كان غالب هلسا قامة فكرية وإبداعية شامخة، لذلك تقدم (الكلمة) هنا حوارا حوله، كما تقدم في باب نقد قراءة لروايته التي استشرفت كثيرا مما يدور.

محمد الأسعد يتذكر غالب هلسا

«ليس لنا أن ننتظر احترام حديقة جميلة وسط صحراء قاحلة»

طارق حمدان

الرواية: تلك الكلمة الواسعة التي تحمل في ثناياها أفواج كبيرة من الحجارة والناس والتاريخ والشخوص التي كانت والتي لم تكن، الرواية والراوي والمروي عنه، الحبكات الضرورية والبقاء على قيد الأمل الذي حاول الكثير تربيته ككلب مدلل، وعلى المساحة الشاسعة التي تفصل ما بين الرواية المدفوع ثمنها والرواية "المهربة" كأي شيء خطير يمكن أن تحظره السلطات.. بين المساحة الشاسعة التي تفصل مابين الرواية المهلل والمطبل لها وبين الرواية التي كانت تهرب في علب الحلوى وبطانة العربات وبطون الأمهات اللواتي اجبرن على حملها من قبل أزواجهن. على هذه المساحة الواسعة التي تفصل ما بين الروايتين يتزلج محمد الأسعد ليتذكر غالب هلسا الصديق والفنان. هو حوار عن بعض مشاهد الرحلة التي قطعها الطفل من الرحم إلى الرحم، عن صاحب (الضحك) و(الخماسين) و(السؤال) و(سلطانة)، الجوال، صديق العواصم السجانة، الذي رحل ليبقي لنا الذاكرة على قيد الحياة، في وقت يشتغل فيه الكثيرون على خلق ذاكرة جديدة عبر جوقات من كتبة التاريخ المرتزقة، وكتبة الرواية المدفوع ثمنها. "الفن وحده هو القادر على المحافظة على الأرض والتراث، أما كتب التاريخ فهي تنسى التفاصيل وتفاصيل التفاصيل، ولهذا هي عاجزة أن تكون غذاء للذاكرة. وتتطابق هذه الرؤية مع وظيفة الفن بما فيه الأدب. والأدب خاصة، يعيد لنا لحظات حياتنا، يستنقذها من العدم، ويثبتها. إن تجاربنا وتاريخنا معرضان للضياع، ولا نستعيدهما إلا عندما نضعهما في سياق الشكل، سياق تغريب التجربة وإعادة تمثلها عبر التقمص "نعم عبر (التقمص)، هذا ما أراد أن يصنعه ذاك الشيوعي الذي عاد ملفوفا إلى وطنه، ليتساءل بعدها محمد الأسعد في روايته "حدائق العاشق" مستذكرا صديقه الراحل "أيمكن أن يذوب كل هذا في العتمة والوحشة؟ لاشك أن لنا أمكنة أخرى نمضي إليها بعيدا عن الجسد الملقى على سرير مستشفى، لاشك أنه تحول إلى كائن خفي "فكرة جميلة التحول الى (كائن خفي)، فكرة تفتح أمام وجوهنا سؤالا كبيرا... هل كان مصادفة أن يخرج غالب هلسا من رحم أمه في يوم 18 ديسمبر 1932، وان يعد الليل وليمته ليعود الطفل إلى (الرحم) مرة أخرى في اليوم ذاته من العام 1989.

"تقول أنه مات وحيدا، فما أدراك بهذا؟ ألا تحيط بنا ذكرياتنا التي تحدث عنها، ألا نحيا ونستنقذ من العدم كل ما مضى ونحن نكتب بالطريقة التي كتب بها؟ أي بالتحديق في اللحظات الحية، بلا خوف ولا رياء ولا وجل، وامتلاك البراءة التي تنقذنا حتى من الشعور بالندم، أو طعنات العداء المستحكم بسكان سوق يشعرون أن عليهم أن يكفروا عن خطيئة أصلية ارتكبوها".

نترك الحديث للاسعد وذكرياته عن هلسا، ونصيحة ان نستمع الى كمنجة مجنونة كخلفية لقراءة هذا الحوار.  

