يستعرض الطبيب السوداني أفكار الكاتب الفلسطيني وأطروحاته بدقة تحليلية، ثم يقدم تشخيصه الدقيق لما ينطوي عليه الكتاب من إشكاليات بهدوء وموضوعية.

نحو ثقافة تأصيلية: تحليل ونقد

حامد فضل الله

أحاول في هذه المقالة أن استعرض الأفكار أو المضامين الأساسية الواردة في كتاب السيد محمد محمود شاويش(1) والموسوم "نحو ثقافة تاصيلية"(2)  أولاً، وأن أطرح ملاحظاتي النقدية بشأن تلك الأفكار والقيم الواردة فيه ثانياً. 

أولاً: استعراض مضامين وأفكار الكتاب
يحتوي كتاب السيد محمد شاويش على 241 صفحة من الحجم المتوسط.. ويتضمن الكتاب مقدمة كتبها د. حسين شاويش جاء فيها: إن العربي يطرح الأسئلة على نفسه في بدايات هذا القرن تكاد تكون مثل الأسئلة التي طرحها في نهايات القرن العشرين، ويستعيد طرح السؤالين الشهيرين:

لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ وماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟

الأسئلة إذن تتركز حول اللحاق بالغرب. وينتج عن ذلك الأجوبة، إما اللحاق بالغرب أو عكس ذلك،

أي إما التغريب أو التأصيل. وهنا يلاحظ ابتداءً وجود تعارض بين اللحاق بالغرب وبين التاصيل ولا يمكن الجمع بينهما.

السؤال التغريبي يُغيب الذات والتأصيلي ينطلق منها. فالتأصيلية تريد أن تصبح صوت الذين لا صوت لهم وإزالة الاستلاب الثقافي الحضاري ويركز على تميز الذات الثقافية والحضارة العربية الإسلامية تميزاً يقضي على أي سبب للاستلاب الثقافي الحضاري. ويواصل الفكرة فيقول، إن السجال مع تيارات فكرية ذات إيديولجيا راسخة ومؤسسات اصبحت عريقة لا يمكن تحاشيه في أي دعوة جديدة مثل التأصيل.

كتاب الأستاذ محمد شاويش يحتوي على مقالات عديدة كُتبت، كما يبدو واضحاً، في فترات مختلفة ومنشورة سابقاً، ومع ذلك فإن خيطاً فكرياً واضحاً يربط بين المقالات، إذ أن بعضها يستمكل البعض الآخر، وتشكل موقفاً فكرياً واحداً. 

المقال الأول: البيان التأصيلي.
«في المعركة الثقافية المحتدمة في بلادنا، نحن نؤمن أن الإسلام هو الخيمة الأخيرة التي ستلجأ إليها الأمة العربية إذا أرادت أن تأخذ مكانها ولا تندثر. بل هو الخيمة الأخيرة للبشرية جمعاء التي تسير بفرعنة لا مثيل لها، نحو الهاوية». هنا ومنذ البدء يحدد محمد شاويش اتجاهه الفكري ويمهد للقاريء فهم ومناقشة أفكاره من هذا المنطلق فهذه محمدة له، بغض النظر عن رأينا في هذه الرؤية وموقفنا منها. ويواصل: «على البشرية أن تتوقف عن اخضاع نفسها للتجربة الحضارية الغربية التي تسعى إلى ابتلاع ما عداها من تجارب، بالرغم من وجود وعي متزايد في الغرب بأن المشروع الحضاري الغربي بحاجة إلى اعادة نظر».

ويقول لقد سقطت آخر محاولة لاصلاح هذه الحضارة بمنطق داخلي وهو يقصد الماركسية. ويقول أن مجال عمل النزعة التأصيلية يقتصر الآن على الساحة الثقافية وهي تعد نفسها جزءاً من حركة الصحوة الإسلامية الكبرى التي تشهدها بلادنا (بل يشهدها العالم الإسلامي كله) غير أنها تميز نفسها (رغم انسجامها العام مع شعار الإسلام هو الحل) بميزة ثقافية ورؤية حضارية لا تتطابق دوماً مع تيارات الحركة الإسلامية ثم يشير إلى النظرة الخاصة للتأصيلية:

1ـ الدين الإسلامي استوعب جهود أبناء الديانات الأخرى وجعلهم يشاركون في بناء الحضارة الإسلامية.

2ـ التأصيلية يهمها ما يجري في الساحة الثقافية لأبناء الديانات الأخرى التي تشاركنا في الوطن، ويشير إلى دور الكنيسة القبطية في مصر، وموقف بابا الأقباط المعادي للتطبيع.

3ـ التأصيليون يناصرون نضال التيارات الدينية التي تكافح ضد تغريب المجتمع.

