تقرير

احتفاء بالمفكر والمبدع بنسالم حميش

محمد الداهي

السادة الوزراء الأفاضل
السادة السفراء المحترمون
السادة الحضور الكرام

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أود، في البداية، أن أتوجه بالشكر والتقدير الموشحيْن بأسمى عبارات الامتنان والتقدير إلى سعادة سفير جمهورية مصر العربية السيد الفاضل أبو بكر حفني محمود بما حفَّنا به من طيب المعاملة وكرم الضيافة وحسن الوفادة احتفاء، في هذا الحفل البهي، بعلم من أعلام الثقافة العربية السيد وزير الثقافة بالمملكة المغربية المفكر والمبدع الألمعي الدكتور بنسالم حميش، ويسعدني، بهذه المناسبة البهيجة، أن أقدم نظرة مقتضبة عن مجمل أعماله.

يصعب علي، في مدة وجيزة، أن أستجمع خيوط فكره وإبداعه نظرا لتنوع اهتماماته، وتعدد المجالات التي يركب غواربها بفضول علمي وقاد، وخلفية ثقافية رصينة. ويعتبر الدكتور بنسالم حميش من صفوة المثقفين العرب الذين خبروا الشأن الثقافي بمختلف روافده ومسالكه ونوازعه. ومما أسعفه على الإسهام في تطوير الثقافة العربية عموما والمغربية خصوصا، حصافة تجربته ومراسه، ومتانة تكوينه العلمي والمعرفي، وتحركُه بحرية بين التراث العربي الإسلامي والفكر الغربي، وقدرته على التجوال في مجرات لغوية بسلاسة وفاعلية (فضلا عن إتقانه اللغتين العربية والفرنسية، يحسن الإسبانية والإنجليزية واليونانية)، واضطلاعه بمهمات كثيرة (أكانت أكاديمية أم بيداغوجية أم حقوقية أم جمعوية أم سينمائية)، وانتظام إصداراته وتنوعها وغزارتها (ما يربو على ثلاثين مؤلفا، دون احتساب ما هو قيد الطبع باللغتين العربية والفرنسية، ناهيك عن كثير من الدراسات المنشورة في المجلات العلمية والمُحكِّمة).

إن كل عمل جاد وأصيل لابد أن يؤتي ثماره. وهو ما تحقق للدكتور بنسالم حميش الذي أهله تكوينه العلمي والإبداعي الرصين إلى الفوز بجوائز عديدة وهامة، نذكر منها:

ومما يبين القيمة الرمزية لهذه الجائزة، التي كانت حافزا على التقائنا في هذه الأمسية المباركة، هو فوز كتاب كبار بها، ونخص بالذكر الروائي السوري حنا مينة، والشاعر الفلسطيني سامح القاسم، والشاعر السوداني محمد الفيتوري. وجاء دور المفكر والمبدع المغربي بنسالم حميش للظفر بها. وهو إنصاف محمود ومستحق بما قدمه المحتفى به من جهود وخدمات جُلّى في مناحي الفلسفة ومراتع الشعر والرواية، وبما تتسم به كتابته من جدة في تناول القضايا الملحة، وإثارة أسئلة نقدية جريئة حول كينونة الإنسان ومصيره في عالم مشرع على احتمالات شتى.

وتقترن هذه الجائزة، أسوة بالجائزة ألتي أحرز عليها الدكتور بنسالم حميش عام 2002 عن روايته "العلامة"، باسم روائي كبير ملأ الدنيا وشغل الناس، وهو الراحل نجيب محفوظ الذي كرس حياته جلها لتأصيل الجنس الروائي في العالم العربي، وتطوير بنياته السردية،واستيعاب التحولات الاجتماعية والسياسية المعقدة والمتشابكة، واستيحاء التراث والتاريخ والأساطير والرموز. ويسير الروائي بنسالم حميش على هدى خطوات نجيب محفوظ لمواصلة مشروع الكتابة الروائية بوصفها أداة لتحديث المجتمع، والارتقاء بذوقه، وتخليصه من اجترار الأسئلة المحنطة والمكرورة. وفي هذا الصدد استحضر قولة لبنسالم حميش رددتها الصحف العربية إبان فوزه بجائزة نجيب محفوظ عام 2002. "عند كتاب أفذاذ من صنف نجيب محفوظ أدركت أن الكتابة الروائية فرع من الحداثة كإنتاج متجدد لحلقات القيم المضافة، وتعبير حي عن الوجود والحضور في حقول السؤال والإبداع بعيدا عن مهاوي التقليد والاتباع. إن الشيء الذي ما مازلت أتعلمه أن الرواية ثقافة بقدر ما هي ممارسة إبداعية بامتياز".

