تأخذنا القصة، بقدرة الفن التنويمية الخلاقة، إلى أيرلندا وإلى أحد شوارعها الموّارة بالحركة التي تطرح الكلمة الأولى في العنوان تناقضاتها معها. كي تدفع القارئ – كقصص كاتبها التي بلورت بصمتها وبنيتها الخاصة – إلى التفكير والاهتمام بدلالات التفاصيل الصغيرة اهتمام الكاتب بحشدها بالدلالات.

انتجاعٌ في شارع جرافتون

عاطف سليمان

 

في شهر مايو أسكَرَني الضُّحى الآيرلندي وقد كان ينقلِبُ إلى آياتٍ، وما الزّخّاتُ البنفسجيّة الدافئة البهيجة التي بلّلَت رِحابَ شارع جرافتون بوسط دَبلن، اليومَ، غيرُ إشهاد.

حَلَلْتُ بالفردوسِ، واستيقنتُ من شِعابِها ومراميها، ورُحتُ أتمشّى قاصِداً بار أو'نيل لأجل موافاةِ موعدٍ، وقد فتحتُ مظلّةً صغيرة أُدخِّن في حِماها سيجارتي التي لم أكد أنتهي منها وأكتمُ عُقبَها في مطفأة الرصيف حتى بَرَزَ لي شخصٌ رافعاً ذراعيْه بمبالغةٍ لم يُبالِ بإخلائها من فجاجتها، وزاعِقاً في وجهي:

  • أُحييكَ! إنك أجنبيٌّ لا ريب، فأهلُ المدينة، أعرفهم، يرمون فضلاتِهم أرضاً.

اشمأززتُ من افتعالِه حيث إنّ من غير العسير تمييزي كأجنبي غير أوربي، وكذلك فإني لم أرَ من أهلِ المدينة ما يتهمهم به هذا المتعارِك الذي عاجَلَ ثانيةً:

  • حتى بعضُ الأجانب يُسيئون السلوكَ أيضاً، لكن من أيِّ بلادٍ أنت، سيدي؟

أعياني زعيقُه الصبياني الزّنّانُ النافِرُ مع الشارع وضبابِه وفردوسِه فقرّرتُ ألّا أجيبَه، لكنه واصلَ:

  • أشكرك على تجاهُلي!

فقلتُ كيما أتخلّص:

  • من مصر.

المحتالون يعرفون أن الإطراء، الكاذب، ليس بلا تأثير، وأن معظم ضحاياهم يكتشفون ألاعيبَهم مبكراً، ومع ذلك يتغاضون عن التواطؤ معهم لئلّا يخسروا التَّقدِماتِ والمدائح الـمُجهَّزة بمهارة.

  • آه. أنت رجلٌ عظيم. لكن خبِّرني كيف بُنيَت تلك الأهرامات العجيبة! أنتم لا شك تعرفون ذلك أفضل من كل القمامات التي تتبجّح بتدبيج تفسيراتها الغبيّة لأسرار البناء.

زهدتُّ في أن أقول إني لا أعرفُ أسرارَ بنائها، وإني أريد اللحاقَ بموعد. تجاهلتُه، فأردفَ:

  • لا تظنّني مُتلاعِباً؛ فأنا معماريّ؛ صمَّمتُ، بل قُلْ إني بَنَيتُ، في مصر أحدَ أفخم فنادق وسط العاصمة.