الانبهار بالغرب تجلى عند أغلب المثقفين المؤثرين ولقد كان بعضهم عوناً وعيناً للمستعمرين. ولكن هناك آخرون وخصوصاً من العلماء مثل محمد عبده ورشيد رضا يرون أن الإسلام الحقيقي عنصر تقدم ولكنهم شوهوا الإسلام بإدخال عناصر مكونة للحضارة الغربية ولكنها لا تتناسب مع الإسلام، كما يرى الكاتب. فالعناصر الثقافية الغربية في مجال الفن والأدب والفكروالفلسفة حولت ثقافتنا إلى كيان هجين ومن خلال السياسة تطورت التيارات الفكرية العربية في معارك ذات طابع مزدوج سياسي ـ فكري، كمثال المواجهة الناصرية الاخوانية، رأينا بعض الاسلاميين ينساق إلى المعركة الأمريكية السوفييتية لصالح الأمريكان. وحين كان السؤال اشتراكية أم رأسمالية، انساقت التيارات الإسلامية إلى ردود الأفعال، وتبدو أحياناً وكأنها تقف في صف الرأسمالية. ولم تتم استعادة التوازن للتيار العقلاني داخل الحركة الإسلامية إلا مع مطلع التسعينيات من القرن العشرين. لقد دخلت فكرة جاهلية المجتمع في ظروف خاصة ثم استعملت بصورة مروعة في التسعينات من هذا القرن.

في المقال الثاني يكتب شاويش عن الهوية ويعرفها: أنها السمات المشتركة التي تميز بها جماعة معينة نفسها وتعتز بها، والهوية العربية تتضمن سمتين أساسيتين:

أولاً: اللغة العربية بما هي لغة مشتركة بين العرب،
ثانياً: الإسلام بما هو شريعة نظمت المجتمع العربي.

والمسيحية الشرقية جزءٌ لا يتجزأ من الهوية الإسلامية العربية إذ أنها جزء من الكل الثقافي والتكامل الذي ميز تجربتنا الحضارية.

السيد شاويش يحدد ثلاثة منظورات للاختلاف الثقافي:

1ـ المنظور العنصري، الذي ينظر إلى ثقافة قومه على أنها الثقافة النموذجية والمعيارية التي يجب تقويم الثقافات الأخرى على أساسها.

2ـ المنظور النسبي: وفقاً لهذا المتطور يجب النظر إلى الثقافات المختلفة كبنىً مستقلة لا يمكن فصل أجزاء منها ومحاكمتها منفردة، وعدم الانحياز لثقافة معينة وتطبيق معايير وأحكام مسبقة.

3ـ المنظور التقويمي: يدرس الحضارة بلا انحياز مسبق يؤثر على موضوعية الدراسة وفي الوقت عينه يسمح بالتقويم الأخلاقي وإصدار حكم قيمي.

ويقول أن العرب استوردوا اتجاهاتهم الفكرية من الغرب أساساً، سواء أكانوا من القوميين أم الليبراليين أم الاشتراكيين وقد عمل هذا الفكر على محو جوانب أساسية في الهوية العربية. إما في الفكر الإسلامي المعاصر كما يتبدى في فكر حركة الاخوان المسلمين والتيارات الفرعية التي انبثقت منها يعود اصطدام هذا الفكري بالهوية الثقافية الأهلية في ثلاث نقاط جوهرية:

1ـ النزوع الإصلاحي والسلفي في الحركة الوهابية واستعانة محمد بن عبد الوهاب بالدولة السعودية الأولى، إضافة إلى اغتراب هذه الحركة عن المجتمع الأهلي.

2ـ فكرة جاهلية المجتمع التي تساوي بين الجلاد والضحية وتجعل المواطن البسيط كافراً مثله مثل كبار الظالمين.

3ـ الموقف الطائفي: موقف الحركة الإسلامية من الجماعات الدينية الأخرى والسماح لها في المساهمة العضوية في بناء هذه الحضارة بأوجهها المادية والمعنوية وإذا لم تُبد الحركة الإسلامية وعياً كافياً لهذه المسألة فستظل تشكل قنبلة موقوتة ورأس جسر للقوى المعادية لنا.(علماً بأن القنبلة قد انفجرت ومنذ سنوات وفي أكثر من بلد عربي). فمن منظور الهوية أن هذه الطوائف ليست عنصراًغريباً جاء إلينا من الخارج بل كانت منذ البداية عنصرا مكوناً لمجتمعنا وجزءاً لا يتجزأ من هويتنا ذاتها. فالموقف الطائفي هو إذن موقف معادٍ لهويتنا.

ثم تأتي بعد ذلك بعض المقالات وهي عبارة عن دراسات تطبيقية تتعلق بالتأصيل والهوية ويأخذ أولاً مثالـ قصة قنديل أم هاشم ليحيى حقي ويعنون مقاله بـ:  

من الأصل إلى التأصيل: الاستلاب والعودة إلى الهوية في (قنديل أم هاشم).
وفحوى القصة باختصار شديد: اسماعيل ابن الأسرة التي جاورت السيدة زينب يذهب إلى إنجلترا للتخصص في طب العيون ـ سبع سنوات قضاها هناك قلبت حياته رأساً على عقب ـ كان عفاً فغوى صاحياً فسكر وراقص الفتيات وفسق وعاد إلى أهله متسلحاً بالعلم، يصرخ في وجه والدته عندما رآها تضع الزيت الحار المصبوب في قنديل السيدة لعلاج بنت عمه فاطمة النبوية من مرض العيون. يرمي الزجاجة ويكسرها ويمضي إلى المقام ويصل إلى القنديل ويكسره. فتهاجمه الجموع وتكاد تقتله. بعد أزمة نفسية يستعيد توازنه ووعيه ويأخذ زيت القنديل ويعالج فاطمة وتشفى من العمى.