* طارق حمدان: كيف يذكر محمد الأسعد غالب هلسا؟

* * محمد الأسعد: بعد بضعة أيام من لقائي به في مهرجان الثقافة الفلسطينية في "قطر" خرجنا ليلا من فندق "رمادة" وسرنا سوية في طريق ترابي لاأذكر منه سوى أنه كان يحاذي بيوتا طينية بائسة، وفجأة قطع غالب حديثنا عن المهرجان والمشاركين فيه، وقال "ألا تلاحظ أن الإنسان في القصص العربي القديم يخرج من بيته ويدور طيلة النهار باحثا عن طعام يأكله فلا يجد .. ولكنه كان يعود في نهاية المطاف إلى بيته" وشدد على كلمة "بيته"، واضاف "كان هنالك بيت دائما في انتظاره رغم أنه لايجد شيئا يأكله". وقلت منتبها إلى لقطة أدهشتني "بالفعل كان هناك بيت دائما"، وفكرت بالمسافة الشاسعة التي تفصلنا عن تلك الأيام القديمة، نحن الجائلين بلا بيت، وبهذا التوق الجارف في كلماته إلى عالم مختلف كان الحرمان فيه من البيت أمرا غير مفكر فيه، حتى وإن حرم الإنسان من لقمة العيش، أما اليوم فإنساننا محروم من البسيط والعادي، من مكان يعود إليه.

دار هذا الحديث في أوائل العام 1982، وما زالت كلمات غالب بلهجته وهو يقولها وجولتنا في تلك الليلة أبلغ من القصيدة التي حاولتُ في ما بعد أن التقط فيها هذه الالتماعة الشعرية وأحولها إلى كلمات على الورق. من الصعب أن تتذكر إنسانا مثل غالب من دون أن تشعر بأن رنين الكلمات لايصل إليه، تماما كما كان شعوره حين يتحدث أو يكتب منجذبا إلى ما هو حي، مع إحساس بأن لاشيء يعادل الحياة. في لقطة أخرى عمقت لديّ إحساسه هذا، حدثني غالب حين جاء في زيارة إلى الكويت مدعوا لحضور ندوة عن القصة القصيرة رفض منظموها السماح له بقراءة ورقة أعدها لها، عن الروائي الراحل "هاني الراهب": "أي إنسان هذا؟ تصور أنه يقرر الامتناع عن التدخين فقط ليستطيع أن يطيل عمره ويكتب رواية أو روايتين يضيفهما إلى رصيده! هل يمكن معادلة الحياة بالورق، أن تعيش لتكتب فقط؟ أي نوع من الحياة هذه؟"

وفهمتُ هنا كم هو متلازم في ذهنه أمر الكتابة والحياة معا. كان يكتب ليحيا وليس العكس، ولو لم تكن الكتابة تمده بالرغبة في الحياة، والمزيد منها لتركها منذ زمن طويل. هي لم تكن تعويضا. وحين أفكر الآن بهذه الروح التجريبية التي طبعت بطوابعها رواياته، أتذكر أنها لم تكن مسألة تقنية، بقدر ما كانت مسألة انفتاح على الممكنات بعيدا عن التزام أي قالب مهما كان، تماما كما هي الحياة ذاتها؛ الحياة منظورا إليها كتجربة وليس عبر نص من النصوص. وسأجد هذا النهج الذي يوصف بالعفوية والتلقائية يتسرب إلى نظرته إلى الممارسة السياسية والفكرية والنقدية، وفي الموازنة بين هذه الممارسات و"الفن"، فالفن كما عبر مرة، حين تحاول السياسة وحين تحاول المعادلات الذهنية عصره، يفقد مقوما أساسيا من مقوماته، مقوم الكلية. الفن الوسيلة الكبرى للمعرفة الإنسانية، أما السياسة فشيء عارض (1980).

