تقدم مقالة الكاتب الليبي لرواية باموق الكبيرة قراءة مبدع يعرف عالم من يكتب عنه، ويحتفي بعمل قادر على الكشف عن روح الكاتب ومشاغله.

أورهان باموق: جودت بك وأبناؤه

قراءة في أدب أورهان باموق

محمد الأصفر

الأدب التركي عرفته من خلال عدّة كتاب قرأتهم من قبل.. جلال الدين الرومي.. ناظم حكمت.. يشار كمال.. عزيز نيسين.. قرأت عنه أيضا من خلال قراءتي للكتب التاريخية التي تتحدث عن العثمانيين في الوطن العربي.. وفي ليبيا كان للأتراك حضورا مميزا.. حتى أن بعض عائلاتهم صارت من نسيج المجتمع الليبي.. عندما كانت ليبيا محتلة من الأسبان وفرسان القديس يوحنا استنجد سكانها بالسلطان التركي وكانت البحرية العثمانية آنذاك سيدة البحر الأبيض المتوسط.. أرسل السلطان إلى ليبيا مراد آغا ودرغوت آغا وسنان آغا.. وطردوا الأوروبيين من طرابلس ومنذ ذلك التاريخ عام 1571 سجل الأتراك حضورهم إلى ليبيا فاتحين وليسوا مستعمرين.. ليتطور الحدث بعد ذلك وتتعاقب الأسر الحاكمة والباشوات لينتهي نفوذهن مع وصول جحافل الغزو الإيطالي إلى ليبيا عام 1911 م ليدشن حقبة تاريخية مؤلمة في تاريخ الشعب الليبي وليحمل هذا الأستعمار منفيين إلى جزره الباردة لم يعودوا أو يُعرف مصيرهم حتى هذا اليوم بداية عام 2008 م بالإضافة لما ارتكب من عمليات قتل ودمار وشنق توجها بشنقه لشيخ المقاومين والشهداء عمر المختار.

تركيا ليست غريبة عني دينيا او تاريخيا أو حياتيا فقد سبق أن زرتها أكثر من ثلاثين مرة وأعرف أسطمبول ربما أكثر حتى من بعض أهلها وكذلك أزمير.. مارست فيها التجارة والصعلكة والمناوشات مع الأتراك والرومانيين والروس والبلغار وكل الذين يأتونها من أجل تجارة الشنطة والسياحة معا.. تذوقت أكلاتها ودخلنا فنادقها وحاناتها وشجعت فرقها خاصة غلطة سراي الذي برز اوروبيا خلال التسعينات وفنار بخشة وباشكتاش.. سافرت عبرها بالباص وبالقطار وبالطائرة وركبت تاكسياتها التي معظمها اسمها مراد وشاهين وهما محورتان عن سيارة رينو الفرنسية وسيارة فيات 132 الإيطالية.. شاهدت في تركيا شخصيات كثيرة حمالين وقوادين وتجار ومثقفين وموظفين ورجال جيش وشرطة وبلدية وجمارك ومن كل الشرائح.. ما كتبه باموق في روايته لم أجده غريبا رأيته وأنا أقرأ رؤي العين.. هذا الكاتب كاتب كبير وقلمه يغوص في نار لا تنطفيء.. الرواية التي بصدد قراءتها عبر هذه الأوراق رواية طويلة.. لكن رغم المشاغل بدأت فيها وفي زمن قياسي كنت قد التهمت الثمانمئة صفحة بكل حب وتمنيت لو أن هناك جزء ثان منها لأواصل القراءة إلى ما لا نهاية.

جودت بك وأبناؤه هي أول رواية لأورهان باموق (نوبل 2006) وفي أول رواية عادة ما يضع فيها الروائي خلاصة أفكاره ورؤاه وجنونه، ومن هذه الرواية الأولى خرجت بقية رواياته.. فكلها عبارة عن أصداء وتفصيلات موسعة لمواضيع تناولتها "رواية جودة بك وأبناؤه" والتي كتبها في مدة أربع سنوات.. وهي مدّة كافية لإنتاج رواية جيدة ومحكمة.

الذي جعل باموق يتألق في فن الرواية هو الصدق.. الصدق في الكتابة وأيضاً في التأثر، فهو لا يهرب من أصداء الآخرين في نصه، إنما يمتص هذا التأثر ويسبغه بنكهته التركية ذات البعد العالمي خاصة الشرقي منه بالرغم من انحياز باموق الصريح لثقافة الغرب وحداثته. يكتب النص ببراءة طفل يعبر عن مشاعره، اعتقد كثيراً أنّ المشاهد الموجودة في روايته قد قام بتمثيلها قبل كتابتها.. فعندما يطلق آهة حسرة عبر إحدى شخصياته فهو يطلقها من صدره أولاً ليسمعها ويرى شكلها مباشرة، ومن ثم يدونتها، الكثير من الكتاب ومنهم كتاب كبار ركضوا وراء الاختلاف والمغايرة وطرد نكهات اللاوعي من نصهم وفشلوا حيث انتجوا نصوصاً ممسوخة يرممونها بالتنظير والتحدث عنها في وسائل الإعلام المختلفة إلى حد الملل.

