يرى الناقد المصري أن هذه الرواية مرت بحياة الفلاح، علي تواريخ مفصلية في حياة الوطن، دون أن تخوض فيها، وكأن الكاتب أراد أن يقول القطار في سيره، والحياة في سيرها، وحياة الريف لم تتأثر، يصعد الوطن، أو يهبط، وحياته لم تتغير، منذ ذلك التاريخ البعيد.

وسيمتد الصمت «حتي مطلع الفجر»

شوقي عبدالحميد يحيى

من يتابع تاريخ الرواية منذ نشأتها الأولي عند "زينب" محمد حسين هيكل – مع تجاوز اختلاف الأراء حول البداية الحقيقية – وأعمال محمد عبد الحليم عبد الله. ومرورا ب"يوميات نائب في الأرياف" لتوفيق الحكيم، والتي تلخص جملة واحدة فيها حال الفلاح المصري حين يأمر وكيل النيابة بحبسه فيكون رده {وماله الحبس حلو، نلقي فيه علي الأقل لقمة مضمونة}. سيجد أن الريف لعب دور البطولة في معظمها – وإن اختلفت الرؤي حول فنية الكثير منها، وكيفية تناولها له، أو وجهة التناول- حيث كان بؤس حياة الفلاح، ووسائل معيشته البدائية، ومعاناته للآفات الثلاث الشهيرة (الفقر والمرض والجهل)، فمثلت سمة عامة لحياة الفلاح في ذلك العصر.

وبعد عام 1952، وما استتبعها من تغيرات في الرؤي السياسية، وتكرار ذكر الفلاح في الخطاب السياسي، لم تتغير صورة الفلاح، أو القرية، في الرواية المصرية، إلا أن روايات هذه الفترة ركزت علي إرجاع معاناة الفلاح، إلي الإقطاع الذي استخدم الفلاح بإسلوب أقرب للعبودية، في محاولة لتشويه المرحلة، وأن الفلاح كان هو الضحية لتصرفات الإقطاع، الذي ملك الأرض ومن عليها، وفق رؤيتهم، وكأن الأمور تغيرت، وأصبح حال الفلاح، أو الريف أفضل.

وبعد مرور أكثر من ستين عاما علي ذلك التاريخ، ولم تزل صورة الفلاح، وصورة الريف ترد في كتابات كثير من كُتاب الرواية، فهل تغير شئ في حياة الفلاح، أو في صورة القرية؟

أعتقد أنه في إحدي قراءت، أو أحد الرؤي المتعددة للرواية الصغيرة الحجم، الواسعة الدلالات، والتأويلات، هو ما تحاول الإجابة عليه رواية "حتي مطلع الفجر"(1) للروائي محمود أبو عيشة، والتي تري أن شيئا في حياة الفلاح، أو في معيشة القرية، لم يتغير، رغم كل ما مر به ومرت به من أحداث جسام، أو أُبتز من شعارات.

فقد مرت الرواية بحياة الفلاح، علي تواريخ مفصلية في حياة الوطن، دون أن تخوض فيها، وكأن الكاتب أراد أن يقول القطار في سيره، والحياة في سيرها، وحياة الريف لم تتأثر، يصعد الوطن، أو يهبط، وحياته لم تتغير، منذ ذلك التاريخ الذي لعب دورا في تغيير مسار البلاد، غير أنه لم يغير في مسار الفلاح والقرية. وذلك من خلال "عربي العبد" والملقب ب "عربي التايه" الذي ولد بعد أربعة عشر (بطنا)، بدأ ما يسعي أبناء طبقة الفلاحين إليه، كملجأ لهم من العوز والحاجة، أو لإثبات الوجود علي الأرض، بدأ يسعي للتعليم. غير أن زوجة الأخ الشابة "عفاف" والتي تعاني من فقد زوجها "حبشي" لقدرته الجنسية، فتنجح في الوصول إلي "عربي" علي طريقة "شباب إمرأة" وتعيش معه أحلي أوقاتها، وأوقاته في المتعة الحرام. مستبعدا فكرة الثلاثي الشهير في الوجدان (الزوج والزوجة والعشيق). حيث لم يقف دور عربي هنا علي "عفاف" فقط – رغم كونها العنصر الرئيس، وإنما امتد لظهور بصمات "عربي" علي كل نساء القرية – تقريبا – وكأنه أصبح (طلوقة) لنشر صفاته (الرمزية) علي البلد كلها، خاصة ما يذكره الراوي في نهاية الرواية، من أن {قتل قابيل هابيل ليس من أجل إمرأة كما يُشاع}ص103.

كما أن الأسماء واستخداماتها، الواضحة الدلالات، يدفع دفعا نحو الرؤية الجمعية، المجتمعية، وتبعد بها عن الرؤية الضيقة التي تحصرها في الإطار الفردي.