من يقرأ غالب يعتقد أنه غارق في السياسة، ولكن من يعرفه يكتشف أن لهذا المصطلح مفهوما آخر لديه؛ إنه فن كيفية الحياة ومعناها، أو العيش فيما وراء الألعاب الذهنية والمطلقات. وأكثر ما كان يثير استغرابه مثلا في أعمال فلسطينية كثيرة كون أبطالها وشخصياتها تنبع من فراغ، أي من غير الملموس، وتمارس بطولة مطلقة. ربما لهذا السبب، وبعد أن قرأ مخطوطة روايتي "أطفال الندى" كتب إلي يقول أنه بصدد كتابة " نص مواز " لها، وبالفعل ظهر نصه هذا في مجلة " الكاتب الفلسطيني " التي كانت تصدر في دمشق قبل وفاته ببضعة أشهر، وفي نصه ذاك وجدته يتذكر من جانبه شظايا منسية من ماضيه بشخوصه وأماكنه ولحظاته الحميمة، وفاجأني فيه قوله عن أطفال الندى أنها "رواية ذات فرادة في لغتنا العربية لأن موضوعها الذاكرة الفلسطينية فقط، وتكشف محتوياتها وتقنياتها ما يميز الفلسطيني ويحدد هويته، وهي تفعل هذا على نحو مميز". واكتشف الآن حين أعيد قراءة هذا المقال. كم كان حدسي صادقا حين استمعت إليه على شاطئ قطر يحدثني عن البيت الضروري الذي لم يكن إنساننا محروما منه حتى حين لم يكن يجد قوت يومه، ويتناول هذه الشظية من ذاكرة الماضي بحنان ويتأمل المفارقة باهتمام بالغ. هنا أجد التلاحم الكامل الذي ميز تجربة غالب، في هذه الكلمات البسيطة التي كتبها متحدثا عن تجربة "أطفال الندى": "لن يستطيع الفلسطيني أن يحتفظ بذاكرته إلا إذا تحولت إلى "قصة"، الفن وحده هو القادر على المحافظة على الأرض والتراث، أما كتب التاريخ فهي تنسى التفاصيل وتفاصيل التفاصيل، ولهذا هي عاجزة أن تكون غذاء للذاكرة. وتتطابق هذه الرؤية مع وظيفة الفن بما فيه الأدب. والأدب خاصة، يعيد لنا لحظات حياتنا، يستنقذها من العدم، ويثبتها. إن تجاربنا وتاريخنا معرضان للضياع، ولا نستعيدهما إلا عندما نضعهما في سياق الشكل، سياق تغريب التجربة وإعادة تمثلها عبر التقمص".  

* طارق حمدان: مات هلسا وحيدا في منزل بارد بدمشق، هل كان يتوقع هذه النهاية؟

** محمد الأسعد: عن التوقع لاأعرف شيئا، ولا أظن أن شيئا محددا يدور في ذهن إنسان أسلم نفسه بهذه المحبة للأمكنة العربية، كان غالب محبا، بل وعاشقا لوطن يمتد ويتسع باتساع متطلبات موقف إنساني ملح، اعني متطلبات القتال من أجل الحرية والعدالة التي لم تكن غريبة عليه في أي مكان حل فيه، سواء تطلبها مكان مثل القاهرة أو بغداد أو بيروت أو دمشق، لم يكن للمكان سيطرة عليه. وتشعر أنه، انطلاقا من فكرته عن المصير الفردي/ الجماعي الذي محور حياته الأدبية والسياسية حوله، كان جوالا في الزمن، معنيا بمراقبة ما حوله باستغراق كامل. صحيح أنه كان شبه مغترب كما قال كثيرون، ووحيد، ولكن هل يمكن أن يكون مغتربا ووحيدا من كانت عزلته مضيئة إلى هذه الدرجة؟ ظن البعض أن روحه النقدية العالية وسخريته الفكهة تعبيرعن هذه الغربة والوحدة والقلق، ولكنني أعتقد أن من يعيش لحظات الاستشراف التي عاشها غالب، ربما سيسخر من هذا المفهوم الساذج للوحدة والغربة.