في هذه الرواية أجد ظل "فوكنر" تركياً وليس "فوكنر" الجنوبي الأمريكي، وظل ديو ستوفسكي وبورخيس ويشار كمال ونجيب محفوظ وروسو وماركيز.. أجد في هذه الرواية كل قراءات أورهان باموق مفروشة على الأحرف، لكن لم تكن هذه الظلال مزيفة أو موضوعة في مكان غير مضيء وليس به شمس.. بل وضع هذا الروائي الفذ كل شيء في مكانه.. ووظف مهارته ومعلوماته ورصيده المعرفي بطريقة هندسية ثم ربط البراغي جيداً بمفتاح قلمه.. فعل كل هذه الأشياء من دون أن يحاول الهرب من إبائه أو قتلهم.. لقد وضعهم في قلبه وارتقى بهذا القلب لينظر إلى أبعد كما يعبر عن ذلك نيوتن أو أمبرتو أيكو في كتابات قديمة قرأتها لهما.

لم يفعل شيئاً أورهان باموق ولم يعلن الطوارئ أو يقوم بأي طقوس أو يشرب أو يحشش أو يصير بوهيمياً أو يصير مخملياً عندما قرر أن يكتب رواية.. الذي فعله هو ترك دراسته في كلية الهندسة وهو قاب قوسين أو أدنى على التخرج، وجلس في غرفته صحبة كتبه وورقه (يكتب على الورق البياني فقط) وأقلامه وسجائره.. يجلس للقراءة والكتابة جلسات طويلة قد تستمر الجلسة إلى أكثر من خمس ساعات.. يدخل في بئر الإبداع وينسى نفسه حتى تنبهه الحاجات البيولوجية الضرورية من جوع أو عطش أو دخول الحمام.. الرجل يبذل مجهوداً كبيراً ويحترم موهبته وعشقه وحبّه للكتابة يقول في إحدى حواراته أدين لوليم فوكنر بذلك منه تعلمت بما معناه أنْ أبذل الجهد لقد قرأت لوليم فوكنر هذه المقاطع التي أثرت في وجعلتني روائياً جاداً.. يقول فوكنر:

"تسعة وتسعون بالمائة من الموهبة.. تسعة وتسعون بالمائة من النظام.. تسعة وتسعون بالمائة من العمل، عليه" يقصد الكاتب" ألا يشعر أبداً بالرضا عما يفعل , فالعمل لا يصل أبداً إلى الجودة التي يمكن أن يكون عليها. لا تكف عن الحلم. واطمح إلى أعلى مما تحسب أنك قادر على تحقيقه. لا تقصر اهتمامك على أن تبز معاصريك أو أسلافك. حاول أن تتفوق على نفسك، الفنان خالق، لكنه خالق تدفعه الشياطين، هو لا يعرف لماذا اختارته الشياطين هو بالذات، وهو دائم الانشغال عن التساؤل عن سر ذلك، هو لا أخلاقي مطلقاً بمعنى أنه يسطو أو يستعير أو يتسوّل أو يسرق من أي شخص لكي يكتمل العمل.. وليس من مسئولية للكاتب إلا التي تجاه فنه".

دعونا الآن من طريقة باموق في الكتابة وكيف صار كاتباً وسيرته الذاتية ودراسته وكل التفاصيل الأسرية التي عاشها أورهان باموق ولندخل في صلب الرواية.. رواية جودة بك وأبناؤه ,, هذه الرواية التي تسرد جانباً مهماً من الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لتركيا عبر عائلة من الطبقة المتوسطة تعيش في مدينة اسطنبول في الحي العريق (نيشان طاش) وهو حي راقٍ، يسكنه التجار ورجال الجيش أصحاب الرتب والنواب والباشوات، كان اسم رواية جودت بك أبناؤه الذي نشرت به أول مرة وفازت بجائزة الرواية التي نظمتها جريدة ميليت هو (رواية النور والظلام).. وعندما تمَّ نشر الرواية لأول مرة في كتاب بعد أن نشرت في الأول على حلقات على صفحات الجريدة غيّر باموق اسمها من النور والظلام إلى جودة بك وأبناؤه، وذلك هرباً من التقريرية والمباشرة.. حيث البطل الحقيقي في الرواية هو مصباح الكهرباء.. جودت بك تاجر يتاجر في المصابيح الكهربائية يستوردها من ألمانيا التي كانت على علاقة وطيدة بالحكومة التركية سواء حكومة السلاطين أو حكومة الغازي مصطفى كمال أتاتورك.