فإذا أخذنا مثلا، اسم "عربي التاية" واسم جده لأمه – حيث، ووفقا للثقافة الدينية، والجو القرآني الذي يشيعه الكاتب في الرواية- وحيث يُنسَبْ الفرد لأمه – وحيث اسمها "هانم الحر"، وأتصور أن "هانم" أيضا ليس اسما بقدر ما هو صفة كانت تطلق علي سيدات الطبقة الأعلي، ثم يأتي ابنها، والذي هو والد "عربي" ليسمي "عبد". وكأنه يسلسل التاريخ المعني بمصر، مستخدما الأسماء ذات الدلالات التي لا تخفي، وتدفع القارئ دفعا للنظر في أبعادها الرمزية. فنجد الاسم كاملا هو "عربي العبد" والمعروف ب"عربي التايه". من سلالة "هانم الحر". وكأنه يعبر عن مسيرة (العربي) المنحدرة من السيادة للعبودية، (التائه) عن طريق الصواب. إلي جانب اسم الشخصية الثانية في الرواية " عفاف" والتي لم تحمل من اسمها شيئا منه، حيث غرقت وأغرقت معها "عربي" في بحر اللذة المحرمة. ناهيك عن اسم الأم أيضا "بلد". وإن كانت هذه الأسماء من الأسماء المستعملة بالفعل علي أرض الواقع، في الريف خاصة، إلا أن شحنتها الدلالية تؤكد استخدامها بصورة أقرب للكشف عن خبايا الرواية، ومصابيح تضي للقارئ السير في دهاليزها المتعرجة، والمتعمدة للتلميح، أكثر مما تحمله من تصريح.

فإذا ما استرسلنا في رؤيتنا الاجتماعية، فنستطيع تحديد الزمن المعني في الرواية، والذي لم يذكره الكاتب صراحة، والبادئ من العام 1952، ومن خلال الإشارة – شبه العابرة – رغم جذريتها في الوصول إلي عمق الرواية، فسنتوقف أما ثلاث محطات جوهرية في التاريخ المصري، تتبين المحطة الأولي فيها، في وصف الكاتب للبقعة الجغرافية التي تعتبر مسرح الأحداث:

{إحدى إقطاعات محمد على باشا الدخاخنى لخادمه الأمين السيد موسى، وتفرقت عزبة القاضى ببركة يوليو بين الفلاحين الآتين من ربوع المحروسة}. حيث أن المتتبع، ليس للرواية فقط، وإنما لأعمال محمود أبو عيشة، سيلحظ استعماله للغمز الخاطف، الذي يسعي (للدغ)، دون أن يري القارئ، تلك الحية التي لدغت، مغلفة بالسخرية المريرة، التي تعري الواقع، وتكشف سوءاته. فلا يمكن أن تمر صيغة التهكم البادية في  {ببركة يوليو}. والتي يؤيدها ما بعدها، والتي تستدعي للذهن مباشرة 23 يوليو 1952.

ثم يمر علي محطة من أشد محطات الوطن إيلاما، ومرارة. ذلك التاريخ الذي لن ينمحي من تاريخ البلاد حين يقول:

{هؤلاء الفلاحون اختبأوا في أجران القمح تحت القذائف الكاشفة في ليل السابع والستين، وهم أنفسهم الذين حملوا نعوشًا رمزية دون إيعاز مسبق، فقد عبر أبو الرجال إلى الجانب الآخر من العالم}ص36.

حيث يمر – وكأنه مر الكرام - علي محطتين من محطات الوطن التي تركت بصماتها علي تاريخ البلاد. نكسة يونيو 1967، وموت زعيم المحطتين السابقتين في في 28 سبتمبر 1970. وكأن الكاتب أراد الربط بين الحدثين حين أتي بهما معا في جملتين متتاليتين. وكأنهما يحملان التناقض، أو التضارب، أو الدهشة في مواجهة المصري للأحداث، وكأنها تحمل في طياتها ذلك التناقض بين ظاهر المصري وباطنه، كأحد العناصر التي سعي لإبرازها من خلال العمل، والتي تتبين في معرفة الحقيقة في أعماقه، بينما لا يستطيع النطق بها في ظاهره.وكأنه –أيضا- يعلن عن أن صمته عن قول الحقيقة، أو مواجهتها، هو ما سيظل يعاني ليله إلي أن يستطيع الجهر والمواجهة، وحينها فقط سوف يطلع الفجر.  

ثم يمر علي محطة أخري، لها دورها المؤثر أيضا في تاريخ البلد.  وكأنه يؤرخ لحياة ذلك العهد بأكمله. حيث يُرجع تاريخ ميلاد بطل روايته، والذي يمكن القول بأنه إنحدر من الطُهر إلي الدنس، ومن البراءة، إلي الفجور، ومن مشروع كان يُتوقع له النجاح، إلي مشروع لم يَفسد وحده، وإنما أفسد من حوله، وأفسد مستقبلا يعلم الله إلي ما سيمتد.

 فبنفس الإسلوب التهكمي، يذكر ميلاد "عربي التايه":

{ فجر السادس من أكتوبر حسب الكون الإنجيلى لميلاد السيد المسيح عليه السلام، ولد عربى العبد على بسطة السلم الوسطى، سقط سهوًا تحت رِجل بلد التى تحمل قفة التبن إلى المنعس، نطفة عمياء تسعى إلى النور عبر ممرات مظلمة، سراديب موحلة بالدم والغائط، يتعثر في مُزق الجلباب}ص11.