تقول إنه مات وحيدا، فما أدراك بهذا؟ ألا تحيط بنا ذكرياتنا التي تحدث عنها، ألا نحيا ونستنقذ من العدم كل ما مضى ونحن نكتب بالطريقة التي كتب بها؟ أي بالتحديق في اللحظات الحية، بلا خوف ولا رياء ولا وجل، وامتلاك البراءة التي تنقذنا حتى من الشعور بالندم، أو طعنات العداء المستحكم بسكان سوق يشعرون أن عليهم أن يكفروا عن خطيئة أصلية ارتكبوها. البراءة التي كتب بها غالب، وهذا اعتقادي، لاتجعله جزءا من عالم السقوط والخوف والفزع الذي ينتاب من يتعاملون مع الحياة والأدب تعامل السماسرة الذين يموتون كل يوم مئات المرات مرتعبين من خسارة قد تلم بهم؛ قصيدة لاتجد مهرجانا أو رواية تتوهج وتنطفئ حين تنصرف عنها أبواق المعلنين، أو شخصية تنكشف عن أكذوبة. صحيح أن غالب حدثني عن قلق ينتابه في بيته الدمشقي، عن إحساسه بأن شيئا غريبا يلم به، ربما للحظات أو ربما لأشياء لايبوح بها، ولكن صورته في ذلك البيت، ثم وفاته على سرير مستشفى، ظلت حتى هذه اللحظة حدثا لاأصدق أن التراب يمكن أن يكون احتواه. ربما تحت هذا الهاجس كتبتُ أتذكره في روايتي "حدائق العاشق": "أيمكن أن يذوب كل هذا في العتمة والوحشة؟ لاشك أن لنا أمكنة أخرى نمضي إليها بعيدا عن الجسد الملقى على سرير مستشفى، لاشك أنه تحول إلى كائن خفي".  

* طارق حمدان: كيف كان شكل العواصم العربية في ذهن غالب هلسا؟ وكيف كان ينظر إليها وهو الذي ذاق مرارة الاعتقال والتعذيب في سجونها، بالإضافة إلى عذابات النفي والإبعاد المتكررة بدءا بوطنه الأردن فالعراق وبيروت وسوريا ومصر؟

** محمد الأسعد: ربما أكون أجبت على هذا التساؤل حين لمحت إلى خروجه على المكان، على كل حيز يشدنا إلى هوية ضيقة. لغالب عاصمته المحصنة في أعماقه. ربما لهذا السبب لم تكن العواصم العربية في ذهنه أفكارا بقدر ما كانت أناسا يعايشهم ويراقبهم من نافذته أو باب بيته العابر. اللافت للنظر أنه لم يكن يكثر الحديث عن اعتقاله متفجعا بقدر ما كان يروي قصصا طريفة، قصة التجمع الذي حركه في العام 1976 في القاهرة ضد نظام السادات ثم إبعاده بملابس النوم، قصة جولاته في بغداد وقد بدأ يخيم عليها شبح الاستبداد، ويخنق فيها كل نبضة حيوية. كان يحتفظ برؤية تذكر برؤية ناجي العلي لمسرح المسوخ القائم في الساحة الفلسطينية، رؤية ساخرة تعلو بالألم إلى مرتبة تمنعه من أن يحجر ملامحنا، ويحولنا إلى تماثيل باكية تتقافز حولها القردة. وحين تحصنك الرؤية الساخرة، لاتستطيع قوقعة هذه العاصمة أو تلك امتلاك سلطة عليك. ومع ذلك كان في براءة غالب شيء معذب يشعر به محدثه بينما يبدو غالب نائيا عنه. هكذا هو الفن أيضا حين يتحول إلى أسلوب حياة، وأظن أن غالب كان يعيش أسطورة خاصة به، حفظت له نوعا من الترفع حتى على ابسط الحاجيات، أعني أنها أسطورة مهما اختلفنا في تسميتها، حفظت له قدرا من الحرية يفتقده المثقفون المنغمرون في مطامعهم ومخاوفهم. قد تكون هذه أسطورة المناضل الأممي، أو الفنان الخالق، أو الجوال الذي ينتمي إلى الكل، ويجد كرامته في هذا الانتماء لا في الركون إلى حيز حزب أو ظل منظمة أو جماعة أو دولة. كان غالب حرا يعي أنه حر بالفعل، ويعي لماذا وكيف حقق حريته، من دون اللجوء إلى النظريات؛ كان حرا في فكره وانتمائه بمجرد تخليه عن المطامع الصغيرة التي تستعبد المثقفين عادة، وقد تصل بهم إلى الانحدار إلى مستوى قضاء أيامهم في مراقبة أرصدتهم في المصارف، والتباهي بعدد المهرجانات الباذخة التي فتحت لهم أبوابها. هل يمكن لأي عاصمة أن تسلب إنسانا من هذا النوع أثمن مافيه، أعني كرامته؟  

* طارق حمدان: عاش هلسا بعيدا منفيا عن وطنه الأردن، هل كان يبوح لأصدقائه بمشاعره تجاه بلده وأناسه؟