لم يجد باموق النور في الهندسة فتركها وولج عالم الرواية باحثاً عن هذا المصباح بين ثنايا الكلمات فكان بطله تاجر نور أو تاجر مصابيح وهذا البطل جودت بك هو عمود الرواية الذي تعلق به هذا المصباح ومن بعده بقية المصابيح الجديدة وكهرباء هذا المصباح أو زيتة هو تاريخ الشعب التركي المتطلع إلى التقدم والباحث عن معنى لوجوده في هذا العالم.. فكل شخصيات باموق في هذه الرواية باحثة عن النور كل بطريقته.. فهناك من يبحث عنه عبر الكتب والأدب وهناك من يبحث عنه عبر النضال السياسي.. وهناك من يبحث عنه عبر العرق والنساء والحياة المفتوحة.. لقد أطلق باموق كائناته ضاغطاً بإصبعه على زر الكهرباء الأدبية لتنير جميعها وتعبر عن نفسها بطريقة ديوستوفسكي.. تلك الطريقة الحزينة والمفرحة والصادقة والمستغرقة في التداعي من أجل الوصول إلى أعلى درجة من التعبير الصادق.. كل شخصية تركها تتنامى نفسيا على هواها وتختفي عندما ينتهي دورها وتؤدي وظيفتها الفنية على ركح السرد.

من المصباح أو النور انطلق باموق ليكتب معظم رواياته اللاحقة.. النور من الغرب ليضيء الشرق الذي تشرق منه الشمس.. يالها من مفارقة.. لقد قبض باموق على جذر مهم له فروع وتفرعات كثيرة.. قيمة مهمة استطاع أن يلعب بها مثلما أراد.. تناول الشرق والغرب أو الشمال والجنوب بطريقة الضوء الرؤية.. أحدث بينهما صراعاً، مد وجزر، كر وفر، وفي النهاية يقول لنا أنهما مكملان لبعضهما البعض، ولا أحد سوف يستغنى عن الآخر ومهما استمرت الحياة فسوف تنتصر المعرفة والفن والأدب والنور الصادق وحتى في نهاية الرواية وبعد رحلة طويلة في تمطية الأجيال وولادة النطف وموتها يصل بنا إلى شخصية أحمد وهي شخصية باموق في اللاوعي.. تلك الشخصية المخلصة للفن وللأدب والمراهنة عليه.. يترك هذه الشخصية حُرّة مع ألوانها ولوحاتها وكتبها من دون أن يزوجها لتنجب آخرين قد يكونون غير مضيئين كفاية.. ترك هذه الشخصية ترسم اللوحات وتفضل إهداء هذه اللوحات على بيعها، فالهدية أعظم من التجارة ومن المال.. والهدية شيء غالٍ عزيز محافظ عليه إلى الأبد لكن النقود التي تجلبها التجارة يتم إنفاقها بأي صورة كانت أو ادخارها أي أنها نقود ميتة جامدة.

اللوحة المهداة هي مصباح منير دائم في القلوب أورهان باموق عاش في بيت جودة بك وقلّبه وأرانا كل أحشائه عبر الحب والخيانة والفرح والحزن.. عبر الأغاني التركية.. وعبر المأكولات والحلويات والمشاريب التركية وعبر الملابس والزرابي والمفارش والخردوات والآثاث والمعمار التركي المميز.. وعبر العلاقات والصراعات السياسية وحتى الرياضة ذهب إلى ميادينها وصوّر لنا انتصارات فريق فنار بخشة وتأثيرها على جمهوره العريض في حي نيشان طاش.. قدّم لنا في روايته اسطمبول المدينة متعددة الأعراق.. قدم لنا اركيولوجيا شاملة لأحيائها العديدة: نيشان طاش..لالي.. تقسيم.. عصمان بي.. باشكتاش.. توب كبي.. أحمد باشا.. وغيرها.

والجميل في الرواية أنه صوّر لنا مضيق البسفور.. هذا المضيق التاريخي الشهير الفاصل بين أوربا وأسيا وتخيله جافاً وكأنه يقول لنا إن لم نتداول المصباح بين الشرق والغرب فستعجز سفينة الحياة عن المرور من خرم التاريخ والسعادة وستموت الأسماك وعرائس البحر وستنفصل القارات عن بعضها البعض.. فالذي يجمع القارات إلى بعضها هو البحر هو الماء هو المطر.. لقد كان الكون ومن خلق الكون عادلا أن قسّم الشمس بين الشرق والغرب قسّم الماء بين الشمال والجنوب جاعلا من جفاف هذا بلل لذاك ومن دفء هذا جليد لذاك.. لقد اختزل المسافات وجاذبها إلى بعض فطريا.. الشيء يريد عينا تراه والعين تريد شيئا تراها.. المصباح نور الظلام والظلام نور المصباح من الممكن أن نسأل مصباحا فسيجيبنا فقط علينا أن نفهم لغته أولا.

