برغم طزاجة الصور وانسياب الموسيقى فإن ثمة حزن شفيف يتخلل قصائد الشاعر المصري في تعبيره عن طبيعة الأفق المسدود الذي يعاني منه واقعه والشباب منهم خاصة.

قصائد

محمود فرغلي

 

حـنين

جالتْ بخاطرِها البلادُ،

بقلبها عشرون ساقيةً

تضخُ حنينَها،

                   والأفقُ سنبلةٌ تلوحْ .

جلستْ على حصباءِ وحشتها

تخطُّ سهوبَها ودروبَها

بالأخضر الظمآن ترقشُ

ما يعنُّ من المنازل والمسارب والسفوحْ.

جالت  بخاطرها البلادُ،

فأورقتْ  ألوانـُها

عشباً وزيتوناً ونخلاً سامقا

بالشوق بَـلّلت الذي رسمتْ

          وأقعتْ

                   في ظلاله تستريحْ .

الآخرون

أعمارُنا خمرٌ

سنشربُ نخْبَها حتى الثمالةْ

وليقتلِ التلفازُ نفسَه

أو يمتْ كمدا               

                   فإنا    آمنون

منْ قال إنـّا قد تأثّرنا قليلا

حين خامرنا الدمُ القاني

وألقى فوق شاشتِنا ثقالَه

تفاحة الأيام في يَدنا كقرص الشمسِ يانعة

وزهرةُ عمرِنا رضيت بجنتها مقاما

الموت حقٌ

بيدَ أنّ خيانة العمر المديد تظل ضربا من جنون

الوضع فوق الاحتمال

يقول شيخ صَاحَبَ الأحلام والزعماء

من خمسين حزنا دون أن يدري

حقيقة أننا نحيا أقانيم الجهالة

يا شيخ عد

كل الدروب إلى بلاد الله مغلقة عليك

وجند ربك واقفون بكل حزم

دون بيتك واقفون

ودون حلمك واقفون

ودون موتك واقفون

والخير فيك متى صغرت

ودرت خلفا للوراء

ببطن أمك تحت بطن الأرض متسع

                   لكي تبقى جنين

قتلوا صغيري قبل أن يدري الحروف

تقول أرملة وترفع بضع أرتال من اللحم المكيّس

يا صغيري لا تصدق دمعها

في الموت لو تدري السلامةْ

والخير فيك

متى انتقلت من القيامة للقيامةِ

دونما تبلو طريقا شائكا

يدعى الحياةْ

                   طوق النجاة  بأن تكون ولا تكون

دأبوا على قنص البراءة ساعة الإفطار

ينطقها أب بحرارة المحموم يهطل دمعه

وكأنه للوعة الخضراء يغرف من  معين .

أسمعت يا ريان ؟

يا ريان أدخلهم سراعا

فرحة الأكفان أن تمضي بمن ماتوا جياعا

                                                                   ظامئين

فليقتل التلفاز نفسه

ويعيد تكرار الكلام عن السلام،

نتائج الكرة،

قانون المرور،

برامج التخسيس،

مشكلة المياه،

الغاز،

والتعليم،

والأزياء،

توفير الحياة لمن يجيء من البنات

ومن يهل من البنين

يا نشرة الأخبار مازلنا بخير

نحن أحياء تماما

والميتون الآخرون:

ـ طفل يفجر نفسه في شاحنة

ـ الطقس معتدل  الحرارة في الشمال

ـ سقطت على رأس الطريق المئذنة

ـ البحر يصلح للملاحة كل عام

ـ بنت تناوبها الغزاة لبضع أيام طوال

ـ فازوا بأربعة من الأهداف رائعة

ـ رتل من الآلات يمتشق الطريق إلى البلاد

ـ أزياء هذا الصيف  تبدو ساخنة

ـ حظر التجول طول ساعات النهار 

فليقتل التلفاز نفسه

وليرعوى المذياع من بث المرارة في الأثير

مقامنا ما طال حتى نبتغي بدلا لعيش في بدايته

ونبيع أخرانا بأولنا

لأجل جميلة وقفت تبث الموت في الأنباء

                   بالوجه الصبوح لساعة أو بعض ساعة

وتكور النهدين لا

لا بل خضرة العينين

لا بل حمرة الخدين

تنهانا عن التصديق

يا تلفاز خاب شريطك الدامي

وخاب أنين صوتك يا إذاعة

ما كان لليمونِ أن يمضي إلى دمنا

يجوز أن نفوسنا كالوهم ضائعة مضاعة

لكنها أعمارنا

وخيانة العمر المديد تظل ضربا من جنون

يا نشرة الأوهام لن تجدي فتيلا

نحن أحياء تماما

                   والميتون الآخرون

الموت بين عارضتين

مرماه خال

والحياة مسافة ما بين عارضتين

كرة من الإسفنج يقذفها

                    وحيدا في حديقة بيته

نظرت إليه تلاقيا

                   عينا بعين

قالت: أحبك

والأمومة في دمي

من قبل أن يرتد طرفك للحياة

                   إلى الحياة سأحملك 

جاءت إليه على رفات الريح وانتظرت قليلا 

ثم قالت: قد منحتك هدهدات الرمل في زمن

                   يحب الله ُفيه الماء ممزوجا بمسحوق العظام

          فما ارتبك

قالت: نذرتك للتوابيت الفسيحة

          فاستنام لوعدها 

قالت: سنلعب نصف شوط في الغمام

          فصدقت أحلامه

قالت بتوق :هيت لك

          فأعارها رأسا بحجم يمامتين

          أعارها كفين

لم تتقن سوى صنع الكرات من القماش

          أعارها رجلين

          ما اقترفت سوى ركل البراءة في الشبك

قالت: تهيأ جاء دورك للدخول إلى ملاعبنا الرخام

          عاد الغرير إلى حديقة بيته متوجسا

          وأقام ملعبه الصغير إلى جوار دمائه

          صار الوحيد به فريقا من عظام ناخرات

فاستطاب لها المقام

 قالت وفي دمها بقاياه البريئة:

كل هذا الموت لك

ما أجملك

ما أجملك

جملُ الملح

كان لنا جملٌ سمحٌ

          في زمنٍ سمحْ

يقعى

فوق فراشِ طفولتنا

يجعل من أربعةِ الأطرافِ قوائمْ

هودجُه طفلان اشتَبَكا

          رِجْلَينِ

                   وكفّينِ

                             وقلبينِ

ورحلتُنا لمواسمَ من فرح دائمْ

في ولهٍ صبيانيٍّ

يَتَعَالى شوقُ  الطفلين بلا وجلٍ :

          أقبلْ يا جملَ الملح

          قم يا جملَ الملح

          عد ياجملَ الملح

والجملُ البشريُ يُعافرُ،

يجعلُ من فُقّاعاتِ الضحكاتِ ولائم

          حتى جاء لنا زمنٌ،

          وتداعْت فيه الأحلامُ،

          وهِيضتْ تحت هجير اليُتمِ نسائم

ها قد ذهب الجملُ إلى بيداءِ الوحشة في صمتٍ

فلماذا بقيت أكياسُ  الملح؟