فقد العالم العربي في الشهر الماضي، وميض نظمي، أحد أكثر مثقفي العراق نزاهة وترفعاً وزهداً، ولأن (الكلمة) منبر حراس الكلمة والقيم والضمير، تدعمهم وتحتفي بهم في عالم سادت فيه كلاب الحراسة، تعيد هنا نشر هذه المقالة الطويلة عنه، احتفاء بقدره وقيمته، وتذكيرا بأهمية مسيرته المتميزة.

وميض نظمي... الحالم الذي قتلته النزاهة!

عبدالحسين شعبان

لم يكن وميض جمال عمر نظمي الذي فقدناه، إلاّ الإنسان النزيه، الموصوف بالرقة والدفء والصراحة والرجولة (الجنتلمانية)، ونستطيع أن نتلمّس ذلك من نبرته وابتسامته الموحية ونظرة عينيه المشعّتين بالوداعة والسلام. هكذا يمكننا بسهولة التعرّف على حجم الصدق والأمانة والإخلاص المتدفّق من كلامه، والطّافح على وجهه، سواء كان الحديث مباشراً أو غير مباشر عن أمر لا يريد أن يفضي به، أو يحرص على عدم التصريح فيه، وذلك تبعاً للظروف. وبقدر ما هو رجل الرفاهة والخير والجمال، فهو رجل الصلابة والمواقف الجريئة والتحدّي أحياناً.

لم يكن وميض سياسياً تقليدياً أو حزبياً "منضبطاً" بالمعنى البيروقراطي، بل كان من نمط السياسيين المنفتح الذي يستخدم عقله، قبل أن يستخدم عاطفته، وقبل أن يتلقى التعليمات من جهة تزعم امتلاكها للحقيقة أو حق النطق باسمها. كان سياسياً يقلّب الأمور ويفحص المعطيات ويفكّر، ليحدّد الموقف والاتجاه، ضمن بوصلة هو أعدّها لنفسه التي منحها سقفاً عالياً من الحرية، حتى في ظروف لم يكن هذا النوع من التفكير مقبولاً. إن فعل التفكير هو بحدّ ذاته محنة، خصوصاً في ظلّ سيادة محنة عدم التفكير. وإذا كان وميض سياسياً من نوع جديد ومختلف، لأن المفكر الذي في داخله كان يشرئب دائماً ليعبّر باللحظة المناسبة عن الموقف ويتّخذ القرار، لذلك كان يتجاوز على التقاليد المألوفة في العمل السياسي، ولا سيّما في القوى والأحزاب الشمولية، وهو ما قاده للتمرّد، بل جعله متمرداً دائماً.

وإذا كان السياسيون التقليديون قد انخرطوا في العمل السياسي واعتادوا على الأوامرية والانضباطية، فإن وميض كان يتميّز عنهم، لأن فهمه للسياسة مختلفاً عن فهمهم لها، وحسب ابن خلدون: السياسة عموماً هي صناعة الخير العام، وهي أمانة وتفويض، ولا مجرى لها إلاّ بين تضاريس المحاسبة والتوضيح. وكلّما انحدر الكلام في السياسة ازدادت الحاجة إلى الاهتمام بها كعلم، وهو ما كان وميض قد درسه ثم درّسه لما يزيد عن 3 عقود من الزمان. وإذا كانت السياسة حسب فلاديمير لينين هي التعبير المكثّف عن الاقتصاد، فإنها حسب حنا أرندت تعني بكل بساطة الحرّية، وهو ما حاول وميض تجسيده بنزعته الأرسطية التي تعيد السياسة إلى الفضاء العام باعتبارها نشاطاً إنسانياً يهدف لتحقيق الخير العام لجميع أفراد المجتمع.

جمع وميض بين العمل السياسي والعمل الفكري، وبين الممارسة اليومية وبين النظرية، واضعاً للبراكسيس مكانة خاصة، بل وضرورية لإعادة النظر بالكثير من المسلّمات النظرية، لا سيّما إذا لم تعد تتماشى مع نسق الحياة وتطوّرها. وإذا كان جيل السياسيين عندنا يمتاز بالنّقمة والسّخط والعداء للآخر، وادّعاء الأفضليات والزعم باحتكار الحقيقة والتفوّق، فإن وميض وربما عدد قليل من جيله، انفرد بمنهج مغاير، حيث كان يسعى للتواصل مع الآخر والتكامل معه، وكان باستمرار يبحث عن مساحات للقاء والتقارب.

ووميض وإن كان من جيلنا، إلاّ أنه انتمى إلى جيل سبقنا، وتأدّب بأدبه وتخلَّق بأخلاقه. إنه جيل الرواد الذين جمعوا بين السياسة والأخلاق، وهو جيل شفاف بشكل عام ارتبط بقواعد عمل طبقها في الغالب الأعم على نفسه وعلى الآخر. وبهذا المعنى، فإن وميض الذي فهم السياسة أيضاً باعتبارها "علم وفن إدارة الدولة"، جعل الأخلاق معياراً لا يبتعد عنها. ربما كانت معايشة وميض لذلك الجيل أو بقاياه، هي التي عزّزت عنده تلك السّمات، حتى بدا أكبر من عمره، وتجربته بدت أكثر غنىً وعمقاً، خصوصاً وأن ذلك الجيل الذي سبقنا لم يُصب بأمراض العمل السري وفيروس المؤامرات والدسائس، الذي استحكم في عدد من سياسيي جيلنا، وأصبح دليل الشطارة والفهلوة والإغراق في التكتيك، حتى غدا الاستراتيج، تكتيكاً يومياً، لا سيّما على صعيد العلاقات الخاصة.

لم أشأ التحدّث عن الجيل الذي تبعنا أو الأجيال التي أعقبتنا، وبخاصة الجيل الحالي من السياسيين، الذي أصبح له قاموسه الخاص البعيد عن تراث الأجيال التي سبقته، فجيلنا والجيل الذي سبقنا، والأدق الجيلين اللذين سبقونا من الحركة الوطنية لم يعرف الطائفية، ولم يتورّط بعلاقات مشبوهة مع الأجنبي، وكان شعار محاربة الاستعمار الأساس في توجهاته بغض النظر عن أيديولوجيته، بل كانت شبهة حقيقية إذا كان لديك أية علاقات مع جماعات خارجية، وكانت الأنظمة الداخلية للأحزاب بشكل عام تحرّم تلك العلاقات. كان ذلك في الماضي ويمكن تأريخه لغاية الحرب العراقية – الإيرانية العام 1980، وعلى نحو أوضح لغاية غزو القوات العراقية الكويت العام 1990، وفيما بعد خلال فترة الحصار الدولي الجائر 1991 – 2003، حيث استحدثت تبريرات وتنظيرات للاستعانة بالقوى الخارجية، لدرجة أخذ يتباهى معظم السياسيين اليوم بعلاقاتهم مع هذه الدولة أو تلك، ومع هذا الجهاز أو ذاك. وتلك من الظواهر الشاذّة إذا قرأنا تاريخ الجيل السياسي الأوّل والجيل السياسي الثّاني والجيل السياسي الثّالث، وذلك باحتساب عشرينية لكل جيل، أي من العشرينات إلى الستينات وما بعدها، وباستثناءات محدودة لبعض أقطاب الحكم الملكي، فإن السمة العامة السائدة لجميع القوى والشخصيات كانت "الوطنية"، حتى وإن كان ثمة اجتهادات في تحقيقها وفي التحالفات لتعزيزها.

أما الظاهرة الأخرى التي برزت في الجيل السياسي الحاكم، فهي شراهته إزاء المال واندفاعه دون أي اعتبار وطني للاستحواذ على المال العام والانخراط في عمليات فساد مالي وإداري وسياسي، واستثمار المواقع السياسية لأغراض شخصية وانتخابية وحزبية والتغطية على الفساد. وبالطبع، لا أرغب في التعميم فهو "الصَّخرة التي يتكئ عليها المتعبون"، لكن لكل قاعدة هناك استثناءات. وبشكل عام كانت الأجيال الأولى من السياسيين أكثر نزاهة وترفعاً وزهداً، ولعلّ تلك الصفات جميعها تلتصق بشخصية وميض وتقود حركته وتشكّل خلفية لمواقفه التي اتخذها، صائبة كانت أم خاطئة، لكنها صميمية ونزيهة.

(2)

لقد تمرّد وميض على نفسه – أي على واقعه – أولاً مثلما تمرّد على أسرته، ثم تمرّد على مجتمعه، وبالتالي تمرّد على الحركة السياسية وتقاليدها السائدة، خصوصاً الخضوع والطاعة والانصياع لقرارات الهيئات العليا، لكنه عرف كيف يوائم بين تمرّده الشخصي والتمرّد العام في هارموني، سعى لوضع أسس المصالحة بينه وبين نفسه، وبينه وبين الآخر، المختلف، المغاير، بحيث يكون بقدر ما هو متباين، فهو منسجم، وبقدر ما هو متوافق فهو متعارض، وبقدر ما هو متقارب، فهو متباعد، وكان يجد في ذلك نوعاً من التكامل والتفاعل والتواصل. وتلك سمة تميّز بها وميض عن كثير من أقرانه السياسيين، فلم يدع الحقد أو الكراهية أو الانتقام تتسلّق إلى قلبه، ووقف حتى مع "جلاّديه" وهم رفاق الأمس، حين اعتقل في العام 1963، موقفاً إنسانياً فيه الكثير من قيم التسامح، رغم آلامه وعذاباته، لأنه كان يدرك طبيعة البيئة السياسية والتربية التنظيمية المتزمتة والولاءات الحزبية، تلك التي رفضها، لا سيّما بصورتها الأوامرية الفوقية الزجرية، والأكثر من ذلك كان يشعر أحياناً بالعطف على بعض المتورّطين منهم، فهو المترفّع عن الصغائر، تلك التي لا ينصرف إليها إلاّ أصحاب العقول الخاوية.

ولعلّ أحد الأسباب أنه صاحب مشروع حضاري، ويعرف أن الثأر أو الكيديّة أو ردّ الفعل غير العقلاني، سيعود بالخسارة عليه قبل غيره، لذلك تحلّى بقدر كبير من التسامح، وهو ما ندعوه "بالتطهّر" الروحي، بعيداً عن روح الانتقام ومواجهة العنف بالعنف، وفي ذلك ممارسة لرياضة روحية مع نفسه ومع الآخر. ولعلّ ذلك أحد دروس العدالة الانتقالية، حيث كان وميض أكثر ميلاً إلى الصّفح من العقاب، وإلى المصالحة من المساءلة، ولكن بوضع ضوابط بعدم تكرار ما حصل من جميع الأطراف.

كان وميض إيجابياً جداً ومرهفاً جداً ومحبّاً جداً ووفياً جداً وجريئاً جداً، وهو ما جعله متميّزاً جداً، وفي الوقت الذي كانت ترتفع القبضات لتنادي العين بالعين والسن بالسن، كان وميض يفكر في الطريقة المثلى لفتح حوار وصولاً إلى التفاهم والمصالحة والمشترك الإنساني، واضعاً ما هو استراتيجي قبل ما هو تكتيكي، وما هو ثابت قبل ما هو طارئ، وما هو مستمر قبل ما هو ظرفي، فقد كان وميض رؤيوياً وصاحب عقل استراتيجي. وأريد هنا أن أعيد ما قاله عنّي في مداخلته المنشورة في كتاب "الحبر الأسود والحبر الأحمر: من ماركس إلى الماركسية" التي هي قراءة لكتابي "تحطيم المرايا – في الماركسية والاختلاف"، لأنها أكثر انطباقاً عليه: "إن ما قام به شعبان هو رد اعتبار للفكر، فالرجل كماركسي ظلّ يردّد منذ أكثر من 20 سنة، وحتى قبل ذلك حسب اطلاعي، أن هناك أزمة عميقة على صعيد الفكر والممارسة"... وأقول: "إن كتاب المفكّر شعبان قد "تأخّر" على الرغم من أهميّته الكبيرة، فهو برحابته واستقلاليته، طرح أفكاراً جديدة، ولو كنّا في أوروبا لتلقّفها، أولاً وقبل أي جهة أخرى، الحزب الشيوعي واستفاد منها وساهم في مناقشتها، لكن أوضاعنا ليست طبيعية، فلا شعبان يقبل أن يخوض معتركه الفكري ونشاطه الإبداعي المتنوّع ضمن أطر وسياقات تقليدية ضيّقة تحرّر منها، ولا الحزب الشيوعي يقبل أي نقد لأفكاره وممارساته، ناهيكم عن الاعتراف بأخطائه".

