في تناوله لعالم هذا الكتاب الجديد الطالع من تجربة الكتابة عن العالم الافتراضي الذي يوفره «الفبسبوك» يتناول الناقد منطلقات هذا الكتاب التصورية والأدبية، ويكشف عن استخدامه لجماليات اللوحة التشكيلية، وعن مرجعياته الثقافية وسيطرة التناصات الدينية على عدد من نصوصه.

إطلالة نقدية على نصوص كتاب «فصول»

للكاتب حسين حلمي شاكر

عـمر عتيـق

الفضاء الافتراضي للتواصل الاجتماعي (الفيسبوك)
تخلّقت الجينات الإبداعية للكاتب حسين حلمي شاكر في الفضاء الاجتماعي للفيسبوك. ومن المرجح أن متابعة القراء لكتاباته كانت سببا في توجيه تجربته الإبداعية. ومنشورات الفيسبوك مشهد تتجلى فيه الرؤى النقدية الصادقة للكتابات الإبداعية، كما تتكشف في هذا الفضاء الافتراضي المجاملات الشخصية، والعبارات البراقة التي تُظهر حجم النفاق الاجتماعي، ولهذا اهتمت نصوص الكاتب بتوجيه سهامها النقدية للمشهد الاجتماعي والثقافي للفيسبوك، وبخاصة سخريته من الرجال الذين يختفون وراء اسم امرأة لتجميع عدد كبير من المتابعين الشباب كما في قوله في نص بعنوان "منحرف": (تقمص اسما لامرأة، استعان بجوجل لاختيار صورة له، زادت قائمة أصدقائه بكثير من المغفلين.) (ص20) تثير هذه الومضة إشكالية اجتماعية حينما يتقمص الرجل شخصية امرأة، وتفتح أفقا للتساؤل عن الدوافع السيكولوجية لهذا السلوك الذي وصفه الكاتب بالانحراف. والكاتب لا يهدف إلى وصف مشهد الانحراف في الفضاء الافتراضي وإنما يسعى إلى إعادة بوصلة منظومة القيم الأخلاقية، والتأكيد على احترام وظيفة الفضاء الافتراضي للتواصل الاجتماعي.

ويبدو أن النص السابق لم يكن كافيا لتفريغ شحنة الغضب من فئة من النقاد الذين يحترفون النفاق في كتاباتهم وتعليقاتهم وردودهم على النصوص التي تكتبها المرأة كما يبدو في قوله في نص "انحياز": (تقمص اسما جميلا لامرأة بصورة أجمل، تأكد له رأي النقاد في صواب ما يكتب، وفي تقديرهم أشياء كثيرة وفي معرفته لكثير منهم). (ص20) ولا يخفى أن هذه الومضة تختزل مشهدا مؤسفا في الخطاب الثقافي وبخاصة تأثير الأنوثة على المشهد النقدي والإبداعي في صفحات الفيسبوك، حينما يلهث بعض النقاد إلى الإشادة بما تكتبه الأنثى بصرف النظر عن المستوى الفني لكتاباتها. ويُفضي هذا المشهد المنحرف عن جادة الأدب والثقافة إلى الكشف عن فئة من الأدباء والنقاد الذين يحرصون على حضور الأنثى للمحافل والندوات والأمسيات والمؤتمرات دون أن يكون لتلك الأنثى رصيد ثقافي أو ثروة أدبية إبداعية.