فالربط بين ميلاد "عربي" ويوم الفخار الوحيد في تاريخ (العرب)، وما انساقت إليه حياته فيما بعد. يؤدي أيضا إلي تصور أن ما حدث في حياة "عربي" هو ما حدث في حياة (العرب). البداية المشرقة، أو الواعدة في نصر كان هو الأول في حياة العرب، لكن، تغير واقع الحال، ولم تسر وفق ما كانت تنبئ البداية، علي المستويين، الجمعي والفردي.

وهو ما يؤيده، تلك الواقعة التي قد تبدو عابرة، أو غير مؤثرة في سير الرواية، وإن كنت أري أنه بؤرتها. حيث لم تستغرق من مساحة الرواية الكتابية أكثر من بضع سطور، لكنها تفرش كل المساحة الممتدة بعد الانتهاء منها، وحتي مطلع الفجر المنتظر.

 تلك الواقعة التي اندفع فيها "عربي" بشومته، وهوي بها علي رأس فتاة صغيرة، في حقل القطن. وقد عمد –بنجاح –إلي تجهيل كل ما يخص تلك الفتاة. بين احتمالية أن تكون ابنة "فرحانة" خادمة كل الرجال. تلك التي يعجز الجميع عن معرفة والد ما قد تأتي به. ثم تجهيل مصير الفتاة نفسها، وما إن كانت قد ماتت، أم لا، وهو ما يؤشر للنظر إليها علي كونها ذلك المستقبل الذي أصابه "العربي" بما يمثله، والذي لا يستطيع أحد القول بموته، حتي لو تم تشويهه، أو إصابته. المهم أنه في خطر، ولن يتم إنقاذه إلا عند "مطلع الفجر". وهو – كذلك - ما يفتح به الكاتب مساحة الرؤيا في نهاية الرواية، حين لا يوقفها علي الماضي، أو الحاضر فقط، وإنما يسير بها، وبنا نحو المستقبل، مرورا من الماضي إلي الحاضرن وصولا نحو المستقبل. والتي ركزها الكاتب في صفحة واحدة في نهاية الرواية، وكأنه يمنحنا عصير ما أراد تقديمه لنا علي مائدته العامرة:

{، قديمًا ثار الناس ضد الفرعون واستحوذ الحفاة، الذين لم يمتلكوا حتى أحذية، على الكنوز والسلطة، وارتدى الذين كانوا يلبسون الحرير سابقًا أسمالاً بالية، ذلك لم يدم طويلا

هؤلاء الناس ليسوا أشرارًا، ليسوا ملائكة ولا شياطين، هم مجرد ناس يحاولون أن يجدوا لهم موضع قدم على الأرض .

نروى أملًا فى الوصول إلى المعانى السامية، وهذا يحتاج جسارة فى الحكى ربما لا نملكها فى الواقع، ففى النظر إلى المستقبل نلاحظ غالبًا خطر المتفائلين إما بسذاجة مفرطة أو بخبث شديد، أولئك الذين يفضلون خداع النفس لراحة البال على مواجهة الحقيقة }ص101.

حيث يعكس المقتطف، تسلسل الأحداث، والتاريخ. في إشارة في البداية، لا إلي التاريخ البعيد، والمتمثل في الصورة المباشرة في الفرعون، ولكن إلي من أتي في العصر الحديث، وارتدي ثوب الفرعون. منتصرا في المقتطع الثاني لأؤلئك (البشر) الذين يسعون لأن يكونوا بشرا ينالون حقهم في الحياة، محفزا ومحذرا في المقتطع الثالث من خطورة ما حدث ويحدث علي ما سيحدث، مستقبلا.

ويلاحظ أن الكاتب لم يذكر العام لأي من تلك التواريخ، مكتفيا – كأحد سمات الكاتب – يالإيحاء الذي يتوارد إلي الذهن، بإعتبارها تواريخ ليست في حاجة إلي تصريح، أو توضيح، وأنها تحمل في طياتها شحناتها المُعبأة بها صدور المصريين.

يضاف لكل ذلك، تلك الحكايات الرامزة التي دأب "عبد" علي سردها، باعتباره رمز الحكمة، التي كانت، والتاريخ الذي لا نتعلم منه ونستفيد. خاصة تلك الحكاية التي تتحدث عن الخياط الذي أقنع الملك بأنه سيصنع له حلة من الذهب والفضة، لم يلبسه أحد من قبل. وسرق الخياط الذهب والفضة، وكلما أرسل الملك أحد رجاله ليتابع أمر الثياب، يجد الخياط لا يصنع شيئا، ويخاف إن هو أخبر الملك بما رأي، يخشي أن يظنه الملك غير جدير بمنصبه. حتي جاءت اللحظة، وخشي الملك نفسه إن أفصح عن أن الثياب لا شئ، فيراه الناس غير جدير بمنصبه. وفي الاحتفال الكبير، يخرج الملك عاريا، وسط تهليل وتكبير الجميع، استحسانا بالثوب الذي لم يروا مثله من قبل. حتي صرخ أحد الأطفال، أو صرخ المستقبل الذي يملك الجرأة والقدرة علي المواجهة، ويملك الأمل، بأن الملك عار من الثياب.

