تقرير تشكيلي

الفن لغة لمحاورة عميقة مع الذات والوجود

إدريس الخضراوي

نظمت وزارة الثقافة المغربية معرض الفنانة أسماء بالعافية  برواق  محمد الفاسي  بالرباط. من16 مارس  2010 إلى  30  مارس 2010. افتتح المعرض يوم الثلاثاء 16 مارس 2010 على الساعة السادسة و النصف مساء.

إضاءات حول أعمال الفنانة أسماء بالعافية

تعد الفنانة المغربية أسماء بالعافية (1974) من الأسماء الشابة في الحركة التشكيلية المغربية المعاصرة. لكن ذلك لم يمنعها من تحقيق تراكم نوعي في تجربتها الفنية سواء على مستوى عدد اللوحات المنتجة أو على مستوى الاقتراحات الجمالية المقدمة فيها. وهي بهذا العطاء النوعي المسنود برؤية فلسفية وروحية للفن، تبدو كما لو أنها تخلق للحياة أفقها الخاص. تابعت بلعافية دراساتها الجامعية في شعبة العلوم الاقتصادية لكنها لم تكف عن رَفْدِ مسارها كفنانة وتوسيع أفقِ تجربتها بالانفتاح على الحقل الفني تنظيرا وممارسة. وضمن هذا الإطار يندرج ولوجها لمعمل الفنون التشكيلية التابع للمعهد الثقافي الفرنسي بالرباط سنة 1991. لقد عكس هذا التوجه المبكر حاجتها إلى اجتراح أسلوب خاص بها، يُحرّرُهَا من أسار الموضوعات المبتذلة والأنساق السائدة، ويرتادُ بها أفاق العوالم الإنسانية المسكونة بالرموز والأسرار والكنوز المدهشة. وليس غريبا أن يجمعها أول عرض للوحاتها برواق أركان بالرباط سنة 1991 مع فنانين مغاربة يتميزون بحضور لافت في المشهد التشكيلي المعاصر ك ماحي بنبين ومحمد قاسمي فضلا عن الكلاوي وكودايد وآخرين.

لقد ظلت أسماء بالعافية حريصة على الحضور النوعي في مشهد الحركة التشكيلية المغربية، إذ نظمت عرضا خاصا لأعمالها سنة 1996 برواق محمد الفاسي ونال إقبالا واسعا. وفي سنة 1997 تم اختيارها للمشاركة في الملتقى الأوروبي المتوسطي الذي نظم تحت الرعاية السامية للمرحوم الحسن الثاني بأصيلة. وفي سنة 2000 تمت دعوتها لتمثيل المرأة المبدعة وذلك بمناسبة اليوم الوطني للمرأة وعرضت إلى جانب عشرين فنانا مغربيا منهم المرحومة الشعيبية وأكونزاني وهديبي وآخرين. كما انخرطت في الدفاع عن الأشخاص ذوي الحاجات الخاصة مجسدة بذلك البعد الملتزم للفنان. أما سنة 2007 فمثلت أفقا جديدا في مسارها الفني، إذ التحقت بالعافية بالمدرسة العليا للهندسة الداخلية بالرباط ، وهذا ما مكنها من أن تضخ نفسا جديدا في تجربتها الفنية ليس فقط على مستوى الأسلوب والتقنية، وإنما كذلك على مستوى الرؤى والمضامين والأسئلة التي تنشغل بها. كما أن إقبالها على قراءة الأدب العالمي وتذوق روائعه السردية والشعرية مكنها من أن تنتقل باللوحة إلى مهاد جديدة.

والناظر إلى تجربة أسماء بالعافية في شموليتها يلاحظ أن اشتغالها على الألوان والخطوط والأضواء والخيال الجموح يكتسي أهمية بالغة، فهو لا يعكس تطورا في التجربة التشكيلية لهذه الفنانة الشابة وحسب، بل يؤسس على مستوى التلقي النقدي فرضيات أساسية لقراءة أعمالها واستكشاف أبعادها الدلالية. ولذلك يصعب تأطير منجزها ضمن خلفية احترافية مضيقة. فهي تحتفي باللوحة وتشملها بفرح طفولي لا يقاوم، لكأني بها على قناعة راسخة بأن العمل الفني لا يكون جديرا بالاستقبال والتثمين من قبل الآخر إذا لم تُسَر به الذات المنتجة ويهدهد روحها. ولأن إبداعات أسماء بالعافية تصدر عن فهم خاص للفن ورسالته الأكسيولوجية فإنها تعكس انحيازا واضحا إلى المجتمع، وتشخيصا لوضع المهمشين والمنسيين فيه وسعيا إلى تمكينهم من ذلك النور المشع الذي يعيد لهم ذلك التوازن المفقود، ويحمي أحلامهم من النسيان، ويسندهم في رحلاتهم بحثا عن أجوبة ممكنة للأسئلة التي تؤرقهم. وكل ذلك لا يمكن فهمه إلا بوصفه نوعا من التعبير عن رؤية للعالم لها خصوصيتها قياسا إلى ما هو متحقق في التجربة التشكيلية المعاصرة بتياراتها واتجاهاتها وأسئلتها المتعددة. لكأنها بذلك تشتق هويتها الإبداعية الخاصة التي لا يمكن التعبير عنها إلا بأسلوب ورؤية فنية متجددين.

إن الأعمال التشكيلية لأسماء بالعافية لا تتركك تمضي دون أن يتملكك قلق السؤال حول المصادر والمرجعيات التي تؤطر تخييلاتها وابتكاراتها. فالألوان تحظى بحضور لافت ليس فقط في الأعمال المنتجة خلال السنوات الممتدة من 2006 إلى 2008 وإنما كذلك في لوحاتها الحديثة، وإن كنا نلمس جنوحا نحو التركيز في الآونة الأخيرة على لون بعينه كاللون الرمادي. وإذا كان المزج بين الألوان في الأعمال المبكرة يوفر للوحات نفسا تفصيليا، وهو مسلك فني ينسجم مع البدايات وما يصاحبها من دهشة وتوتر، فإن الاشتغال على لون بعينه في أعمالها الحديثة يُحرّضُ المشاهد ويَحُثّهُ على استنفار قدراته التأويلية بهدف تلمس ذلك النور المتدفق الذي يحفز على الإبداع.

تأسيسا على ذلك، تكشف أعمال أسماء بالعافية عن روح شاعرية خلاقة تتوالد منها أشكال إبداعية بألوان وتصاميم وخطوط ورؤيات تجتمع لتشكل ذلك الجوهر الذي يختزل هوية التجربة ويرسم أبعادها ودلالاتها. فأعمالها تغوص عميقا على أولئك المنسيين والصامتين والمقموعين لتمنحهم عبر الضوء والظلال ذلك الصوت الذي يحررهم من سطوة الزمان وإكراهاته. وفي هذا الجانب بالتحديد تطور بالعافية أسلوبا خاصا في الاشتغال على التجريد بعيدا عن المعيارية الضيقة المرتكنة إلى منظورات وتصورات جاهزة. وتلكم، في تقديري، بعض من أسرار العوالم التي تتوطن لوحاتها.

·                    كاتب و ناقد