في زمنِ التّغير المستمر، والتّسارع الكبير في إيقاعات التّكنولوجيا، والتّشابك المعقد في وسائط الإعلام والإتصال، يجدُ الإعلامُ الثّقافي نفسه في مواجهةٍ مع تحدياتٍ عديدةٍ تفرضُ عليه إعادةَ ترتيبِ أولوياته، وكذلك إعادة صياغة أدواته، وذلك لتحقيقِ أهدافه الآنية ورهاناته المستقبلية. فالمشهد الثّقافي لم يعد حكراً على النُّخب أولاً، ولا حبيس المنابر الورقية أو البرامج التّلفزيونية الكلاسيكية ثانيًا، بل أصبح يتسرّب أو يتفتّت أحياناً داخل الفضاءات العمومية الافتراضية، على مستوى منصات التواصل الاجتماعي، وتطبيقات البث، والفيديوهات القصيرة، والبودكاست، والذكاء الاصطناعي التفاعلي؛ متجاوزًا الجماهيرية إلى التّفاعلية، والأحادية إلى التّعددية.
إن واقعَ الإعلام الثّقافي اليوم، يجعلنا أمام ما يمكن أن نصفه بـ "فجوة الرؤية وضعف التّخصص"، نقول ذلك بكلّ حذرٍ مدركين وجود بعض المبادرات الإيجابية التي يجبُ تثمينها، ولكن بصفةٍ عامة لا يزال الإعلام الثّقافي يعاني من التّهميش، سواء من حيث المساحة الزمنية المخصّصة له في وسائل الإعلام الجماهيرية، أو من حيث الكفاءات التي تتولى إنتاجه. فالكثير من البرامج والملاحق الثّقافية يتم التّعامل معها كزينةٍ شكلية، لا كرافعةٍ استراتيجية لبناء وعيٍ جماعي أو حفظ الذّاكرة الهوياتية والحضارية. كما أن الخطاب الثّقافي نفسه يعاني في أحيانٍ كثيرةٍ من النّمطية، والنّخبوية، أو الانغلاق على مفاهيم تقليدية لا تراعي تحولات "الذّائقة الثّقافية" لدى فئات واسعة من المجتمع، خصوصاً الشباب من الأجيال الجديدة.
وبالحديث عن الوسائط الجديدة للإعلام والاتّصال، يمكن القول بأنها تتيح فرصاً غير مسبوقة لتحريرِ الثّقافة من أسر البيروقراطية الإعلامية؛ ذلك أنه وبفضل المنصات الرقمية مثلاً، صار بإمكان الثقافة أن تُنتج وتُستهلك بشكلٍ أكثر مرونة، وأن تصل إلى جمهور عابر للحدود الجغرافية واللغوية. غير أن هذه الإمكانيات لا تتحقق بشكلٍ تلقائي، بل تحتاج إلى وعيٍ إعلامي قادر على استثمار هذه الوسائط لصناعة محتوى ثقافي جذاب، وتفاعلي، ومبني على السّردية البصرية والرمزية، مع احترام المعايير المهنية والقيم الحضارية والخصوصيات الثقافية، وهذا مهم أيضًا.
كذلك، يمكن للإعلامِ الثّقافي عبر وسائط النّيوميديا التفاعلية، أن يتحوّل من مجرد ناقلٍ للمعلومة إلى فاعلٍ في صياغة النقاش العمومي، ووسيط في صناعة الذّوق العام، ومحفّز على التفكير النّقدي. ولأجل ذلك، يجب دمج الثقافة في قلب السياسات الإعلامية، وتكوين جيل جديد من الصحفيين الثقافيين الملمين بأدوات السرد الرقمي والقراءة المتقاطعة للخطابات.
ولعل من أهم التحديات التي تواجه الإعلام الثقافي راهنًا، ما يُسمى بـ "هيمنة التّرفيه وسطوة الخوارزميات"، ذلك أن البيئة الرقمية غالبًا ما يتعرض فيها الخطاب الثقافي إلى تهميش أمام المحتوى التّرفيهي سريع الاستهلاك، والذي تروّج له خوارزميات المنصات العملاقة لما يُدره من أرباح مادية واقتصادية. كما أن سطوة الرأي السريع وفقاعة التريندات تُضعف فرص الترويج لمحتوى يتطلب وقتًا للتأمل والفهم مع قدرٍ من الانتباه، يضاف إلى ذلك خطر التّزييف المعلوماتي، والأخبار الزائفة، والمحتوى المعاد إنتاجه بدون مرجعية معرفية رصينة ومنظمة.
إجمالاً، صار لزامًا اليوم إعادة الاعتبار للإعلام الثقافي، لا كقطاع هامشي أو ثانوي، بل كعنصر جوهري في معركة الوعي والمواطنة والأمن الفكري. لقد أصبح من الضروري فهم واستيعاب أن الثقافة ليست ترفًا، بل هي درع المجتمع، ومرآته، ومحركه للنماء في مختلف المجالات الأخرى.
أكاديمي في إقتصاديات الإعلام وناقد ثقافي.
benazzakhalil@outlook.fr