تُرى أيمكن لمتجوِّلٍ بين عمائرَ وبناياتٍ أن يستنبئ، من مرآها، عن سجايا مُصمّميها؟ أيمكن استكناهُ بعضَ خِصالِ أو نوازِع البُناةِ بحُسبانِ ما شيَّدوه؟ اقتربَ مهندسُ الفنادق هذا، كأنه سيقول شيئاً بصوت خفيض، واختطفَ النظّارة من وجهي وهرولَ مبتعداً، فطويتُ مظلّتي واقتفيتُه حتى رأيته يجلس على مقعدٍ خارج مقهى بشارعٍ فرعيٍّ وهو يرفع يَدَه ويمدُّها بالنظّارة مستسلِماً مسترحِماً، في تصنُّع. سألني أن أدعوه على كوب من البيرة السوداء، فوافقتُ بلا سبب، ربما لأستريح هوناً بعد مجهود الهرولة، وربما من باب الفضول للتلصُّص على الشخص الغريب، خاصةً أن وقتي كان مبكراً ما يزال بنصف ساعة عن حلول ميقات موعدي في بار أو'نيل عند المنعطف القريب. دخلتُ المقهى وطلبتُ كوبيْ البيرة وحملتهما خارجاً بهما. نادلُ الصالة لمحَ الشخصَ الغريبَ فعرفه حتماً ورأى وِجهَتي بالكوبيْن فقرّرَ التدخُّلَ، وقبل أن أصِلَ إلى طاولتنا خارج المقهى لَحقَني وانتزعَ الكوبيْن من يديَّ؛ حِمايةً. استخلصهما بسرعة دون أن يُريق قطرةً، وهو يصيحُ ويتخاشن في وجه الغريب ويَهُمُّ بمناقرتِه وطرْدِه.

مثلَ كلبٍ في مناورة تراجعَ الغريبُ متريْن، ولَقيتُ أنّ لحظةً قد تهيّأَت لي حتى أتملّك الموقفَ، فأشرتُ إلى النادل باستحساني لمروءتِه وتقديري لفعلتِه وبكوْني لستُ أمانع في استضافة ذلك الشخص طواعيةً لعشر دقائق بعدما صِرتُ أدركُ ماهيتَه، فأومأَ النادلُ بأماراتِ العبوس نادماً على مساعدته لي ودخلَ الصالةَ حانِقاً، وعاد الغريبُ مُتشامِخاً ودَلَقَ كوبَ البيرة الكبير في معدته قبل أن يعاود الجلوسَ، ثم نظرَ في وجهي بنفورٍ وسُخط، وقامَ وغادرَ وهو ينفُث.

توقّف المطرُ تارِكاً الهواءَ بَليلاً فمضيتُ ولحقتُ موعدي في بار أو'نيل الفسيح بنسماتِه العتيقة المكنونة المعبّقة بشذى البندق والمكسّرات التي أحبّت رُقيةُ أن تتذكّرها وتصِفَها لي مثلما اعتادتها واكتنزتْها إبّان سنوات دراستها بجامعة ترنتي، ووجدتُ الطاولةَ التي تعجبني خاليةً فقصدتُّها وجلستُ منعزلاً لأهدأَ وأَفرَغَ وأتهيّأَ لاستقبال ولقاءِ طيفِ رُقيَّة.

في القاهرة، قُبيل مجيئي، انعقدَ ميثاقٌ تلقائيٌّ بين رُقيّة وبيني على المؤانسة بالأطياف عند العاشرة من صباح كل أربعاء؛ هي تلتقي طيفي بأماكننا المعتادة؛ في لاﭘـاس أو شرفة هيلتون النيل أو إستوريل أو في رِحاب الأهرامات، وأنا أستجمعُ طيفَها في بار أو'نيل هذا الذي سبقَ لها أنْ عرفَته وأَنِسَت إليه ومن ثَم تخيّرته لي ودلّتني عليه، ثُم نتبعُ لقاءَنا برسائلَ بريدية وكذلك عبر البريد الإليكتروني، المستجَد. ما لا ريب فيه هو أني واليتُ رُقيّة، ولَطالَ ما واليتُها وأخلصتُ ولائي إخلاصاً مُشدَّداً لا يُسيئُه كوني قد أَهيمُ بأخرياتٍ هياماً قَدَريّاً طارئاً عنيفاً عابراً لا يَمسُّ ما لها، حسبما أظنُّ. كنتُ قد نَهِمتُ في حاضِرها نهَماً أطمعَني في سائرِ وجودِها السابق الآنِف فعكفتُ عليها لأحوزها في ماضي زمانها، على أن تكون هي شاهِدةَ سَعيي فتراني، وهي في الأربعين، ألتقيها في عشريناتها؛ وعلى ذلك فإنّي ما جئتُ إلّا زائراً مُنضِّداً لذكرياتها، حاجّاً إلى أماكنها وباحِثاً عن قُدامى معارفها مثل شيـﭭـون ستيفينسون. وإنّي إنْ أدُورُ في مناكب دبلن وأرجاء آيرلنده فباعتباري طيفَ رُقيّة؛ طيفها الثاني الذي يتحيَّنُ طيفَها الأول ويتعقّبه.