** محمد الأسعد: في وضعية غالب التي وصفتها لم يكن للمنفى معنى، هذه كلمة تجردت من معانيها لديه، كانت لديه خريطته، وحين يتحدث عن الأردن مثلا، يؤشر فيها على أماكن غير موجودة على الخريطة المعروفة، كانت له "أردنه" الأخرى التي لايتطرق إليها الخراب الماثل؛ الناس الذين أحبهم وعايشهم في سنوات الطفولة والدراسة والحياة الحزبية، والذين يجتهد لاستنقاذهم من العدم. هي أردن أخرى، لا تبدو علامات الحاضر عليها إلا أطيافا أو أشباحا عابرة. اعتقد من بضع كلمات تحضرني، أنه كان يرى في الأردن سجنا تخلص منه، وما عاد يطيق التفكير لحظة واحدة أنه يمكن أن يعود إليه. لقد تكون غالب ثقافيا خارج طرقات وتلال عمان الصخرية، فهناك في القاهرة نشأ حقا، وما كان للأمر إلا أن يكون على هذا النحو. وكم يبدو لي مضحكا الآن هذا التنازع الذي حل بأوساط الكتاب حول هوية أدب غالب؛ هل يمكن اعتبار أدبه أردنيا؟ هل هو أدب مصري؟ هل هو أدب عربي؟. هذا نزاع طريف لامعنى له. يذكرني بنزاع حدث في البحرين حول هوية الشاعر طرفة بن العبد، هل هو بحريني أم عراقي أم نجدي؟ ألا يدرك هؤلاء السذج أن الثقافة ذاتها، أعني الثقافة العربية، هي وطن المثقف العربي سواء عاش في جبال عسير الوعرة، أو بين أروقة مدرسة بن يوسف في المغرب، أو تسلق أشجار المشمش طفلا في غوطة دمشق؟ الوطن بمفهومه الضيق لايتسع للفنان الذي شعر أن الروائي الأمريكي "سالنجر" مواطنه، وإن "باشلار" الفرنسي يمكن أن يكون محاوره، بالقدر نفسه الذي يمكن أن يكون فيه "النظام" المعتزلي من أقربائه. وأضيف شيئا آخر، وهو أن فنانا، كان أقل احتفاء بنفسه مثل غالب، ماكان له إلا أن ينظر حوله لا أن يقضي عمره محدقا في حفرة صغيرة تجمعت فيها مياه أمطار عابرة.  

* طارق حمدان: هل ما زال على المثقف الحقيقي أن يعيش حياته غريبا مخنوقا في عزلته، أم أن الوضع تغير في القرن الواحد والعشرين عما كان عليه في نصف القرن الماضي؟

** محمد الأسعد: لا أحد يستطيع خنق الفنان في أي عزلة من أي نوع إلا مطامعه الشخصية. إذا كنت تعني إبعاده عن دور النشر وسوق الكتاب والمهرجانات، فهذا الإبعاد عزل للقارئ العربي عن مثقفيه، وليس العكس. ألا تلاحظ أن جهود أجهزة الرقابة تنصب على إبعادنا عن القارئ والجمهور، أو تشويه صورتنا لديه بكل ما تيسر من وسائل؟ ألا تلاحظ أن جوقات تنشأ وتروج لأسماء وأعمال ومسميات هي أشباه ثقافية وأشباه شعرية وروائية ونقدية؟ عزلة الفنان عن هكذا وضعية ضرورية ليستطيع أن يرى بصفاء، ولا للأضواء، لمطامح الصغيرة مثل الأطلال على الناس عبر نافذة الصحافة والشاشة الفضائية أو منصة المهرجانات، أو الفوز بجائزة تكريم على يد موظف بطين هو آخر من يحكم في مسائل الثقافة والفن. للفنان الحقيقي الذي يعزلون خاصية مهمة يجهلها الراكضون تحت الأضواء، وهي أنه من الذين يجيئون من المستقبل دائما، مهما تكاثفت سحب الظلام، وضجت أبواق الفرحين بحضور زائل. وفي وقت تتكاثر فيه الخيانات على كل المستويات السياسية والفكرية والاقتصادية، كيف لفنان حقيقي أن يؤمن بجدية هذه الحفلات القائمة؟ وكيف له أن يبحث عن مكانة في هذه الحفلة، أو ينتظر من أحد اللبطين أن يمنحه المكانة التي يستحقها؟ ما زالت وضعية القرن العشرين، ووضعية كل قرن آخر قائمة؛ السبب بسيط، وهو أن إيقاع الانحطاط الشائع كليّ الحضور، مثلما أن إيقاع النهوض الغائب كلي الحضور. وليس لنا أن ننتظر احترام حديقة جميلة وسط صحراء قاحلة، ولا مختبر علمي وسط مئات من أسواق الشعوذة والدجل. لم يحدثني غالب عن المستقبل، ليس لأنه لم يفكر فيه، بل لأنه، وهذا اغلب ظني، كان يراهن عليه، مثلما راهن على وفائه لمقتضيات فنه. كن فنانا حيا ملء الحياة أولا، أما الأشياء الأخرى فستأتي فيما بعد.  