أظنّ أن هذا ينطبق على وميض نظمي وموقفه الفكري من الحركة القومية، التي يمكنني القول إنه سبقها بعقود، فبعضها قد تجمّد وتخشبّت لغته، وبعضها الآخر عاد القهقري، لما ما قبل ذلك، متشبثاً بصيغ ما قبل الدولة، ولو راجعنا الخطاب الناصري أو البعثي للحركات القومية أو بقاياها لوجدنا أن خطابها الستيني أكثر تقدّماً من خطابها خلال ربع القرن الماضي. استجاب وميض لإيقاع زمنه، فمع صعود الحركة القومية العربية، لم يجد نفسه وهو ابن الخامسة عشر سوى أن ينخرط في انتفاضة العام 1956 دفاعاً عن الشقيقة مصر، ضدّ العدوان الثلاثي الأنكلو – فرنسي – الإسرائيلي، وتشرّب من الفكرة الوحدوية العروبية حتى فاض، ما جعله رومانتيكياً أحياناً، أوَ توجد فكرة واقعية لا تحتاج إلى قدر من اليوتوبيا؟ وإن وجِدتْ فستبدو فكرة جامدة دون أي خيال يُذكر!!، ولذلك كانت رومانتيكية وميض جزء من التشبث بالحلم الضروري لأي فكرة، فما بالك إذا كانت جديدة.

وقد أدرك وميض أهمية إعلاء ما يربط العرب على ما يفرّقهم، وهو ما قرأه، لا في كتب التاريخ فحسب، بل بحاضرها ومستقبلها، في إطار البحث عن مكانتهم بين الأمم، ولذلك ترى حديثه يرشّح بالحزن والشوق والحب والسّلاسة والتغنّي، وهو حديث موشّى بالأمل ومطرّز بالأحلام، بوحدة عربية جامعة، تعيد للعرب انبعاثهم الحضاري وتضعهم على طريق التنمية والتقدّم. لم يكن وميض ماضوياً، وحين يتعاطى مع الراهن واليومي، فإنه كان يفكر بالمستقبل. وكان عقله مستقبلياً، حسب مكسيم غوركي، بوصف أحد ثوريّي عصره الكبار، فقد نظر إلى التجزئة والموروث والتقاليد البالية والحدود المصطنعة، باعتبارها أثقال على صدر الأمة وينبغي إزاحتها، لكي تستطيع أن تتنفّس بحرّية وبشكل طبيعي، وهي أصفاد وضعها المستعمر وذيوله لتكبيل الأمّة ومنعها من تحقيق أهدافها في التنمية المستدامة واللّحاق بركب الشعوب والأمم المتقدّمة. وإذا كان شيئاً من التقليد بقي في شخصه، فهو ذلك الرابط ما بين الديني بمعناه الطهري، الروحي والأخلاقي، وما بين المدني، التقدّمي والإنساني، وفي كل الأحوال بقيت العروبة والوحدة العربية تمثّل جوهر مشروعه الاجتماعي، فتراه يطعّمها بالاشتراكية والعدالة الاجتماعية، ثم يستلهم التراث الحضاري للإسلام وغير ذلك. وكان في القلب منها والمؤشر لها كبندول الساعة النابض هي القضية الفلسطينية، ولعلّ كل من يعرف وميض يقدّر مدى تعلّقه بذلك وإيمانه به ورؤيته المستقبلية له.

(3)

كان بعض القوميين والعروبيين يرون في وميض نظمي قريباً من الضفّة الأخرى اليسارية والماركسية، في حين أن بعض من في الضفّة الأخرى، كان يريد منه القطع مع الماضي للانتقال إليها أو إلى فضائها. ويقول وميض عن ذلك: "بدأت أتأثّر بالماركسية والمادية التاريخية منذ بدايات فشل محاولات الوحدة والانفصال (السورية – المصرية)، لكنني لم أقتنع بأن الطبقة العاملة يمكن لها أن تستلم السّلطة في العراق، إذْ لا توجد عندنا طبقة عاملة، سوى باصات المصلحة وبضع سكك حديدية وعمال النفط والميناء. وقد حاولت فهم المسألة على نحو أكثر استيعاباً، بعيداً عن الشعارات العامة التي يطرحها الحزب الشيوعي". ويقارن ذلك بعد انتقاله إلى الغرب، فيقول: حيث وجدت ماركس يتحدّث عن البرجوازية والتقدّم، ويضرب مثلاً على ذلك "فعند كل ربع ساعة يتحرّك قطار، وكل ساعة يتحرك باص، والإضراب في الغرب يُسقِط النظام السياسي خلال أيام...."، في حين أن في دولنا علينا الوصول إلى التحرّر الوطني والقومي، ثم تأتي المسألة الاجتماعية، كما يقول. (مداخلته في كتاب الحبر الأسود والحبر الأحمر – من ماركس إلى الماركسية).

كان لوميض ضفّة أخرى أو حتى نهر خاص به، فقد كان يفكّر قريباً من أنطونيو غرامشي المفكّر الشيوعي الإيطالي، الذي دعا لإقامة "الكتلة التاريخية"، وبنظر وميض يمكن أن تتلاقى السواقي والجداول والنهيرات، على اختلافها وتفرّعاتها في نهر كبير، وكان هو من يريد التقريب بين الضفتين العروبية الوحدوية، والاشتراكية اليسارية، ويجد هو في نفسه الميزان، وتلك خصوصية أخرى له، امتازت بها شخصيته. وبقدر ما ظلّ متمسّكاً بفردانيته واستقلاليته وتميّزه، فإنه كان يدفع باتجاه من يصنع التاريخ، ولكن هؤلاء يحتاجون إلى قيادات متفانية وذات معرفة لتسوسهم. قيادات جريئة وعلى قدر من المسؤولية والمعرفة والتجرّد، وصولاً إلى ما هو منشود، ولذلك لم يهمل دور الفرد في التاريخ، وهو ما تجسّد في إيمانه بقيادة جمال عبد الناصر، مع إقراره بالأخطاء الفادحة التي ارتكبت في عهده.

(4)

لم أشأ أن أتحدّث عن وميض نظمي ماضياً، فكنت دائماً أراه حاضراً. أكثر من خمسة عقود مضت منذ أن تعرّفت عليه مباشرة، والتقيته لأوّل مرّة وجهاً لوجه، بعد أن كنت أسمع عنه من الأخ المحامي حسن شعبان، الذي كان زميله في كلية الحقوق، وقد سبقه إلى التخرج بعامين، حيث تخرج في العام 1962، في حين تخرّج وميض في العام 1964، وكثيراً ما تسامرنا حسن شعبان وأنا وهو في مخبئه وأنا خارج من المعتقل والمفصول من الدراسة، وجئنا على ذكر وميض وشخصيته المحبّبة الجذابة. كان اللقاء الأول أقرب إلى مراجعة ونقد، وكأنه استكمال لحديث سابق، وهو ما دأبنا أن نبتدئ به حديثنا طيلة السنوات الماضية، وكلّما كانت فرصة للقاء، خصوصاً إذا انفرد أحدنا بالآخر، فنبدأ وكأننا انتهينا يوم أمس عن أحداث العام 1959، والأخطاء والارتكابات التي حدثت وعمليات الإرهاب الفكري، ومن المسؤول عن فشل جبهة الاتحاد الوطني، وعن خطيئة إعدام رفعت الحاج سري وناظم الطبقجلي، على حدّ تعبيره. وهكذا نتوغّل لنصل إلى الانشقاقات داخل الأحزاب الكبرى، وغياب الديمقراطية، والرأي والرأي الآخر: من الحزب الشيوعي إلى حزب البعث، ومن الحركة القومية العربية إلى الحركة القومية الكردية، وكان وميض يملك خزيناً كبيراً من المعرفة بكل الفسيفساء السياسية العراقية، وكل ألوان الطيف السياسي العراقي، ليس على صعيد نظري فحسب، بل إن العديد من قيادات الموازييك العراقي، كانت تعتبره صديقاً لها وهو صديق حقيقي.

لقد حاول وميض طيلة حياته السياسية والثقافية والأكاديمية كسر الأسوار الوهمية، وهدم الحواجز المفتعلة التي بنتها الجماعات المتشدّدة داخل الأحزاب فيما بينها، دون إهمال الخلافات الحقيقية، لكنه كان داعية حوار ومصالحة وسلام، في إطار منافسة شريفة بالبرامج وتقديم ما ينفع الناس، ويدافع عن مصالحها. وبهذا المعنى كان وميض واحداً من الرجال الكبار الذين تساموا على الحزبوية والتوجّهات السياسية الضيّقة والأنانية، واحتفظ بمسافة واحدة من جميع الفرقاء، وكان في الوقت نفسه صديقاً حقيقياً للجميع، على الرغم من قناعاته الخاصة، فالصداقة حسب وجهة نظره هي إحدى وسائل التقريب في المواقف والآراء، وهي جسر تواصل، فما بالك إذا كانت صداقة حقيقية ومعها ثقة تتعزّز مع مرور الأيام، ولكن شريطة أن تستمر مع النقد.

حين التقينا لأوّل مرة في العام 1964، لم نكن قد شفينا بعد مما أصابنا، إثر انقلاب 8 شباط (فبراير) العام 1963، ومعنا كان وميض مصدوماً بما حصل، على الرغم من الانفراج النسبي الذي حدث بعد انقلاب 18 تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1963، الذي قاده عبد السلام عارف، وحلّ الحرس القومي. لم تكن ظروفنا يسيرة، سواء على المستوى الشخصي أو العام. كنّا ثلاثة إضافة إليه: أحمد سنجر، أو كما تلقّب لاحقاً (أحمد السنجري)، وكان قد وجد عملاً كمترجم في السفارة البلغارية، وحسن شعبان الذي ظلّ مختفياً لتسعة أشهر ونيّف، وحوكم بتهمة سابقة، وصدر الحكم بالإفراج عنه، وأغلق ملف القضية (كبس منشورات شيوعية لديه في زمن قاسم، جرى تغييرها إلى منشورات قومية ضد الحكم السابق). وخرج ليرى العالم تغيّر، ولم يعد بإمكانه ممارسة مهنة المحاماة التي بدأها قبل انقلاب 8 شباط (فبراير)، فذهب إلى الكويت للحصول على عمل وعاد خائباً بعد بضعة أشهر، رغم المعارف الكثيرين هناك، بمن فيهم أقارب متنفّذين، ولكن الطيف الأحمر كان مخيفاً وهو معروف ومعتقل سابق، وأنا كنتُ قد عدتُ للدراسة بعد تسوية موضوع فصلي للعام السابق، وأدّيت الامتحانات النهائية بنجاح وقُبلت في جامعة بغداد، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.