ثم ننظر إلي ذلك المشهد الختامي، والذي يحمل من الحل، ومن التحريض، أكثر مما يحمل من الحكي، أو استكمال حكاية تأبي أن يكون لها نهاية قبل "مطلع الفجر"، نجح الكاتب أيضا أن يجعلها مفتوحة علي الفضاء غير المحدود، لأنها تقع في غيب المستقبل، ولا يتمكن القارئ العادي من توقع زمن حدوثها، وهل هي في القريب العاجل، أما أن انتظارها سوف يطول، مغرقا إياها في تيه الخيال، فاتحا بها ابوابا تصل بنا إلي أرض الواقع . فبعد أن استشري فساد ال"عربي" ووصل كل بيت، لغياب (الرجل)، المعنوي والرمزي، وبعد ما:

{ لم يستطيعوا أن ينكروا وجه عربى في وجوه أطفالهم، زرع نطفه فى أرحام لا حصر لها، فنبتت أطفالًا لن ينسبوا إليه أبدًا، رغم أنهم من صلبه الذى شاب قبل الأوان، عين هنا وأذن هناك، أنف هنا وحاجب هناك، عنق تحته كتفان وجذع وساقان وذراعان يستوى خلقًا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين}.

فيكون القرار المرتجي، رغم صياغته بالفعل الماضي:

{ طلع الرجال من خلف أعواد الذرة، حاملين الهراوات والمناجل والفؤوس وروح الانتقام الناضحة بالحقد، أحاطوا به فحجبوا عنه الهواء، نظر بعضهم إلى بعض، طارت أولى الشرارات في عين رجل ورجل ورجل}. وكأن الرجال خرجوا متحدين، شاهرين أسلحتهم، ليشٌقوا للفجر طريقا، وللأمل سبيلا.  

وكذلك يمكن استكمال تلك الرؤية الاجتماعية، إذا ما نظرنا إلي حال فلاح الرواية، وكيف يعيش- في عصر الكاتب- وهل اختلف شيئا عما كان قبل تلك الفترة المشار إليها. بمعني كيف كانت حالة ذلك الريف الذي يضم عائلة "العبد"؟

يقدم الكاتب صورة لتلك الحالة، تتضح إذا ما بحثنا عن تلك الآفآت الشهيرة التي كانت، والتي تؤكد أن شبئا لم يتغير، فلازال البؤس والجفاف هو ما يعشش علي رأس الريف، والفلاح:

1 - حالة البؤس المعيش:

{يمرون كل صباح أنصاف عراة، يغطى البؤسُ هياكلهم العظمية، على مقلب الزبالة الذى يسمونه المجلس؛ يفتشون في نفايات البندر عن سلاسلَ ذهبيةٍ، هدوم، عيش ناشف، كل ما ينفع وما لا ينفع، يحشّون الحشيشَ والزربيحَ والسِعدَ والرِجلةَ من غيطان الذرة في ملقة الشرقى، ويدفسون كيزانَ الذرة الخضر فى عُقد الحشيش، ويحملون العقد على الرؤوس وينزلون سوق البندر، يبيعون الحمولة ويشترون بثمنها إفطارًا مرفهًا: عيش طابونة وطعمية ساخنة}.

و{ بدأ صباحًا موحشًا في المنعس المسقوف بجذوع شجر مستعارة من الخال الطيب، وبوص أفرنجى من سوق الخميس، وشكاير كيماوى لمنع تسرب المطر}ص51.

2 - والجهل:

بعد لقاء حار بين عربي وعفاف:

{تَهَيُج عفاف ليس نابعًا من أى حقيقة خاصة بالخفاض، فقد خضعت إلى عمليات بتر مجحفة على يد السيدة أم رئيسة التى استقبلت الحياة على يديها، حيث يعتقدون منذ قديم الأزل أن الشيطان يسكن تلك الأجزاء ولا بد من استئصالها لإخراجه، متغافلين أن السمكة تفسد من رأسها، لكن عفاف للحق لم تلجأ قط إلى وصفات حَقِ الحُرمة أو حجر النار أو حبوب الخداع ومراهم الحظ، ليس عن قناعة بعدم صحة هذه الوصفات التجارية البحتة التى تعتمد التأثير النفسى أساسًا، إنما لجهل مطبق بكل منجزات العلم الحديث.}ص46.

و مجرد عرض حالة المعيش في تلك البقعة الجغرافية، وإنعكاساته علي شخوص الرواية، وتدرج حياتهم.  نستطيع كذاك تلمٌس ذلك الانحدار الذي يستمر في السير نحو الأسوأ.

 في حياة ال"بلد" أم العربي التايه. كانت، حيث الخير الوفير، والمنزل عامر بالأبناء الذين يعلم كل منهم دوره، كخلية النحل، وهنا نلاحظ الإشارة غير المعلنة والتي تعطي سمة الريف، والمتمثلة في كثرة العيال (أربعة عشر بطنا}، والتي تعتبر ثروة الفلاح، كما نلاحظ أنه لم يستمر في الرواية، من بين الخمسة الذين عاشوا لها، غير كل من "عربي" وحبشي" اللذين عليهما العمل بالخارج، بينما يتوقف دور البنات في الرواية، ويتوقف عن الفاعلية في تسيير حركتها، وكأنه – أيضا - يعكس نظرة الريف للمرأة، وكأن الكاتب يفرش الأرضية الأسمنتية الواسعة للمنزل، ثم يقيم عليها أعمدته التي تحمل سقفه، فنتعرف علي حياة ال"بلد" فيما كان:

 {تقوم ريانة، تحلب الجاموسة، وتخض اللبنَ في القِربة وتصحى العيال، تعطى كلًا منهم كرة صغيرة من الزبد في رغيف، يقوم كلٌ بدوره، العبد يولع الركية وهانم تجهز عدة الشاى، ومنتهى تملأ الزير، وشوق تكنس الدار وترشها بالماء حتى يهمد التراب، وبلد تحمى الفرن بالحطب وتخبز العجين البايت من البارحة، وحبشى يعبى نقلة السباخ فوق الحمارة، وعربى يمشى وراء النقلة إلى الغيط.}.

