تقدم الكاتبة السورية في هذه المقالة نوعا من التأملات النقدية التي تسعى لتقصي آليات حركة المصطلح من ثقافة إلى أخرى وإشكالياتها.

أزمة المصطلح أو استراتيجية الفراغ

سمر محفوض

تكمن أزمة المصطلح على انه قام بتصفية القوى الداخلية فيه ضمن الفورة المنهجية والنظرية.في الوقت الذي أعاد فيها منطق تعميق فرديته مع ماقد يتكون من اختلاف المنظومات الثقافية التي تختلف عنه باختلاف الهوية وفي غياب المواكبة المجمعية اللغوية الموحدة والمقنعة، للثقافة التي تم النقل إليها. مما دفع للتعويل على الجهود الفردية للنقل والترجمة، وعلى الفهم الشخصي للدال الأصلي لترجمة المفردة. هذا وقد أوقعت النقول الفردية الاصطلاح في اخلالات إشكالية كان من نتائجها فقدان المعرفة المنقولة، وخلق طراز قلق يميل للخلاص من سلطة الأخر والقطيعة، مع نظام المقاس الواحدالذي ساد في المجتمع الاستهلاكي. وقد أفضى التشتت المصطلحي إلى فوضى ترجميه. مردها قصور في تدقيق معنى المفردة المنقولة وعدم السعي إلى إيجاد المرادف لها في اللغة والثقافة حيث المصطلح نتاج بيئة ثقافية وسياق حضاري لايمكن التعامل معه. بسطحية جراء الانبهار وتعجل النقل.

انطلاقاً من أن أي خراب في المصطلح لايعود بأصله إلى إثبات الفكرة بل إلى سقوطها، ولا ينجم عن استلاب وحدة المفهوم بل يولد قالباً ووعياً جديداً عبر التردد والتموج بوظيفة المصطلح، الذي قد يفقد قيمته الإجرائية ويؤثر سلباً على دوره التواصلي، كناقل للمعرفة كما أن اشكاليته الأخرى تكمن في المدلول الذي يعطي تعاريف عديدة ومختلفة لنفس الدال، مما يفقد المصطلح حمولته الدلالية الموضوعية. إنما أخطر مظاهر الاضطراب في المصطلح،هي في إعطاء مداليل مختلفة للمصطلح أو المسمى في الثقافة المنقول إليها تتعارض مع مفهومه باللغة الأم بل تعاكسه أحياناً، وتسهم في أن يصبح فسحة عائمة بلا استقرار ولا معالم. كشعوراً صرفاً متكيفاً مع تسريع التعابير التراكمية اللفظية والتي تسعى إلى تقليص الغيرية والارتباط مع الذات محل الارتباط مع الأخر. ونهاية توافق الذات مع الذات المنطوية على إعادة إنتاج مجتمع، بلا ظل كحالة ثقافية سلبية بوصفه عرضا مرضياً من أعراض الأزمة المعممة التي يعجز عن مواجهتها بغير اليأس والحقيقة. أن أزمة المصطلح لاتخصنا فقط بل تشمل حتى منتجيها الذي يناشدون مثقفيهم بتوحيد المصطلح كي لا يبقى متاحاً فقط لتطبيقات منتجيه عصياً على الأخر. لتبدو القضية كأنها ليست أزمة مصطلح بل أزمة واقعين ثقافيين وحضاريين وأزمة فكر بدرجة ممتازة.

وهذا شكل مستحدث لفتور الشعور الذي أحدثه التحسس السطحي للمحيط الثقافي الجديد (الحداثة) ضمن مفارقاته المرعبة مع اللا مبالاة العميقة وهذه المفارقة تفسرها بصورة بسيطة غزارة الإعلام الذي يجتاحنا وتدافع الأحداث التي يبثها دون تكوين أي انفعال دائم او تحفيزي داخل المتلقي. إن الثورة السلعية تجرد المصطلحات دلالاتها من حيث أنها حالة أحدثتها مجتمعات الرفاهية الإعلامية، والتي ترتكز على توسيع الفكرة حول الذات نتيجة تشابك منطق فردي اجتماعي يسّوقه اختصاصين في المواضيع والدلالات والمفاهيم بصورة متزامنة مع الثورة المعلوماتية كشغف واسع من انجاز الذات وتقنيات التعبير والاتصالات ليحل الإعلام محل الإنتاج الإبداعي فيصبح استهلاك الوعي نوع من بوليميا أو فانتازيا (فكرة العلاج الحركي والطاقة الحيوية والرقص والتأمل والتحكم الذهني) الملون بالصبغة الشرقية، ذات الوصفات الجاهزة كغطاء أخلاقي يحمل موروث تاريخي.

