومحاورته، ورافد تمجيد الطبيعة إلى حد اعتبارها ثقافة". فأستاذنا ينفر من الإجماع حتى وإن كان على صواب، "لأن الفن لا يحب الجماعي والعام"، بل يميل إلى المختلف والنشاز، يكبر فيهما ويتطور.

متأبطا قصة، يمشي أستاذي العزيز في الحياة خفيفا متخففا إلا من عوالمه العجائبية التي تنبع منا وفينا. ونحن مثله نحلم بتغيير الحياة. ومثله نحلم بفهمها. ومثله نحلم بكتابتها قصة بليغة الجمال.

* قدمت هذه الورقة في الحلقة الثامنة من سلسلة تجارب إبداعية التي ينظمها منتدى روافد للثقافة والفنون بمدينة مرتيل. ملاحظات أولية حول واقع الرواية المغربية.

فلسفة العتمة عند عبد الفتاح كيليطو
توفيق رشدي

ليس من قبيل الصدفة في شيء أن تنطلق حياة عبد الفتاح كيليطو، في علاقته بالأمكنة، من مطبخ معتّم، يترهّب فيه تحت أنظار أمه على شاكلة أكثر الأنبياء! (حصان نيتشه ص 8). بعد ذلك وفي اتجاهات أخرى، ستتخذ العتمة عند كيليطو، الأديب الفيلسوف، شكل حسنة بين سيئتين، الوضوح والخفاء المطلقان. إن العتمة عند كيليطو عموما، وبلغة واصل بن عطاء المعتزلي: منزلة بين المنزلتين! فهل كان كيليطو، باختياره العتمة فلسفة، على وعي، وهو الأديب لا المتكلم يقينا، بانتسابه إلى مسلك من مسالك الاعتزال؟ يفترض كاتب هذه السطور أن ترجع أصول قصة "المفتش" كيليطو (على غرار المفتش البوليسي كولومبو) مع العتمة، إلى ولعه الشديد بمطاردة تفاصيل الغواية والغرابة والعجائبية والالتواءات، باعتبارها مناطق معتّمة تسكنها كائنات هامشية يتفنّن كيليطو في الإيقاع بها داخل فخاخ الكتابة ليصنع منها مشاهد قصصية غاية في الفتنة والجمال. ولأن في التفاصيل يسكن الشيطان! فإن مطاردات كيليطو للتفاصيل في العتمة ليست سوى مطاردات للشيطان نفسه، خصوصا إذا علمنا أنه لا يقيم في العتمة بين الشمس والظل إلا شيطان، كما يقول أحد نصوص الحديث! إن اقتحام كيليطو لجغرافية العتمة، ومطارداته الدونكيشوطية للشيطان وغواياته ليست أمرا عبثيا، إنها لعبة التطهير الصوفي في خدمة الله، يقول كيليطو مؤكدا: "وجد إبليس نفسه وحيدا تماما، عند ذلك جرّ إليه تبعية آدم وحواء، ثم ذريتهما، باستثناء الزّمرة القليلة التي ظلّت على إخلاصها لله. هكذا نجح في قلب الوضع: من توحّده في البداية، وجد نفسه مع أفواج غفيرة من الأتباع" (خصومة الصور33 ). إنه نوع من الحسرة ذلك الذي يشعر به كيليطو وهو يرى إبليس ينجح من جهة في رهانات إغواءاته، ومن جهة ثانية في انطلاقه وتحرّره من قيود الوحدة والعزلة المفروضة عليه بالأصالة، بينما لم يستطع كاتبنا لنفسه الخروج من "مقبعه" كما وصفه عبد الله العروي. فكيف تجاوز كيليطو هذه المفارقة في علاقته مع الله؟ الوجود الإلهي والعتمة: "قال لن تراني ولكن أنظر." (الأعراف143) للوجود الإلهي عند كليطو بعد إشكالي عميق، إذ كيف يمكن أن يكون الله حاضرا بالإنعام والعنايات والخلق في الإنسان وفي الكون عامة، ومع ذلك لا تدركه العين ولا يحتفظ له الذهن بصورة؟ لقد كان كيليطو، كغيره، مسكونا بهاجس البحث عن صورة لذات الله، يصرّح بذلك فيقول: "لما كنت أسأل جدي أن يقول لي كيف هو الله، أن يصف لي وجهه، كان يبتسم، وإذ يرى أني على خطر الضياع في متاهة التفسيرات اللاهوتية كان يكتفي بأن يرد علي بآية قرآنية : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير." (خصومة الصور 34) هل كانت مجرد صدفة أن ينسجم موقف الجد المؤثر من رؤية الله تعالى مع مواقف نفي الرؤية في مدارس الاعتزال؟ إن فهم سيادة العتمة عند كل محاولة تحديد صورة الله لدى كليطو تستدعي استحضار البعد التراجيدي في العلاقة مع الله، وذلك متاح عند مفكر مثل باسكال. بنفحة من روح ابن رشد في نظرية الخلق المتّصل، يحدس باسكال في وجود الله تعالى فيتوصل إلى أنه "غائب دائما، حاضر دائما" لأن العلاقة مع الله، كما يرى باسكال، امتلاك له أكثر مما هي رغبة فيه، وحضوره في الروح لا يمكن أن يكون إلا رهانا معتّما، لأن الرسالة في حرفيّتها تحمل له اليقين في الشك، والتفاؤل في الخشية، والعظمة في البؤس والراحة في التوتّر والشعار في كل ذلك: لأنك لن تبحث عن الله بعد أن تجده، لذلك اتعب في البحث عنه في العتمة، فقد تجده! تلك إذن فتنة العتمة في وجود الله! قيم الذات والعتمة: تتخذ الذات عند كيليطو شكل كائن معتّم، منفصم، متصدّع، متشظٍّ إلى الحد الذي تصبح فيه صور الذات في تعددها الباتولوجي على درجة من الخصام: "لكل واحد صورة تكرّره، كل واحد يوجد خارج ذاته". (خصومة الصور ص 21). إن في عتمة الذات عند كيليطو تجاوزا لقيم المنطق الأرسطي القائم على استحالة اجتماع النقيضين، ففي عتمة الذات عند كيليطو يجتمع أكثر ما يمكن من التناقضات! وفي عتمة الذات عند كيليطو انتهاك فاضح "لمسألة" شكسبير القائمة على ثنائية: "أن تكون أو لا تكون"! إن عتمة الذات عند كيليطو: كينونة في اللاكينونة! إن عتمة الذات عند كيليطو عوالم عنوانها باختصار شديد: "الاغتراب بين الأنا والنّحن". (خصومة ص 22) وتلك محنة الذات في جغرافية العتمة! الكتابة والعتمة: تحضر العتمة فلسفة، في كتابات كيليطو على مستويين: عتمة موقع الكتابة: التواجد في العتمة عند كيليطو تكتيك فرضته خدع الحرب والمطاردات التي لا تنتهي، حرب اقتناص الجمال على حساب مشاهد الرداءة والابتذال. إن التموقع في مناطق العتمة يتيح للكاتب فرص التقاط المشاهد على حين غفلة من أبطالها، تماما على تلقائيتهم وانسيابيتهم. إن كيليطو عندما كان يراقب أبطال قصصه من مواقع معتّمة، إنما كان يمارس نفس الدهاء الذي مارسته "زوجة ر" (خصومة الصور 23) في اقتناص المشاهد والتلصص عليها: إنها لعبة التّواري خلف باب شبه مغلق يتيح الرؤية، لكن في اتجاه واحد، رؤية غير متبادلة! بنوع من التفلسف الإستيطيقي الرمزي، يطلق كيليطو على الأحداث التي تقع في العتمة عنوانا كبيرا: المسرح الآخر (حصان نيتشه ص 41). ويدلّل على هذا المفهوم تاريخيا بما كان عليه أهل "أدوم" من عادة طرد المتسولين والمتشردين خارج أسوار مدينتهم، بداية كل ليلة ليقبلوهم بينهم من جديد كل صباح. لقد كان أهل أدوم يجتمعون على الأسوار (معتّمين)، لمعاينة مشاهد القتل والاغتصاب والفظاعة التي تدور بين المتشردين تحت الأسوار في العتمة، تماما كما تقدم الفرجة نفسها، مصطنعة، في السينما وبشكل آخر في المسرح بعد انطفاء الأضواء! عتمة مادة الكتابة: وللكتابة المعتّمة عند كيليطو لذة لا تقاوم، إنها مغامرة في معركة مبهمة كتلك التي خاض أطوارها الأمير نور الدين وحصانه في أرض العتمة! (حصان نتشه 18). تمتح الكتابة المعتّمة الملتوية عند كيليطو لذّتها وبهجتها من كونها بضاعة مستعصية عن التصنيف عند القارئ، من كونها قابلة لعدد لا نهائي من التأويل، من كونها مطّاطة غنية بالإيحاءات، ولكن أهم من ذلك كله، من قدرتها على الصمود في يد كاتب متوجّس مرتاب يحسب ألف حساب لقراء يقظين، متربصين، يطاردون الأفكار لينقضّوا عليها، بمجرد خروجها من العتمة إلى الوضوح، ليشمتوا في كاتبها وليحكموا عليه بالسقوط في مهاوي التفاهة والرداءة والاعتياد ! إن العتمة عند كيليطو، موقفا وموقعا وكتابة، فلسفة قائمة الذات. صارخة الوجود نسقية المعالم: من الوجود إلى القيم إلى المعرفة، فيها من معتزليّة الجاحظ ما يساكن انعزالية المعرّي، ويغازل زئبقية الحريري ... فهل سينجح كيليطو في التأسيس والمحافظة على هذه النبرة الفلسفية المتميزة في مزيد عطاءاته؟