يتناول الناقد المغربي رواية خديجة صدوق الأولى كاشفا من خلال منهجية تحليله النقدي عن مستويات المعنى المتراكبة فيها وعن تناولها الحساس لفترات حرجة من تاريخ المغرب وجراحه.

عودة الرياح أو جدل الحب والسياسة

محمد خفيفي

بإصدارها لعودة الرياح تنضاف خديجة صدوق لمبدعات مغربيات اخترن الإبحار في عالم الكتابة والإمساك بمفاتن الحرف وتوهجاته، انخراط في متاعب الأسئلة الوجودية المؤرقة ومحاولة للبحث عن معادل موضوعي يعلن الانتساب البيولوجي لشريحة تبدد الآن رسوبات تاريخ ظل عبر مساراته ومنعرجاته لا يعترف إلا بالكتابة في شكلها الذكوري. تاريخ أدبي طويل يستوطن فيه الرجل الكاتب جغرافيات لم تقترب منها النساء إلا حديثا. فتاريخ الكتابة النسائية بالمغرب نؤرخ له عادة بسنة 1955 مع مليكة الفاسي، تلتها كتابات لها طابع تأسيسي لكل من رفيقة الطبيعة وزينب فهمي وخناتة بنونة، قبل أن تتسع اللائحة في الآونة الأخيرة لمبدعات روائيات: ربيعة ريحان، رجاء الطالبي، زهرة المنصوري، زهرة زيراوي، ليلى الشافعي/ لطيفة باقا... اللواتي حققن تراكما كميا على مستوى الكتابة السردية هو في مجمله خلاصة تجارب حياتية معبرة عن واقع اجتماعي تفاعلن معه سلبا أو ايجابا.

(عودة الرياح) هي الرواية الأولى للصحفية والحقوقية (تشغل الآن نائبة رئيس الجمعية المغربية لحقوق الانسان) خديجة صدوق، الصادرة عن منشورات دار التوحيدي نهاية السنة الفارطة، والتي نسعى من خلال هذه القراءة الاقتراب من عوالمها، وملامسة الانشغالات الكبرى التي راهن عليها السرد. في (عودة الرياح) لخديجة صدوق لا تعلن الكتابة عن منحازها التجنيسي générique، فهي لم تؤشر على الغلاف انتماءها لشكل من الأشكال النثرية، وبذلك تتسع دائرة التلقي أمام اختيارات لا تحسمها إلا القراءة، ولا نعتقد أن الأمر يتعلق بسهو أو نسيان بقدر ما هو اختيار يحرر الكتابة من الانغلاق في دائرة مقتضيات الجنس الأدبي ومواضعاته التي ترهنه لما تسميه كايت هامبرعر "منطق الأجناس". غير أن ذلك لن يعفينا من تسمية المقروء ما دمنا نتلمس فيه مكونات الخطاب الروائي بشكل لا يخرق القواعد.

على غير العادة يشغل الإهداء صفحتين كاملتين تستأثران بالانتباه. عتبة ثانية بعد العنوان محكومة بقصدية وتبرير هادف وتزخر بتلوينات سيكولوجية وإدراكية وسوسيولوجية معينة. يعكس الإهداء أبوة أو أمومة المؤلف لمؤلفه، وحسب جاك كوراتيي فإن الإهداء يعيد الأثر إلى حظيرة التواصل، كما إنه في بعده التداولي تكريم للمتلقي واحتفاء به، وتعبير عما يحظى به من تقدير من قبل المؤلف، الإهداء في عودة الرياح يسمي الأسماء بمسمياتها: الأم، الصديقات، فلذات الأكباد، سعيدة لمنبهي. لا مكان لرجل في هذا المدخل، إقصاء يتعالق بما تفصح عنه الرواية، استحضار سعيدة لمنبهي شهيدة الشعب المغربي وشهيدة الحركة الماركسية اللينينية، تلك المرأة التي أحبت الضوء واستشهدت لكبريائها وصمودها لأنها آمنت بجدية قضيتها بعد أربعين يوما من الإضراب عن الطعام. يهيئ الكتابة والتلقي عموما لاختيارات لن تكون إلا بجانب طروحات اليسار المغربي وتجربته.