ساهِماً شارِداً كَنَنْتُ واسترخيتُ على مقعدي أتحرّى مَحضَرَها؛ أجُولُ بخيالي بين مطارِحِنا بوسط القاهرة وهضبة الجيزة. كننتُ، وعلّني نعِستُ هوناً. علّني سمعتُ صوتي في منامٍ يجهرُ بالمناداة على مَن أسميتُها غائبة، كُنتُ أردِّدُ غائبة! غائبة! فإذا بي أسمعُ مُناداتي فأنتبهُ من غفوتي، وإذا النيّامُ يستدرِكون ثم إذا هُم أيقاظٌ يرون. ولقد رأيتُ امرأةً شابّةً تفوتُ من بين الطاولات. ما بالي وقد رأيتُها في مرورِها الهيِّن تمشي وسط قاعة بار أو'نيل بخطواتٍ ممتلئة فائِرة محتشِمةٍ تملَّيتُ فيها خطوةَ الصيّادةِ وخطوةَ الطريدةِ وخطوةً غيرَ موصوفةٍ لا يَعيها، ربما، إلّا خِفافُ الأفئدة، وما بالُها لا تني تطغى وتعتقلُ وقد صوّبَت إلى ناحيتي منديلاً بلون الدّمِ يغطّي ياقةَ سُترتِها أسفل شعرها المرفوع في تصفيفةٍ تُبِينُ أُذنيْها وعُنقَها بتمامِه على حالِ طَلَّةِ امرأة جِيشا تختالُ بكتفيْ وذراعيْ هيلين الإسبرطيّة الطّروادية. انعطفَت تجاه الباب وخرجَت إلى الشارع، وعبر زجاج النافِذة العريض الـمُفترَش بقطرات المطر لمحتُها جانبيّاً في هيأتِها المضبَّبة بما جدَّ فيها من اعوجاجٍ وانبعاجٍ وتماوُجٍ لَكأنها قد آلت إلى طلسمٍ حيٍّ ولَكأني مسستُ رئتيْها شعرتُ بها تَنشقُ هواءً رطيباً وتختلجُ بعنفوانِ فرسٍ وتنضمُّ إلى فردوس جرافتون كعروسٍ من لَدُنِ الفردوس ومن أهلِه وعصورِه فطالتني مهابةٌ منها وأدركني طُغيان.

كمثلِ مَنْ نُودِيَ كنتُ أُراوِحُ خيالاتٍ وأتَقرَّى طيّاتٍ وأُومِئُ. فطنتُ إلى أني ماضٍ إلى غَيْبٍ هو غيبُ الإسبرطيةِ بمنديلها الدموي، وساءلتُ نفسي إنْ كنتُ أتقمَّصُ، على الأرجح، قصةَ حبٍ مجوسيةٍ قرأتُها من عبد الرحمن، وأنسخُ! 

بين نبضةٍ ونبضةٍ من قلبي يُومِضُ لي طيفُ رُقيّة مثل برقٍ، ويفلتُ متنائياً فلا أُحرِزُ اِحتيازَه في عيني. مضطرباً بجريرةِ وهجِ المنديل الأحمر ومعتكراً بعِراكي في واقعة البيرة السوداء أبقيتُ كياني في مقعدي، أُمَقِّقُ في خدوشٍ على رخام الطاولة أمامي وأنْقُبُها بعيني مزيداً ومزيدا؛ ساعياً، في ما يبدو، إلى بلوغِ لحْدٍ أُلاشي الوهجَ فيه وأُواري همّاً غريباً طارئاً إنْ هو إلّا مباهِجُ، وأستردُّ انتباهاً كنتُ قد تهيأتُ به لملاطفةِ طيفٍ ولُقْياهِ. وفي منتهى الضّجة سكنَ دبيبٌ وانمحقَ زعيقٌ ورُتِقَت خدوشُ الرخام فلَمحتُ رُقية بما هو أنجعُ من مَحضرِ طيْف!