سنجد في الرواية الحياة بكامل تجلياتها، الشخصيات قسمها بطريقة ذكية تشمل جوانب الحياة جميعها..

جودة بك وزوجته نيغان خانم هما أساس الأسرة يمنحان الحب للجميع.. رؤاهم فطرية تتعلق بالحب والدفء والاستقرار وتربية الأسرة تربية حسنة.. أخ جودت بك ثوري من المبشرين بالتغيير في تركيا وإنتهاء حكم السلاطين.. درس في فرنسا حيث تأثر هناك بالنزعة الثورية وبالحداثة لكنه وقع في فخ إدمان الشراب، شخصية منحازة للعقل غير مؤمنة بالدين، تسخر من كل شيء.. هذه الشخصية معبرة جداً عن شخصية الكاتب أورهان باموق. ونجد امتداداً لها في الرواية عبر شخصية عمر الذي درس في إنجلترا وبدأ حياته الجديدة في اسطمبول وأراد أن يتماشى مع المجتمع التركي فخطب الفتاة ناضلي ليتزوجها ولكن ما ترسخ في رأسه من حرية واستقلالية وانفتاح وسخرية بالموروث والقيم هو الذي انتصر فاعتكف لحياته الخاصة وفسخ خطبته بالفتاة التي ستحوله إلى إنسان تركي بأنف كبير وشنب كث وكرش.. إنسان نمطي يعيش كما يريده المجتمع وكما يتصوره الغرب غلطا.

عمر أحضر مصباحاً من إنجلترا ورفض أن يغير طاقته أو وقوده بزيت وكهرباء الأتراك.. اشتغل في السكك الحديدة حتى تمكن من الحصول على المال الكافي الذي يمكنه من مواصلة الحياة كما يريد.. وحتى حكاية السكك الحديدية قيمة وتيمة مهمة في الرواية لها علاقة بالحداثة وبالتوصيل وبالانتقال وبالنور أيضاً واشتغال شخصية عمر في هذا المجال ذكاء من باموق وكما يقولون ضربة معلم.. لكنني اعتبرها مكشوفة جداً ومؤذية لإبداع هذا الكاتب، وقد تخلص من هذه الإشكالية في رواياته اللاحقة خاصة روايته اسمي أحمر التي اعتبرها قد وصلت درجة عالية من الجودة وليس من الكمال.. فما زالت في تلك الرواية (اسمي أحمر) مسألة صنع التشويق وشد القارئ عن طريق الحبكة البوليسية وجريمة القتل، ومن قبل ذلك فعل ذلك امبرتو أيكو في اسم الوردة ولاحقاً نجدها لدى دان براون في شفرة ديفنشي، فهذه الروايات الثلاث قدّمت معلومات ثرية وفنية وتحليلات إبداعية وعمق روائي كبير.. لكن كل القيمة المعرفية قدمها عبر الإتكاء على الحبكة البوليسية وعلى البحث عن المجرم وأفضّل في الروايات طريقة البحث عن الماء أو النور بعيداً عن الدم وآلامه وعفنه.

الشخصيات النسائية الواردة في الرواية شخصيات معروضة بطريقة منطقية.. تناولها أورهان باموق تناولاً جميلاً معبراً عن أفكار كل واحدة وفق ثقافتها وظروفها المعيشية فنجد الصابرة ونجد المتمردة ونجد الحنونة.. كل امرأة أسبغ عليها أحاسيسها وألبسها ملابسها الروائية اللائقة وأثث محيطها بما هو ملائم.. قاد السرد بواقعية.. فمثلاً عائشة فتاة العائلة المراهقة المدللة قبل أن تسافر أو يتم تسفيرها إلى خالها في سويسرا كانت عاشقة لزميلها في مدرسة تعليم الموسيقى.. تمشي معه في شوارع نيشان طاش وتحبه وتعشقه بجنون لكن عندما سافرت وعادت انحازت لطبقتها وتركته وأحبت وتزوجت ابن خالتها السمين الثري وهنا ابتعاد جيد عن الرومانسية الفجّة وانقياد صحيح لطبيعة الحياة البشرية المنحازة للجاه والمال على حساب الصدق وغيره من القيم.. كذلك في هذه الحادثة غوص نفسي في نفس المراهقة التي غيراختيارات بندولها الابتعاد شهوراً من مكان الشرق تركيا إلى مكان الغرب خالتها في سويسرا.

