يسعى الكاتب المغربي في هذه المقالة إلى بلورة منطلقة النقدي والخيط الرابط بين عدد من دراساته الأخيرة التي سينشرها قريبا في كتاب بعنوان مشابه وهو (الرواية ذاكرة مفتوحة).

التخييل ذاكرة مفتوحة

محمد برادة

يكاد يقترن التخييل، خاصة في الثقافات الأجنبية، بجنس الرواية مع أنه عنصر أساس في كل الأجناس التعبيرية حتى ولو كانتْ تنطلق من تعاقد مع القارئ يزعم التقيُّد  بـ "الواقع". ويبدو لي أن الخطاب النقدي العربي، طوال عقود، لم يكن يحتفي كثيرا بالتخييل في وصفه عنصراً مُكوّنا جوهريا في النص الروائي، إلى جانب بقية العناصر المكوِّنة الأخرى، مثل الحبكة والفضاء واللغة والشخوص لكن الصعوبة تكمن في تحديد ماهية التخييل إذ لا نستطيع أن نتبيّن العناصر التي بها يتحقَّق، فلا يمكن أن نرجعه إلى المخيلة وحدها ولا إلى الشخصيات ولغتها، ولا إلى الحبكة وفضاءاتها وهذا اللاتحديد هو ما يُشكّل الحيّز الذي تتسرب منه موهبة الروائي لتنسج خيوط التخييل المتشابكة، الملتبسة، العصية على التحديد والتصنيف. لكن يمكن القول بأن التخييل لا يسعى إلى احتذاء منوال قائم من قبل،على رغم أنه يستوحي الواقع في تجلياته المختلفة، والتاريخ والمعرفة والعلم والأساطير والأحداث الطازجة؛ وهذا ما يجعل، في نظري، التخييل بمثابة ذاكرة مفتوحة تتجمّع داخلها أزمنة متباينة ووقائع غير متجانسة، وملامح وشخوص شديدة الاختلاف.

والتخييل، مثل الذاكرة،يخضع للانتقاء والنزوة والصدفة المُحرّضة، إلا أنه أقرب إلى مجال الوعي والإرادة والاختيار، لأن المخيلة ملَكة قابلة للتربية والتمحيص والتطوير. ولعل هذا ما جعل الشاعر أوكتافيو باز يقول: "إن انبعاث الخيال كان دائما مسبوقا ومُمهّد له بالتحليل والنقد ". من ثمّ، يكتسي نقد الرواية ومكوناتها التخييلية أهمية خاصة، لأنه يفتح الطريق أمام التعرف على المُتخيّل الروائي وما ينطوي عليه من قيم ومواقف حياتية. والخيال، كما هو معروف، أصبح أداةَ معرفة معترف بها إلى جانب العقل ووسائط المعرفة الأخرى.

وفي هذا الاتجاه، وبسبب هذا الانفتاح، تبدو الرواية ذاكرة للمستقبل على رغم أنها تقدم محكيات ووقائع وحبكات "منتهية"، لأن من عادة الروائي أن يضع إحدى عينيْه على المستقبل في وصفه بُعدا جوهريا لا يستقيم تصوُّر الزمن من دونه. وأظن أننا لا نبعد عن الصواب إذا قلنا بأن معضلة العلاقة مع الزمن هي العنصر المشترك بين جميع الروائيين الذين تتباين مواقفهم في تمثيلها واستيعابها وعكس مفعولها على الشخوص والمواقف. ولعل نصوص رواية التخييل العلمي تبرز هذا الهوس بالمستقبل والتطلّع إلى استباق أحداثه ومفاجآته. ذلك أن روّاد هذا الجنس التعبيري تنبهوا إلى منجزات العلم، خاصة منذ القرن التاسع عشر، ووجدوا فيها مدخلا لتوسيع دائرة التنبؤ والاستشراف، ومجالا لمنافسة الخيال العلمي الواثب دوْما من المجهول إلى المعلوم. رواية التخييل العلمي من هذا المنظور، تسعى إلى مقارعة الزمن والتغلّب على سلاحه الفتّاك الذي يهدم اللذات، ويقتل الحياة، ويفرّق الأحباب. إنها رواية تحاول أن تكتب ذاكرةً للمستقبل، وتستبق الحاضر لترسم صورة مغايرة لما سيكون عليه وضع الإنسان والعالم والعلائق في مستقبل لا تكون الغلبة فيه دوما للزمن القاهر. بطبيعة الحال، ليس هناك ما يتيح التنبؤ على نحو قريب من سيرورة الأحوال والتبدلات لأن معالم المستقبل لا تخضع فقط للمنطق والعلم والعقل، وهو ما يجعلها تستعصي على التحديد الدقيق، إلا أن الخيال العلمي والرواية بصفة عامة، تنكتب نصوصهما وتوجدان داخل هامش افتراضي، تخييلي، يفتح كوّة على المستقبل ويغدو مجالا لامتزاج الأزمنة والفضاءات.