تتألف الرواية من ست مقاطع أو فصول وهي: في أواخر ذات خريف، ذات صيف، أنت تقررين، ذات مطر، رياح العودة، ربيع الولادة. سفر عبر الفصول يبدأ مع الخريف وينتهي بالربيع، دورة زمنية كاملة بتمفصلات تلتقط ما تبوح به الساردة وتؤثث به عوالمها الجوانية أو المحيطة، الممكنة والمبتغاة، رحلة على ضفاف الزمن المغربي حيث الانكسارات والخسارات والأمنيات تتجاذب بين رهانات الكائن والممكن والمستحيل، إشارات وعبارات لا تصالح المنطق الذي انتهت به الأشياء، الذات مفرد بصيغة الجمع، ووحدها الأنثى مثقلة بهذا الهم القاسي الذي يستبيحها ككائن بشري: "في هذا الوطن الذي يستبيح اغتصاب الصبيات تحت غطاء الزواج، ويتصيد عمر غفلتهن بكل الذرائع، في هذا الوطن تدخل النساء مبكرا قبورا ابتدعوا لها "اليأس" اسما.. كأنها سلعة انتهت مدة صلاحيتها فأصبح ميؤوسا من استعمالها. كم تفضح اللغة النوايا وتعريها" ص 58. عنوان الرواية عتبة أولى نخطو منها في اتجاه النص "فالعنوان للكتاب كالاسم للشيء، به يعرف وبفضله يتداول، يشار به إليه، ويدل به عليه"، فهل توقفنا الريح وعزيمتنا نافذة في اختراق مجاهيله؟ لا داعي للاحتراس، إنها رياح وليست ريح، قال ابن عباس: الرياح للرحمة، والريح للعذاب، وروي أن النبي (ص) كان إذا هبت ريح قال اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا. فهم يعضده ما هو وارد في النص القرآني: في القصد الايجابي "ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات" و "وأرسلنا الرياح لواقح" وفي الدلالة المضادة تنتصب الآيات التالية: "وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم" و: "فأهلكوا بريح صرصر"، ترى بماذا تبشر هذه الرياح؟ وهل في عودتها ما يبهج الذات وينعشها ويخرجها من نفق الانتظارات؟.

العودة مؤشر على نهاية انفصال، نهاية انقطاع في الزمان والمكان تتولى الرياح مهمة شد أواصره وتمتين عراه، يخبرنا القزويني في كتابه "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" أن للرياح أربعة أصول هي الشمال والجنوب والصبا والدبور، فأما الأولى فهي باردة ويابسة والثانية حارة ورطبة والثالثة قريبة من الاعتدال والرابعة مناقضة للصبا وتهب في آخر النهار، وفوائدها تلقيحها الشجر وترطيبها الزرع وتجفيفه وتغييرها طباع الحيوان، حتى قيل: إن لها تأثيرا في الذكور والإناث، "فأي أثر تحدثه الرياح فينا وقبل ذلك كان لها تاثير في الساردة". كان يصل إلى أذنيها حفيف الأشجار وصوت الرياح واصطكاك النوافذ.. تلتها زخات المطر.. نفس الطقس الذي أدمنت فيه السؤال عن عودته. ازدادت اقتناعا بأن رداءة الطقس هي وحدها قادرة على أن تأتي به.(ص220). ذلك ما يتولى المحكي عبر فصول المتن الإجابة عنه انطلاقا من تخييل يلامس محطات من حياة الساردة "زهرة" مع تركيز خاص على تجربة عاطفية متميزة تكون مدخلا لاسترجاع الزمن الضائع، والوقوف على اختلالات مجتمعية تكون المرأة هي ضحيتها الأولى، إضافة لنقاشات سياسية وفكرية تحين الخطاب في معالجته لما يعرفه المجتمع المغربي من تحولات تمس عددا من القيم والسلوكات.

ينهض المحكي في عودة الرياح علي توصيف علاقة عاطفية غير متكافئة بين زهرة ومحمد الفطواكي، كلاهما يمتلك من الوعي ما يجعل القارئ يتابع نبضات هذا الحب بين مناضلين مسلحين بعتاد النظريات السياسية والاقتصادية والايديولوجية، ويفتح أفق انتظار من خلاله يمكن التنبؤ بكل الاحتمالات التي ترهن هذا الحب للاشتعال والتأجج أو الانكماش والضمور.