وتمر الأيام، ويلعب الزمن دوره، والتقاليد، ويتسرب العمي إلي عينيها، مع ما للعماء هنا أيضا وجوده الرمزي، فهي وإن كانت لا تري بيعينها، فإنها تدرك ما يدور من مخاذٍ، غير أنها تخشي الإفصاح به:

{ تسرب نور عينيها ببطء فعاشت في زمن العبد}ص20. فهي وإن كانت تعيش الحاضر بجسدها، فإن روحها تهيم في الماضي.

و{تعطى الكيس لعفاف لتطبخ عشاء نادرًا ندرة الحياء، تنحت عفاف، بفمٍ جائع، نسيرة لحم من كل نايب، تلتقط أذن بلد قرقشة حروف الخبز الناشفة فى أفواههم؛ فتسأل:

العيش خلص يا بت.

ترد عفاف:

لأ  يا مّ.

أُمال بياكلوا الحروف ليه!}ص21.

وتتضح الصورة أكثر، بتأمل، لا الإجهاد الجسدي فقط، وإنما الكبت النفسي، والقهر أيضا:

{ تعتمد على بصيص عين كليلة وأذنٍ صارت عينًا، تتغافل بفطنة حين تسمع عفاف تتأود بصوت مبحوح:

اختشى احنا على السطح.

تنادى...... يموت الهمس}ص22

وأيضا، تنحدر الأيام ب"العبد" الذي كان يوما عامود البيت:

{ ينظر إلى الأرض متحسرًا على زمن العافية، يمسح دموعًا متحجرة، ترك صورةً حائلة لشاب أربعينى بعين حولاء وشاربٍ وحشىٍ، بمناسبة حجته الوحيدة إلى الحجاز على ظهر جمل، وسمعةً لا تُقهر، ومهابةً تخطف الأبصار الفقيرة، وتاريخًا فريدًا بين الرجال، تَروى عنه الأساطيرُ أنه دفس رأس أخيه فى محمة الفرن لأنه ناده باسمه المجرد غير مسبوق بكلمة الحج، هذا الأخ نفسه ورث كلَ الطين، وانتقم بطريقة فجة يوم الموت، قال بشماتة:

أيام الفوضى راحت، اللى كان مستعبدنا مات}.

وتتحسر "بلد" علي زمن كان....... واصبح:

{حياة قاحلة فى ظل أمٍ خائفة تركها العبدُ ورحل وأخذ معه أمارات الخير}.

وإذا كانت الصورة علي هذا النحو، تحيلنا للنظر إلي الإنسان عامة، وفعل الزمن فيه، في رؤية توسع من فضاء الرواية، إلا أن استخدامات الأسماء ودلالاتها، يضعنا أمام بلد كانت "حرة" واصحبت "عبدة". كان الخير وفيرا، وأصبح الجوع والفساد كثيرا. فيتحول الشاب الواعد "عربي" والذي لا يخفي ما يحمله الإسم علي الانفتاح علي العالم العربي كله، وليست مصر فقط، يتحول من شاب يطلب العلم، إلي شاب ليس في حياته، ولا في تفكيره، إلا من بين ساقيه. فينجرف في غواية "عفاف" زوجة أخيه، وليتحول من مستقبل واعد، إلي فحل طلوق، يضع بذرة الفساد في أرحام نساء القرية جميعهم.

إلا أنه رغم وضوح استخدام الأسماء، الذي يدفع القارئ للنظر للرواية بالنظرة الجمعية، إلا أن أبو عيشة لا يحرم قارئه من الاستمتاع المغذي بالعناصر الإنسانية. فلم تتحول الشخوص إلي دمي تؤدي دورا، وإنما نظل أمام بشر ينبض الدم في عروقهم، ويعيشون فيما بيننا، يتأثرون بمحيطهم الاجتماعي، علي النحو الإنساني، ويؤثرون فيه علي النحو الجمعي، أو المجتمعي. وهو ما يتضح من تطور حياة "عربي" وصراعه الداخلي بين ما يفعل، وما يجب ألا يفعله، والتي تكشف أنه لم يكن أبدا وسيلة روائية، أو دمية يحركها الكاتب لتوصيل رسالته، وإنما إنسان، يصارع الشد نحو الهاوية.