       نزلتُ لشراء جريدة عربيّة ولأتسكّعَ في جرافتون ودكاكين الحواري والجوار. اشتريت الجريدة ودسستُها بين قميصي وسترتي، وبينما كنتُ أتهيّأُ لمغادرة مَزاراتي المعتادة كلها لَقيتُ الإسبرطيّةَ نفسَها تؤدِّي عرضاً على رصيفٍ بالناصية؛ إذْ طالعتني من هناك حُمرةُ منديلِها، غير أني كنتُ قد صرتُ إلى اعتقادي في أنها لم تكن إلّا وهماً فصعُبَ عليَّ، هوناً، تصديقُ ما أرى، وقصدتُّ إلى ناحيتها، فإذا هي واقفةٌ، ثابتةٌ، مُعطِيَةٌ ظهرَها جهة الشارع، واضعةٌ فوق رأسِها كرةً زجاجية كبيرة لا يَخفى على رائيها كوْنُها مجوَّفةً خفيفةً رقيقة هشّة حتى إنها تكاد تتهشّم من غير سبب. وددتُّ ألّا أظلَّ بلا عِلمٍ عن عينيْ الإسبرطية، لكنما وجهها مُيَمِّمٌ صوب الحائط ومُسدَلٌ عليه من الجانبين خُصَلُ شعرِها فلا أراه. وتوقّعتُ أن تكون حافيةً، من دون جوارب، نُشداناً بالغريزةِ لتيسير الاتزان أو للاستمداد من الأرض، ولقد رأيتُ إذْ أنزلتُ عينيَّ قدميْن ناصعتين صغيرتين ممتلئتين قارّتيْن على المفرش الأبيض، فأُعطِيتُ بمرآهما عوضاً ذا أهليةٍ، مقبولاً ممدوحا. مكثتُ أرقُبُها وأتملّاها وأتخيّلها في هذا الشأن وفي ذاك، حتى إنّ مطالبي منها باغتتني. استوليتُ عليها في سريرتي أَم عساها أن تكونَ هي مَن استولى، وكنتُ في وسط الجموع أُكابِد وحشةَ الضائعين في مشاعية الفردوس، ولا أريمُ.

وهي لا تريمُ، إليها ينعرجُ فضوليون وأئمةٌ وصاخِبون ومتأمِّلون، يتفرّجون عليها، يتفحّصونها، يقارنونها بغيرها، فيهم مَن ينتظر اختلافَ المنظر بسقوط الكرة أو انخذال المرأة، أيهما أدنى. يقتربُ من بدنِها مَن يجسُر، ويُخاطبها بأسئلةٍ أو بلغوٍ مَن يشاء، ينصرفُ بعضُهم ويأتي غيرُهم، يتبدّلون، يتناوبون، ويتوارثون أمكنتَهم ونواياهم وأفاعيلَهم وأخيلتَهم، لا تريم. أسررتُ لنفسي إنّي والله قد مِلتُ وإنها تُعني لي ما لا أدريه، وفي قلبي وجدتُّني أترنّمُ إليها «لا قُربَ نُعْمٍ»، وقد هُيِّءَ إليَّ أنّي أسمعُ أحدَهم يتلو لها «أخطُبُكِ إلى نفسي»، فيبزُّهُ آخرون بالتلاوة لها من كُتبٍ أُخر وصحائفَ شتّى، لا تريم. لو حَلّت رُقيّةُ وجاورَتني، ورأتها مثلما أراها، لَأعلنَت لي عنها أنّها مُتهرِّبة من لوحة دالي امرأة في النافذة، لا تريم. بالناحية المقابلة من الشارع حطَّ فوجُ فتياتٍ إيطاليات يرقصن، ويضحكن، ويهلِّلن بإنجليزية طليانية مُحلّاة ومُنغَّمةٍ يحيا المرحُ يحيا الحُبُّ يحيا اللقاء، ويصرخن ويشتمن بفوران الحماس مع الجمال مع الشهوات سُحقاً للأموال تباً لعسكر العالم اللعنة على تُجّار اللاهوت، ويصخبُ دبيبُهن وهديرُهن ويوشكُ بذبذباتِه التي تَرِفُّ بالقُرب أنْ يُزعزعَ الكرةَ ويطيح بحبكتِها. تمنيتُ لو أني لم ألحظ مهندسَ الفنادق وهو آتٍ بِخُطاه الواسعة يقطعُ الشارعَ وينضمُّ إلى فيلق الإيطاليات ولا يلبثُ أن يزعقَ وينشزَ ويَعُقّ.