محور الرواية الاختلاف في الهوية الثقافية ويصفها شاويش بأنها ثلاثية البنية: الأصل والانخلاع والعودة إلى الأصل. ويتخذ محمد شاويش قصة (قنديل أم هاشم) كمثال يقارن به أعمال كتاب كثيرين تناولوا موضوع الهجرة إلى الغرب وانعكاس القيم الغربية التي تعرف عليها البطل المهاجر على بنيته العقلية والنفسية. يذكر منهم توفيق الحكيم الذي يصفه بالسطحية التي هي السمة الفكرية الغالبة عليه وبانبهاره غير المحدود بالمجتمع الفرنسي وبعدم الوطنية عندما كلف الآثاري الفرنسي في روايته "عودة الروح" بالدفاع عن الفلاح المصري الذي سبه الانجليزي أمام الراوي، وكذلك الطيب صالح بعصابيته ومبالغاته الفاقعة في موسم الهجرة إلى الشمال ولم نجد له لاحقاً أية علاقة تذكر مع مجتمعه بعد عودته. 

محمود شاكر ومقدمات التيار التأصيلي العربي
هذا مقال شيق يتعرض فيه لبعض أعمال وأفكار عالم جليل ينتمي إلى عائلة من العلماء الكبار في مصر. يعرض لنا شاويش مساجلات محمود شاكر مع طه حسين فيما يتعلق بموضوعات المتنبي ومع لويس عوض ورده العنيف عليه عن رسالة الغفران ويقول أن محمود شاكر بلا ريب من رواد التيار التأصيلي وهو في الوقت نفسه يتقاطع مع التيار الإسلامي العام وأن الرؤية العربية له أعمق بكثير من رؤيته الإسلامية. ويرى أن غيرته الذاتية والدفاع عن أمته العربية الإسلامية تبرز في رده على سلامة موسى. وفي هذا المقال فقرة يوضح فيها شاويش علاقة التيار التأصيلي مع التيار الإسلامي.

التيار التأصيلي هو بلا شك تيار اسلامي على حين يشكل ما يُدعى حالياً التيار الإسلامي حالة خاصة جزئية من التيار التأصيلي. فالتأصيليون ذوي اهتمامات أوسع بكثير من اهتمامات التيار الإسلامي التي تكاد تقتصر على البعدين السياسي والعقائدي دون الاقتراب من الأبعاد الثقافية والحضارية. فالعمل على مضمار الوعي الثقافي مهم ولا غنى عنه، ويبقى أمام التيار التأصيلي العربي مهمة اثبات أنه قادر على البناء كما هو قادر على التصدي للاستلاب الثقافي. 

مسلمات استشراقية في الثقافة العربية
يعرض هنا شاويش للطريقة التي استقبل فيها كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" في الساحة الثقافية العربية. رد الفعل الغالب وهو عدم المبالاة وهو ناتج عن عدم الفهم من جانب وعدم رؤية أهمية الموضوع من جانب آخر. رد فعل عدائي عبر عنه "ممثلون بارزون" للاتجاه الحداثي العربي مثل صادق جلال العظم، ورد ثالث يكتفي بالتحمس للكتاب الذي يدين الرؤية العنصرية الغربية. وهناك رد فعل رابع يرى العلاقة الوثيقة لموضوع الكتاب بالثقافة العربية الحديثة العلاقة الداخلية لا الخارجية. فإن تحليل الاستشراق ليس تحليلاً لذلك التراث البحثي الغربي فقط، بل هو ايضاً تحليل لمكون أساس من مكونات الثقافة العربية الحديثة، مكون نتج عن استبطان وجهة النظر الغربية في المجتمع والثقافة العربيين التقليديين.

يشير شاويش إلى مفهوم الجغرافية التخيلية الذي ابتكره إدوارد سعيد. فمنذ الغزو الأوربي العسكري ثم الثقافي شُرقن الشرق، ومنذ ذلك الحين صار من المألوف أن نقرأ في الكتابات العربية والأحاديث اليومية عبارة "نحن الشرقيين". كما أن كثيراً من الهويات الزائفة ظهرت بالتوافق مع الهوية الشرقية ويشير إلى الهويات التخيلية التي لم تنتج عن عوامل داخلية بل عن عامل استلابي محض هو محاولة الذات لبس ثوب الهوية التي تعجب المرجع الاستلابي الغربي.

فالهوية الفرعونية لم تظهر إلا بعد أن لاحظ المصريون إعجاب الغرب بالآثار الفرعونية وكذلك الهوية التخيلية الفينيقية في لبنان. ولم نَتَباه بألف ليلة وليلة إلا عندما اشتهرت في الغرب، ونجيب محفوظ لم نعرف قيمته إلى بعد أن حصل على جائزة نوبل. 

كيف انبنى التعبير العربي المعاصر؟
يقول شاويش في هذا الفصل الذي يحمل عنوانا جانبيا «مقال في نقد العُروي عن الإيديولوجيا والأدب في المجتمع العربي المعاصر» إن كتاب الإيديولوجية العربية المعاصرة لعبدالله العُروي هو إحدى المحاولات القليلة التي حاولت تقديم تحليل لتكون الإيديولوجيا المعاصرة، لا كإيديولوجيا انبثقت بصوة تلقائية بفعل عوامل داخلية صرفة تعبر عن المجتمع العربي الراهن، بل كنتيجة لاستيراد عناصر فكرية غربية. ولا يريد العرُوي ان يتوصل إلى استنتاجات تدعم مطالب أنصار الأصالة وانتقاداتهم على الفكر والأدب والفن في الوطن العربي المعاصر وبالعكس. وفي هذا المقال يناقش شاويش جانبين فقط من الجوانب الأربعة التي يدرسها العروي.