كان أورهان باموق وهو يكتب هذه الرواية متشرباً كل الشخصيات والأجواء فهو كل شخصية حتى وإن كانت شخصية نسائية.. نرى أن نبرة الصوت واحدة منسجمة في كل أجزاء الرواية.. الصوت صادر من بيت تركي اسطمبولي أصيل.. هو لم يبتعد ليستحضر الشخصيات من ذاكرة بعيدة قد لا تكون في رأسه إنما استخدم القريب.. كل شيء قريب منه لمسه وشمه واستنشقه وتذوقه وعضه ونفخ عليه وخبئه وحلم به.. كل شيء قريب منه وظفه ورماه في مكانه المتخيل له في هذه الرواية.. اشتغل على نفسه في كل مراحلها فقدم لنا شخصيته.. طفلاً وطالباً ورجلاً.. قدم لنا نفسه من خلال زوجته..أمه.. أخيه.. أخته.. وبالطبع أبيه.. قدم لنا من خلال نفسه عوالم دراسته للهندسة والصحافة والعمارة.. قدم لنا تجربته كاملة في بدايته كرسام.. نلحظ ظلالها في آخر الرواية عبر حفيد جودت بك أحمد الذي يحترف الفن التشكيلي ويؤمنه به.. قدم لنا من خلال روحه الحي الذي عاش فيه.. حي نيشان طاش العريق مبرزا الحالة الاقتصادية والسياسية التي عاشتها تركيا قبل الحرب الثانية وبعدها.

لقد كان باموق وفياً جداً لقراءته المتعددة خاصة الروائية منها.. تلك القراءات هي المصباح الذي أضاء لباموق درب الإبداع فسار غير متعثر ولإن السير بثبات يحتاج إلى وقت ورسوخ.. فقد منح كل أعماله بصبر ورضا وقت نضجها التام.. رواية جودة بك وأبناؤه أربع سنوات.. رواية اسمي أحمر ست سنوات، لقد مارس قيمة الصبر والتأني ممارسة حقيقية.. مرّت به وهو يكتب الكثير من الظروف الاجتماعية وغيرها واستطاع بفعل إيمانه العميق بجدوى الأدب أن يتغلب عليها ويمنح وقته كاملاً للكتابة.. سارقاً من حياته كل شيء لصالح الحبر والورق والمخيلة.

هذا الكاتب وضع سعادته في الورق واعتقد أنه كسب ومثل هذا الرجل المبدع.. الملتصق بنصه والناجح في الرهان في مجاله لا بد وأن يتعرض إلى حملات محركها الأساسي الحسد والحقد ومحاولة إدخاله لحضيرة الدولة وخاصة بعد أن تحصل بجدارة على جائزة نوبل، والتي عزّى الكثيرون حصوله عليها لأسباب سياسية وخاصة إدانته واعترافه بمذبحة الأرمن التي اقترفتها السلطات العثمانية.. وبالنسبة لهذا الأمر وبعيداً عن كل الخلفيات السياسية فهذه الإدانة للمذبحة واجب إنساني، فموت إنسان أو قتله بغض النظر عن عرقه ودينه يجب إدانته وتجريمه وإقفال ملفه بطريقة عادلة وقد قال باموق رأيه في هذا الأمر وعلى أثر تصريحه هذا قامت السلطات التركية بمحاولة تقديمه للمحاكمة لكن باموق كان ذكياً في اختيار الوقت ففي هذا الوقت الذي تسعى فيه تركيا للانضمام للإتحاد الأوروبي لا يمكنها أبداً الاقتراب من باموق ومحاكمته خاصة الآن بعد أن تحصل على جائزة نوبل.. يقول "أولي ريهن" مفوض الاتحاد الأوربي لشئون توسيع الاتحاد: "إن محاكمة باموق ستكون اختباراً حاسماً لتركيا في سعيها للانضمام إلى أوروبا" ورأى هذا المفوض أن تركيا هي التي ستحاكم وليس باموق.