أبقى واصلاً بالوهج الأحمر، وتمرُّ ساعتان. يزخُّ المطرُ الخفيف زخةً وتسّاقطُ قطراتُه الرفيعة على زجاج الكرة فيُسمَع لها نَقرٌ ورنينٌ ورَجْعٌ وفرقعةٌ وموسيقا أستمْلِحُها وأندمِجُ برهافتها الفردوسية وأختلجُ بالنشوةِ فأطيشُ وأكادُ أَهُمُّ بالتقاطِ الكرةِ ووضعها أرضاً بسلامٍ ومن ثَم آخذُ امرأتي وأحضُنُها ونذهبُ معاً يداً بيد ونقامرُ بالفردوس مهما تكن العواقبُ، لكني فعليّاً أقتربُ ليس لغير أن أفتحَ مظلتي حمايةً لرأسِها، والجريدة في يدي الثانية أغطّي بها رأسي. يتوقّف المطرُ فأُريحُ ذراعي الممدودة وقد كَلَّت وتخدّرت. أتنشّقُ هواءَ ما بعد المطر فتتغشّاني رائحةُ السجق المقلي والبرجر والفطائر من مطعم على مسافة مئة متر، فأتلمَّظُ وأتململُ بينما العاهِلةُ صامدةٌ في وقفتِها تحت أنظار الملأ، تحظرُ على الكرةِ فرصةَ الانزلاق، تسعى بسكونِها إلى لا أحد، تسعى بِمُطلَق سكونِها وتعاليها وثباتِها وشموخِها إلى لا أحد، واشيةً بأنها تتأهَّلُ إلى حيث تستطيع الحفاظَ على أعتى العهود وأعسرِها حتى لو لم يكن لها في أيِّ عهد سوى فرصةٍ واحدةٍ لا لاحِق لها. صابرتُ على البقاء بالقُرب، غير أني اضطررتُ إلى الإسراع صوب بار أو'نيل لإفراغ مثانتي، وهناك استبقاني شذى البندق وأبرقَ لي هيأةَ رُقيّة، فجلستُ هوناً أستجليَ ما جَدَّ بِخُلْدي، وحين عُدتُّ كان المكان قد خلا من ذات المنديل الأحمر ومن جمهورِها وراصِدِيها، بدا المكانُ قفراً وبدا أني أستعلمُ لوقتي معنى وحمولةَ كلمة يباب، فوقفتُ وأسندتُّ ظهري إلى الحائط، حيثما سبقَ أنْ صوَّبتْ هي وجهَها. تنفّستُ وأغمضتُ، فطالعني وجهٌ مطعونٌ، يحمل أثرَ شَجٍ على الجبين ونُدبةً على كل خد واحمراراً على نحرِها يُضاهي حُمرةَ منديلها. سكنتُ، أسوةً بها، في مكاني أُطالِع أرتالَ المشاةِ الطالعين إلى جرافتون والنازلين منه، ورأيتُ مهندسَ الفنادق يحمل على كلتا ذراعيه الكرةَ الزجاجية نفسَها، أو مثيلةً لها ربما، وينعطف إلى جهتي، ويخاطبني زاعِقاً من مسافة بعيدة: تشتري؟!  