أما وميض الذي عاد من القاهرة بعد فترة لجوء ونشاط وانشقاقات وتصدعات واعتقال، فإنه استقرّ على ممارسة العمل الفكري والثقافي والكتابة، وكانت الأبواب مفتوحة أمامه والدولة وقياداتها تستقبله، لكنه كان يعتبر نفسه واحداً منّا، حتى وإن اختلفت المواقع، أو هكذا كان يشعرنا بكل أريحية وصفاء، ودائماً ما يعرض علينا ما يمكن أن يقدّمه لنا. في تلك الأجواء كانت اللقاءات أحياناً تمتاز بالحدّة. أما اللقاء مع وميض فله نكهة مميّزة. وإن كنّا نحسب حكم عبد السلام عارف امتداداً لحكم البعث، على الرغم من أنه قريب منه، ولكنه في الوقت نفسه كان ناقداً له، وتلك سمة "وميضية"، فالنقد لا يفارقه في الإيجاب وفي السلب. وكنّا نقدّر كل لقاء مع وميض على اعتباره لقاءً صداقياً ومعرفياً في الآن. وفي كل مرة كان وميض يوفّر لنا خزيناً من المعلومات المفيدة عن الحكم وخفاياه وخباياه وصراعاته وأجنحته، مما لم نكن نعرفه أو نطّلع عليه، وهو من داخل المؤسسة، يستطيع أن ينقل صورة حيّة عما يجري.

(5)

في تلك الجلسة الأولى أتذكّر أن موضوعين كانا محطّ النقاش، وهو ما كان مثار جدل ونقاش واسعين في أوساط بعض القوميين والبعثيين، وخصوصاً بعد انهيار تجربة 8 شباط العام 1963، وكان في المقدمة منهم وميض نظمي، الذي كان يريد أن يدفع القوميين باتجاه البرنامج الاجتماعي للشيوعيين واليساريين، وفي الوقت نفسه يدفع الشيوعيين واليساريين عموماً باتجاه المنهج الوحدوي العروبي للقوميين والبعثيين، وهو اتجاه برز فيه، في تلك الفترة مفكرون مثل ياسين الحافظ، كما أن انتقادات الياس مرقص ومراجعاته النظرية، كانت مطروحة بقوة داخل الحركة الشيوعية والتي توّجها في وقت لاحق ملاحظات "العلماء السوفييت" على برنامج الحزب الشيوعي السوري 1969 – 1971 والذي أدى إلى انشقاقه ولم تستطع إطفاء الحرائق داخله، وأخذت تنفتح نقاشات حادة بشأنها، وإنْ اعتبر البعض تلك الاتجاهات الجديدة "تحريفية" أو خروجاً على الخط السائد.

الموضوع الأول الذي أخذ جانباً من تلك الجلسة هو مقالة كتبها وميض نظمي في "مجلة الكاتب" المصرية، التي كان رصيدها كبيراً في أوساط النخب الثقافية في العراق والتي كان رئيس تحريرها أحمد عباس صالح، مؤلف كتاب "اليسار واليمين في الإسلام" والذي نشر على حلقات في مجلة "الكاتب"، ثم جمعها لتصدر في كتاب مستقل، وقد حدثني أديب ديمتري أنه كتب نصاً بهذا المعنى في السجن، وسلّمه إلى أحمد عباس صالح، ليعيد قراءته وتنقيحه والإضافة عليه، خصوصاً وأنه كانت لديه أفكار متقاربة، ويعود السبب في عدم نشره باسمه إلى خشيته من مناقشة مسائل حساسة في الإسلام، وهو المسيحي، الشيوعي، السجين السابق، وفضل أن "يتبرع" بجهده ليصدر باسم أحمد عباس صالح الذي ذاعت شهرته أكثر بسبب نشر الكتاب.

وكان وميض قد تطرّق في مقالته المشار إليها إلى موضوع "الاشتراكية العلمية" وإيمانه بوجود اشتراكية واحدة مع تطبيقات مختلفة، على ما أتذكّر. وعاد إلى ذكر ذلك في مداخلة في جامعة النهرين في اللقاء الفكري لمناقشة كتاب: تحطيم المرايا – في الماركسية والاختلاف، حين قال: "وبودي أن أشير أن لا وجود لخط مستقيم في النضال، كما لا توجد مقولات صالحة لكل الأزمان ولكل الأقوام، فقد حاول ماوتسي تونغ وتيتو وكاسترو وعبد الناصر إيجاد طرقهم الخاصة إلى الاشتراكية، عبر محاولة تكييفها طبقاً لظروف بلدانهم الخاصة وتطوّر مجتمعاتهم وتاريخها وخصوصياتها، وهو الأمر الذي يمكن أن ينسحب أيضاً على الحركات الإسلامية والقومية، فكلّها لها تجارب قابلة للنقاش والأخذ والرد، فضلاً عن الخصوصية ومحاولات التقليد".

وأجد في هذا الاستنتاج تلخيصاً لما كان يؤمن به وميض نظمي منذ الستينات وتعمّق مع مرور الأيام، وخصوصاً بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وسقوط جدار برلين وتفكيك الاتحاد السوفييتي. وهذا دليل جديد لموقف وميض المتقدّم والجريء على القوى والجماعات القومية الأخرى، التي كانت تميّز نفسها عن الشيوعيين والماركسيين بالحديث عن الاشتراكية العربية، وهو ما ظلّ مثار نقاش وجدل كبيرين، ليس بشأن المصطلحات، ولكن الأمر يتعلّق بالخصوصية الوطنية والقومية مع الأخذ بنظر الاعتبار القوانين العامة وتكييفها في كل بلد تبعاً لظروفه وتاريخه وتكوينه الثقافي ودرجة تطوّره، ففي حين كان الشيوعيون يميلون للتحليق باتجاه الأممية والتقليل من شأن الخصوصيات، بل واستصغارها، لا سيّما بتبني "الموديل السوفييتي"، كان القوميون يتجهون صوب المحلية والخصوصية لدرجة الانغلاق أحياناً.

وكان طاقم مجلة الكاتب المصرية، إضافة إلى طاقم "مجلة الطليعة" التي كان رئيس تحريرها الماركسي العريق لطفي الخولي، والتي صدرت في مطلع العام 1965، من الشيوعيين واليساريين المصريين السابقين، بعد أن حلّ الحزب الشيوعي المصري والحركة الديمقراطية للتحرر الوطني "حدتو" الشيوعية نفسيهما في العام 1964، وانخرط العديد من أعضائهما بالاتحاد الاشتراكي العربي، إثر تنظيرات المفكرين السوفييت والمسؤولين عن الصلة بالأحزاب الشيوعية من أمثال سوسلوف وبوناماريوف و"ألسكندر شيليبين رئيس جهاز الكي جي بي"، حول ما سمّي بـ"التطوّر اللاّرأسمالي" وإمكانية تحقيق الاشتراكية بغير الطبقة العاملة وحزبها الماركسي في البلدان النامية، حيث راجت فكرة حل الأحزاب الشيوعية وقام السوفييت بمحاولة إقناعها لحلّ نفسها والانخراط في أطر هيكلية وتنظيمية مع الديمقراطيين الثوريين لبناء الاشتراكية عبر طريق التطوّر اللاّرأسمالي، وكان لقاء خروشوف عبد الناصر واحداً من المعالم التي مهّدت لهذا التحوّل.

جدير بالذكر هنا أن أحد أبرز قادة الحركة الشيوعية العربية كان قد وقف ضد "الوصفة السوفييتية"، ونعني به خالد بكداش زعيم الحزب الشيوعي السوري، كما عارض فكرة "التطور اللاّرأسمالي" التي كان السوفييت يروّجون لها. وفي العراق، وإنْ لم يصل الأمر إلى الحد الذي يدعو إلى تبنّي فكرة حلّ الحزب، لكن دعوات بالانضمام إلى الاتحاد الاشتراكي طارت هنا وهناك، مصحوبة بتقييمات عالية جداً لبعض الإجراءات التي اتخذتها سلطة انقلاب 18 تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1963. وكانت تلك "المهادنات" أو المساومات غير المفهومة إزاء سلطة عارف أو حسب تعبير ملطّف "المرونة الزائدة"، قد لقيت معارضة شديدة من القاعدة الحزبية الشيوعية المجروحة، وهو الأمر الذي جعل أفكار ما يسمى خط آب العام 1964، تتراجع لاحقاً، ثم استبدل ذلك التوجّه في العام 1965 برفع شعار "إسقاط السلطة"، بعد جدلٍ حزبي داخلي حول فكرة العمل الحاسم أو الانتفاضة الشعبية. وقد وُصِف خط آب خلال الصراع الحزبي بـ"التصفوي الذيلي"، ولا سيّما بعد انشقاق القيادة المركزية للحزب الشيوعي بزعامة عزيز الحاج في 17 أيلول (سبتمبر) العام 1967.

لو قُرئ الأمر باعتباره تراجعاً تكتيكياً بسبب ضعف الحزب ومحاولته تضميد جراحه واستعادة أنفاسه ولملمة صفوفه، فسيكون الموضوع مختلفاً، وهو ما كان بحاجة إلى تهيئة، ولربما لفترة مناسبة، مع مراعاة المزاج الحزبي، لا سيّما إذا كانت الرؤية والتوجّه واضحين، أما حين يصبح الأمر تنظيراً باعتباره سمة العصر، وتجري محاولات للتفتيش عن "نتفٍ" في مؤتمرات الحزب الشيوعي السوفييتي أو مؤتمرات الكومنترن، ولا سيّما (العام 1928 أو العام 1935)، بظروف وأوضاع مختلفة، فهذا شأن آخر ولم يكن ذلك سوى النكوص والتراجع غير المنظّمَين، وفي الواقع فإن الأمر ليس بعيداً عن إملاءات سوفييتية مفروضة في ظل تكوين قيادي جديد وهش بعد اغتيال قيادة سلام عادل.

الموضوع الثاني خط "حزيران" – "آب" الذي استُقِرّ على تسميته "خط آب" العام 1964، وكان النقاش يدور حول الاتحاد الاشتراكي والعضوية الواسعة فيه، وهل هناك من سعي حقيقي للتقارب في ضوء التجربة المصرية؟ كنّا الثلاثة، السنجري وحسن شعبان وكاتب السطور، نشكّك في إمكانية أن يكون العراق مثل مصر، وفي كون الاتحاد الاشتراكي "العراقي" مثل الاتحاد الاشتراكي "المصري"، فضلاً عن الاختلافات الجوهرية في تجربة البلدين، وتطوّر الحركة الثورية فيهما، وتجذّر الحزب الشيوعي في الحياة الثقافية والسياسية العراقية. فحتى ذلك الوقت كان الآلاف من الشيوعيين في المعتقلات، وكان سجنا "الحلة" و"نقرة السلمان" لوحدهما يحتويان على أكثر من ألفي شيوعي، وكان الآلاف من المفصولين أو مسحوبي اليد منهم لا يزالون خارج دائرة العمل بسبب قرارات الفصل السياسي أو سحب اليد، ناهيك عن الملاحقة المستمرة.