فبعد أول لقاء، أو تواصل محرم بين "عربي" و"عفاف زوجة أخيه، تصارعه الأحاسيس، ويقلقه الخوف والرجاء:

{سار عربى وراء الحمارة دون كتاب يذاكر فيه، حزبه البكاء لا يدرى من الحب أم من الحزن، يخفى قلقه بضحكة بلهاء؛ مقبوض الوجه يدارى غمًا ينهش أعماقه؛ تتعانق يداه فوق صدره خاشعًا فوق حدادة ترابية تشق غيطان البرسيم والقمح، يستعيد أحاسيس غائرة. أطلت أمه حزينة برأس أشيب يجللها السواد حول أعضاء جافة تنظر إليه. ناول حبشى قوطة العيش منكس الرأس، أحس أنه عارٍ مكسور العين أمام أخيه، وصل قلبَ الاحتراق، تتنازعه الحيرة، الفراغ، البلادة، النزوع إلى الخلاص، ينفطر قلبه إلى صلاة سرية، تتآكل روحه مؤقتًا ريثما يتوهج من جديد، يعض الأنامل ندمًا لا غيظًا، يطارد ضميره فى نوبات من الخوف، الفرح، العمى، الاستبصار، الكمون، الجنوح، الورع، الشهوة، يتقدم إلى الخلف فى مفارقات مذهلة، تنتابه نوبات يأس، يقهر نفسه بعض الوقت، قديس ركبه شيطان، مسخ غارق فى الخطيئة، روحه فى السماء ورأسه فى الوحل}ص34.

وبعد أن أصاب الفتاة، ابنة الثمانية أعوام، والتي ظنها تسرق القطن، يشعر بالأحسي والأسف:

{ارتجت الأرض؛ ساخت ساقاه فى الوحل؛ وضع رأسه بين كفيه يبكى كطفل مذنب، استجمع نفسه المنهارة ورجع إلى فرحانة}ص19.

و عندما ينتوي الزواج من "قمر"، آملا التوبة والتطهر من علاقته الملوثة ب"عفاف":

{ فكر أن هذا أسعد يوم طلعت عليه شمسه؛ لا يرغب أكثر من ذلك، فقد كره الإثم الذى يحيك في صدره، ويطمح أن يكون طاهرًا ظاهرًا لباطن، تلك أمنية كل الناس حتى أبناء الجحيم، لكنه لن يفعل}

ويسعي الكاتب للتأكيد علي إنسانيته، وقسوة الظروف التي فرضها المجتمع، من فقر وجهل. يغوص في أعماق الشخصية، بعد أن يلبس ثوب الطب النفسي:

{يقولون بكثير من النصاحة لكل باب مفتاح، عفاف امتلكته طفلا، تعشش في قلبه، ما جمعهما ليس اشتهاء فحسب، إنه احتياج عاطفى عميق لأمٍ افتقدها على حياة عينها منذ طفولة مبكرة، يراها بعين طفل لم يفطم عن صدر أمه، يرقد فى حجرها، يمتص إصبعه من الجوع}ص88.

ولم يكن عربي وحده الذي يخضع للظروف، لتفعل فيعلها فيه، وحيث أن كل العوامل الخارجية واحدة، خضع لها " عربي" كما خضع لها "حبشي"، ورغم ذلك جاءت شخصيتاهما مختلفة. ويبحث الكاتب عن الأسباب، فيجدها في العوامل الداخلية، النفسية. حيث كان حبشي، هو الولد الأول بعد البنات، ولنا أن نتصور كيفية معاملته في الأسرة المصرية عامة، وفي ريفه خاصة:

{ لكن أحدهما رضع الحنان كله، لم يكن على الحِجر غيره، لأنه وُلد بعد البنات، فأخفت خبره أسبوعًا خوف العين، وسمته حبشى خوف الموت، وأخفته هو نفسه خلف الأحجبة والتمائم وفساتين البنات، وفرقت الفول النابت على كل الحارة ونفحت أم رئيسة قرشين وقُمع سكر سنترفيش، جاء حبشى انتصارًا في المعركة الأزلية ضد الأعداء الطبعيين العم والعمات والحماة هانم الحُر التى كانت تسمم بدن العبد قبل حبشى:

يا عدو نفسك، اسمك هينقطع من الدنيا.}ص50.

ولهذا توارث "حبشي" الإذعان والخنوع، وتقاعد عن المواجهة. فرغم علمه بما يدور بين زوجته وأخيه، أو حتي الشك فيما يحدث بينهما، إلا أنه لم يقدم علي اتخاذ موقف:

{ يبكى حبشى مذعنًا كالعادة بوصفه متمرسًا فى فن الإذعان، إذا كان الإذعان المتوارث منذ السنين الفرعونية فنًا، اللى يربط في رقبته الحبل ألف من يسحبه، واللى يعمل خده مداس يتحمل الدهس}.ص86.

ويعود الراوي لينسف عقيدة أولئك الذين الحل من السماء، دون أن يسعوا إليه، مثل حبشي، فيقول الراوي:

{تساعد السماء أولئك الذين يساعدون أنفسهم، قول مأثور آخر، لكن حبشى لا يعرف كيف يساعد نفسه، وبالتالى لا أمل حسب القول السابق فى مساعدة السماء له}ص84.