* طارق حمدان: بماذا كان سيحدثك لو أنه لايزال حيا وأنت تجلس بصحبته الآن ( في العام 2007) في مقهى في بيروت أو القاهرة أو بغداد؟

** محمد الأسعد: لاأشك أنه سيواصل حديثه عن ذلك المثقف الأعجوبة الذي وصفه في مقال مهم له تحت عنوان "مثقف منظمة التحريرالفلسطينية" في العام 1989، حين كان يشاهد من نافذته هذا النمط من المثقف الخانع المطيع الذي أسلم قياده لسمسار سياسي، وبدأ يعمل وسيطا بينه وبين فقراء المخيمات فرحا بمكاسب ضئيلة. وسيجد في هذا النمط الذي تحول إلى قطيع من الكذبة محتشد على بوابات صاحب العطاء، وحامل تذاكر السفر، ومقاول بناء المستعمرات الصهيونية في رام الله، دليلا على صدق رؤياه المبكرة لهذا الانحطاط الاخلاقي والفكري في الثقافة الفلسطينية. ولا أشك أن رؤيته لمصير الفن والفنان سيكون مدار حديثنا، وسيضع أمامي رواية (سلطانة) ليقول لي كم هو ثمين منجم الذاكرة الذي شقت عرقا فيه "أطفال الندى"، وليأخذ بعد ذلك بإجراء مقارنات بين عدة آداب اعتنت بالبسيط والملموس ولم يضعفها ظل السياسي الثقيل ويدفعها إلى الغرق في المطلقات. هناك أشياء كثيرة ستكون مدار حديثنا، لأنني أصدر مثلما يصدر غالب عن التجربة لا الكلام، والسنوات الماضية، وكل السنوات في الحقيقة، تحمل للمنهمكين في هذا الاتجاه وعودا بالتجدد والاكتشاف. منذ لقائنا الأول في ذلك المهرجان، وكنا مع مجموعة من المدعوين إليه في غرفة تضج بالمجادلات والدخان والشراب في الهزيع الأخير من الليل، وجدته يخاطبني على غير انتظار: "لديك قدرة مذهلة على السهر!"

لم يكن لهذه العبارة أدنى علاقة بما يدور من نقاش، بل كان لها كما بدا لي علاقة بشيء آخر، بإنسان يحاول إقامة علاقة مع إنسان. وبدا لي أول ملمح من ملامح هذا الكاتب؛ إنه قليل الاهتمام بالجدل، وأكثر عناية بالتعرف على البشر من حوله. قبل ذلك كنت قرأت روايته (الضحك) و(الخماسين) وقصصه القصيرة (زنوج وبدو وفلاحون)، إلا أنني لم اكتشفه حقا إلا في تلك الليلة. لهذا السبب، وربما السبب الوحيد، سيحمل حديثنا في العام 2007 اكتشافات جديدة نتبادلها. لاأعتقد أن علاقة إنسانية من هذا النوع ستتوقف أو تضمحل، لأننا لم نعد نجد شيئا نقوله. كل شيء حولنا يدعوا إلى التأمل، والمفارقات لاتنتهي، وكذلك الرغبة بالاحاطة بأكبر قدر من العصور تسمح به أعمارنا البشرية. حين أفكر كما فكر غالب بالعدد الهائل من التجارب الإنسانية التي علينا اكتسابها، أجد أن الموت، لا الغفلة وحدها، يغتصب منا فرصة مد أعمارنا لتصبح بطول تجربة الكون كله.  