أفعمتني روائحُ الشواء والقلْي فتعاليتُ وتحدَّيتُ غوايتَها وعزمتُ على الغداء في المطعم الذي أعلمتني رُقيّة أنه يقدِّم وجبات كُورية موروثة، وكنتُ قد ذهبتُ إلى ناحيته مرةً لاستكشافِ طريقِه ومكانه والتأكُّدِ من كونه لم يزل على نشاطه. العجوز الصينية التي أخبرتني قبلاً رُقيّة عنها استقبلتني بغضونِ عينين باسِمتيْن وأحاطت يدي بكلتا يديها الواهنتيْن الناشفتيْن وأدخلتني إلى غُريْفة حُلوة وأومأت لي بالجلوس والراحة فشعرتُ أني مُوصَى بي خيراً من لدُن اللُطف. تربّعتُ على البساط الطَّري، وأسندتُ عظام ظهري إلى وسادة. تحسَّستُ علبة سجائري، ثم مسحتُ بلساني جوفَ فمي وبدَّدتُ رغبتي في تدخين سيجارة، وانتظرتُ طعامي. أغمضتُ عيني فكانَ أنْ تراءى لي مطرُ شارع جرافتون ثخيناً يُغرِقُ سيجارَتي ويُطفئُها وينتثرُها أرضاً، وهنالك، فوق بَللِ الشارع اللامع كمرآةٍ، مررتُ بالعجوز الأحدب القصيرِ واقفاً في عُزلتِه ينفخُ في هارمونيكا؛ عازِفاً ألحاناً لا تَبينُ في صخب الشارع، ولَقيتُ رُقيّةَ واقفةً أمامه تُنصِتُ إلى ما يجودُ به. أنبأتُها، صورةً إثرَ صورةٍ، بمتتاليةِ الوقائعِ؛ محتال، ونادل، وشذى بندق، وتَعَسُّري في إنجاح لقائنا ضُحى اليوم، ثم أسهبتُ عن امرأةَ الكرة الزجاجية، وسألتُها: إلامَ يصبو امرؤٌ إنْ هو احتجزَ العالَمَ وراءه، ووقفَ بلا حراكٍ يُصلِّي مُولياً وجهَه لِصقَ جدار؟ لم أُنازِع رغبتي في الإفصاح لها بأني حين غطيتُ رأسَ الإسبرطية بمظلّتي، متودِّداً، كنتُ أشعرُ أنّها في ضمانتي. رفرفت لي رُقيّة برموشِها وجاوبت مسألتي، وبدا لي وجهُها يُعلِنُني: أرى أنّ امرأتَكَ هذه تصبو من ناحية المبدأ إلى إماطةِ العواصف وإشاعةِ الاطمئنان في النفوس قاطبةً، ولا ريب عندي في أنكَ قد أُغرِمت وفُتِنت بسيدة الطمأنينة المتصلِّبة!

فتحَت فتاةٌ صغيرة بابَ الغُريفة ببُطءٍ يُناهِزُ بُطءَ الطقوس، ثم أفسحَت بجانبِها لزميلتها لتدخلَ حاملةً مائدةً واطئة فوقها رَصيصةٌ من صحونٍ صغيرةٍ بحجم فناجين القهوة مصفوفةٍ كأنها حرفٌ أو كلمة تنسربُ منها روائحُ وجبتي. لكن كيف لي أنْ أُخبِرَ بأني، في ذلك الوقت نفسه، كُنتُ بالقاهرة أُجالِسُ رُقيّةَ على مائدةِ الرُّكن الجنوبي الشرقي في إستوريل، نحتسي بيرةً بيضاء ونأكل أكبادَ دجاج مطبوخة بالصوص البُنِّي، وأسمع منها ما تحكيه لي عن الصينية صاحبة المطعم وعن اشتياقها إلى أطباقِها الصغيرة المطهوَّة بدفء قلبِها.

                                      

(27 فبراير 2025 - القاهرة ، عابدين)

نُشِرت في الملحق الثقافي لجريدة عُمان

atif_sol@yahoo.com