وحتي "عفاف" لم يغفل الكاتب البحث في جذورها النفسية، كأنثي" فلاحة، تعلم كيف تُسَيُر حياتها، وتساير معيشتها، حتي غير المفروض منها:

{هذه كلمات عفاف وإن بلُغةٍ أخرى تناسب أميتها لا نقول جهلها، ومع ذلك تعيش بالغريزة، تأكل آخر زادها، توحى للرجلين، كلًا على حدة أنه رجلها}.

سمات عامة في كتابة أبو عيشة

كانت صرخة اسمعت العالم كله، عندما قدم الإيطالي "لويجي بيراندلو" مسرحيته الشهيرة "ست شخصيات تبحث عن مؤبف" مسقطا فيها الجدار الرابع، أو حاجز الوهم، ليخرج الممثلون من بين مقاعد الجمهور، ليشير بأن الممثلين أناس مثلنا، يؤدون أدوارا. وكانت فلسفته تقوم علي التوحيد بين خارج الإنسان وداخله. تلك الرؤية التي يسعي محمود أبو عيشة لمعالجتها في "حتي مطلع الفجر". فلجأ إلي التدخل المباشر بلسان الراوي، رغم أنه غير مشارك، وبصورة واضحة في سياق الرواية، ودون أن نشعر بتدخله.

وقد استخدم هذا الظهور المباشر لعدة أغراض:

أ -  1- لتقرب الروي أو الحكي من الطابع الشفاهي فكأن الراوي يجلس بين مجموعة من (السميعة) وهو ما يخلق نوعا من الود والحميمية، تقرب النص من القارئ.وهو ما يساعد في توصيل الرسالة، حيث يكره القارئ أو المتلقي الكلام بصيغة النصائح، أو التعاليم المباشرة، فهي هنا تشركه في الأمر، أي تشعره بوجوده، وبإنسانيته:

  • ولو أننا نستطيع دخول دماغ عربى، لوفّر علينا وعليكم سادتى القُرّاء كثيرًا من البحث والتقصى وضرب الأخماس في الأسداس، لذلك واستنادا إلى وقائع قاطعة أيضًا فإن هذا العربى التايه لمن لا يعرفه كريم مع الجميع إلا نفسه التى لا يجرؤ على مواجهتها، ومع ذلك ضاعت مكارمه وسط البذاءات التى شاعت عنه منذ الميلاد التعس على بسطة السلم}ص75.
  1. - كما استخدمها الكاتب في تمرير بعض الإضاءة علي موقف أو مكان أو أحد شخوص الرواية مثل {إذن يكفينا الآن في هذه المرحلة الحرجة من حياة أبطالنا المطحونين من طلعة الشمس إلى غطستها}، و {فلا يمكن أن يتوقع المرء شيئًا في متاهات الفقر} ليحدد لنا البيئة التي يتحدث عنها، والتي لابد أنها تلعب دورا في تسيير حياتهم، علي الأقل من وجهة نظر الكاتب.
  1. كما استخدمها أيضا في الكشف عن بعض جوانب الشخصية الروائية، خاصة تلك التي لم يفصح بها السرد، أو أن المفترض أن الراوي الخارجي لا يصل إليها ، والذي يصف لنا الأشياء كما تحدث، دون أن يبين لنا أبعاد ما يحدث. ففي أحد تدخلات هذا الراوي، يتحدث عن "عربي" فنقرأ:

{ عفاف امتلكته طفلا، تعشش في قلبه، ما جمعهما ليس اشتهاء فحسب، إنه احتياج عاطفى عميق لأمٍ افتقدها على حياة عينها منذ طفولة مبكرة}.

4 -  كما استخدمها أيضا للتنبيه والتذكير، بألا نتوقف عند الحدود والحروف، وإنما علينا أن نبحث عما لم يذكره مباشرة، فيخبرنا بأنه ترك مسافات بين الكلمات، متعمدا، ويدعونا للتنقيب عنهان فنقرأ:

{لا نعرف بعد ماذا سيحدث، ربما لا نعرف أبدًا، حسب ظروف السرد الذى يمضى فى طرق ليست مستقيمة على الإطلاق، فلسنا ندعى الإحاطة بكل شىء، فقد تشابكت الخيوطُ وأربكت المؤلفَ الذى يأخذ على عاتقه هذا الأمر بجِدية مَرضية، رغم أن البعض أعلن، لا نعرف كيف، موتَ المؤلف .. ما علينا، فقد جئنا إلى الدنيا وفى إحدى اليدين أول ما خلق الله: القلم وقال له اكتب ما كان وما هو كائن، وفى اليد الأخرى ورقة؛ لنكتب نصًا مفتوحًا على العالم، فكل يوم يحمل جديدًا، فليسامحنا القارئ العزيز وليجتهد معنا لسد الثغرات التى ننساها سهوًا أو نتركها عمدًا؛ فلو قلنا كل شىء فلن ننتهى أبدًا من أى عمل نبدأه داعين الله عزّ وجلّ أن يُلهمنا إنجازه، وكفى بالمرء كذبًا أن يُحَدِثَ بكل ما سمع}ص30.

