رسالة ألمانيا

الذكرى المئوية لوفاة الفنان والكاتب الالماني فيلهيلم بوش

سلمى حربة

وجد الكثير من نقاد الادب والفن في الذكرى المؤوية لوفاة الفنان الالماني فيلهيلم بوش التي صادفت يوم الثامن من يناير هذا العام مناسبة للتعرض الى مجمل انجازاته الفنية والأدبية، وليس للحديث عن "ماكس وموريتس" القصة المصورة الشهيرة التي كتبها شعرا ورسم لها الصور المرافقة التي رسخت اسمه في عالم الشهرة، فلقد ظهرت في الصحف الالمانية اليومية الشهيرة مثل "دي تسايت" و "دي فيلد" و "فرانكفورت ألكماينه" و "كولنر شتات أنسايكر" وغيرها عشرات المقالات التي كتبها نقاد أدب ونقاد فن وصحافيون معروفون، وكلها اشادت بابداعه. واعتبرت انجازه نوعا مميزا من الرسم الذي يرافق الكتابة الإبداعية أو ما سمي فيما بعد بالحكايات المصورة التي لم تكن معروفة قبله، قال "توبياس كاوفمان" في مقالة له يوم 8 يناير 2008 في "كولنر شتات أنسايكر" من حقنا الاحتفال بذكرى فيلهيلم بوش المؤوية باعتباره الأب الحقيقي للكوميك المعاصر. ويرى "هنريش تسيله" في "دي فيلت" إنه كما كان يشرح في صوره الكاريكاتورية العالم المحدود ضيق الأفق: أطفال تنقصهم التربية، وعلاقات عاطفية غير متكافئة، ومقالب مؤثرة تحاك ضد رهبان. وكلها طبعا هي من وحي خيال بوش، لكنه لم يكن يبتعد عن الحقيقة في النتيجة الأساسية التي يريد أن يتوصل اليها، وعن ذلك تقول "ايفا فايسفايلر" في "دي تسايت": لقد فهمت أحداث ماكس وموريتس بشكل غير دقيق الى الوقت الحاضر، لقد فهمت الاحداث كما لو كان الطفلان اللذان يقومان بها على أنهما شريران. على المرء أن يعرف انها كتبت في عصر خاص، وأنها دارت في ظل ملكية هانوفر التي كانت آيلة الى السقوط. فقد كانت الحياة العامة في تلك الفترة تعاني من الفاقة والعوز، كما أن الناس المحتاجين كانوا يتنقلون في البلاد بحثا عن لقمة العيش. والأطفال فقدوا من يعيلهم، وقد اكتسبوا من الحياة الخارجية أخلاقا تعينهم على الاستمرار في الحياة، غير بعيدين عن العنف والسرقة وقد فقدوا التعليم، كل ذلك تصوره قصة ماكس وموريتس".

ولد الرسام والشاعر فيلهيلم بوش في عام 1832 في بلدة فيدينزال غربي مدينة هانوفر الألمانية، وكان له ستة إخوة، وبسبب ضيق المكان في منزل والديه انتقل فيلهيلم بوش 1841 إلى منزل خاله القسيس الذي اهتم بتدريسه وتعليمه. وبطلب من والده بدأ بوش عام 1947 في تعلم حرفة الميكانيكي في معهد التأهيل التقني كي يصبح عاملاً فنياً، لكن ميول بوش كانت تتجه نحو الفن والرسم. وبعد أربعة أعوام استطاع تحقيق أحلامه عندما التحق بأكاديمية الفنون في دوسلدورف، لكن طرق التعليم هناك خيبت آماله. لذاك انتقل بعد سنة إلى الأكاديمية الملكية للفنون في أنتفيربين الهولندية، وهناك تأثر كثيراً بالرسامين الهولنديين. لكنه سرعان ما عاد إلى منزل والديه بسبب إصابته بمرض التيفويد. واستغل فيلهيلم بوش إقامته هناك في جمع الحكايات الشعبية وقصص الخرافة، التي لم تكن مدونة حينذاك وإنما تناقلتها الأجيال بالرواية فقط، وكان هدفه يتمثل في إضافة رسوم كاريكاتورية خاصة على تلك الحكايات الشعبية. كان فيلهيلم بوش معجبا بفن الفلميشين (الهولنديين) ومتحمسا له، لدرجة انه عندما شاهد لوحاتهم أول مرة، وهي على تلك المقدرة الفنية المبهرة، أيقن أنه لا يستطيع ان يرتفع الى مستوياتهم. مع ذلك عندما مات وجدت عنده 1000 لوحة زيت هي من مخلفات تلك المرحلة، كما لو كان قد رسمها لنفسه، ولم يرد أن يظهرها للآخرين، وبالمستطاع الآن رؤيتها في متحف فيلهيلم بوش في هانوفر، أمام تلك اللوحات ذات الموضوعات المتنوعة والمختلفة باستطاعة المرء تبيّن إمكانياته الفائقة على الرسم، ولكن الرسم الحر غير المرتبط بمدرسة فنية معينة، وإن أكثر من 100 لوحة بينها كانت تعكس إمكاناته التعبيرية المدهشة.