اللوحة التشكيلية
تقترب نصوص عدة للكاتب حسين شاكر من مقومات اللوحة التشكيلية. وقد أفرد الكاتب فصلا من كتابه (فصول) أسماه (ألوان) تشيع فيه أدوات الرسم. ويبدو أن فكرة التأمل في اللوحة التشكيلية وما تشتمل عليه من دلالات رمزية من العوامل التي أسهمت في تشكيل التجربة الكتابية الإبداعية للكاتب حسين شاكر. كما أن التشابه بين مكونات اللوحة التشكيلية ومضمون بعض النصوص جاء بديلا عن الصور الفنية اللغوية، فعلى الرغم من خلو النص من التشبيهات والاستعارات التي تشكل أفقا تخيليا لدى المتلقي إلا أن الكاتب استعان بأدوات اللوحة التشكيلية، لتكون بديلا عن التصوير الفني التشبيهي والاستعاري، فلو تأملنا قول الكاتب: (رسمتْ على ورقة في كراستها نقطة، وفوق النقطة سماء وشمسا، وعلى ورقة أخرى رسمت قمحا، وفي الثالثة ثيرانا تجوب حقلا ولا ترعى، أعادت للسماء في الرابعة غيما وكفين تتضرعان إلى الله غيثا. (ص40 ) نجد أن النص يتوزع على أربعة لوحات بصرية، وكل لوحة منها تحمل دلالة متصلة مع دلالة اللوحة الأخرى، وتمتلك اللوحات الأربعة قدرة على إثارة خيال المتلقي أكثر من القدرة المعهودة للصورة الفنية التشبيهية أو الاستعارية، وهذا يعني أن عنصر الخيال في الكتابة الإبداعية ليس مقصورا على لغة المجاز والصور اللغوية الفنية – كما يتوهم بعض النقاد. واستئناسا بما تقدم يمكن تسمية هذه النصوص بـ"اللوحات التشكيلية العنقودية"، لأن مكوناتها الدلالية تتسم بالتنوع والتوليد والتكامل؛ فاللوحة الأولى (نقطة) تشكل نواة اللوحة العنقودية.
ومن المرجح أن تتعدد تفسيرات لوحة النقطة لدى القراء، وكلما تعددت التفسيرات زادت القيمة الدلالية للنص، فبعضهم قد يرى في النقطة أمنية وحلما لم تتضح معالمه، وبعضهم قد يرى في النقطة حيرة وضياعا وغيابا للأفق. وحينما تتحول اللوحة إلى مشهد السماء والشمس تتشظى النواة أو النقطة إلى أفق تخيلي واسع يكشف عن دلالات رمزية، ويبدأ القارئ بتأمل دلالة السماء والشمس في الموروث الثقافي، ويزداد أفق التوقع الدلالي وضوحا حينما يتأمل القارئ اللوحة الثانية التي ترسم مشهدا للقمح، ولا يخفى أن القمح في الوعي الجماعي يجسد التفاؤل الإنساني في كل تفاصيله، ويرمز كذلك إلى الأرض والوطن المعافى من جراحه. وتمثل اللوحة الثالثة تقابلا لدلالة اللوحة السابقة؛ لأن مشهد الثيران التي تجوب الحقل ولا ترعى يرمز إلى الغرباء أو الاحتلال الذي يجوب الأرض التي لا يملكها، وليس له نصيب شرعي في مرعاها. وتجسد اللوحة الرابعة اليقين بالنصر من خلال مشهد الدعاء والتضرع بسقوط مطر الثورة. إن العناقيد الدلالية في اللوحات الأربع نجمت عن توظيف مقومات اللوحة التشكيلية التي تتفوق على مكونات الصورة الفنية المألوفة.
ويوظف الكاتب ألوان اللوحة التشكيلية في اختزال المشهد السياسي في قوله: (لم يعثر بين ألوانه على ما يظلل به سهول الوطن، فاختار من ربيع الموسم اللون الأحمر.) (ص39) ولا يخفى أن اختيار اللون الأحمر لتظليل سهول الوطن يرمز إلى اختيار الكفاح المسلح طريقا وحيدا للحرية، وبهذا تكون اللوحة التشكيلية بلونها الأحمر أكثر قدرة على التعبير من مقال سياسي مطول، وأكثر إثارة من خطاب على منبر لأن المعنى الذي يتشكل بالرمز والإيحاء أكثر تأثيرا من المعنى المباشر والتقريري؛ فالقارئ حينما يكتشف المعنى بنفسه يتفاعل مع النص وتزداد يقظته للفضاء الدلالي الرمزي.