ولكن ومع أنَّ أورهان باموق بإمكانياته الأدبية فقط وبعيداً عن تأثيرات ومتاجرات السياسة يستحق الجائزة بجدارة.. إلا أنَّ الوقت التي منحتها هيئة نوبل له يثير أكثر من علامة استفهام.. لقد بدأ الأمر وكأنها توجه صفعة لتركيا.. على رأي الكاتب بيار أبي صعب. هجومات أخرى تعرض لها باموق خاصة من أبناء جلدته الأتراك حيث أشاعوا عنه أنه يهودي وأنه من مدينة سالونيك.. وأنه ما سوني والمنظمات الماسونية هي التي وقفت معه ودعمته ليحصل على نوبل واعتبر كل ذلك الكلام هراء.. فالكاتب باموق موهوب ومنظم وعاشق للأدب وبذل جهداً جباراً لذلك انتزع نجاحه من ظلمات الفشل.. ادعاء البعض على أنه يهودي من سالوسانيك يجيب باموق في إحدى حواراته: أنا شركسي مُترّك، وحول الادعاء أنه يهودي يقول: لم أقرأ هذا.. الناس ينقلون لي هذه الإدعاءات.. وأجد أن هذا معيباً، أنا لست يهودياً، أنا لست سالونيكياً، ولو كنت كذلك لأفصحت عنه.. والله أنا لست يهودياً !!.. وبالرغم من أن باموق يقسم بالله في السطور السابقة إلا أنه يصرّح في إحدى الحوارات لصحيفة أسبانية إثر صدور روايته "الحياة الجديدة" بالأسبانية "أنا ملحد من أسرة ملحدة".. هذا التصريح أثار حفيظة أمه حين نشر في جريدة الحرية التركية وردت عليه امه في الجريدة نفسها قائلة: "ليتكلم أبني باسمه، وأنا أتكلم باسمي، نحن لسنا ملحدين، كرهت ابني حين قرأت الخبر.. إن أسرتنا تقوم بواجباتها الإسلامية كلها".

وهنا أحب أن أوضح فهمي لمسألة إلحاد باموق ,, قوله أنه من أسرة ملحدة.. فهذه الأسرة هي أسرته الأدبية المتمثلة في المبدعين الذين أمن بإبداعهم والكتاب المخلصين لفن الكتابة وإلحاده هنا هو إلحاد أدبي وليس ديني أي أنه غير تابع لأحد وغير مقلد ويكتب نفسه كما يشعر وكما تريد وترغب إرادته.. فالكتابة المنطلقة من مرجعيات معينة هي لن تخدم الفن وستخدم الأشياء المنطلقة منها فقط وهذه الأشياء ليست من صنع الكاتب إنما من صنع الغير.. كل كاتب حقيقي هو ملحد بالضرورة.. والأيمان بالأشياء هو قتل للروح المبدعة الإيمان هو المخدر الذي يضع في رأسك مقود يعمي رؤيتك ويجعلك إمّعة.. كل الكتاب الملحدين نجحوا والكتاب المؤمنين فشلوا فالإيمان قاتل للإبداع ومحطة وصول ورضا وركون واطمئنان والفن هو القلق الدائم القلق المستمر القلق الثائر المشتعل.. متى انطفأ الكاتب فمعنى ذلك أنه آمن وعندما يؤمن الإنسان فمعناه يريد الجنة من دون أن يتسلقها أو يكتب لها نصاً تعتبره الجنة هو جنته.

الإيمان مثل الحب إنْ طغى على الكاتب حدد اتجاهه وفضح مساره وأدخله إلى زنزانة الملل.. الملل يفقد الحلاوة حلاوتها.. الملل مثل الزمن.. يأخذ ولا يعطي وإن أعطى فلغيرك أكثر أو فقط.. الإيمان رشوة من أجل أن تركع وتدس رؤيتك في الظلام. إلحاد باموق ليس له علاقة بالدين.. فعندما يشعر الإنسان بالخوف أو الخطر أو الاحتضار فهناك كلمة سيقولها.. تلك الكلمة هي دين الإنسان.. والدين كلمة حق تنبع من القلب.. ولعل عفوية باموق في قسمه السريع: "والله أنا لست يهودياً" دليلاً على أنَّ الرجل لديه إيمان ولديه إله.. وقوله ملحداً يقصد به أنه أثناء الكتابة لا يتكئ على أي شيء والمهم لديه هو 99.9% من الفن مضاف إليها عدم الرضا والتفوق على النفس.