وبما أن المصطلح تقنية جديدة تتميز في تحكم مرن يدار ذاتياً فهي تذيب الأفراد عبر مجموعة تراكمات على سطح خيال صاحبها بتدخل قمعي اكراهي فيما يفكر الناس او يفعلون. مما يعني انتزاع الصفة الاجتماعية منهم وتسمح بتكيف وظيفي مع العزلة وبسبب كثرة التداعيات والتحليلات والمعلومات يزداد استثمار المصطلح من حيث انه بنية مفتوحة وغير محددة وما يبقى هو مجرد استقصاء لا نهائي للفكرة التي تتفرغ عبر فرط المعلومات والإغراءات والأنشطة تتجلى في تآلفات حرة عفوية لا توجيهية تشجع على التشتيت على حساب التركيز (نقص انتباه الطلاب) وشكوى المدرسين من ذلك في كافة مراحل التدريس، مشاهد التلفزيون الذي يستهويه كل شيء ولاشيء هو ذلك المحرض واللامبالي بالوقت ذاته مع غياب المبادرات الكبيرة التي تستحق تكريس الحياة.

عبر إفراغ المفاهيم من استثماراتها الانفعالية
ضمن حضور مدهش للشعور بالنهايات التراجيدية للواقع وأحداثه الدامية وتعامل الأفراد بفتور مع الوقائع الكارثية التي تعرضها وسائل الإعلام حيث تنامت سلطة الموت ونحن نتلقى أوامر الموت فقط فمن يعطي هذه الأوامر وحتى مع تضاعف الكوارث البيئية لم يتولد سوى شعور حيادي بنهاية العالم دون إحساس بالتمزق. كما يلاحظ (تنامي الحركات الدينية السلفية) واستقرار الكائن في الأزمة دون رغبة في تغيير حالة الرفاهية المتخيلة وأوقات الفراغ النرجسي والتكيف الوظيفي مع العزلة المتمطية يوما بيوم كشكل حياة حديث وهي لاتعنى بخلق النموذج الأساسي للعلاقة بل تدرس النماذج بين العلاقات عبر الانفتاح على نماذج أكثر بدائية في أعماقنا مما يحول الحياة إلى لوحة مضطربة تتأرجح بين حالتي الإمكان واللا إمكان. كما أن فتور الشعور أصبح يمثل أكثر من تربص بإنجاز التوازن مما خلق صعوبة في تحديد صحة الخطاب الفكري ومعناه وفقدنا القدرة على التمييز ضمن علاقة متوترة مع مايحصل الآن وهي بذلك لاتقابل ماقبلها ولا مابعدها وانما تقابل ما ليس إياها كشكل من التخلص من سيطرة العقل على الخيال من باب ان العقل لا يحلل ولا يفكر ولا يعرف وإنما ينهب مادته من الخيال وحين تمر المادة من خلاله تقدم على أنها من إنتاجه.

صيغة افتراضية تصر على التباين والإلغاء (نحن لسنا في فضاء افتراضي الداخل فيه هو الخارج) بل نتفاعل كا أفراد تدرك أن الأخر هو أيضا نحن بشكل ما. العالم يلغي التباينات ويلغي المفاهيم التي بنيت على الفصل والمواجهة لتحل محلها قوة جديدة ونحن لسنا فاعلين فيها بقدر ما نحن متفرجين ربما هي الحداثة أو مابعد الحداثة دون توضيح ماهيتها مما يدفع بنا إلى وهم المماثلة وتبعاً لذلك يتشكل لدينا مفهوم مفاده لا تكون الحداثة خارج الغرب المنتج لها إلا بالتماثل معه ومن هنا ينشأ لدينا وهم أخر هو المعيار تصبح فيه مقاييس الحداثة في الغرب هي مقاييسها خارجه وهي فكرة منجزة تصدر عن إقرارنا بتفوق الأخر الكلي.. وهذا غير دقيق على الصعيد الأدبي على الأقل لذا تبدو المماثلة نوعاً من التهميش والذوبان. وهنا لا أود التغني بمجد ابن النفيس ودورته الدموية أو الخوارزمي ولوغاريتماته أو تهافت الفلاسفة عند الغزالي وتهافت التهافت عند ابن رشد. أو حتى الحداثة المتقدمة لموشحات الأندلس. بل الجيل المباشر من المخترعين والمبدعين الذي يملأ العالم المتحضر... وهكذا تختزن الذاكرة الجماعية العمل الإبداعي محولة إياه إلى فضاء معنوي محمل بأسئلتها المعلقة والمتشابكة من حيث انه محايثاً لغياب التأثير والفعل عندنا.... دون فتح بوابات الفاعلية للحوار ومطابقة اتساع الحياة ولا نهائيتها على اعتبار أن الموت طور من أطوارها الماكرة وهي بهذا المعنى قد تنتج ما يميزها أو يغايرها ضمن طرح مجموعة تساؤلات حول أهمية المفكرين في القضايا التي نواجهها.