الجانب الأول: نظرية العروي في الإيديولوجيا العربية المعاصرة: هل الإيديولوجيا العربية المعاصرة نتاج لحالة خاصة من حالات التثاقف؟.

والجانب الثاني: نظرية العروي عن مسألة الأشكال التعبيرية المطابقة للمرحلة.

يقول العروي إن من أهداف كتابة البحث في شكل الإتصال بين ثقافتين، "هما الثقافة العربية والثقافة الغربية"، أن العلاقة بين الثقافتين العربية والغربية كما تبدو في كتاب العُروي وكما هي في الواقع أيضاً ـ ليست حالة تأثير وتأثر. فكل من الطرفين يؤثر في الآخر ويتأثر به (كما يوحي لنا مصطلح تثاقف) بل هي حالة تأثير فقط من طرف الغرب، وتأثر فقط من طرف العرب. والعروي يعد ذلك طبيعياً، بل حتمياً ـ وإن دعوة الأصالة فارغة من كل مضمون ويدعو إلى العقل الكوني. ويعود العروي حين يشرع في محاولة ايضاح القانون الذي حدد سيرورة التثاقف التي قادت إلى تكوين الإيديولوجيا العربية المعاصرة إلى النظرية المادية التاريخية في شكلها الوضعي على منهج أوغست كونت وحالاته الثلاث ـ شاويش لا يذكر الحالات الثلاث وبالطبع المقصود:

الحالة اللاهوتية، والحالة المتيافيزيقية، والحالة الواقعية. يقول العروي إن الإيديولوجيا العربية المعاصرة تكونت تحت تأثر عامل واحد، هو المواجهة مع الغرب وثمة لحظات ثلاث في هذه الإيديولوجيا: لحظة الشيخ والنموذج هو محمد عبده. فالشيخ يرى تقدم الغرب هو تقديمه للعقل وتخلص دينه من خرافات الكنيسة. لحظة الليبرالي والنموذج هو لطفي السيد ـ سر التقدم هو الديموقراطية البرلمانية بينما سر تأخر العرب هو الاستبداد. لحظة التقني والنموذج هو سلامة موسى. فسر تقدم الغرب هوالصناعة والقوة المادية. والعروي يرى أن هذه اللحظات الثلاث ما هي إلا مراحل ثلاث من تطور الغرب والإيديولوجيا العربية لا تفعل أكثر من تشكيل المجتمع بالتدريج على صورة المجتمع الآخر.

هنا تظهر نظرية العروي الحاذقة كما يرى شاويش وهي نظرية الخط الواحد الذي تسير عليه الأمم المختلفة ـ الحتمية التاريخية المطلقة ـ إي المركزية الأوروبية في صورتها الأكثر تطرفاً وبدائية والغائب الأكثر في تحليل العروي هو مفهوم الإستلاب، فالإيديولوجيا العربية المعاصرة هي نتيجة لواقعة الإستلاب وليس لواقعة التثاقف. 

نظرية العروي في الأشكال الأدبية العربية
تتلخص هذه النظرية في مسائل أربع: مسألة الذات، ومسألة التاريخ، ومسألة المنهج، ومسألة التعبير. ويناقش السيد شاويش هنا مسألة التعبير فقط ويقسم العروي تطور الانتاج الأدبي العربي إلى ثلاث مراحل تتطابق كلاً منها مع لحظة من لحظات هذا التطور.

أولاً: مرحلة نيوكلاسيكية.
ثانياً: مرحلة عاطفية رومانسية وازدهرت تحت شعار الحرية الليبرالية.
ثالثاُ: مرحلة واقعية.

ويقول العروي بما أن الدولة الليبرالية انحلت في الدولة القومية كذلك كل التيارات التي ميزت العصر الليبرالي انحلت في المدرسة الواقعية. وحول النقد الذي رافق الأدب العربي الحديث يشير العروي إلى النقد الجامعي الذي يحكم سلبياً على النتاج الأدبي ويراه ضعيفاً لأسباب موضوعية اجتماعية مثل الفقر والأمية.

ونوع آخر من النقد يتكون من عنصرين ـ أحدها يستهدف رصد الأسباب التاريخية والاجتماعية التي فرضت قيوداً منعت الكاتب من النبوغ والثاني التزام الكاتب بقضايا الطبقات الفقيرة. ويختم شاويش مقاله بأن التعبير العربي عن ذلك العصر قد احتكرته تلك النخبة المغتربة عن المجتمع التي تجسد تعبيراتها تعبيرات الذات المستلبة، ويضيف بأن لغة العروي العربية سيئة جداً، وهو الذي يعيب على الذين قاموا بنقل كتبه إلى العربية قد أساؤوا الترجمة. ولذلك قام بنفسه بترجمة هذا الكتاب ويتشكك شاويش في مقدرة العروي أن يفهم المؤلفات العربية القديمة، وهو الذي يبدي بكل جرأة أراء وتفسيرات وتقويمات لها. 