منذ طفولته كان له صديق يدعى "آيرش باخمان" وهو ابن لطحان كان في مثل عمره، فأصبح بعد ذلك أفضل صديق له في حياته هذه الصداقة الحميمة بينهما، امتدت الى نحو 66 سنة، وبالضبط الى أن مات إيريش باخمان عام 1907، وبعد موته بنصف سنة في 1908 مات فيلهيلم بوش.

وتوجه بعد ذلك إلى مدينة ميونيخ متابعا دراسته الفنية حيث يلتقي هناك سنة 1959 الناشر كاسبار براون، الذي طلبه للعمل معه كرسام كاريكاتوري في صحيفته الأسبوعية "فليغندر بليتر" ومجلته "مونشنر بيلدربوغن". وبفضل هذا العمل ذاعت شهرة فيلهيلم بوش في ألمانيا واستطاع تطوير صور تتحرك وتتغير وفق الموقف الذي وضعت فيه، وهنا بدأ تاريخه الشخصي كساخر وهجِِاء من الطراز المميز. و ترسخ ذلك أكثر عندما كتب في 1865 قصة "ماكس وموريتس" التي عرف بها في عموم ألمانيا وفي أجزاء بعيدة في العالم.

لم تكن دراسته بعيدا عن "إيبركوتسين" تنسيه ذلك المكان، فقد كان يزوره بين فترة وأخرى، كما كان حريصا على زيارة ايريش باخمان في طاحونته، وكان يجد له فيها دائما مكانا يبيت فيه أثناء فترة زياراته. يستطيع المرء اليوم رؤية تلك الطاحونة التي دارت فيها بعض أحداث ماكس ومورتس كما كانت عليه سابقا، ومن 1972 أستخدمت كمتحف، الغرفة الصغيرة التي أقام فيها فيلهيلم بوش والتي قضى فيها مع صديقه الحميم ايريش باخمان أيام إجازاته ظلت كسابق عهدها. عندما كان فيلهيلم بوش صغيرا كان يحكي القصة لأهالي القرية قبل أن يكتبها ويصورها، كانوا يفرحون لسماعها. لقد ظل الناس ينظرون لهذه القصة التي بطلاها طفلان بمحبة الى الآن، وهي مترجمة الى الكثير من اللغات، الانكليزية والفرنسية والصينية والتايلاندية، التركية، اليابانية والروسية، وفي هذه اللغات تقف هذه القصة على رأس قائمة كتب الأطفال المشهورة عندهم.

ليست قصة ماكس ومورتس مشهورة لرسوماتها التي رافقت الكتابة، أو هي نوع من الكتابة المخصصة للأطفال فقط، لا، أنها عمل فني متكامل، وهي ليست للصغار بل للكبار أيضا، ولشهرتها هذه صورت القصة في أفلام الرسوم المتحركة وجسد أحداثها ممثلون على المسرح وعرضت بمسرح الدمى أيضا، ولاقت خدعهما ومقالبهما استحسانا من الناس وإعجابا.

فيلهيلم بوش

يتعلم الأطفال الصغار هنا في ألمانيا مقالب القصة التي كتبت بطريقة كتابة الشعر ويحفظونها عن ظهر قلب، ويعرف أغلب الألمان أنه عندما يمر بهم اسم مثل (Witwe Bolte) أو أو (Max und Mortz) فأنه يذكّرهم بهذه القصة.

نرى في الصورة ماكس أكثر ضخامة من الثاني، له شعر أسود ونظراته خبيثة دائما، وهذه الصورة كانت في حقيقتها هي صورة صديقه "إيريش باخمان" أما مورتس فقد تميز بشعر رأس واقف دائما، إنه فيلهيلم بوش نفسه. أما ملابس الأطفال فهي مناسبة للزمن الذي كتبت فيه القصة. كان ماكس يلبس حذاءا خشبيا وسترة رقعت تمزقانها، مع سروال يبدو قصيرا علية، أما سروال مورتس فمخطط بخطوط طويلة ويلبس حذاءا طويلا من الجلد، وبشكل عام كانت ملابسه أفضل من ملابس صديقه، كما أنه كان يتعامل مع نفسه على أنه لطيف ومهذب في مظهره الخارجي، وأنه يعيش في بيئة أفضل من بيئة صاحبه. كذلك الشعر الذي رسمه على رأس مورتس في الرسومات تلك هو فعلا يشبه شعر فيلهيلم بوش عندما كبر، كان شعره ملفوفا وينزل على جبهته من الأمام وعلى وجهه.