وكانت الحرب قد بدأت مجدّداً في كردستان، إضافة إلى ارتفاع نزعة التفرّد التي بدت صارخة في الحكم من خلال هيمنة عبد السلام عارف، التي شكا منها القوميون العرب أنفسهم، وبعد حين أخذ الاتحاد الاشتراكي نفسه بالتشقّق والانشطار. أما "قرارات التأميم" أو ما سمّي بـ"القرارات الاشتراكية"، فخلقت حالة من الركود الاقتصادي والحذر الشديد من جانب البرجوازية الوطنية، وكان تأييدنا له ملتبساً ومأخوذاً بالخطوط العامة التي كان الترويج لها قائماً من المركز الأممي وأطروحاته حول "سمة العصر" ودور حركة التحرّر الوطني والبلدان المتحرّرة وقياداتها، باعتبارها أحد روافد الحركة الثورية العالمية، إضافة إلى المعسكر الاشتراكي وفي طليعته الاتحاد السوفييتي وحركة الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية، فضلاً عن أن تأييدنا لفكرة التأميم ذاتها، باعتبارها إجراءً "ثورياً" من الناحية النظرية، في حين أن مردوداتها لم تكن إيجابية من الناحية العملية. كان وميض دائماً يشعر بالمغايرة والتميّز والاجتهاد، وفي هذا الإطار كان يناقش بحماسة أطروحاته الجديدة التي عبّر فيها عن تطوّر أفكاره، وجرأته في طرحها ومناقشتها، سواء عبر ما أخذ يكتبه في صحيفة الثورة العربية التي كان يرأس تحريرها حازم مشتاق أو على منابر أخرى. وقد ظلّت تلك الصفات لصيقة بوميض نظمي، بل هي جزء لا يتجزّأ منه، فلم يعرف المداهنة أو التملّق أو الانتهازية، فما يعتقد فيه يقوله ويدافع عنه وإن غيّر موقفه، سيقول الأسباب، وتلك إحدى سجايا وميض التي ظل يسعى للمحافظة عليها في حياته الخاصة والعامة.

عروق كثيرة تشابكت في شخصية وميض، فهو الخارج من معطف ميشيل عفلق (حيث عمل في حزب البعث منذ العام 1956)، والمرتدي بدلة الناصرية، خصوصاً حين أيّد الحزب الانفصال العام 1961، وقد ازداد تأثره بجمال عبد الناصر كرمز للقومية العربية الصاعدة، لا سيّما بتجذّر برنامجه الاجتماعي، مثلما كان قريباً من فؤاد الركابي، الذي أسّس الحركة العربية الواحدة، بعد أن كان أميناً عاماً سابقاً لحزب البعث، والذي اغتيل في السجن العام 1971. وكان وميض مناضلاً متحمّساً لقيام النظام الجمهوري، على الرغم من تحدّره من عائلة أرستقراطية، عملت في إدارات ووزارات في العهد الملكي، فجدّه عمر نظمي كان وزيراً، ووالده جمال نظمي كان وزيراً.

وثمة جذر آخر لوميض نظمي، وهو يتصل بانخراط أعمامه (كمال وبديع عمر نظمي) في إطار الحركة الشيوعية العراقية، اللّذان أصبحا من كادراتها الأساسية، وكان لهما تأثير عليه. وينقل إبراهيم الحريري أن سلام عادل، سكرتير عام الحزب الشيوعي الذي قتل تحت التعذيب في العام 1963، في قصر النهاية، كان يبيت ليلته عشية 14 تموز (يوليو) العام 1958 في بيت كمال نظمي، وقد اصطحبه الأخير بالسيارة ليلة الثورة ليذهب بنفسه ويستكشف وزارة الدفاع، حيث مرّا من أمامها ذهاباً وإياباً، وحي الصالحية حيث محطة الإذاعة والتلفزيون وبيت نوري السعيد في كرادة مريم، الذي كانت فيه الأنوار مطفأة، عدا مصباح أو اثنين فوق الباب الخارجية، التي يوجد أمامها شرطي يغالب النعاس، وكأن سلام عادل يريد الاطمئنان على أن الأمور سائرة كما هو مخطط لها. وفي رواية أخرى يقول عامر عبد الله (في حواره مع الكاتب): إن سلام عادل وجمال الحيدري باتا ليلة 13 /14 تموز (يوليو) العام 1958 في بيت ناظم الطبقجلي في حي الصليخ، وعلى سطح الدار بانتظار الإعلان عن الثورة. قد تكون الرواية الأولى صحيحة، لأن من نقلها هو كمال نظمي لشقيق سلام عادل واسمه "مهدي أحمد الرضي" حين كان في سجن نقرة السلمان بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963.

مثلما قد تكون الرواية الثانية صحيحة أيضاً، فقد يكون سلام عادل، قضى جزء من الليل في بيت الطبقجلي، وبصحبته جمال الحيدري، والجزء الثاني في بيت كمال نظمي، أو بات يوم 12 / 13 في بيت الطبقجلي ويوم 13 /14 في بيت كمال نظمي. أعتقد أن الرافد العروبي "البعثي" الأول في ثقافة وميض، امتزج بروافد أخرى بينها رافد قومي آخر عروبي وناصري لاحقاً، هو بتأثير خاله باسل الكبيسي أحد مؤسسي حركة القوميين العرب وزعيمها الأول في العراق، والذي كان يخطط لعملية اغتيال للملك فيصل الثاني، وبعض أقطاب الحكم العام 1957، حيث اعتقل، ولولا تدخّلات ونفوذ عائلته لكان مصيره في خبر كان، لكن القضية تم لفلفتها، وأبعد إلى الخارج. ومن المفارقات الغريبة أن تقوم الموساد الإسرائيلي باغتياله في باريس العام 1973، ويمكنني أن أضيف أن تأثير الرافد الماركسي عليه لم يكن قليلاً، لكن قراءته له لم تكن تقليدية، بل كانت نقدية.

إن الروافد الثلاث التي اجتمعت في شخص وميض، تعايشت وتكاملت واتّحدت في جامع أساسه الوحدة والصراع، وساهم ذلك في إكساب المرونة والانفتاح على شخصية وميض، الذي اجتمعت فيها كل هذه المتناقضات، لتؤلف هارموني إنساني شديد الحساسية، أساسه هو قلق وميض نظمي، المعرفي وعدم استقراره عند فكرة محدّدة، وبحثه المستمر عن الجديد. وفي التناقض ثمة تجاذب (وحدة وصراع الأضداد)، وكل ذلك جعل وميض خزّاناً لتفاعل كيميائي غريب وعجيب، فأنتج شخصية مؤثّرة ومحبّبة وحيويّة ومتفاعلة لكل من عرفه، وبقدر ما كان يصغي ويستمع ويسأل، كان حين يتحدّث يفرض على الآخر الإصغاء إليه، لأن ما كان يقوله كان عميقاً وصميمياً، إضافة إلى ذلك أنه يملك ثراءً وتنوّعاً وتعدّديةً، وربما أكثر من هويّة سياسية في شخصه، وتلك إحدى سمات الاستنارة والتميّز، حيث كان حواره مع النفس مستمراً في إطار مونولوج داخلي. وفي الحوار مع النفس، يستمر الإنسان في طرح الأسئلة على نفسه وعلى الآخر، والسؤال يولّد سؤالاً، وهكذا كان وميض مزدحماً بالأسئلة، ومملوءً بالقلق الإنساني الذي لم يبارحه ولو ساعة واحدة، فهو لا يعرف الهدوء أو الاستقرار، وكلّما لمعت برأسه فكرة أعاد طرحها لتلمع بعدها فكرة ثانية، فقد كان في رحلة دائمة ومضنية للبحث عن الحقيقة، ومع كل بحث كانت أسئلته تزداد وقلقه يتعمّق.

(6)

كان وميض نظمي مع الشيوعيين، يبدو قومياً عروبياً وحدوياً راسخاً، ومع القوميين والبعثيين، كان أقرب إلى الماركسي المؤمن بالصراع الطبقي وبنظرية التطور التاريخي وتعاقب المراحل وفائض القيمة وبالجدلية الماركسية. ومع الأكراد هو العروبي المتمسّك بالدعوة للوحدة العربية كركن أساس من أركان المشروع النهضوي العربي، إلاّ أنه في الوقت نفسه مؤمن بحق تقرير المصير للشعب الكردي، وداعية حوار مع ممثليه، وربطته علاقات وطيدة مع بعض قيادييه ومثقفيه. وفي سنواته الأخيرة بدا ذلك العروبي، اليساري، متأثراً بالجو السائد، أقرب إلى إعادة قراءة الإسلام قراءة حداثية جديدة لاستلهام التراث وضمّه إلى المنظومة المعرفية المؤمنة بالإسلام كقيم عليا، والذي يعتبر الإسلام أحد المراجع الأساسية للدستور. وإذا كان ما هو حداثي وليبرالي يتصدر منظومته الفكرية الملقحة بالعدالة الاجتماعية، فإن ذلك لم يمنعه من الإقرار بمرجعية الإسلام، وهو ما لمسته منه وبقناعة عند إعداد الدستور المنشود العام 2005 في إطار تكليف من مركز دراسات الوحدة العربية، بالتعاون مع يحيى الجمل وخليل الكبيسي، وعصام نعمان ووميض نظمي (نفسه) وكاتب السطور (المقرر والمحرّر الأساسي للنص). كان وميض يشعر بالتكامل مع الآخر وليس بالتفاضل، وبالتكافؤ وليس المغالبة، ويبحث عن الإيجابيات لدى الآخر وليس عن السلبيات وحدها، وإن شخّصها فالهدف هو تحويلها كيما تصبح إيجابيات، والتخلّص منها لكي يحصل الاقتراب، فهو حيثما عمل لم يفكّر بالتباعد، قطعاً، وكان يعتقد أن من يبحث عن التنافر والتصادم لا بدّ أن يكون ضعيفاً، وعلى العكس من ذلك، فمن يبحث عن التقارب والتعاون هو الأقوى، وكان وميض من المجموعة الثانية، حيث يشعر بقوّة المنطق وقوة الحجة وقوة الحق لديه، لذلك كان ميّالاً للسلم والحوار واللاّعنف.

(7)

حين قرّر وميض الدراسة في إنكلترا، فهناك عدّة أسباب، أوّلها: أنه أراد أن يتفرّغ للعمل الأكاديمي والبحث العلمي، خصوصاً بعد الإحباط العام الذي أصاب الحركة السياسية العراقية، إثر صراعاتها غير المبدئية، وثانيها أن الانشقاقات التي ظهرت في الساحة السياسية ضربت الجميع بلا استثناء، وكان ذلك مدعاة لتشاؤمه، وهو "تشاؤم الواقع"، وإن كان غرامشي قد ربطه بـ"تفاؤل الإرادة"، بهدف تجاوز الواقع، وذلك ما يذكرني بمقولة الكاتب والمسرحي السوري سعد الله ونّوس، الذي قال وهو يصارع مرض السرطان: "إننا محكومون بالأمل".

كان وميض يفرش خريطة الأحزاب السياسية أمامه ليعلّق "إننا نرى الشيء وضده" ويبدأ بطريقته النقدية المحبّبة في الحديث عن انشقاق حزب البعث إلى يسار ويمين حسب الاصطلاحات السائدة، بعد سلسلة من التشكيلات: قيادة تنظيم القطر، حزب العمال الثوري العربي، حركة الكادحين العرب (ولاحقاً المنظمة العمالية التي التحق معظم كادراتها بالقيادة المركزية للحزب الشيوعي)، ولكن الأبرز في ذلك كان تنظيم القيادة القومية (ميشيل عفلق – وعراقياً الرئيس البكر – صدام حسين) والتنظيم "اليساري" الموالي لسوريا (محمد عمّار الراوي – فؤاد شاكر – أحمد العزاوي لاحقاً). ثم الحزب الشيوعي (اللجنة المركزية) والقيادة المركزية (عزيز الحاج) وخلالهما كتلة إبراهيم علاوي، وقبلهما تنظيم اللجنة الثورية (سليم الفخري). أما الحركة الكردية فقد كانت منشطرة إلى (الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة الملاّ مصطفى البارزاني والمكتب السياسي بقيادة إبراهيم أحمد – جلال الطالباني). أما التنظيم القومي (الاتحاد الاشتراكي) فقد تشظّى إلى عدّة جماعات: الرابطة القومية (يوسف الخرسان – هشام الشاوي)، مؤتمر القوميين الاشتراكيين (إياد سعيد ثابت) حزب الوحدة الاشتراكي (صبحي عبد الحميد – رشيد محسن)، الحركة الاشتراكية العربية التي انقسمت إلى حزب العمل الاشتراكي العربي (فؤاد الركابي – هاشم علي محسن)، ومجموعة عبد الإله النصراوي، التي استمرت على اسم الحركة، إضافة إلى شخصيات قومية لها ثقلها مثل أديب الجادر وخير الدين حسيب وعبد الكريم فرحان وآخرين.