حالة الاستلاب في الثقافة العربية
سوريا نموذجاً الاستلاب الثقافي: هو بداية النهاية؟
يقول السيد شاويش إن القرن العشرين يمكن توصيفه ثقافياً في الوطن العربي بأنه كان قرن الاستلاب، فمنذ بداية عصر النهضة كانت المدارس الفكرية والفنية والأدبية تتوالى عندنا، لا كنتيجة للحوار الداخلي والتطور الطبيعي للساحة الثقافية، بل كنتيجة لاستيراد ونسخ وتقليد ما يظهر في الغرب من هذه المدارس. ويقول إن هناك قطاعاً مهيمناً في الثقافة السورية الحديثة. هذا القطاع الذي يحتفل بكل جديد مستورد من مدارس الأدب والنقد والفكر الأوروبي ويعتم على الخصوصية والهوية الحضارية العربية والاسلامية، والتصديق أن الثقافة الغربية هي ثقافة الإنسانية بعمومها، وهذا لا يتسم مع الوضع التاريخي لسوريا التي كانت منذ مطلع القرن العشرين شعلة القومية العربية المتوهجة الصافية. ولا شك أن الصدام الناصري مع الإسلاميين والموقف السلبي الخاطيء لهولاء الأخيرين ساعد التيار اليساري المُفضِل كلياً تقريباً لفكرة الهوية الحضارية المتميزة على أن تكون له الهيمنة الثقافية شبه المطلقة.

منذ بداية التسعينيات تغير الوضع السياسي الثقافي في الوطن العربي تغيراً جذرياً وذلك بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، والغزو الأمريكي للخليج والعراق، والذي كان من نتائجه المهمة تحول الحركة الإسلامية العربية من وضع الحليف الموضوعي للأنظمة الصديقة لأمريكا، إلى وضع الخطر الرئيسي على هذه الأنظمة ـ هذه التغيرات هزت الأرضية اليسارية التقليدية للثقافة العربية الحديثة.

وبدأت عملية تمايز بين تيارين أساسيين التيار الأول: فضّل نقل الولاء من قوى التقدم والاشتراكية إلى الغرب المنتصر وهو يعد الإسلاميين عدوه السياسي والثقافي في الأساس وتحبيذه الضمني لسياسة السلام مع الكيان الصهيوني وتأكيده على حسنات العولمة وزعمه أن العولمة قدر لا بد منه. التيار الثاني: تيار حافظ على عدائه القديم للإمبريالية والصهيونية وبسبب ذلك لم ير مانعاً من الحوار مع الحركة الإسلامية بل التحالف معها. ومن هذا التيار الثاني تفرع تيار لم يزل إلى الآن أقل ظهوراً اعلامياً ولكنه يبشر بأن يتحول إلى تيار يحمل حسنات التيارين اليساري الوطني والإسلامي.

ويواصل شاويش، لو درسنا الثقافة السورية السائدة سيميائياً سنجد إلى أي حد أن هذه الثقافة مستلبة غربياً. ويعطي كمثال أسماء الأطفال الغربية وخاصة أسماء البنات، وبدعة عيد الحب أو عيد العشاق، والتظاهر بفهم والاستمتاع بالموسيقى الكلاسيكية الغربية. وحول الترجمة في القرن العشرين يقول شاويش لقد ترجمنا أكثر من اللازم بكثير، وهذا أكل هراء أو هذيان، أليس من الأحسن أن نمحور اهتمامنا على الكتابة المحلية وننفق الوقت والجهد في نقدها والحوار حولها. 

ثانياً : نقد الكتاب
بعد هذا العرض الذي لا يمكن أن يوفي بكل ما جاء في الكتاب أود أن أبدي بعض الملاحظات.

ـ لا يذكر شاويش صراحة سيد قطب صاحب فكرة جاهلية المجتمع وقوله «وقد دخلت فكرة الجاهلية في هذه الظروف خاصة»، وكأنه يريد تبريرموقف سيد قطب.

ـ لا يكشف لنا شاويش الأجنحة العقلانية الموجودة الآن على الساحة العربية الإسلامية ومن يمثل التيار المتفرع من التيار اليساري الوطني والإسلامي. فحركة الإخوان المسلمين في مصر، وهي أكبر الحركات الإسلامية ولها إلى الآن تأثيرها على الحركات الإسلامية الأخرى على النطاق العربي، لا تزال في مصر لم تتصالح مع الناصرية ولم تتجاوز المرارات القديمة وبرنامجها السياسي الأخير هو عودة إلى الخلف وانهزام للجانب العقلاني منها، فالبرنامج الجديد يطالب بأن تكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد وليس مصدراً أساسياً للتشريع كما كانوا يطالبون بذلك سابقاً، ومنصب رئيس الدولة يتولاه من يكون مسلماً شرط ألا تكون امرأة.

ـ وإذا كان المقصود بالتيار الثاني هو الحوار القومي الإسلامي الذي بدأ عام 1989 تحت اسم الحوار القومي الديني وهو مستمر إلى الآن تحت اسم الحوار القومي الإسلامي. على مدار 19 عاماً من الندوات والحوارات والمؤتمرات التي تنعقد وتنفض بلا نتائج مفيدة، صحيح أن هناك شخصيات فكرية مميزة تشارك في الحوار ولكنها تشارك في الغالب كمجادلين. ولا يعني بالضرورة أنهم يمثلون الخط القومي الإسلامي ـ وهل هذا التيار مرحلي فقط أي زواج مؤقت مع وقف الإنجاب؟ وإلا كيف يحل لنا شاويش عقدة كونية الإسلام التي بشرنا بها في أول صفحات كتابه: «الإسلام هو الخيمة الأخيرة للبشرية جمعاء».