أورهان باموق استغل في كتابة رواياته كل كبيرة وصغيرة وفي هذه الرواية بالذات نجد اللون الأحمر الذي تميزت به تركيا فهذا البلد منذ القدم وهو بلد صراع وفتوحات ومعارك وورود حمراء وطرابيش حمر ومنسوجات حمراء ولعل تعلق الروائي باموق بالفنان غويا واستدعائه عبر شخصية الحفيد أحمد خير مؤيد لذلك فاللون الأحمر المضاء من أكثر من مكان في اللوحة تميز به الرسام أو غويا واللون الأحمر هو لون النور أو هو بداية النور أو هو شرارة الاشتعال الفكرة.. اشتعال الإنسان.. اشتعال الحياة.. جودت الضوئي المتاجر بالمصابيح هو الفيلسوف الأعمى اليوناني ديويجين الذي يسير بقنديله في النهار لينير ظلام دنيته المتخيلة غير أنَّ جودت بك مبصر ويبيع هذه القناديل من أجل الحياة والمكسب والمال بالدرجة الأولى.. فقدره أن يكون تاجراً وكل تاجر عليه أن يدخل معركة الربح والخسارة وأن يستغل كل فرصة من أجل زيادة هذا الربح وعليه كي يربح كبح عاطفته وقتل واعزه الديني أو الأخلاقي، فجودت بك أثناء الحرب تاجر في السكر.. تاجر في حلاوة الناس وخاصة الأطفال منهم.. باع السكر بثمن باهظ وربما المصابيح لم تحقق له إلا حياة كريمة لكن تجارة الحرب والسكر هي التي جعلت له شركة ورصيداً كبيراً ومصنعاً وأرضاً في الجزيرة القريبة من اسطمبول ففي الحروب الأرباح تتضاعف ربما الذي يجعلها تتضاعف هو اللون الأحمر، والنار المشتعلة أو الدم المسفوح، لقد سيطر جودت بك كأي رأسمالي أو دكتاتور على سكر البلد ومعروف جدا أن الشعب التركي مولعاً بالقهوة والشاي والبقلاوة والكعك.. لقد ركع الشعب التركي جميعه أمام جودت بك ومعاونيه من ضباط وموظفين من أجل الحصول على مكعب سكر صغير يذيبه في كأس مرارته.

أرهان باموق يجلس ساعات طويلة ورأسه تحدق إلى الأسفل إلى الورق يقرأ ويكتب يشطب ويضيف يمزق ويخرج حزم جديدة من ورق الرسم البياني.. رأسه إلى الأسفل.. يغوص إلى العمق باحثاً عن كل ذرة مفيدة لروايته.. لم يترك شيئاً إلا وجلبه لهذه الرواية الأولى.. بل في هذه الرواية جلب بصورة مستقبلية كل رواياته التي كتبها أو سيكتبها فيما بعد.. لقد تعب باموق مرة واحدة.. كتب خطاطته الأدبية.. ومضى يبرقشها متلذذا وعلى مهله.. وصحّة له.

مازالت أصداء رواية (اسمي أحمر) التي قرأتها منذ سنوات ترن في مخيلتّي.. المنظور الأوربي الفلورنسي والرسم العربي المسطح الذي يصوّر الشيء بحجمه الطبيعي ولا يكترث بابتعاده أو قربه من مرمى البَصر.. الصراع بين الشرق والغرب عبر الفن.. هروب الفنانين النقاشين من الغزو المغولي.. لقد كان أولئك الفنانون أذكياء ومبدعين في هروبهم لم يهربوا أماماً إلى الصحراء وبحر العرب إنما هربوا إلى أعلى.. إلى الجهة التي جاء منها العدو.. الجهة التي غزاهم منها العدو.. غزاهم بالدم فغزوه بالفن.. واجهوا الدم بقناديل ألوانهم وخطوطهم النقية وفي النهاية انتصروا واشتغلوا لدى السلاطين المغول الذين أسلموا نقاشين وفنانين ومربين.. الهروب إلى الأمام هو الهجوم اللائق الذي اقترحه باموق.. فهو مثل هؤلاء الفنانين هاجمته الحياة بهندستها ومللها وتعقيداتها وتجنيدها الإجباري ومشاغلها الاجتماعية.. فهرب منها إليها.. توغل فيها وكتبها.. خاض معركته في قلب عرين العدو في غرفته وفي قلبه وفي نفسه تحدّى الجميع وانتصر ونقش للعالم أروع الروايات الخالدة.

في هذه الأيام التي أعيشها الآن أقرأ كثيراً عن الكتـّاب الذين ينشدون الاختلاف والمغايرة والتجاوز إلى أي اتجاه كان.. يفعلون ذلك من دون رصيد معرفي أو إرث ثقافي أو اجتهاد كثيف بالقراءة على الأقل.. لا أريد أن أتطرق إلى الأساس وهو الموهبة.. كي لا نظلم أحدا لأن كل إنسان موهوب في شيء بالضرورة عليه أن يكتشفه.. يقومون بالأمر بصورة عبثية فتخرج نصوصهم ممسوخة خالية من الفن والصحيح حسب ما أرى أنّ يكتب الكاتب نصه بصدق، لا يهرب من قراءاته أو معايشاته.. لا يتقعر أو يتحدب أو يتشقلب.. لقد أعجبني كاتب مغربي اسمه أنيس الرافعي يكتب قصصاً غير مفهومة بالطريقة المنطقية.. لكن يمكننا أن نتذوقها بطريقة المتعة.. أي نقرأها فنتمتع فنبتسم ونتقبلها بحب ولا نشعر بالملل منها، هذا الكاتب قرأت له مقالة يقول فيها أنه من سلالة الكاتب الأرجنتيني خوليو كورناثر (صاحب روايتي الحجلة والرابحون) وتحدث في مقالته عن لغته وعن أشياء من سمات ذلك الكاتب هي موجودة في كتاباته بوعي منه وبترحيب.. لكن حسبما قرأت للإثنين فأنيس هو أنيس وكورناثر هو كورناثر.. فلكل منهما روح مختلفة عن الآخر ومتحدة في شيء اسمه الدهشة.