محمد الفطواكي مناضل سياسي خبر السجون والمنافي بسبب آرائه ومواقفه التي ظلت تنشد التغيير وتنتصر للفقراء والكادحين، وقبل ذلك كان حاضرا في الجامعة بتأطيره للطلاب ضمن برنامج الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وتأطير الوافدين الجدد على الحزب، بعد عودته من المنفى، وبعد لقاءات على هامش ندوات سياسية كان ينظمها اليسار المغربي تحس زهرة بانجذاب قوي لمحمد، وتنصهر معه في علاقة عاطفية محاصرة بهذا الشغب الفكري الذي يفلسف الحب ويجعل منه صرحا تخلد له الذات في بحثها عن ظل تسكين له وإليه، "جاءها من سجنه وجرحه وعرائه... احتضنته داخل خوائها وكمد السنين من حولها. جاءها وكان بها شوق إلى واحة تستريح في ظلالها من عناء المشي لعدة أعوام في بيداء، جف فيها عودها وألبستها من قحطها قحطا (ص) 22". إنه (وهذا ما لا تفصح عنه الرواية) سليل عائلة حمان التي يشهد لها التاريخ المغربي المعاصر بأنها أربكت حسابات المستعمر وأذاقته الهزائم والنكبات، ولكنها على عهد الاستقلال عاشت الضنك والعجز والفاقة، فقد توفيت زوجة حمان الفطواكي سنة 1976 كمدا وحزنا وعجزا عن تطبيب أبنائها وأحفادها، وهدد ابنه شهيد بالاعتصام أمام الوزارة الأولى إذا لم ينصف، وتظل ذكرى اغتيال الشهيد مناسبة لمحترفي السياسة بزيارة قبره والترحم عليه، فهل يكون هذا الاختيار تكريما للشهادة و للشهداء.

غير أن هذه العلاقة لا تستكين في سيرورة طبيعية، مادامت محكومة بانقطاع متوالي وغير مبرر من طرف الفطواكي يجعل زهرة تعيد النظر في سلوكها وانسياقها... وبذلك ينبثق سؤال المحكي: هل طريق الحب والسياسة مختلفان؟ أيهما عدو الآخر؟ السياسة أم الحب؟ كيف بدأت العداوة؟ وفي أي زمان ومكان؟ (ص224). تلك دعامة الحكي وبنيته التي ارتهن إليها النسق السردي مستعينا بمحكيات صغرى تنفلت من الحكاية الإطار، تؤثث الفضاء الروائي عبر استحضار تجارب لنساء عرفتهن الساردة في فترة من الفترات أو سمعت عنهن وظللن راسخات في ذاكرتها، كزوجة الفقيه تلك التي ظلت تتردد على ضريح سيدي بليوط وتختلي فيه إلى أن فارقت الحياة، وحنان صديقة محمد في الكلية التي تعرضت للاعتقال بسببه، وآثرت أن تتزوج عسكريا تعرف عليها عن طريق زوجة صديقه. وقصة تلك المرأة التي تجاوزت السبعين من عمرها وتزوجت خفية بعد موت زوجها. إن هذه المحكيات حافظت للنص على ترابطه العضوي وعلى انسجامه الموضوعاتي ما دام قصد السرد الإحاطة بعالم المرأة من خلال التمثيل بنماذج لنساء يوحدهن القهر النفسي الذي عانين منه.

يأتي السرد في عودة الرياح بضمير الغائب، ولكن التبئير يظل ملازما لزهرة ممتزجا في أحيان كثيرة بحوارات داخلية وتأملات حول الذات والعالم ونقد التجربة السياسية التي عاشها المغرب في سنوات ما اصطلح على تسميته سنوات الجمر والرصاص. وبقدر ما يطغى صوت زهرة على كل الأصوات الواردة في النص، فإن تعددية الأصوات la polyphonie تستقطب شرائح فيها المثقف والمناضل والأم والفقيه. صوت زهرة مهيمن من خلال استحضار مسار حياة تسترجع مرحلة الطفولة، والدراسة والتجربة السياسية في الحزب، وتجربة زواج مبكر، ومشاق العمل في المقاولة، دون إغفال المرجعيات الفكرية التي كان لها الفضل في تشكيل وعيها وتميزه عن بعض القرينات ككتابات سلامة موسى وقاسم أمين وطه حسين وطاهر الحداد وأمينة السعيد. كذلك فإن السرد ظل ينحاز في لحظات كثيرة للتوثيق الهادف إلى تأريخ مرحلة ملتهبة من تاريخ المغرب الحديث: "اشتد القمع في ذلك العام من السبعينات، طال المناضلين النشطين والمتعاطفين والمهتمين بالأخبار والشؤون ذات الصبغة السياسية حتى كان الواحد يستدعى لقسم البوليس، ويسأل من بين ما يسأل عنه، عن أسماء الجرائد التي يقرأها ويهتم بها أكثر من غيرها" (ص30).