إن مشاركة بعض المفكرين الديمقراطيين واليساريين المعروفين، مثل سمير أمين وحيدر إبراهيم علي ومحمود عبد الفضيل،... لا ينتمون إلى هذين التيارين، ولكنهم يدعون إليه ويشاركون فيه ويبدون ملاحظاتهم ولا يتفقون بالضرورة مع ما تخرج به مؤتمراتهما من قرارات

ـ في رواية قنديل أم هاشم، هل يريد كاتب في قامة يحيى حقي أن يقنعنا بخرافة علاج مرض العيون والعمى بالزيت الحار المصبوب في قنديل أم هاشم؟ ويقول لنا لقد نجح الإيمان بعد أن فشل العلم وهل تحل تناقضات الواقع المعقد بهذه البساطة؟ إنه يريد أن يقول وأيضاً ببساطة لا علاج بدون إيمان ولا علاج بدون علم ـ أي لا تناقض بين الدين والعلم وهذا ما تنبه إليه شاويش عندما اختتم مقاله بـ«وعاد إلى علمه وطبه يسنده الإيمان».

ـ فيما يتعلق بموضوع توفيق الحكيم لا أريد أن أناقش افكاره، ومواقفه السياسية والتباسها أحياناً، وتأييده للسادات بعد توقيع معاهدة الصلح مع اسرائيل، وتنكره للناصرية التي كرمته. ولا دوره الريادي في تطوير المسرح المصري أي العربي، ولكنني أرى أن موقف شاويش مجحف وظالم ويستخف بكاتب كبير. ولكن دعونا نناقش النقطتين التي أثارهما فيما يتعلق بالحكيم وصالح. ما الغضاضة في رد الآثاري الفرنسي على الإنجليزي الذي سب الفلاح المصري؟ فهل عندما يدافع أجنبي عن بلادي في حضوري يعني أنني عديم الوطنية لأنني لم أشارك في الرد. قد يكون رد الفرنسي على الإنجليزي أكثر حجة وقوة بحكم أن ابن البلد سيقف بالطبيعة بجانب وطنه. ألم نصفق دائماً نحن هنا في برلين في ندواتنا عندما يدافع الألماني عن بلادنا. ولكن دعونا نقبل حجة شاويش وأنا أتساءل لماذا لم ينتبه إلى فقرة أخرى في الرواية ـ عندما يقول توفيق الحكيم على لسان أحد ركاب القطار في طريقه إلى قرية بطل الرواية: «أهل مصر شعب أصيل عريق منذ 8 آلاف سنة واحنا في وادي النيل، وكنا نعرف الزراعة والفلاحة، ولنا قرى ومزارع وفلاحين وقت كانت أوروبا لسه ما وصلتش لدرجة التوحش». أليس هذا موقف وطني والتفاخر بعظمة الوطن وأهله؟

ـ أما فيما يتعق بالطيب صالح ـ مصطفى سعيد بطل الرواية، عاد إلى الوطن وتزوج فتاة في قرية سودانية، وأنجب منها ولدين، وقام بفلاحة وزراعة الأرض، وكان عوناً للمزارعين البسطاء يساعدهم في الحسابات بعد نهاية الموسم الزراعي. وكذلك هنا كما في نقطة الحكيم يتجاهل شاويش الشخصية الرئيسية الثانية وهي شخصية الراوي الذي يتكلم عن دفء الحياة في العشيرة بعد أن عاد من انجلترا... فأحس بالطمأنينة: «أحس أنني لست ريشة في مهب الريح، ولكنني مثل تلك النخلة مخلوق له أصل له جذور له هدف».

أن يختار أو ينتقي الكاتب فقرة من نص تدعم وجهة نظره الناقدة ويهمل ويتجاهل فقرة أخرى في نفس النص تقوض وجهة نظره وتخالف تحليلاته لا يجوز ويجافي الموضوعية.

ـ لماذا يعتبر شاويش نقد العظم لكتاب الاستشراق بأنه موقف عدائي لإدوارد سعيد، لماذا لا نقول أنه خلاف واختلاف فكريين، أي خلاف سياسي عقائدي "أيديولوجي" فعندما يعارض العظم أفكار سعيد باسطاً وجهة نظره ومنطقه فهل مثل هذا النقد يخلق عداوة بين المفكرين؟

ـ صدر كتاب الأيديولوجيا المعاصرة بالفرنسية عام 1967 قبل وقوع الهزيمة والكتاب في طبعته الأولى والثانية المترجمة إلى العربية لم يضَف إليه من جديد حسب علمي مما يعني أن العروي في تحليلاته كان متوقعاً للهزيمة مثلما تنبأ بها نجيب محفوظ ابداعياً في روايته ثرثرة فوق النيل (صدرت عام 1966) وهذا يحسب للعروي.