وهل يجب على المفكر أن يحقق الاندماج مع الحركة الاجتماعية أم أن دوره كامن في وضع السبل والخطط ورصد الأحداث وفهم قوانينها أم أن دوره متمم للمجتمع وهل يقاس دوره من خلال الفائدة التي يقدمها لمجتمعة بغض النظر عن توظيفها الإيديولوجي كعلاقة بين المعرفة والمصلحة وهل تكمن الحكمة في المقاومة الخاسرة سلفاً أم في التسليم وتجنب الخسارة المجانية أن الأجوبة الجاهزة لاتقدم هنا حلولاً بل قد تصادر حلولاً ممكنة لإشكالية التثاقف محققين إجماعا نسبياً على إنشاء نظام فكري وإعادة القيمة الرمزية والدلالية والوحدة للمجتمع كحقيقة ضامنة للحضارة الخصوصية لمختلف الثقافات حيث تخلق كل حضارة لنفسها دوراً ومعنى ونمط بصورة مستقلة عن الآخرين دون تعارض ولا طموح لهيمنة استبدادية... 

على هذا الأساس يفترض علينا:

ـ ايجاد شكل من برلمان معجمي عربي لا يهمل الجانب الميداني من دارسين ومختصين ليكون بديل ظرفي يقوم بمعالجة الواقع المصطلحي دون نزعة فردية؛

ـ إعادة قراءة وتقييم جذري للتاريخ برؤية تحليلية بعيدة عن الإسقاطات الأيديولوجية المجتزئة؛

ـ دراسة الطروحات الدينية وأسباب صمودها وكمونها بشعار السلف الصالح دون إسقاط الاتهامات المجانية على أصولها المتزمتة؛

ـ إجراء تحليل اجتماعي نقدي لأشكال الحداثة وظاهرة انتشارها في الأوساط النخبوية دون تفاعل للبنى الأخرى.

ـ التفكير بحيادية بعيداً عن تكريس التثاقف المعدي من الموقع الدوني الفصامي وترف الفكر النرجسي؛

ـ بحث مشكلة ثقافة الأقليات والحفاظ على خصوصيتها بالتوازي مع دمجها بثقافة المجتمع المكون لها للحيلولة دون تحولها إلى ورقة ضاغطة؛

ـ التركيز على حاجات البشر في الحرية رجال ونساء بعيداً عن المنظور المؤسساتي الإجباري؛

يبقى أن يستحيل ان تقوم المعالجة دون ترميم الكائن الثقافي وتخفيف الوطأة المصطلحية. كلنا معنيون على أساس أن التدابير ليس شأناً تقنياً فقط، بل شأن معرفي عام ومن هنا لا يكون المصطلح صورة أو تكوين فقط بل هو صياغة لغوية للمفهوم الذي اتخذ شكلها... هناك افكار ليست مهمة كفكرة مجردة بل كطبيعة رؤية ذاتية. لذا فالصياغة (الشكل) هي القادرة على تحديد طبيعة الشعور بالاشياء وهي التي تمنح لمضمونها قيمة التمييز والحيوية... ولا يمكن ان يتحقق كيان أي مضمون قبل كينونة الشكل كونه مدخلاً للوعي أما الفكرة المجردة فوجودها منفصل عن المفهوم وبالتالي منفصل عن لحظة الانفعال وهنا لا يوجد ثنائية الشكل والمضمون بل يوجد الشكل كحقيقة ملموسة.. والمضمون كتجريد يتخذ بعداً موضوعياً هو أخيراً من سمات الشكل أي المصطلح حيث اللغة وسيلة تفكير تدفع بالشكل الى التبلور وتصوير اللفظة كمرحلة وسيطة يليها عودة للحوار الداخلي والوعي الضمني الذي يطور نفسه عبر استخدامها ببعدها القاموسي والفردي العام والخاص والمنقول عبر حركة الوعي الكلي.