من هذا المنظور، يمكن أن نبتعد عن التحديد الشكلي للرواية لنطلّ عليها من خلال علاقتها بالزمن واللغة والمعرفة والذاكرة؛ وعندئذ أجد أن الذاكرة بما هي عليه (انتقائية، تقريبية، محوّلة للمعيش) تقع في المركز من هذه العناصر المُكوِّنة للنص، وكأنها الوسيط الكيميائي الذي يسهّل التمازج وإعادة تركيب الوجوه والأشياء والأحداث والتجارب التي نعايشها. وهذا ما يدفعني إلى القول بأن الكتابة الإبداعية هي في عمقها "كتابة الذاكرة": أن نكتب ذاكرتنا، معناه أن نتخلى عن وَهْمِ محاكاة "الواقع" ونحرّر اللغة من ترجمة المرئي، ونرتاد فوضى التخييل المنفتح على أكثر من سجلّ والمكتسب شرعيته من ما يرتديه من غلائل إستتيقية/ جمالية.

عندما أقول إن التخييل وكتابة الذاكرة يتواشجان من خلال الانفتاح على أزمنة وفضاءات ومعارف متباينة، لا أقصد من ذلك أن هذا الانفتاح يقتصر على خصائص متصلة بطبيعتهما، بل أستحضر في الآن نفسه ذلك الجزء الهام من الانفتاح المتحدّر من طريقة تلقّي النص السردي والروائي التي هي أيضا عنصر يدعم الانفتاح ومساءلة المستقبل. يتجلى ذلك، على الأقل،في ثلاثة تحقُّقات ينجزها التلقي :

أ ـ القراءة، في الأساس، لا تقصد إلى التثبّت من وقائع أو أفكار جامدة، بل هي تفاعل بين النص وذاكرة القارئ؛ بين مخيلة الكاتب وفكره وبين ذات القارئ المُخترَقة بتجارب وأفكار ومشاعر مغايرة، والتي تبحث عن معنى وتأويل يستجيبان لأسئلتها الخاصة. من ثمّ ينفتح النص التخييلي على معانِ محتملة أو افتراضية يكتنزها النص الروائي أو تقبع في ظلاله.

ب ـ تشتمل النصوص التخييلية على إمكانات واسعة لما يسمّيه باختين "إعادة التنبير" أي محاورة المبدعين لنصوص وأعمال مُميّزة بقصدِ إبراز دلالات مهمة ضمن سياق زمني مختلف، وإعادة الصوْغ اللغوي والشكلي والتيماتيكي. وتضطلع إعادة التنبير بربط الوشائج الحوارية بين الإبداعات والنصوص التي تنتمي إلى نفس "السلالة" التخييلية، لإزالة الحدود بين ماض ومستقبل، ومعانقة الأسئلة التي تشغل بال ومشاعر الناس على امتداد العصور. والأمثلة كثيرة على إعادة التنبير في وصفها عنصرا لفتح ذاكرة النصوص الروائية بعضها على بعض، وتأمين الحوار في ما بينها؛ ويمكن أن نشير، مثلا، إلى إعادة تنبير رواية  "دونكشوت" من لدن روائيين ومسرحيين وموسقيين وسينمائيين،تفاعلوا مع جوانب من هذه الرائعة التخييلية التي دشّنت الحداثة الروائية، فاستلهموها في صوْغ رؤيتهم وتوظيف فضاءاتها في سياق مختلف... ونفس الشيء بالنسبة لمحكيات "ألف ليلة وليلة"، ولـ "الإخوة كرامازوف" ولروايات كافكا.