إن ملاحظة شاويش بأن العروي يزعم بأن النقاد الكبار مثل العقاد والمازني وهيكل كانوا يطلبون من الشعراء التخلص من العروض والقافية ليستطيع الشاعر أن يعبر بصدق عن خلجات قلبه، إذا صح هذا الزعم وهو دليل شاويش بأن العروي لا يعرف ولا يتابع تاريخ النقد العربي الحديث، ولم يقرأ شعر العقاد والمازني. إنني لا أتصور كاتباًً في مقام العروي يكتب عن الأدب والنقد الأدبي وغير متابع لحركة النقد العربي ـ وآراء كل من العقاد والمازني في الشعر الحديث. فهذه قضية باتت معروفة ومتداولة ـ فعندما قدم صلاح عبد الصبور أعماله الشعرية إلى المجلس الأعلى للفنون والآداب في مصر أمر العقاد بصفته رئيس لجنة الشعر بتحويل شعر صلاح عبد الصبور «إلى لجنة النثر للإختصاص» حسب عبارته الشهيرة. فالفقرة الخاصة بقضية العروض والقافية ليس بها اشارة لهامش، وهنا اختلط الأمر على شاويش، فالفقرة الأخيرة تعود إلى رأي الكاتب (العروي) نفسه عن القافية والعروض وليس للعقاد أو المازني.

ـ يستغرب شاويش ترجمة العروي لمفهوم Humanism بكلمة مروءة ويشك في أن العروي يعرف حقاً كل ظلال معنى كلمة المروءة العربية، كما استعملت عبر التاريخ. إنني لا أريد أن أخوض في موضوع فقه اللغة ولست قادراً عليه، ولا أدري في أي سياق استخدم العروي كلمة مروءة. فإذا كانت المروءة تعني النخوة أو قوة النفس لصدور الأفعال الجميلة فكيف لا تكون لها ظلال فيما يتعلق بالإنسانية؟ والعروي يستخدم كلمة الإنسية في كل كتبه لمفهوم Humanism .

إن دعوة العروي للاندماج المطلق في الحضارة الغربية وهو ما يرفضه شاويش بحق لأنها دعوة لا تستقيم مع المنطق. كما أن النماذج الثلاث التي استعارها من الخارج وربطها بمشروع الحداثة الغربي وكأنه استحالة وجود ظروف موضوعية في المجتمع العربي تفسر تطور المجتمع العربي.

وبالرغم من ذلك علينا أن نحترس ونضع تحليلاته التي نقدها شاويش بعمق في سياقها الزمني. فنظرتنا للحداثة الغربية الآن تختلف عن السابق بل الحداثة نفسها كما يقول الفيلسوف الألماني الكبير يورجن هابرماس "الحداثة مشروع لم يكتمل".

يقول العروي عن توفيق الحكيم بأنه أخفق لأنه لم يلتزم بعصر معين، بل اعتقد أن مجال فنه هو كل ما يمت للانسان بصلة عموماً. وهو يشير بذلك، على ما اعتقد، إلى مسرحياته "الذهنية" التي تناقش أزمة الإنسان وحيرته بين العلم والإيمان، متناسياً العروي في الوقت عينه روايات الحكيم التي تصور الواقع المصري. ولماذا يعتبر العروي هذا اخفاق وكأنه يؤيد وجهة نظر شاويس السالبة عن الحكيم وكأن الأدب محكوم عليه بالمحلية فقط. لا شك من وجود ملاحظات صائبة في نقد شاويش للعروي ولكن أسلوب الاستخفاف بباحث ومؤرخ كبير له اسهاماته القيمة في معركة التنوير لا يليق.

ـ إن الجدل حول شكلية الأزياء وغطاء الرأس والخِمار والشادور والأسماء علينا أن ننصرف عنه فهو نقاش لا طائل ورائه ومضيعة للوقت ولا يخدم قضية التأصيل. يصف شاويش العولمة بالموضة الجديدة. وينسى الكاتب بأن العولمة، التي هي مرحلة متطورة من مراحل الرأسمالية، هي عملية موضوعية مرتبطة بالتطور الهائل في القوى المنتجة وثورة المعلومات والاتصالات والتي تشمل جميع مناحي الحياة ولا يمكن تجاوزها حقاً، ولكنها تختلف بالقطع عن سياسات العولمة التي تمارسها الدول الرأسمالية المتقدمة والتي تحاول أن تجعل منافع العولمة لها ومضارها على الدول النامية، ومنها الدول العربية، وأن من واجب الدول العربية، إن كانت حريصة على مصالح شعوبها وبلدانها، أن تضع استراتيجيات وتمارس تكتيكات تساعد على الاستفادة القصوى الممكنة من جوانب العولمة الإيجابية من جانب، والسعي إلى تجنب جوانبها السلبية الناجمة عن تلك السياسات وعن طبيعة القوانين الاقتصادية الموضوعية الفاعلة في مرحلة العولمة من جانب آخر.

ـ لقد ترجمنا الكثير الكثير، كما يقول شاويش، ولكن الواقع يثبت عكس ذلك، فقد ترجمنا في رأيي أقل بكثير من القليل، ولا يمكن وصف الترجمة اجمالياً بالهراء. صحيح أن هناك بعض الترجمات لكتب هابطة وعامل التسويق والربح السريع يتحكمان في ذلك ولكن علينا أن ننظر إلى الكتب التي تصدر من المنظمة العربية للترجمة باشراف مركز دراسات الوحدة العربية/بيروت، أو المشروع القومي للترجمة تحت رعاية المجلس الأعلى للثقافة في مصر. ودار المدى في دمشق وحتى على النطاق المحلي هنا في ألمانيا نشيد بمجهودات دار الجمل في كولون والمكتبة العربية Das arabische Buch في برلين رغم ضيق الحال في ترجمة الكتب العربية والألمانية وكلها ترجمات قيمة في مختلف فروع المعرفة. ألم يترجم أهلنا الأوائل من الأغارقة والفرس والهنود؟