في ظل هذه الأجواء وبعد فشل قيام جبهة وطنية، لا سيّما بعد عدوان 5 حزيران (يونيو) العام 1967، وعدم نجاح الإضراب الطلابي الذي قادته أربع قوى أساسية في تحقيق أهدافه، والقوى هي: الشيوعيون (وبالدرجة الأساسية مجموعة القيادة المركزية) والبعث السوري (اليساري) والحركة الاشتراكية العربية (قبل انشطارها) وبقية القوى القومية، والحركة الكردية بجناحيها، كلّ هذه الأجواء كانت ضاغطة على وميض، فقرّر السفر إلى لندن، تخلّصاً من أي مواجهات قد لا تحمد عقباها، وخصوصاً بعد انقلاب العام 1968.

في مطلع السبعينات كان وميض كتلة متحركة على جميع الصعد، للتضامن مع الشعب العربي الفلسطيني وفي دعم قضايا التحرّر العربي وصمود مصر وسوريا بوجه العدوان وسياسة الاستنزاف، إضافة إلى الدفاع عن القضايا المهنية للطلبة العرب وحقوقهم والاعتراف بهم، ولهذه الأسباب اقتنعت جميع الأطراف بترشيحه لرئاسة اتحاد الطلاب العرب في المملكة المتحدة. وكانت فترته، كما كنت أتابع الفترة الذهبية التوحيدية الجامعة للاتحاد على الصعيد السياسي والثقافي والفكري والمهني. وفي العام 1972 (ربما أواخر العام) كتب لي وميض رسالة إلى براغ، سألني فيها ما إذا بإمكانه الدفاع عن أطروحته (وهي عن ثورة العشرين)، في إحدى جامعات براغ الرصينة، وقد أمهلته عدة أسابيع لأجري الاتصالات اللاّزمة، وفعلاً قمت بما يجب، حيث اجتمعت مع أستاذتي للعلاقات الدولية المشرفة على أطروحة الماجستير التي كنت أقدّمها في ذلك الوقت الدكتورة هيبنروفا (عضو مجلس السلم والتضامن التشيكوسلوفاكي آنذاك) وأحالتني إلى قسم الأجانب، وراجعت بصفتي رئيساً لجمعية الطلبة العراقيين، القسم وسألت عن الموضوع، وطلبوا الاختصاص والامتحانات التي أدّاها وعنوان الأطروحة وسبب المشكلة، إضافة إلى التزكية السياسية، وكتبت له بهذا الخصوص بعد تبادل الرسائل بيننا، وفي آخر رسالة أخبرني بأن المشكلة التي حدثت مع أستاذه بخصوص بعض استنتاجات الأطروحة تم تسويتها، ولم تعد هناك حاجة للاستمرار بالإجراءات.

وكنت قد أبلغته أنه من المحتمل مجيئي إلى بريطانيا، خلال مهرجان جمعية الطلبة العراقيين في المملكة المتحدة (السنوي)، وصادف ذلك في أبريل (نيسان) العام 1973 في مدينة توركي Torquay، واتفقنا على اللقاء، وقال إن اتحاد الطلبة العرب يدعوك لإلقاء محاضرة، وحدّدنا العنوان على ما أتذكر، وقبل سفري بثلاثة أسابيع كتبت له أعلمه بموعد وصولي، ولكن للأسف حدث ما لم يكن بالبال، ففي 6 نيسان (أبريل) اغتيل خاله باسل الكبيسي في باريس على أيدي عملاء الموساد الإسرائيلي، واضطرّ هو للسفر إلى هناك، وقد سافر مع الجثمان إلى بغداد، وذهبت للمشاركة في المهرجان وفي الإشراف على جمعية الطلبة العراقيين في إنكلترا، ولكن لم ألتقِ وميض. تراسلنا بعدها وأرسلت له رسالة تعزية، ثم حان موعد سفره إلى العراق العام 1974 بعد أن دافع عن أطروحته المتميّزة، وودّع حسبما علمت من الأخ سعيد سطيفان مسؤول منظمة الحزب الشيوعي في بريطانيا، بأحسن توديع يستحقه.

أعود إلى أطروحة وميض "ثورة العشرين – الجذور السياسية والفكرية والاجتماعية للحركة القومية الاستقلالية" والتي طبعها بهذا الاسم، مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت العام 1984، والتي تناولت بناء الدولة العراقية، فقد أبرز فيها دور رجال الدين الشيعة على نحو جلي، إضافة إلى إضاءته موضوع الوحدة الوطنية العراقية، دينياً مذهبياً وقومياً، وهو ما ظل يدافع عنه باستمرار. وخلال الحرب العراقية – الإيرانية 1980 - 1988 نشر مقالات في مجلة "المستقبل العربي" التي يصدرها مركز دراسات الوحدة العربية بإدارة مؤسِّسه الدكتور خير الدين حسيب، عن عروبة الشيعة ودورهم في الحركة الوطنية، الأمر الذي أثار عليه ردود فعل داخلية بالأساس وأمنية بالدرجة الأولى، حيث ظل يعيش قلقاً لبضعة أشهر، كما أخبرني خلال لقاءاتنا المتكررة، خصوصاً وقد راجت خلال تلك الفترة دعوات مفادها أن إيران عدو دائم، وأن الصراع معها تاريخي وتناحري، وهو ما جرى التنظير له خلال الحرب التي أطلق عليها اسم "القادسية الثانية"، تيمّناً بالقادسية الأولى.

ربما لا يزال البعض مستمراً ومقتنعاً حتى الآن، بمثل تلك الأطروحات، التي زادها حساسية صعود "الشيعية السياسية" الموالية لإيران وتسلّمها مقاليد الحكم في العراق بعد الاحتلال الأمريكي العام 2003، إضافة إلى تعاظم النفوذ الإيراني، لكن ذلك شيء ومحاولة ربط شيعة العراق العرب بإيران شيء آخر، وهو ما يذهب إليه بعض المتعصّبين إلى درجة "تعجيمهم" للشيعة العرب، والتعامل معهم بالجملة باعتبارهم "طابوراً خامساً"، باستثناءات محدودة، وهو رأي يعارضه بشدة وميض، استناداً إلى قراءة مختلفة لخريطة الصراع الدولي وذيولها الإقليمية، وخصوصاً الصراع العربي – الإسرائيلي.

انقطعت الصلات بيننا فهو في بغداد وأنا في براغ، حتى عدت إلى بغداد، بعد دفاعي عن أطروحتي للدكتوراه وتخرجي في العام 1977. وفي بغداد، ولا سيّما خلال السنة الأولى وقبل التحاقي بالخدمة الإلزامية، دعانا حسن شعبان بحضور غضبان السعد وكاظم السماوي ووميض نظمي وعدد آخر من الأصدقاء إلى بيته، كما أقام محمد حسين رؤوف دعوة لي في بيته، دعا لها ماجد الرضا وحسن شعبان ووميض وعدد آخر من الأصدقاء، وكان رؤوف قيادياً في الحركة الاشتراكية، وقد أرسل لي أوراقه للحصول على قبول 1971، وقدمنا له زمالة دراسية في العام 1971 – 1972، ولكنه بعد عدّة أشهر قرر العودة إلى سوريا ومنها إلى بغداد، تاركاً العمل السياسي، حتى أطيح بالنظام العام 2003 واحتل العراق، فقرر معاودة نشاطه، لكن قتل بعد سنتين ونيّف من الاحتلال. وكانت الدعوة الكبيرة قد أقامها لي وميض في نادي نقابة المحامين، وأتذكر أنه سألني من يمكن أن يدعوه من الطلبة السابقين في إنكلترا، فقلت له: إن لبيد عبّاوي وصل قبل أيام وكذلك رائد جاهد فهمي كان قد عاد. ودعوت حميد برتو كما دعا وميض، حسن شعبان وعدد آخر من الأصدقاء. ومن الطرائف أن وميض كان ناقداً للممارسات السلبية للنظام القائم آنذاك وهو أستاذ في جامعة بغداد، في حين كان بعض رفاقنا مدافعين أشدّاء حتى عن الأخطاء والممارسات السلبية، وهكذا انطبق علينا المثل الذي يقول: "ملكيون أكثر من الملك".

(8)

خلال الجلسة أسرّ لي وميض بأن ضغوطاً تمارس عليه للعودة إلى حزب البعث، وينقلون له كلاماً على لسان السيد النائب صدام حسين حينها، وكان هو بمثابة صديق شخصي له، فقد استقبله عند هروبه إلى القاهرة، وقام بإسكانه معه لعدّة أيام لحين توفير سكن خاص له، وظلّت العلاقة تقوم على الاحترام المتبادل، بغض النظر عن المواقع، وهو ما لم يحاول استغلاله حين أصبح النائب رئيساً، وكان بإمكانه لو أراد أن يصبح وزيراً أو سفيراً، لكنه فضّل العمل الأكاديمي والاستقلالية على جميع الامتيازات التي كان يتهافت عليها كثيرون، بل إن بعضهم أقل شأناً منه حصل عليها. وفي لقاء خاص بعد هذه الجلسة، قال لي وميض: ماذا تقول في العرض وكيف لي التهرّب منه؟ قلت له ممازحاً: أعتقد لو وافقت لكان الأمر أحسن، وأجابني مستغرباً: أأنت تقول ذلك؟ قلت: نعم، ولكن بشروط، فقال: ما هي الشروط التي أشترطها عليهم؟ قلت له: الشرط الأول: أن تحتسب مدّة الانقطاع مستمرة لأغراض "الترفيع"، وبهذا المعنى يحق لك أن تكون عضواً في القيادة القطرية، وكثيرون ممن هم في القيادة آنذاك كانوا قد انقطعوا عن العمل لسنوات، بل إن بعضهم كان موقعه ضعيفاً. أما الشرط الثاني، فهو أنك تستطيع حماية ثلاثة أشخاص من الملاحقة؟ فسألني من هم؟ قلت: اثنان أنت تختارهم والثالث أنا، وضحكنا كثيراً، وكان يستعيد تلك الشروط "الجهنمية" كما يسمّيها حين نلتقي، وهو ما استعدناه في جلسة على الغداء دعوته إليها مع باقر إبراهيم (أبو خولة) في بيروت في مطعم الكبابجي الشعبي الذي يحبّه كثيراً.

ظلّ يسأل عني حين غبت عنه لأدائي للخدمة الإلزامية، وهو شديد الحساسية لخصوصية وضعنا، فلا يحاول الاستفسار مباشرة أحياناً. وكانت صلتي قد انقطعت بالعالم الخارجي تماماً، وكان يسأل حسن شعبان عني، الذي كان يطمئنه طالما لم يحدث شيء ذو بال، فالخبر السيئ يصل بسرعة كما يقال. بعد انفكاكي من الخدمة الإلزامية، وكانت الموافقة على تعييني قد صدرت قبل أكثر من عام ونيّف على ملاك جامعة بغداد، كلية القانون والسياسة، وبسبب عدم الموافقة على انتدابي طيلة أكثر من عام، علمت بتنسيبي إلى مركز الدراسات الفلسطينية بصفة تدريسي، وظلّت علاقتي مع المركز قائمة إدارياً، حسب كتاب الموافقة على تعييني الأول والمنسّب إلى المركز، ولكنني لم ألتحق بعد انتهاء مدة الخدمة الإلزامية التي كان متبقّياً منها نحو ستة أشهر، ولكنني لم أكملها بعد صدور قرار من مجلس قيادة الثورة يسمح بدفع البدل النقدي، وهو ما بادرت إليه على الفور. ويبدو أن تلك الإجراءات والتعليمات والقوانين التي جرى إعدادها بخصوص العسكريين والهاربين والغائبين والمفقودين، كانت تمهيداً للحرب العراقية – الإيرانية.