المفارقات الدلالية
من البديهي أن أسلوب المفارقة ينبّه المتلقي على دلالات يعجز عنها الأسلوب المباشر؛ لأن الخطاب المألوف لا يوفر عناصر الدهشة والإثارة. ويوظف الكاتب تقنية المفارقة الدلالية لنقد منظومة القيم الإنسانية من خلال رصد مشاهد متنافرة، كما في قوله: (اشتدت المنافسة بين مجموعة من الطالبات في مسابقة لأحسن رسم عن الشتاء ضمن برنامج إسعاد الطفولة الذي تم إعداده في مناخ من الدفء في مكاتب وأروقة التنسيق، فازت احدى الطالبات بالرحيل بردا، وهي ترسم موقدا في خيمة شتاء) (ص39 ). تتوزع المفارقة في هذا النص على مشهدين متنافرين؛ الأول: برنامج إسعاد الطفولة الذي ينبغي أن يحرص على حقوق الطفل، ويطبق القوانين الأممية الخاصة بحقوق الطفل. والثاني: طرد الطفلة في البرد؛ لأنها رسمت خيمة للاجئين المشردين في الشتاء. فالقائمون على مسابقة ارسم للأطفال أن يرسموا مشاهد تجسد القضية الوطنية وتعبر عن معاناة الشعب الفلسطيني؛ إذ يكشف المشهدان عن تزوير الحقائق التي تسعى إليها بعض المنظمات والمؤسسات الدولية التي تهدف إلى تسويق ثقافة الفصل بين المواطن وحقوقه الوطنية وقضاياه الإنسانية.
وتكشف المفارقة قي قول الكاتب: (اكتظت صالة أحد المعارض بالزوار الذين تقرر رأيهم شرطا في اختيار أحسن لوحة، تزاحمت الآراء واشتد التنافس بين الحضور، أزال أحدهم حيرة اللجنة واختار لوحة عن الشمس. أدهش الجميع عندما تبين أنه أعمى، وأنه قد أحس بدفء في المكان.) (ص50) تكشف المفارقة عن التباين بين البصر والبصيرة، وبين الحس والإحساس. وتجسد الومضةُ ثقافة الاختيار المؤسس على البصيرة والإحساس، إذ إن الاختيار المنسجم مع الفطرة الإنسانية لا يقتضي مظاهر مادية بقدر اقتضائه للإحساس. وعلى الرغم من أن اختيار الأعمى للوحة الشمس وإحساسه بالدفء جاء في سياق الرمز إلا أن يقظة القارئ تتضاعف للمعنى الرمزي والموقف الإنساني ؛ إذ ليس من المألوف أن يختار الأعمى أجمل لوحة في المعرض. إن ما تقدم يُثبت أن السرد القصصي والتعبير الوصفي لا يحتاج إلى حقائق مادية أو أحداث واقعية كي تثير القارئ وتؤدي وظائفها الدلالية، فالسرد الرمزي ينهض بوظائف قد يعجز عنها السرد الواقعي.