ـ يقول شاويش: «قد يوجد منظرون سياسيون جيدون عند الحداثيين العرب وقد يوجد عندهم مفكرون، لكن لا يوجد فيهم فيلسوف واحد.» عندما يقول أحد المفكرين: أن تتفلسف معناه أن تحلل، فإذن عندنا فلاسفة كثر. وأكثر من ذلك فأنك حين تتفلسف فهذا يعني أنك تمتلك قدرة على التصور والتجريد والتحليل في آن واحد. أما إذا كان تعريف الفيلسوف هو الذي يضيف جديداً للفلسفة الإنسانية أو ما يعني وجود ضعف في التنظير عندنا، وهي هنا اشارة شاويش، فهو محق في ذلك، ولكن لماذا الحصر هنا؟ هل يوجد فلاسفة عرب غير الحداثيين مثلاً في زمننا هذا؟ وحين يتحدث عن الحداثيين العرب فهو يقصد اليسار العربي عموماً. وإذ هو لا ينكر دورهم في حركة التحرر الوطني، ولكنه يمارس تهجماً، أي أبعد من كونه نقداً لهم أو لمواقفهم.

ـ يستخدم شاويش أحياناً كلمات أو مفاهيم أجنبية يرسمها بالحروف العربية ولا يترجمها، مثل الفيزولوجيا والانثروبولوجيا، فهذه الكلمات لا يفهمها القاريء الذي لا يعرف لغة أجنبية، فلماذا لم يستخدم شاويش الترقيم العربي تمشياً مع التأصيل الذي ينادي به.

عنوان الكتاب باللغة الإنجليزية به أخطاء طباعية وأسلوبية ( في العنوان فقط!!). لا شك هذه أخطاء الناشر ولكن يعود ذلك أيضاً على الكاتب الذي يتحدث عن سوء الترجمة وفوضى المصطلحات في العالم العربي.

ـ بالرغم من الغيرة القومية والتباهي بالذات في أكثر من موضع في الكتاب والتمسك الذي يكاد يصل حد التعصب بالخصوصية والهوية أحياناً. والأحكام المطلقة دون تبصر مسألة بالغة الخطورة. إلا أن شاويش لا يرفض الحضارة الغربية بالإطلاق. فيقول إن للحضارة الغربية ابداعات هائلة ومحاسن لا يمكن ولا يجوز انكارها لصاح البشر غير أن جوانبها اللاإنسانية ما عادت تُخفى على حكماء الغرب قبل أي أحد آخر.

ويقول شارحاً بيانه التأصيلي: لا تقوم التأصيلية على نزعة دفاعية وهي بعيدة كل البعد عن أية نظرة متعصبة، تفضل شعباً على شعب أو تجربة حضارية على تجربة أخرى، وهي لا تنكر وحدة البشرية في جوهرها ولكنها تدافع عن الفكرة البسيطة القائلة: مع القهر وفرض الأفكار الخاصة على الآخرين لا يمكن تصور أي نوع من أنواع الوحدة الإنسانية.

وسواء اتفقنا مع آراء الكاتب أم اختلفنا معها، فآراءه جديرة بالتأمل وتدفعنا إلى التفكير وإعادة التفكير في قضايانا الملحة وهذه قيمة أي كتاب جاد وقيمة أي كاتب يحترم قارئه حتى إذا لم يقودك إلى الاقتناع بأطروحاته أو تحليلاته.

وقبل الختام أود أن استشهد بكلمات لكاتبين مرموقين: يقول الطيب صالح الروائي المبدع في قصته القصيرة «دومة ود حامد»، قررت الحكومة في الخرطوم قطع شجرة الدوم في قرية ود حامد لتنظيم مشروع زراعي (اشارة رمزية للتحديث) وكانت الدومة التي نبتت في أرض صخرية لا يقوم فيها زرع كما يقول أهل القرية وصارت لهم رمزاً ومزاراً. وقف أهل القرية جميعاً أمام الشجرة وطردوا عمال وموظفي الحكومة من القرية. يقول الطيب صالح على لسان الراوي:

لن تكون ثمة ضرورة لقطع الدومة، ليس ثمة داعٍ لازالة الضريح، الأمر الذي فات على هؤلاء الناس جميعاً أن المكان يتسع لكل هذه الأشياء، يتسع للدومة والضريح ومكنة الماء ومحطة الباخرة.

ويقول الراحل المفكر إدوارد سعيد: «إن احدى المنظومات الرئيسية في الثقافة والإمبريالية هي رفض الكِتاب للفصل المطلق بين الأبيض وغير الأبيض بوصف هذا الفصل اسطورة من الأساطير الآثمة للإمبريالية ذاتها، فالحق إن عالمنا هو عالم من المشاركة والثقافات المتقاطعة والمتفاعلة والمتلاقحة التي تمتلك علاقاتها وصراعاتها من الثراء الفتان ما يمتلكه التاريخ الإنساني عينه.

أتمنى أن يواصل شاويش الكتابة في مشروعه التأصيلي وأن يضيف إليه تجربته الألمانية وأن يكون عنوان كتابه الجديد: نحو ثقافة تأصيلية وتواصلية.


الكاتب طبيب وكاتب سوداني مقيم في برلين 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ كاتب فلسطيني مقيم في برلين
2ـ صدر الكتاب في دمشق: دار نينَيوَى 2007