* طارق حمدان: لم يكن اسم غالب هلسا يذكر، ومعظم الأردنيين لم يسمع باسمه نتيجة التغييب والتعتيم الذي مارسته الجهات الرسمية على امتداد عقود، وكانت مفاجأة من النوع الثقيل عندما منح أخيرا جائزة الدولة التقديرية. برأيك، لماذا تحتاج الحكومات العربية عادة إلى عشرات السنين حتى تعترف بمثقفيها وفنانيها؟

** محمد الأسعد: حين يتحول المثقف أو الفنان إلى طقس مشروط بغياب مضاعف له أو تغييب، يمكن التسامح معه، بل يمكن استثماره أيضا لإشاعة قيم مضادة لكل ما ناضل من أجله. الاحتفاء بالذاهبين في وقت ما يزال الأفق الذي حاولوا فتحه مغلقا، وما تزال القيم التي استهلكوا أعمارهم في الدفاع عنها تتعرض للتشويه، هو ما أعنيه بالطقس المشروط؛ أولا بتغييب صورته الحقيقية، ووضع صورة تمثيلية مكانها، وثانيا بطمس المعنى الحقيقي لأدبه وفنه (السجان ذاته يحتفي بلوحات السجناء)، وثالثا بتحويله إلى مرفق سياحة ثقافية مربحة لدار نشر أو لناقد جبان لم يكن يجرؤ على ذكر اسمه إبان حياته، أو لمجموعة تهرع إلى الدخول من كل بوابة تفتحها الأنظمة الرسمية. لا أحد في وضعية الانحطاط العربي الراهن يعترف بالمثقف أو الفنان، وهل نسمي هذه الأقفاص والحظائر اعترافاً؟ إنهم يعترفون له بمكانة أدنى من مكانة موسيقار القرن السابع عشر الأوروبي الذي كان يحي حفلات الأمراء المبتذلة، ولكنه يتناول طعامه مع الخدم، ويأوي إلى حظيرة أغنام حين تنتهي السهرة. أما لو سألتني عن هذه الجائزة التقديرية، لقلت لك أن غالب ما كان سيقبلها، وسيحتج مثل أي فنان حقيقي بالقول أن الدولة، وأي دولة، ليست مؤهلة للحكم في مسائل الفن والأدب، بالإضافة إلى أنه لن يكون سعيدا باحتفال يقام باسمه في قاعة لاتبعد كثيرا عن مبنى يرفرف عليه علم واقع استعماري اسمه إسرائيل. وأسمح لنفسي بقول هذا لأنني أعرف كيف ينظر غالب إلى هؤلاء الذي ينظرون إلى القضية الفلسطينية من منظور مصالحهم ومطامحهم الشخصية، سواء كانوا موظفين أو مثقفين أو فنانين لم يجيدوا بعد فن الحياة، بقدر ما أجادوا منح أرواحهم للسماسرة والطغاة.  

* طارق حمدان: برأيك ماهي الأسباب الحقيقية التي دفعت معظم السلطات العربية إلى التصدي له وتغييبه؟

** محمد الأسعد: الأمر الذي حاول إخفاءه معظم الذين احتفوا بغالب العائد محمولا على الأكتاف في تابوت هو ذاته ما دفع، وسيظل يدفع، هذه السلطات إلى التصدي له وتغييبه في حياته، وطمسه بعد موته وتوزيعه في مطبوعات ومنشورات مفيدة لأصحابها؛ إنه ماركسيته، أو لنقل وعيه المميز بمحركات الصراع في البلدان العربية. أنت تعرف أن هذا الوعي لم تطقه السلطات العربية يوما، حتى تلك التي هادنته في فترة زمنية محدودة، ولم يطقه سدنة تقافة تقليدية يتعيشون على وظائفهم كوعاظ للمستبدين بالبلاد والعباد. لم يدهشني غالب حين ذكّر حضور محاضرة له في العام 1982 أنه رجل مؤمن بالماركسية كأداة تحليل ووعي ومقاومة، فقد ذكر هذا كمن يذكر ببساطة اسمه وسنوات عمره وعنوانه، لا ليدفع عن نفسه تهمة، بل ليقول ما يؤمن به فقط. وفي سنوات الأربعينيات والخمسينيات والستينات وحتى وقت قريب كانت الماركسية جريمة يذبح الإنسان من أجلها، هذا قبل أن يتحطم الاتحاد السوفياتي ويلجأ "ماركسيون" عرب ـ هنا وهناك ـ إلى حمى مؤسسات المخابرات الأمريكية الخيرية، حتى أصبحت عبارة شيوعي سابق شهادة حسن سلوك، تؤهل صاحبها لامتلاك مؤسسة تغدق عليها الملايين. ما أود قوله هو أن غالب عاش في سنوات كانت فيها وشاية من "مثقف" أو استشارة من "مستشار" كافية لتضع غالب وأمثاله على القائمة السوداء. ولا اعتقد أنه كان سيغادر هذه القائمة لو ظل حيا، لأن الماركسية لديه لم تكن عربة وصول إلى مرعى خاص به، فإن توقفت أو بدا أنها بطيئة أكثر ما ينبغي امتطى غيرها كما يفعل الآن قوميون وإسلاميون، بل كانت أسلوب فكر وحياة ذا معنى ودلالة على شخصية إنسانية تحدد ماهيتها أمام نفسها، قبل أن تحددها أمام الناس. فماذا يكون الفنان إذا كسب عالم البزنس والمخابرات النشطة في تجنيد المثقفين وأشباه المثقفين وخسر نفسه؟ 