حين علمتُ أن وميض أصبح مديراً للمركز بالوكالة، قررت الذهاب إلى بيته، وهناك فوجئ بمجيئي وبالتغييرات التي طرأت عليّ، سألني هل أنت مطارد؟ قلت له: أنا موظف عندك، فضحك، قال: أتمزح؟ قلت له: منذ أكثر من سنة ونيّف، وأطلعته على كتاب تعييني، قال: لقد استلمت المركز بالوكالة، وسيكون الأمر لمدة محدودة، ثم سألني: كيف يمكنني مساعدتك، وبماذا؟ قلت له: أنهيت الخدمة الإلزامية، ولا بدّ لي من الالتحاق بالعمل الذي نُسبت إليه، وإلاّ سأعتبر مستقيلاً بعد إنذاري. ما أريده هو أن ألتحق رسمياً وأن تمنحني موافقة نظامية للسفر ضمن الإجازة الصيفية.

فكّر قليلاً، ثم قال: أنت تطلب حقاً، وأنا أتصرف ضمن صلاحيتي وفي إطار القانون، وأردف ذلك بالقول: غداً نلتقي في المركز و"تدلَّل"، قلت له: أرجو أن لا أسبب لك إحراجاً، قال: أبداً، والمسألة نظامية وهي بيننا (بين مدير المركز وتدريسي وهي مسألة طبيعية)، قلت له: غداً سأسجل مباشرة، وبعدها بأيام سأمرّ عليك للحصول على موافقة السفر، ضمن العطلة الصيفية لأساتذة الجامعة، وإن كان الوقت المتبقي منها قصيراً؟ وحصل ذلك بالفعل. أتذكّر وأنا أمدّ يدي لأستلم الورقة التي انزلقت من بين أوراق كثيرة كانت أمامه ولا تزال صورتها محفوظة لدي، ودّعني بابتسامة ودون كلام لأنه كان يعرف أنني لن أعود.

عند حصولي على موافقة السفر وإجراء معاملة تأشيرة الخروج بسهولة ويُسر (كأستاذ جامعي)، ذهبت إلى المركز لأودّعه قبل سفري بيوم واحد، وكنت قد غيّرت مكان سكني، تحوطاً لأي احتمالات، لكنني لم أجده. قبل سفري بأسبوع، ودّعت رياض عبد عيسى الزهيري الذي كان معي في الخدمة الإلزامية، حيث توجّه إلى دمشق، وبتشجيع مني، وكنت قد أعطيته بعض العناوين والأسماء، لأنني أعرف وضعه وما حصل له، كما ضربت له موعداً في مقهى الحجاز بالشام، مع إشارة بمن سيتصل به، وسألني كيف لي أن أعرفه، قلت له: إنه يعرفك، وهو سيبادر بالكلام معك. وكنت أرغب في مساعدته بالحصول على عمل كأستاذ جامعي بالجزائر وهو من المختصّين القلائل البارعين والأساتذة القديرين في القانون الإداري.

ومضى الأسبوع وهو ينتظر حتى حان موعد اللقاء، فذهب في اليوم المحدّد وفي الساعة المحدّدة ليجلس في المقهى المذكور وأخذ يتلفت يميناً ويساراً، وإذا بي أدخل إلى المقهى وكان أول من استقبلني هو الشاعر عزيز السماوي، وبصوته الجهوري قال: أهلاً أبو علي (الحمدلله عالسلامة). فالتفت رياض مندهشاً عندما سمع اسمي، لكنه تنفّس الصعداء، وضحكنا كثيراً، وتذكرنا الأصدقاء والأعدقاء وتلك الأيام التي لا تنسى، مستحضرين ذكر الأسماء الطيبة والنزيهة والإنسانية، وفعلاً أرسلنا أوراقه مع توصيات إلى الجزائر حيث تم قبوله، فغادرنا للعمل، وكنت قد حصلت على موافقة للعمل أيضاً في إحدى الجامعات، كما حصلت على تعيين للعمل في سوريا، في وزارة العمل، ولكن قيادة الحزب الشيوعي، طلبت مني التفرغ لاستلام مسؤولية العلاقات الوطنية والعربية وخصوصاً مع القيادة القومية في سوريا، إضافة إلى مسؤوليات أخرى.

لم أنسَ مساعدته تلك التي يعتبرها "طبيعية"، وضمن حدود القانون والصلاحيات الممنوحة له، ولكنني حرصت ودفعاً لأية حساسيات أو ردود فعل أو تفسيرات بدعم معارضين وما شاكل ذلك أن أتجنّب الحديث عنها، مثلما تجنّب هو الآخر، وكأننا باتفاق ضمني (اتفاق جنتلمان). فهو من جانبه لم يذكّرني يوماً حتى عندما نكون وحدنا بذلك، علماً بأن رغبتي كانت جامحة بأن أبوح للجميع بما قدمه لي، وعلى أقل تقدير للمقرّبين مني. واستمرّ الأمر حتى بعد أن زالت المحاذير، فلم أذكر ذلك إلاّ الآن فقط، وبعد رحيله، وذلك إقراراً مني بدوره واعترافاً بجميله واستذكاراً لمواقفه الجريئة، فوميض المثقف، الشفاف، الجاد، تجتمع في خصاله الذاتية: البساطة جداً لدرجة الزهد، والصدق جداً لدرجة الطفولة، والشجاعة جداً لدرجة التضحية بالنفس. باستعادة تلك الأيام وأنا أستذكر اللحظة الأخيرة التي تقابلنا بها قبل مغادرتي بغداد العام 1980، حين التقت عيناي بعينيه، أدركت كم هو كبير هذا الرجل، وكم هو منسجم مع نفسه، وكم يكون الإنسان سعيداً حين يكون باتساق بين عقله وقلبه وضميره، وأظن أن الشاعر الجواهري هو الذي قال: ألا ليت الإنسان ينسجم مع نفسه دائماً!!.

(9)

كان وميض قد سأل عني عامر عبد الله في براغ العام 1983 خلال حضورهما المؤتمر الذي دعا إليه مجلس السلم العالمي، خصوصاً وقد علم أنني كنت منسقاً لأعمال اللجنة الوطنية للسلم التي أسسناها بالشام تمييزاً لأنفسنا عن مجلس السلم والتضامن العراقي. وقد ضممنا إليها الأعضاء السابقون، إضافة إلى مجموعة جديدة من الخريطة السياسية والثقافية العراقية، بينهم الجواهري ومحمود صبري وعلي الشوك، وكان قلقاً بعد أن سمع بما جرى لنا في مجزرة بشتاشان، على يد الاتحاد الوطني الكردستاني "أوك" وقد عرف أنني التحقت بفصائل الأنصار الشيوعية في مهمة إعلامية وفكرية، وهو ما أصبح متداولاً وإن على نحو محدود، وطمأنه عامر عبد الله بأنني بخير، وقد وصلت إلى دمشق، وسأتوجّه إلى موسكو للعلاج، بعد أن نجوت من المذبحة.

وحين تأسَّست الجمعية العربية للعلوم السياسية العام 1987 بمبادرة من خير الدّين حسيب، كان لوميض جهد كبير فيها، وقد ترأسها لدورتين، وكان اجتماعها الأول في قبرص، وقد أطلعني جورج جبور على مسعاه بهذا الاتجاه، مثلما دعا لتأسيس علم سياسة عربي، وكان قد سألني إن كان لدي مانعاً من حضور المؤتمر، حتى ضمن الوفد السوري، فاعتذرت لكي لا تختلط الأمور. وأستطيع القول إن فترة إدارة وميض كانت الأكثر حيويةً وتنوّعاً في الأنشطة والفعاليات والدراسات والنشر، بما فيها حيوية المجلة التي تصدرها. وهو ما كنت أتابعه من خلال ما ينشر.

وفي أواخر الثمانينات التقى ماجد عبد الرضا في براغ، وأخبرني ماجد أنه سمع كلاماً مهمّاً وموضوعياً، وخصوصاً بعد انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية، وكان وميض قد نشط بعد حرب قوات التحالف ضد العراق العام 1991، إثر غزو القوات العراقية للكويت، مع مجموعة من الشخصيات الوطنية العراقية، بينها عدّة شيوعيين من الذي عادوا إلى العراق ومعظمهم بسبب خلافات داخلية، منهم: ماجد عبد الرضا وحسين سلطان وخليل الجزائري وخالد السلام، إضافة إلى حسن شعبان وسعد ناجي جواد ودريد سعيد ثابت (في بغداد)، وكانت المجموعة متحرّكة، يدخل فيها واحد ويخرج منها آخر، لكنها عُرفت باسم "مجموعة الثمانية".

وكانت المجموعة تسعى للحصول على جريدة، وقابلت لهذا الغرض وبترتيب من وميض، طارق عزيز، لشرح توجهاتها وكونها ليست تنظيماً، وإنما مجموعة من الشخصيات الوطنية المتنوّعة المشارب، التي تسعى لتقديم رؤيتها إزاء الأوضاع بما يعزز النهج الوطني، ويساهم في مواجهة التحديات الخارجية. وقد طلب طارق عزيز من المجموعة تأسيس حزب لتتم إجازته في إطار توجهات كانت قد أعلنت عنها السلطة في حوارات قيادية تم تسريبها إلى مجلة "اليوم السابع" في باريس، وقد ناقشت المجموعة المسألة وتفاوت الرأي حولها بين الموافقة عليها أو الاستمرار في طلب منح امتياز لإصدار جريدة تحمل اسم "الإخاء الوطني"، ولكن سرعان ما دبّت الخلافات بينها أيضاً، خصوصاً حين شعرت أن الأجواء لا تزال ملبّدة بالغيوم، وأن السلطة غير مستعدّة لتقديم أي تنازل مهما كان بسيطاً، واكتفت بإرسال بعض المذكرات بين حين وآخر ثم توقفت.

وفي إحدى زيارته للقاهرة، وكنّا نحضر مؤتمراً مشتركاً، ناقش معي الفكرة، وقلت له: إن الحكم غير جاد، وورطة لكم إصدار جريدة، فماذا ستكتبون؟ وكيف سيمكنكم أن تتحاشوا صور الرئيس وتصريحاته؟ وستكون كل كلمة محسوبة عليكم، وحتى لو كان الأمر جاداً من جانب السلطة في منحكم جريدة، فعليكم الاعتذار بحجة عدم وجود كادر وعدم توفر رأسمال، كما أن المسألة تحتاج إلى تفرّغ ليس بمقدور المجموعة تحقيقه، علماً بأن حسن شعبان كان قد اختير لرئاسة تحرير الجريدة.