المرجعيات الثقافية (التناص):
تتنوع المشارب الثقافية التي أسهمت في صقل التجربة الإبداعية للكاتب، وتتوزع على الموروث الديني والوعي التاريخي، والرؤى السياسية. ويكشف توظيف المرجعيات الثقافية في النص الإبداعي عن أمرين؛ أولهما: المستوى المعرفي والثقافي للكاتب وقدرته على المزج بين المرجعيات الثقافية ومضمون النص الإبداعي. وثانيهما: قدرة القارئ على التوفيق بين دلالة النص المُستدعى، ودلالة النص الإبداعي. إن أهمية اشتمال الومضة القصصية على مرجعيات ثقافية تكمن في ربط الماضي بالحاضر انطلاقا من وحدة الفكر الإنساني، وتقارب دلالات الأحداث على الرغم من الاختلاف الزماني والمكاني، نحو استدعاء الكاتب لمحنة النبي يوسف عليه السلام في سياق سردي رمزي يحتمل تأويلات عدة في قوله: (جاور السماء في جوف بئر، تضرع إلى الله بدعاء، أقام الصلاة في عتمته، شمخ نحو السماء بسجوده، لاح إليه الفجر بدلو، وكان قد استودع أمه على الطريق في قبر، ابتيع بخان، وساد في قصر تفتح في خزائنه القمحُ سنابل، فساد مع الله عزيز قوم.) (ص54) يستطيع القارئ أن يربط بين محنة النبي يوسف ومعاناته الناجمة عن كراهية أخوته وحقدهم عليه بسبب قربه من أبيهم ومحنة فئة من الناس الذين يعانون من ظلم ذوي القربى، ومن كراهية الأصدقاء والمحيطين بهم بسبب تميز تلك الفئة ونجاحها في مناحي الحياة، وهي ظاهرة منتشرة في العلاقات الاجتماعية. وتثير هذه المقاربة بين المحنتين سجالا حول أسباب الكراهية والعداء غير المبرر. كما يمكن للقارئ أن يقارب بين نجاة النبي يوسف من محنته، وتحوله من العبودية والهوان والسجن إلى السيادة والعزة والكرامة من جهة، وقدرة الفلسطيني على الصبر على الشدائد، ومواجهته الصعاب، وتحقيق طموحاته المنشودة. ويحتمل كذلك الفضاء الدلالي للومضة القصصية بعدا فكريا عقائديا يتمثل بإيمان القارئ بأن التوكل على الله جل وعلا والدعاء في المحن والشدائد كفيل بتحقيق النجاة والخلاص، وبخاصة أن الكاتب كثّف الدوال الدينية في النص الذي بدا ابتهالات وترانيم في محراب؛ إذ إن تعلق القلب بالسماء والتضرع، وإقامة الصلاة، والسجود مفاصل دينية دلالية تحفز القارئ على التأويل الديني للنص. ويبقى فضاء النص (الومضة) مفتوحا لتأويلات أخرى وفق ثقافة القارئ وقدرته على توليد دلالات من خلال الربط والمقاربة بين أحداث قصة النبي يوسف، و الدلالات المعاصرة. وكلما تعددت التأويلات وكثرتْ الرؤى زادت القيمة الدلالية للومضة القصصية.
ومن المرجح أن التأويل الأول ( كراهية أخوة يوسف لأخيهم) هو الحافز الفكري والدافع النفسي الذي حدا بالكاتب لاستدعاء قصة النبي يوسف؛ لأن الكاتب يستدعي القصة ذاتها في موضع آخر في قوله: (لم تعد ترقْ له مقولة الأخوة وقد استاء من اللامبالاة، وضاق به من أخوته الحالُ، قدّر الله له ما شاء، قرأ عن يوسف، أضاء إيمانُه بعزّته، لم تعد تنطلي عليه إنسانية الروايات، ولم يعد هنالك متسع في مكتبته للأخوة الأعداء، أشفق على غيره من نفسه فاتخذ من جاره حليفا.) (ص56) واللافت أن الكاتب اختار لهذه الومضة عنوان (كرامازوف) وهو عنوان رواية (الأخوة الأعداء) للروائي الروسي دستويفسكي، وينبه عنوان الومضة القصصية إلى قدرة الكاتب حسين شاكر على التقاط الدلالات المشتركة بين قصة النبي يوسف والعلاقة بين الأخوة ورواية كازماروف التي تجسد انهيار القيم الأخلاقية بين الأخوة، وهذه هي الرسالة التي تنطوي عليها الومضة التي اختزلت أزمة أخلاقية منذ محنة النبي يوسف ومرورا بأحداث الرواية الروسية وانتهاء بالمشهد الأخلاقي المعاصر.