يجْمع الدكتور بنسالم حميش بين مجالات شتى (الفلسفة والرواية والشعر والسينما) تسعفه على معاودة النظر في الكون ومساءلته من زوايا مختلفة. فهو، على نحو الراحل عبد الكبير الخطيبي، وعبد الله العروي وأحمد التوفيق وغيرهم من الروائيين الذين احتضنوا الأدب من تخصصات أخرى، يجد نفسه مضطرا إلى تجريب أشكال تعبيرية متنوعة، والانخراط في استراتجيات فكرية متعددة سعيا إلى رؤية الواقع وسبر أغواره واستجلاء جغرافيته السرية من منظورات مختلفة.

ويمكن، رغم ما في الأمر من إجحاف وتعسف، أن نجمل الأمور التي تستأثر باهتمامه فكريا وفلسفيا في النقاط الآتية:

أ ـ تناول الخلدونية في ضوء فلسفة التاريخ ومن منظور سيميائية تاريخية للسير نحو فك الارتباط بالأزمات السياسية والمعقدة. وما حفزه على الاهتمام بالعلامة ابن خلدون هو أنه يشكل خلفية قوية في التراث العربي، ومثالا حيا يعزز معرفتنا الحاضرة وحتى مساعينا إلى تأصيل انخراطنا في المشروع الحداثي.

ب ـ أعاد الفيلسوف بنسالم حميش فتح باب الاجتهاد "بالطريقة المعقلنة والفاعلة" على حد تعبير الراحل محمد عزيز الحبابي سعيا إلى تحقيق الأهداف المرجوة. واستند، في هذا الصدد، إلى معرفة جيدة بالتراث، واعتمد على فكر عميق وذكي وثاقب وقيم. كما أن اختياره لهذا الموضوع ينم عن بصيرة إستراتجية واحدة. فالاجتهاد هو الشكل الذي تتجسد من خلاله، في الإسلام، ظاهرة شمولية تقوم بالضرورة على "التأسيسية المبدعة" (حسب تعبير بنسالم حميش) أو "الحركات الإيديولوجية المؤسسسة" حسب تعبير الراحل ماكسيم رودنسون. ولم يعرض المفكر بنسالم حميش سردا لتاريخ الاجتهاد، وإنما قدم تعليلا نقديا قائما على وصف دينامي للخطابات المركزية من فقه وكلام وتصوف، وبين مدى تركيز الثقافة العربية على دور الإنسان وهو يجوب مسالك الاجتهاد، ويطالب بالحق في الاجتماع والتبادل.

ج ـ سلط الدكتور بنسالم حميش الأضواء الكاشفة عن العلل العميقة التي كبلت حركة التفكير في العالم العربي، وأعاقت مسيرته من خلال نقد ثقافة الحجر والاستلاب والعولمة غير المنصفة من جهة، ونقد ثقافة بداوة الفكر التي ما فتئت ـ من جهة ثانية ـ تعمق الهوة بين الدول المتقدمة والدول النامية، وبين النظرية والتطبيق، والمقصد والفعل.

د ـ يدعو إلى حوار ثقافي وحضاري بناء بين العرب والغرب سعيا إلى إرساء ثقافة الاختلاف والتعايش وتعزيزها في منأى عن أساليب الإقصاء والعنف والهيمنة التي ترجع الإنسانية إلى "قانون الغاب"، وتفضي بها إلى التدمير الذاتي.

أصدر الشاعر بنسالم حميش دواوين شعرية كثيرة (كناش إيش تقول1977 ـ ثورة الشتاء والصيف ـ أبيات سكنتها وأخرى1997 ـ 1983 ـ ديوان الانتفاض2000) أملتها الرغبة في توفير مزيد من القنوات والإمكانات التي يمكن أن تسعفه على استثمار الجانب البصري والتشكيل الكاليغرافي، واستنطاق مكنون الذات والتوغل في مسارب الحياة بأحاسيس مرهفة، ولغة باذخة ورائقة، وصور شعرية مفعمة بهموم الإنسان وأسئلته الوجودية وهواجسه الملتبسة.

ومن مميزات الكتابة الروائية عند الروائي بنسالم حميش نذكر ما يلي:

أ ـ أنها حققت تراكما مطردا (تسعة أعمال) خلال فترة وجيزة تربو على عقدين من الزمن تقريبا. وهو ما يبين أن الروائي بنسالم حميش يكرس جزءا كبيرا من وقته للإبداع الروائي حرصا منه على تجديد شكل الرواية، والحفاظ على انتظام صدور أعماله التخييلية، وعلى تلبية انتظارات قرائه في مشرق العالم العربي ومغربه.