قلت له: من الممكن أن تطلبوا إصدار مجلة فكرية فصلية (كل 3 أشهر أو 4 أشهر أو 6 أشهر) تناقشوا فيها قضايا نظرية عامة، لنشر الوعي الديمقراطي والثقافة الحقوقية، وهو بنظري أجدر لكم، ولكن قبل كل شيء هل النظام مستعد لفتح صفحة جديدة وإقرار التعددية فعلاً وإطلاق حريّة ولو محدودة للأحزاب للعمل الشرعي القانوني، وحل المسألة الكردية وإعادة المهجرين وانتهاج سياسة عربية وإقليمية جديدة، وإعادة النظر بالدستور وبمسألة الحزب القائد؟ أم هناك نوعاً من الاستهلاك والتسويق المحلي والدولي، بسبب فشل مغامرة الكويت والرغبة في امتصاص النقمة الداخلية؟ ولديّ مراسلات مع خليل الجزائري بهذا الخصوص، وأحتفظ بعدد من رسائله، يمكنني نشرها في وقت مناسب، وهو الذي راح ضحية مقابلة تلفزيونية قال فيها: إنه مع معارضة دستورية، ويدعو لحل سلمي للقضية الكردية، وبالتفاوض مع القيادات الكردية. وكان قد عاد إلى العراق بعد عودة ماجد عبد الرضا وحسين سلطان قبله.

وكنّا خلال فترة الحرب العراقية – الإيرانية وما بعدها قد جرّبنا أن ننصح النظام، وأن نبحث معه وإن كان على نحو مباشر أو شبه مباشر أو حتى غير مباشر إمكانية تحقيق مصالحة، والانفتاح على القوى الأخرى لإعادة الإعمار وبناء ما خرّبته الحرب، والانطلاق في طريق التنمية، لكننا وصلنا إلى طريق مسدود سواء في كتلة "المنبر الشيوعية" أو في "مجموعة باقر إبراهيم وعامر عبد الله" وغيرهما من القيادات الحزبية التي كانت بصدد مراجعة لمواقفها، وخصوصاً من الحرب العراقية – الإيرانية والمشروع الحربي والسياسي الإيراني، الذي عارضناه بشدّة كما هو معلوم. كما أن لبعض أطراف الحركة الكردية محاولات أخرى في الثمانينات، منفردة ومجتمعة، لكنها هي الأخرى فشلت في حلحلة مواقف النظام، وقد بذل مكرّم الطالباني جهوداً كبيرة للوساطة، بما فيها مع الشيوعيين، وقد فشلت جميع تلك الجهود.

(10)

أتذكّر أننا التقينا في القاهرة على هامش ندوة حقوقية – إعلامية نظمها اتحاد الصحفيين العرب والمنظمة العربية لحقوق الإنسان العام (1999) لتدريب إعلاميين على الثقافة الحقوقية، وحقوقيين على الثقافة الإعلامية، وحدث شيء مثير في تلك الندوة، فحين تكلّم جاسم القطامي وهو شخصية قومية عربية كويتية مرموقة، ووصل إلى الحصار على العراق، وموت مئات الآلاف من الأطفال، تهدج صوته وبكى بصوت عالٍ، فما كان من ناصر العبد العال زميله ورفيقه إلاّ أن أخذ الورقة من يديه وأكمل قراءتها. في القاهرة دعانا الأخ حلمي شعراوي رئيس مركز البحوث العربية – الإفريقية، لإلقاء محاضرة عن العراق وظروف الحصار، وقدّمنا كأكاديميين ومفكرين عراقيين، بل معارضَين، حيث قال: إن وميض هو من معارضة الداخل وشعبان هو من معارضة الخارج، لكنهما يلتقيان عند نقطة أساسية وهي أن التغيير ينبغي أن يكون بأيدي عراقية، وأنه حق للشعب العراقي وحده دون سواه، إضافة إلى دعوتهما لقيام نظام ديمقراطي تعددي، وهما يلتقيان عند موقف موحّد إزاء الحصار الدولي المفروض على العراق ويرفضان القرارات الدولية ونظام العقوبات الذي يقع على كاهل العراقيين وليس السلطة.

وقد أصدر المركز لاحقاً: المداخلتين بكرّاس، وضمّ إليهما مقالة كان قد كتبها عزيز الحاج في وقت سابق عن التركيبة السياسية العراقية، ومقالة أخرى كتبها جورج غالاوي، وصدر الكراس بعنوان: "العراق تحت الحصار" وكانت الطبعة الأولى في العام 1999، وصدرت طبعة ثانية عشية غزو واحتلال العراق (مارس – آذار 2003). وفي القاهرة أيضاً، طلب مني وميض في إحدى المرّات اللقاء مع أحمد الحبوبي الوزير السابق والعروبي المعارض، فاتصلت به، ورحّب بذلك، ثم قمنا بزيارته في بيته، ودخلنا في حديث وحوار متشعب، وإن كنا من منابع مختلفة، لكن ما يجمعنا هو الكثير من المشتركات، وأظن ذلك كان يزيده حزناً، ولم تمنعه ظروفه وهو الذي يعيش في بغداد من لقاء معارضين للنظام. وكان حريصاً حتى بعد الاحتلال على متابعة موقف الحبوبي لأن لديه تقييماً ورمزية لبعض الشخصيات لوطنيتها ونزاهتها، وهو ما كان يبحث عنه.

جدير بالذكر أن وميض لعب دوراً مشرّفاً أيام الحصار الدولي الجائر المفروض على العراق، حيث كان على رأس مجموعة متطوّعة، عملت خلال أكثر من عشر سنوات على التخفيف من تبعات نظام العقوبات، حيث كان ينتقل بين عمان وبغداد بالحافلات (السيارات الكبيرة) ولساعات طويلة، في ظروف مناخية وصحية قاسية، بهدف جمع التبرعات وتوفير ما يمكن توفيره من الأدوية للمحتاجين، خصوصاً وأن زوجته طبيبة، وكم استطاع إنقاذ عشرات بل ومئات العوائل من موت محقق، بسبب عدم الحصول على المضادات الحيوية أو بعض الأدوية الضرورية. إذا كان التاريخ سيسجل ما قام به وميض على الصعيد السياسي والفكري، فإن مساهمته الإنسانية في مساعدة الناس البسطاء ستضيف الكثير إلى رصيده.

في إحدى اللقاءات وأعتقد أنها في بيروت أو القاهرة، كان وميض قد أعطى تصريحات لإحدى الصحف حول مقتل محمد صادق الصدر، وحلّل الموقف والاحتمالات والتداعيات، وقد سألني عن رأيي ، فقلت له: ليس لديّ ما أضيفه بخصوص التحليل والتوجّه وموضوع المرجعيات، باستثناء النبرة الجازمة، وكحقوقي لا أستطيع الجزم بخصوص المرتكب، حتى وإن توفرت لديّ بعض القرائن أو المؤشرات، لكنها ليست كافية لإصدار حكم حول هويّة الجاني. وكان وميض قد ذكر ثلاث احتمالات هي: الأول هو احتمال جهات خارجية، وقد يكون من بينها الموساد الإسرائيلي، والثاني احتمال تصفيات داخل المؤسسة الدينية (الشيعية – السياسية) بسبب الاختلافات بين توجهات بعضها البعض، خصوصاً وبعضها في الخارج ولا سيّما في طهران، والآخر في الداخل، والخلافات والاتهامات كانت على أشدّها بين الطرفين. والثالث قد يكون الموضوع غير سياسي أي شخصي أو عمل إجرامي فردي، وكل هذه الاحتمالات ممكنة وواردة. وأقدّر أن ثمة في الأمر خشية من اتهام الحكومة العراقية أو حتى وضعها في دائرة الاتهام، حتى وإن كان بصورة غير مباشرة، وهذا لم أطلبه من وميض بالطبع، ولكن كان من الممكن القول إن هناك جهات أخرى مستفيدة في إسكات صوته، وعلى التحقيق الحكومي أن يكشف ذلك، علماً بأن الأمر يخلق فتنة، فلا بدّ من تحقيق نزيه وتقديم المرتكبين إلى العدالة. نظر إليّ وميض من خلف نظارته، وعلى طرف شفتيه ابتسامة خفيفة، وقال: لو كنت مكانك لقلت ذلك. فقمت وقبّلت رأسه.

وأذكر حادثة ثانية لها دلالة، فعشية غزو العراق انعقد مؤتمر في بيروت، وكنت قد طلبت الكلام على غير عادتي قبل بدء الجلسة، إذْ نادراً ما أتحدث في المؤتمرات العامة، لكنني كنت أريد أن أوجه كلمة للتاريخ، حيث كنت أشعر أن العراق موضوع على طاولة التشريح، فعسى أن تكون تلك الكلمات مساهمة مع غيرها في تغليب صوت العقل والحكمة. كنت أعرف توجّه المؤتمر وإدارته، إضافة إلى بعض المزاودات التي ستُقال فيه، والخطابات الرنانة وارتفاع الأصوات والقبضات، وكأنها تحلّ مشكلة الغزو الإمبريالي – الهمجي الذي يستهدف العراق والأمة العربية ككلّ. انتظرت أن أحصل على الكلام، لكنه تحدث 30 متحدّثاً في الجلسة، ولم أعط "حق الكلام"، وغرّبت وشرّقت الكلمات بلغة بعضها يعود إلى أيام أحمد سعيد وصوت العرب. وللتاريخ أقول: لم يكن العراقيون هم من تحدث، بل كان بعض الأخوة العرب الذين أخذتهم الحماسة، وإن كنت أقدرها وأقدر مشاعرهم، لكن لغة العواطف في مثل تلك الظروف الحساسة ليست هي المطلوبة. كتبتُ ورقة مرّتين إلى الرئاسة أذكّرها بأنني طلبت الكلام قبل بدء الجلسة، ولكن دون جدوى، فما كان مخططاً له قد تم تنفيذه. في اليوم الثاني، وعلى عادتي في مثل هذه المؤتمرات الكبيرة، والتدافع حول طلب الكلام، كنت أجلس في اللوبي، ولكنني تذكّرت موعداً مع أحد الأصدقاء باللقاء في المؤتمر، فدخلت القاعة لأستدعيه للخروج لنتحدّث، وكان أحد المتكلمين قد انتهى من كلامه، وإذا برئيس الجلسة يفاجئني بأن الكلمة لي.

لم أتردّد وأخذت المايكروفون، وقلت: لا أحد يستطيع المزاودة عليّ في موقفي من الحصار الدولي الجائر، ومن رفضي للقرارات الدولية (ولديّ كتباً بذلك منذ العام 1994 وما بعده)، وكنت قد أعلنت رأيي منذ سنوات طويلة، أنني ضدّ التدخّل الخارجي، لا سيّما العسكري، وأعتبره كارثة حقيقية، واختلفت مع أطراف في المعارضة العراقية بسبب ذلك، ولكنني بصراحة استمعت يوم أمس إلى دعوات ونداءات تزيد من غطرسة الحاكم، وبدلاً من نصحه بالتنازل لشعبه وتحقيق الوحدة الوطنية والمصالحة السياسية والانفتاح وإطلاق الحريّات وحل المسألة الكردية وإعادة المهجرين، فإنني على العكس سمعت كلاماً مغايراً للأسف الشديد. وأضفت على ذلك: أعتقد أن الحاكم لا يحتاج إلى مثل هذا الكلام، فلديه الكثير الذي يسمعه يومياً. وقلت: إن الحكم في العراق بالنهج السائر عليه من جهة، وبالحشود للحرب ضدّه من جهة ثانية، حيث تُدقُّ طبول الحرب، سينتهي إلى كارثة محققة لا محال، وآن الأوان ولو من باب "الهزيمة المشرفة"، انتهاج سبيل آخر، وذلك مسؤوليتنا كنخب عربية في تبصير الحكّام، ومخاطبتهم في هذه اللحظات التاريخية الحساسّة.

ساد صمت بعد كلامي وبعد دقائق خرجت من القاعة ولحقني وميض، وقال: إنك تعبّر عنا وأنت مثّلتنا جميعاً، وأتذكر أن سعد قاسم حمودي الذي كان حاضراً، تبعني لخارج القاعة وشدّ على يدي، وكنت أرى شفاهه تتحرّك، ولكنني لم أسمع صوته، وهو ما فعله للأمانة نبيل نجم أيضاً، حين صافحني بحرارة متمنّياً لي الصحة والسلامة. أذكر ذلك لأنه مقطع من مشهد عام لا يزال مؤثراً في الواقع العربي. وهو ما كان يحزّ في نفس وميض.