كذلك اعجبني الكاتب التونسي كمال الرياحي في روايته المشرط التي ضخ في حرارة حبرها بصورة عفوية وصريحة كل ما قرأ من كتب وكل من ما أعجبه من مبدعين سابقين وراهنين.. ترك وعيه ينثال.. مزق بمشرطه دواته أولا.. ثم منحه لشخصيات الرواية لتمزق العالم الممزق من قبل تمزيقات عصرية.

لعل باموق من أسباب نجاحه أنه ترك الإنثيال المخزّن في لاوعيه من قراءته السابقة لكتاب كبار يدخل روايته.. لم يخف من النقاد أن يقولوا أنَّ الساعة التي تدق والبندول المتحرك فيها في فناء بيت جود بك هي ساعة فوكنر في الصخب والعنف ولم يكترث بتعاقب الأجيال الواردة في مائة عام من العزلة لجارثيا ماركيز إذ عاقب حتى هو الأجيال في عائلة جودت بك وفي الحكام الاتراك من السلطان عبدالحميد فمصطفى كمال اتاتورك فعصمت بك ومن جاء بعده.. لم يكترث بشيء وكتب روحه المغموسة في حبر الآخرين.. هو لم يهبط من السماء كاتباً.. هو عاش وقرأ ثم كتب.. هذا جميل جداً.. لكن بالرغم من هذا التأثيث القادم من غيره من الكتاب إلا أنه استحوذ على 99.9% من كعكة الرواية فكل شيء غمسه في تركيا الكبيرة وتركيا الصغيرة اسطامبول وتركيا الأصغر نفسه.

في روايته نجد تصويره للعسكر وهيمنتهم على السلطة وقدرتهم على الانقلاب في أي وقت أرادوا.. مخيبين آمال السياسيين الذين يظنون أنفسهم أنهم يتقدمون نيابياً مثل شخصية مختار بك فبفوهة مسدس وماسورة دبابة يمكن فرض أي أسم لاعتلاء السلطة لكن في نفس الوقت ليكن تحت سيطرة إصبع الزناد.. فكل حكام تركيا من بعد أتاتورك لم يتسلموا السلطة إلا بموافقة العسكر تحت ستار المحافظة على تجذير وتماسك العلمانية والأمة التركية الطورانية.

تركيا بلد كبير وله تاريخ وحضارة وله امتدادات في كافة أرجاء الوطن العربي ولعل كل الشعوب العربية في نسيجها عائلات تركية وفي تركيا أيضاً الشيء نفسه.. ولعل تردد أوروبا في قبول تركيا في الاتحاد الأوربي ينبع من هذا الخطر، فتركيا دولة مسلمة ومعظم ما يلاصقها من دول دول ٍأسلامية وإن دخلت تركيا الإتحاد الأوربي فبعد مدة سيحدث تغييراً جذرياً في أوروبا وربما تصير حدود الديانة الإسلامية من الصين إلى البرتغال.

كتابات أورهان باموق تبهجني وحواراته أيضاً وأعجبتني جداً مقالة له قال فيها: على العالم أجمع أن يعرف الضرر الذي أحدثه نظام بوش بالديمقراطية التركية وأضاف، اعتدنا عبر سنوات طويلة أن نسمع انتقاداً صريحاً من الولايات المتحدة الأمريكية هو: "لا توجد في تركيا ديمقراطية كافية" وبفضل إدارة بوش تحولت هذه القيادة إلى شكاية من أنه "في تركيا ديمقراطية زائدة عن الحد" وبهذا يشير باموق إلى انتقادات رموز إدارة بوش للجيش التركي لعدم تدخله في الوقت الناسب لفرض رأي داعم للولايات المتحدة على البرلمان، ويسمى باموق الديمقراطية الأمريكية بأنها: "حرية حصول الجيش الأمريكي على ما يريد، وعلى الحق بضرب المكان الذي يريد أو قصفه".  

ملاحظة مهمة: بعض الفقرات الواردة في المقالة نقلتها من مواد عن باموق قرأتها في جريدتي السفير والأخبار اللبنانيتين وأيضاً مقالة مترجمة إلى العربية للمترجم المبدع الأستاذ عبد اللي طالعتها على الشبكة.  


روائي ليبي