ب -  مثلما يفعل بعض الأطفال، أو بعض الشباب، بينما يسيرون في جماعة، ويغافل أحدهم الجميع، ويلقي بحجر، أو طوبة، علي شئ أو شخص، ويندمج مع الآخرين في الحديث، أو الممازحة، دون أن يشعر من معه، أو من أُلقي عليه الطوبة، من الذي قذفها. كذلك يفعل أبو عيشة، بينما يتدفق السرد، نجد جملة تأتي لتصيب شيئا بعيدا، تُؤلم، دون أن تجرح. ولتصبح كالشرارات المصوبة علي بعض المآخذ، أو تنتقد شيئا في المجتمع. مثل:

{خلق الله العقل وقال له أقبل فأقبل، وقال له أدبر فأدبر، فقال له وعزتى وجلالى ما خلقت خلقًا أكرم علىّ منك. وقد نهض الغرب بالعقل، الغرب الكافر يا مسلم ونحن المؤمنين نتخبط في الظلمات، ظلمات الجهل، والظلم ظلمات يوم القيامة، وأظلم الظلم أن تظلم نفسك}. حيث تبدأ العبارة بالحديث الجاد عن الخلق عموما، وتقديس العقل الذي خلقه الله فيهم. ثم يرمي إلي انتقاد (المسلمين) باللغة الساخرة (الغرب الكافر يا مسلم)، ثم يعود للحديث العام (والظلم ظلمات يوم القيامة) وكأن غمزة وامضة لم تمر.

ج – وانطلاقا من البند (ب) نلاحظ أن بعض الجمل التي يقذف بها الكاتب لشئ بعيد، ترد بعض الجمل التي لا نستطيع تحديد وجهتها، فتقف في الطريق يتعثر فيها القارئ، مثل {أدركه الليل فنام على الدكة التي بجوار التمثال، أحاطه رجال بلهٌ بأحذية ضخمة، سحن كالحة وشوارب منتفخة} والتي قد توحي بوجود العسكر، غير انا لم نجد لهم (العسكر) دورا في العمل. حتي لو ربطناها بتلك الفترة المشار إليها والتي تبدأ بوليو 1952، فإن إشارة ما في شخصية "عربي" لم ترد بإنعكاس ذلك عليها.

وهو ما يجعل – أيضا - تلك الصورة الناتجة عن جملة صريحة، تاهت في صحراء الحكاية، دون أن نتعرف علي أي أسباب لوجودها، أو انعكاسات نتجت عنها، والتي تسئ هنا إلي "عربي" حتي لو أدانت أولئك المعنيين، أصحاب الأحذية الضخمة والسحن الكالحة والشوارب المنتفخة:

 { قبضوا عليه ورموه في السجن فتعرض لعملية اغتصاب شنيعة من قطاع طرق بوهيميين، فهام على وجهه متقيح الروح}ص71. وحتي لو تصورنا أن تحول "عربي" إلي النهم الجنسي، حتي أصبح (طلوقة) لنساء البلد كلهم، فإننا لن نجد، أيضا، أن ذلك كان يمثل انتقاما لخلفية الاعتداء الجنسي عليه بالسجن، بقدر ما كان استمتاعا، ورغبة داخلية. وهو ما يتماشي كذلك مع رؤية الرواية عامة، والتي أشارت في مضمونها إلي أن ال"عربي" غاب عنه العقل، ونبع تفكيره من بين ساقيه.

وقد يصل الأمر إلي تشويه الصورة المراد رسمها. فالصورة التي وصلتنا عن "بلد" أنها من سيدات الريف المكافحات، ولم يُعرف عنها انحرافا، بينما عندما نقرأ {تُهمده الأم حتى ينام، فتبكي، تبكي طويلًا؛ تُكلم نفسها، تشكو، تدعو، لا يجرؤ على النظر إليها. يتسلل إليهم غريب، لا يأتى إلا في الليل. يتهامسان. يأخذه تحت عباءته المهترئة، يُقبّله في جبينه ويسرب إلى فمه أرواحة النعناع. توحد مع الغريب الذى يهابه بقدر ما يحبه}. وهي الصورة التي قد تسئ إلي سمعة الأم "بلد".

خاتمة

يقول الراوي في أحد تدخلاته : {لكل قصة أكثر من جانب، هذا ما تقوله النظريات الحديثة التى تعتمد القراءات اللانهائية}. وكأنه يتحدث عن الرواية (حتي مطلع الفجر) تحاكم عصرا بأكمله، عبر العديد من الرؤي، تسبح جميعها علي هدهدات سرد ناعم حميم ، مغلف بالسخرية، رغم الضربات الموجعة، والوخزات المؤلمة، لتقودنا إلي عالم ضاج ، يقول فيه محمود أبو عيشة كل ما يريد أن يقوله، دون أن يمسك به متربص، أو مترصد. ويمد حباله إلي ما فات، وما هو آت، وكأننا لم نبرح الأمس، ونخشي أن نخطو للغد، في ظلام الواقع، وضباب المستقبل، الذي ولد بالأمس، ولن ينزاح حتي مطلع الفجر، والذي لن يطلع إلا بتكاتف الجماعة، لتخرج للحاكم كي تقول كلمة الحق، نازعة عباءة الخوف والكمون.

 

Em:shyehia48@gmail.com

14 / 4 / 2016

(1) محمود أبو عيشة – حتي مطلع الفجر – رواية – مؤسسة عبد القادر الحسيني الثقافية – ط أولي 2015.