غير أن هذا التوثيق لا ينفلت من رؤية خاصة توجهه نحو مقاصد تنتقد ظاهرة من الظواهر وتبدي فيها رأيا من الآراء "صاغت حكومة تناوبت على التوافق شيئا أسمته "مشروع خطة إدماج المرأة" كأن المرأة تحتاج إلى إدماج وليس إلى اعتراف بإنسانيتها وإنتاجها والاستفادة من عرق جبينها". قال أحد المتخصصين في فتاوى التدجين والهيمنة... قال عن مقترح الخطة المتعلق باقتسام ثروة الزوجين عند الافتراق: "أتأكلن أموال الناس ظلما وعدوانا؟" وقتها أدركت زهرة كم تأكل أمة بكاملها عرق جبين النساء والرجال." (ص43). غير أن هذا التوثيق سرعان ما ينفلت إلى استطرادات مثقلة بالهم السياسي الذي يحاصر الساردة ومحمد الفطواكي ويجعلهما يختزلان الكثير من اللحظات في كلمات مشحونة بإيحاءات تضمر أكثر ما تظهر: "سرقهما الوقت في حديث تجنباه كثيرا، لكن سقطا فيه، حديث كان عن ذكريات الحلم والفجيعة. ذكريات عن مد جماهيري. خطب الزعماء. ثورة في أدمغتهم اليافعة. جوع وأمية وتبعية. انتهازية وتواطؤ من حولهم. تحدثا عن القمع والمعتقلات.. عن الأحزاب والانشقاقات.. عن مناضلي المقاهي والصالونات..عن الإشارات القوية والعهد الجديد والخطوط الحمراء.. وأدركا بشيء من المرارة أنهما يتحدثان عن كل هذا وسط صالون ككل الآخرين. (ص97). 

تعتبر الكتابة معادلا موضوعيا لإعادة التوازن للذات المتشظية، الممتلئة بانتظار وترقب عودة محمد الفطواكي، تعي الذات ذلك بوعي شقي يتشكل خارج النمط وينفلت من أسار الثابت والجامد، فتستحضر الكتابة بداية لتجلية البذخ الروحي الذي تعيشه الذات في حضرة المحبوب "كانت وحدها الكتابة عنه حالة من الجذبة تأخذها إلى مقامات يقف فيها الكون عند عتبة بابه، فيها طيفه وحده شاهد على حرائقها، بها تخفف لظى هذه الحرائق." (ص56). كما تتحول الكتابة إلى لحظة لتأمل الذات ونقد التجربة بوعي يزيح عمى الحب، ويثبت القدرة على تجاوز الضعف الأنثوي الباحث عن حب متوازن، متبادل، لا مجال فيه للغياب المستفز والغبن والحرمان والدونية. وبهذا المعنى تكون الكتابة انفلاتا من أسر وقيد، رفضا للإقصاء والإلغاء، تحرر من وطأة التعالي الذي هز الكيان وأطاح بها في مهوى الانكسارات. بالكتابة تلملم الروح جراحاتها وتتدثر بالنسيان باحثة عن ضوء يملأ القلب والوجدان، وبها أيضا تتواشج القرابة بين المرأة وكيانها، إنها تعزية لما ألم بالذات من تشذير، بحث عن سلطة مفقودة، ألم تبدأ أول سلطة في التاريخ لحظة اكتشاف الكتابة، اكتشاف لا يمكن فصله عن اكتشاف النار والحجر المصقول.

إن (عودة الرياح) ظلت مشدودة لهذه النغمة الأنثوية في الكتابة، تلك النغمة التي تتعالى عن التقسيم الجنسي بين الذكر والأنثى والكامنة في خلايا الإبداع الروائي، إنها تلك التي جعلت فلوبير يصرح "أنا مدام بوفاري"، إنه رهان المهم فيه كما يقول "دولوز" ليس هو أن تكتب مثل امرأة، فقد كانت فرجينا وولف تمنع على نفسها الحديث مثل امرأة، ومع ذلك كانت تمسك بالصيرورة النسوية للكتابة. زهرة في تماهيها مع أنوثتها واسترسالها في حكي منساب ومتدفق، هل تكون سليلة شهرزاد في عشقها للحكي ومباهجه أم فيها لوثة من بوفاري وعطشها للحب والحرية. إن حدود المتخيل الروائي وجغرافياته يظل متلبسا بالمعاناة في صيغتها الجمعية، معاناة جيل موشومة ذاكرته بجراحات لا تنسى.

بذلك تكون (عودة الرياح) ملحمة، على اعتبار أن الرواية ملحمة بورجوازية كما ينعتها بذلك لوكاتش وملحمة ذاتية كما في تصور غوته، تجمع بين البوح والتلميح والإدانة، وبين شاعرية القلب ونثرية العلاقات الاجتماعية. بهذه المواصفات تظل (عودة الرياح) كتابا مفتوحا على تأويلات عديدة تستجيب لقدرة القراءة على الإنصات لكثافتها ورحابتها. 


mohakhof@yahoo.fr