ب ـ يتبنى الروائي بنسالم حميش استراتجية حكائية معينة وملائمة في كل عمل من أعماله، وهذا ما يسعفه على بلورة تحقق شكلي ودلالي مغايرين، ويؤهله إلى نسج عوالم رواياته من بنيات سردية مختلفة ومتباينة، وإثارة قضايا موصولة بالواقع المعيش. فكل رواية من روايته تمثل تجربة خاصة وفريدة، وتتميز بسمات وخصائص معينة. وعليه تتناسل روايته في أشكال وأصناف متعددة، وتتغذى من حقول معرفية مختلفة، وتستثمر طرائق وصيغاَ سردية في غاية التنوع والتباين، وتستعين بالإمكانات اللغوية والحكائية الثرّة لمحاورة التراث وتمثل أبعاده الإنسانية والرمزية، ولإعادة تشخيص الواقع ورسم تضاريسه الاجتماعية والنفسية والإيديولوجية.

ج ـ يمكن أن نقسم رواياته، على تباين أشكالها واستراتجياتها، إلى فئتين: فئة تعتمد "المعارضة السردية"، ويمكن أن ندرج في هذه الخانة (مجنون الحكم1990، العلامة1997، زهرة الجاهلية2003، هذا الأندلسي2007). وما يجمع بين هذه الأعمال هو استناد الروائي إلى وقائع مستوحاة من المخطوطات والمصادر لاسترجاع حياة علم من الأعلام المعروفة في التراث العربي الإسلامي (على نحو الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي أبي علي المنصور، والمؤرخ ومؤسس علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون، والمتصوف عبد الحق بن سبعين). لكن الروائي عمد إلى إضفاء التخييل عليها، والتحرر من وزر الحقائق الجاهزة، والانغمار في العوالم الممكنة التي تبعث أحلاما مغفية من مراقدها، وتكشف عن صرخات وأهواء مضمرة وتمزقات مستشرية، وتملأ بياضات وثغرات محتملة في المصنفات التاريخية. وهذا ما يمنح التراث طاقة جديدة ونفوذا عابرا للأمكنة والأزمنة(ما يصطلح عليه خوان غويتصيلو بالمعاصرة اللازمنية في المقدمة التي صدر بها ترجمة فدريكو أربوس لرواية "مجنون الحكم" إلى اللغة الإسبانية).

وتهتم الفئة الثانية (محن الفتى زين شامة1993، سماسرة السراب 1995، فتنة الرؤوس والنسوة 2000، بروطابوراس يأ ناس1998، أنا المتوغل وقصص فكرية أخرى2004) بقضايا مستوحاة من الواقع (على نحو الهجرة السرية، وبطالة خريجي الجامعات، ومعاناة الإنسان من الحيف والظلم والمحن والشدائد)، وتعيد تشخيص مشاكل البشرية ومعاناتها بطريقة فنية.

د ـ إن الثقافة الواسعة، التي يتمتع بها الدكتور بنسالم حميش، تنعكس إيجابا على إبداعه الروائي. وهذا ما يجعل بنيات رواياته تستوعب معطيات غنية مستوحاة من مجالات متعددة (الدين الإسلامي والتاريخ والفلسفة وعلم الأنساب والجغرافية..)، وما يثري المستويات الدلالية واللغوية والحكائية ويدعم تفاعلها وتشابكها في بنية متراصة، وما يتيح إمكانات أوسع لفهم التجربة الإنسانية وصون ثراء المعيش وتنوعه.

هـ ـ يتناول الروائي بنسالم حميش أحيانا شخصيات معروفة لدى القراء (على نحو ابن خلدون وابن سبعين وزهرة العلا وامرئ القيس وأبي على المنصور وطرفة بن العبد وعنثرة بن شداد)، لكنه يعطيها منزلة جديدة تسعف على تجاور عَبَق التاريخ ونكهة الواقع بالحقائق المغمورة والخيال الخلاق والنقد الذاتي والمشاعر الجياشة، وتحفز على إثارة قضايا مرتبطة بهموم الإنسان وبالكتابة الأدبية نفسها، وترهص بالبحث عن الطمأنينة والدَّعة المفتقدتين.

وفي الختام الشكر موصول لكم أيها الحضور الكريم، وأتمنى للمحتفى به الدكتور بنسالم حميش مزيدا من التألق والنجاح في مسيرته العلمية والإبداعية.

والسلام عليكم. 

ناقد من المغرب 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ نص الشهادة التي ألقيت في التكريم.