* طارق حمدان: إلى الآن لم يأخذ غالب هلسا الروائي والمفكر الكبير حقه، حسب رأي الكثير من المهتمين، فلا نجد دراسات تهتم بأعماله، وسيرته تكاد تكون شفوية، فإلى الآن لم يتم التصدي لكتابتها، بالإضافة إلى أنه لايكاد يذكر في المناهج الدراسية والجامعية المتعلقة بالأدب، وخصوصا في وطنه الأردن؟

** محمد الأسعد: لا أعتقد أن هذا السؤال ملائم لوضعية كاتب مثل غالب. قد يكون ملائما لأي شخص من الشائعين في مكاتب وشوارع ومقاهي المدن العربية، فهؤلاء يبحثون عن "حقوق" لهم وما إلى ذلك، ولكن غالب لم يكن يسعى إلى حق له، بل كان يشغله حق الناس في المعرفة والقراءة. قال ذات يوم: "أليس عجيبا أن لايجد الكاتب العربي نسبة 2% من القراء في هذا الوطن الشاسع، يتحرر بهم ويتحررون به من سطوة الأنظمة الرسمية، أي ما يعادل 6 ملايين قارئ فقط؟" كان مندهشا من هذه الواقعة غير المعقولة، لأنه متأكد أن هذه النسبة الضئيلة موجودة في مكان ما، ولكن دونها سدود وحواجز.

السؤال الملائم هو: لماذا يحرم القارئ العربي من الوصول إلى كاتب؟ لماذا يحرم التلميذ من معرفة أدبائه وفنانيه؟ ولماذا تحتشد المناهج الدراسية والجامعية بالهياكل العظمية وتخلو من الأحياء؟ ولماذا تنصرف الدراسات والإعلام إلى السهل والمربح والمضمون والآمن؟ حين نقلب السؤال بهذه الطريقة نكون أقرب إلى معرفة محفزات وكوارث ثقافة مكرسة لتكريس الموات، وتكرار الرأي الواحد والنظرة الواحدة حتى منقطع النفس. لايستطيع أي قارئ أو تلميذ أو دارس الوصول إلى غالب وأمثاله إلا في مناخ ثقافة ديموقراطية، ثقافة لايأبى فيها القومي الاتجاه تناول ودراسة وتدريس غالب لأنه "ماركسي" ينتقد مفهوم الأمة الهلامي ويشدد على واقع الانقسام الطبقي الذي تخفيه وتضلل بشأنه الطبقات المسيطرة، ولا يأبى فيه الإسلامي الاتجاه تقديم غالب إلى تلاميذه بحجة أنه ملحد وشيوعي. من دون الوصول إلى هكذا ثقافة متسامحة لاتخشى النقد، ولا تتنكرلمبدعيها بهذه الحجة أوتلك، سيظل غالب غائبا، ليس على صعيد الأجهزة الرسمية فقط بل وعلى صعيد المؤسسات الأهلية والصحافة، أي سيظل غائبا في وسط تنتجه وتعيد انتاجه ثقافة الرأي الواحد والسلطة الواحدة والمصرف الواحد وقوة القمع الواحدة.