(11)

لقد كان وميض منذ اللحظة الأولى للاحتلال رافضاً له، وللتشكيلات التي أقيمت على أساسه، وعند عودتي إلى بغداد، في شهر حزيران (يونيو) العام 2003 التقيته، واتفقنا على تحرّك مشترك، كل من موقعه ضدّ الاحتلال، خصوصاً وأن محاضرتي في الجامعة المستنصرية كان لها صدىً طيباً في أوساط عديدة ومن تيارات مختلفة، لا سيّما القوى المناوئة للاحتلال. وكانت بعض الأسماء تتردّد حول إمكانية ضمّها إلى مجلس الحكم الانتقالي الذي شكّله لاحقاً بول بريمر، ومن ضمن هذه الأسماء اسمه، ولكنه كان رافضاً بحزم، خصوصاً بالتشكيلة التقسيمية الطائفية – الإثنية التي أعلن عنها فيما بعد. التقينا ثلاث مرات عند الزعيم العروبي ناجي طالب الذي داومت على زيارته كلما زرتُ بغداد، وفي إحداها كان معه صبحي عبد الحميد وعبد الحسين الجمالي، وحضر معنا في إحدى الجلسات الشيخ جواد الخالصي، وهو الذي اصطحبني في المرة الثالثة، وكان وميض قد تأخر، فأرسل لي الشيخ جواد الخالصي، وعجبت حين وجدت الشيخ الخالصي في بغداد دون عمامة، وقد لفّ يشماغاً (كوفية) على رقبته، وجلست بجانبه في السيارة رشاشة كلاشنكوف. وعلى الرغم من شحّ إمكانية أن يكون ناجي طالب على رأس تشكيلة كان يُراد لها كصيغة انتقالية، لكن ذلك ما أوصلناه للأخ الأخضر الإبراهيمي، الذي طلب ملاحظاتي حول الدستور، وكتبتها وأرسلتها له بالفاكس بعد زيارتي الثانية في تشرين الثاني/ كانون الأول (نوفمبر/ ديسمبر) العام 2003، لكن الأمور سارت باتجاه آخر، وكان الأمريكان قد قرّروا كل شيء، ولذلك كان من العبث، بل السذاجة التعويل على صيغة المحاصصة والتقاسم الوظيفي، وحتى أديب الجادر الذي عمل مع عدنان الباججي توصل إلى هذه القناعة بعد زيارة للعراق دامت عشرة أيام فقط، وغادر، ولم يعد بعدها إلى بغداد على الإطلاق، وكتب مقالة كانت أقرب إلى مرثية للوضع المحزن والمأساوي الذي انحدرت إليه البلاد، حيث الطائفية والمحاصصة والفوضى والعنف والفساد، ونشر ذلك في جريدة الحياة اللبنانية (لندن).

الجلسة مع ناجي طالب ممتعة، فهو كثير الإصغاء وكثير الأسئلة، وكثير التهذيب وكثير التواضع، وكانت أسئلته نابعة من انضباطه العسكري وعقله المنظم، ومن كونه رجل دولة من الطراز الأول، وهو أحد أبرز الضباط الأحرار الذين خطّطوا للثورة. كنت قد عرّفته بنفسي في أول لقاء، وذلك كي أشكره، حتى وإنْ كان الأمر بعد عقود من الزمان، فقد ساهم في إطلاق سراحي ثم سراح عمي شوقي في العام 1963، ببرقية من الحاكم العسكري العام رشيد مصلح في حينها، لعلاقة والده مع عمي الدكتور عبد الأمير شعبان الذي كان طبيباً في سوق الشيوخ في الأربعينات، واستمرت تلك العلاقة، حيث كنّا نتلقّى أنواعاً من التمور الممتازة سنوياً من الحاج طالب، واستمرت في كل سنوات الخمسينات تقريباً. وكان وميض قد سأل ناجي طالب مرّة: ماذا لو قررت الأمم المتحدة أن تتولى إدارة المرحلة الانتقالية؟ كان يصمت كثيراً، ثم يعلّق بهدوء، لن أقبل ذلك إلاّ إذا كان هناك إجماعاً من كل القوى التي ستشارك، ووفقاً لبرنامج سأضعه وفي المقدمة منه انسحاب القوات المحتلة من العراق.

حين تأسَّس المؤتمر التأسيسي (الوطني العراقي)، وضمّ شخصيات قومية وإسلامية ووطنية عامة، كان وميض وآخرون يريدونني أن أكون عضواً في أمانته العامة، وهناك من ألحّ عليّ وأنا أحترمه كثيراً، وكان رأيي ولا يزال أن لا أمل في التشكيلات التي تقام على عجالة، لأنها ستنتهي بسرعة، فضلاً عن أنه لم يجرِ حوار جاد بين الأطراف المشاركة، خصوصاً لمعرفة كل منها للآخر، وهو ما سيجعل الألغام كثيرة في طريقها. يضاف إلى ذلك أن هناك اختلالاً في موازين القوى، وستضطر القوى المعارضة للتعاون مع الجهات الخارجية، إذا أرادت أن يكون له حصة في العراق ضمن ما هو قائم، وهو ما فعلته المعارضة السابقة، مع تغيّر الكثير من الظروف والمعطيات، وبهذا المعنى سنضيع فرصة 20 عاماً أخرى لنعود ونلتقي مع القوى الأجنبية المتنفّذة ذاتها، وإذا كنت قد رفضت ذلك قبل 20 عاماً، فهل سأقبل به بعد 20 عاماً مع العمر والتجربة والخيبات الكثيرة.

وكنت ولا أزال أعتقد أن وسائل التأثير كثيرة ومتعدّدة، ويمكن العمل كل من موقعه وبالاتجاه الذي يراه دون أي صيغ ملزمة أو التزامات مسبقة. ولم تستطع جميع التحالفات الظرفية السريعة الاستمرار سواء تحت عناوين معينة أكانت المقاومة أو غيرها للأسباب المذكورة، ويحتاج الأمر إلى ظرف أنسب ومراجعة أشمل ونقد ذاتي من جميع الأطراف والشخصيات.

وخلال فترة ما بعد الاحتلال كان وميض حريصاً على مواقف الشيوعيين، وكان يتمنى ألاّ ينخرط الحزب الشيوعي في الصيغة الطائفية – الإثنية التي شكّلها بول بريمر باسم "مجلس الحكم الانتقالي". وظل يستفسر عن مواقف بعض الشيوعيين القياديين الذين يعرفهم وبعض الكوادر الحزبية، وغالباً ما كان يتصل بآرا خاجادور، وعندما يفقد رقم هاتفه أو رقم هاتف باقر إبراهيم (وقد عمل معه في المؤتمر القومي العربي، وفي المؤتمر التأسيسي)، يعاود الاتصال بي ليستفسر عنهما، وأعيد إعطائه أرقام هواتفهما، مثلما اتصل بالشام بصاحب الحكيم ومحمد جواد فارس وآخرين. وكان يهمه أن يعلن الشيوعيون موقفاً ضد الاحتلال الأمريكي، ويدعون إلى سحب القوات الأمريكية، فذلك ما يجنّبهم أي شرخ أو مساس بالهويّة الوطنية العراقية، وبالمناسبة فقد كان معجباً بموقف المنبر المتوازن من الحرب العراقية – الإيرانية.

ظلّ وميض متشبثاً بالأمل، ولكنه كان يأكل بنفسه، بل يحرق في أعصابه، وكم أتذكر بألم حين اعتدى عليه أحد الأشخاص خلال مناظرة تلفزيونية. كان وميض كبيراً ولم ينجر إلى استفزازات عابرة لهذا وذاك أو لاتهامات ظالمة، فقد كانت نزاهته تصل حد الهوس أحياناً، مع أن الأجواء العامة في السابق والحاضر كانت تتّسم بالالتباس والغموض والتآمر المحموم، كل ضد الآخر. وفي حين كان البعض يختفي وراء عناوين أو واجهات أو مؤسسات، كان وميض واضحاً كالحقيقة وشفافاً كزجاج الكأس، لأنه صاحب مشروع تغيير اجتماعي، لم يجد من وسيلة إلا وطرقها رغم الظروف القاسية، فقد عمل على إصدار جريدة: العرب ثم التيار، وكان يريد أن يوصل الرأي بكل الوسائل المشروعة.

أتذكّر حين سُئلت أكثر من مرة من القيادات الكردية: من يمكن أن أرشحه في بغداد لمشاركة في ندوة الحوار العربي – الكردي؟ وفي كل مرة كنت أقول: عليكم بوميض، وكنت أضيف اسم سعد ناجي جواد لاختصاصه بالقضية الكردية، حيث كانت أطروحته في لندن عنها، وكتب كتاباً ودراسات عديدة. وفي العام 2004 دُعينا إلى ندوة في إربيل عن الحوار العربي – الكردي نظّمها المفكّر الكردي السوري صلاح بدر الدين، منسق جمعيات الصداقة العربية – الكردية، وكان وميض حاضراً، وحين حان موعد اللقاء مع رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني الذي وضع المنظمون مكاني إلى جانبه، ودخل وميض القاعة ولم يستدلّ على مكانه، فقمت من مكاني وأجلسته فيه. وحين تكلّم كان مُبهراً، سواء في العرض أو في الموقف، أو في طريقة التناول أو في التأثير، وهو ما دعا البارزاني للإشادة به، وقد أكّد على الأخوة العربية – الكردية والمصير المشترك مع إقراره بحق تقرير المصير، دون أن ينسى التذكير بقضية العرب المركزية فلسطين.

لم أزر بغداد مرّة، وهي زيارات متكرّرة لعشرات المرات خلال السنوات الـ 13 الماضية، إلاّ وزرت فيها وميض، لكي أطمئن على صحته، ولكي أطفئ بعض الشوق لديّ، ولأستمع إلى أحاديثه المملّحة التي تزيدني رغبة بالتواصل، مثلما كنا نضحك لبعض القفشات والنكت. حين عرف بمرضي اتصل أكثر من مرّة، واطمئن من أخي حيدر، وبعد شهور كلّمني بقوله: كنت أظن أنك آخر من يصاب بالقلب، وإذا بك مثلنا، فقلت له: إن أصحاب القلوب الرقيقة هم أكثر من غيرهم عرضة للإصابة، على عكس ذوي القلوب الغليظة.

ستفقد الوطنية العراقية أحد أعلامها الكبار، وستخسر النزاهة أحد أقطابها البارزين، وذلك بغياب وميض جمال عمر نظمي، أحد الأصوات المتفردة والواثقة من نفسها والمعتدّة بأطروحتها الجدلية، وسيكون حزن المجتمع الأكاديمي كبيراً برحيل أستاذ غير تقليدي، مجدّد وجريء ومبادر ويتقبّل الحوار والرأي الآخر، بل يسعى إليه حتى مع طلبته، وبقدر ما كان وميض معتزاً بفرديته، فلم تكن لديه أوهاماً بأنها بديل عن الجمهور في عملية التغيير، التي كان مؤمناً بها، لكنه يدرك أهمية نضوج الظرف الموضوعي والذاتي، وعدم حرق المراحل كي تحين اللحظة الثورية، التي كان يترقّبها وظلّ يراقبها، لكنها لم تأتِ حتى الآن، مثلما جاءت يوم انفجر العراق من أقصاه إلى أقصاه في 14 تموز (يوليو) العام 1958.


أكاديمي ومفكّر عربي

* سبق نشر المقال في جريدة الزمان العراقية على حلقات