ج ـ هذا الاعتبار الذي يجعل من النص التخييلي ذاكرة مفتوحة على ذاكرات القراء والمبدعين، هو ما يسمح لنا بالقول بأن الروايات (نقصد المتميز منها) تسهم إسهاما ملحوظا في نسج ملامح أساسية من "المُتخيّل الاجتماعي" لثقافة مّا. ونقصد بالمتخيل الاجتماعي، هنا، تلك "النحن" التي تتشكل وتتغذى من تفاصيل السرود والمحكيات ومن رموزية الشخوص والقيم لتجسد الهوية الجمْعية في صيرورتها وتحوّلاتها... والأمثلة كثيرة نشير إلى بعضها :"البؤساء" لهيجو، و"الأحمر والأسود" لستاندال، و"الكوميديا الإنسانية" لبلزاك، وثلاثية نجيب محفوظ، و" مائة سنة من العزلة" لغابرييل ماركيز؛ فكل واحدة من تلك الروائع الروائية تنطوي على ملامح من المتخيّل الاجتماعي الحامل لقيم وسلوكات ولغات تميّز فترة من هوية ووعي المجتمعات التي ينتمي إليها كتاب تلك الروايات.

على هذا النحو، يكون التخييل ذاكرة مفتوحة بمعنى أنه يتخطى الحدود والتصنيفات المدرسية بين الموصوف المرئي واللامرئي، بين تعاقب الأزمنة وتقسيماتها،لأنه يستهدف ـ على طريقته ـ الاقتراب من الحقيقة في تعقيداتها وتعرّجاتها، ويطمح إلى أن يجعل الأشياء والعلائق والأحداث تبدو على غير ما هي عليه، أي أنها تتخذ تجلياتٍ مغايرة للواقع القائم، "المنتهي".

وفي اعتقادي أن الانطلاق من مثل هذا التصوّر للتخييل الرافد للنص الروائي، هو ما يُشرع الأبواب أمام قراءات مفتوحة، متداخلة، مقارنة بين النصوص، سواء انتمتْ إلى نفس الثقافة واللغة أو تعددتْ في انتماءاتها الثقافية واللغوية. وأظن أن هذا المسلك في القراءة والتلقي يجد سنداً له في تاريخ الرواية الكونية، إذ أن الانغراس في التجربة المحلية أو الخاصة، لم يحُلْ دون الارتقاء إلى أفق التخييل الإنساني ذي الخصائص الكونية المتخطّية لمنطلقاتها التكوينية. أليستْ ذاكرة التخييل المفتوحة ماثلة أمامنا منذ نص جلجامش وألف ليلة ودونكشوت وصولا إلى روايات فلوبير وتولستوي والخراط ومنيف وسرتماغو ودوريس ليسينغ؟ 

أودّ أن أشير في نهاية هذا التقديم إلى أن الدراسات والمقالات التي يضمها هذا الكتاب، قد كُتبتْ خلال مناسبات مختلفة ولكن لها خيطاً رابطا  حاولتُ أن أبرزه في هذه المقدمة، لأنني منشغل منذ سنوات، بمسألة التخييل الروائي وتجلياته الشكلية المختلفة، وما يحمله أو يوحي به من متخيّل اجتماعي قد يسعفنا على إعادة تشييد حكم القيمة من منظور يُوازن بين الأبعاد الجمالية والدلالية  وما يتحدّر منها من قيم تؤشّر على المتخيّل الاجتماعي المصوغ ضمن رؤية جمالية حياتية تتيح إعادة تأويل النصوص  من زاوية تُعيد للمعنى بُعده المستقبلي.