يسعى الباحث المصري في هذه الدراسة إلى تقديم مقاربة نقدية لبنية وتشكيل الأحلام المختلفة التي يتكون منها آخر أعمال الروائي الكبير نجيب محفوظ.

البنية التشكيلية والرمزية

مقاربة نقدية لأحلام فترة النقاهة لنجيب محفوظ

ممدوح فراج النابي

توطئــة:
(1 - 1)
من المدهش حقًا في حياة الأديب العالمي "نجيب محفوظ" أنه آثر على نفسه ألا يكتب سيرته بنفسه بل ترك المهمة لآخرين، كتبوا عنه سيرته، فصارت بذلك سيرة غيرية. وقد جاء هذا الإصرار على عدم كتابته سيرته بنفسه من فرط إيمانه البالغ بمفهوم السيرة الذاتية ذلك المفهوم الذي صاغه نُقاد الغرب أمثال "فيليب لوجون" الذي عرّفها بأنها (حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية، وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة).(1) وأن يلتزم بالميثاق الخاص بالسرد السيري ألا وهو (الصدق العاري). حيث يَعْلم جيداً أن ذاكرته لن تكون حاضرةً في كثير من الأحداث. ومن ناحية أخرى لأنه ينتمي إلا ذلك النمط من المبدعين العظماء، الذين أنكروا دائمًا الضوابط والحدود الأدبية الماقبلية، فشأن الأديب المقتدر ـ كما تقول جليلة طريطر ـ يقاس بمدى خرقه للنواميس وقدرته على تبديلها وتطويرها، وفوق كل ذلك ينكر الفصل بين ما هو ذاتي مرجعي ووهمي تخييلي ويرى أن الروائي لا يمكن أن يبدع وهو يدير ظهره لتجاربه الخاصة في الحياة لأنها مصدر إلهامه، وبيت القصيد في إبداعه، فقد يجرؤ وهو يكتب رواية على أن يقول ما لا يجرؤ على قوله وهو يكتب سيرة ذاتية، وقد يجد الحديث عن شخصيته من شخصياته المبتدعة من المتعة والشعور العميق بالذات مالا يجده في الحديث المباشر عن (أناه) وقد أكد محفوظ ميله إلى البوح أثناء رويه بأن الاعتراف (السير ذاتي) يؤدي بصاحبه إلى إحساس عميق بالارتياح، ويمكّنه من التخفف من الأعباء والأوزار التي لا شئ يمكن أن يحرره من وطأتها غير الكتابة. وبناءً على هذا جاءت سيرته على ألسنة آخرين، مثل ما كتبه "الغيطاني" بعنوان (نجيب محفوظ يتذكر)، أو ما كتبه ما كتبه "رجاء النقاش" بعنوان (نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته). وقد جاء تحفظ نجيب محفوظ على الإعراض عن كتابة سيرته بنفسه، في رسالة أرسلها لمصطفي سويف ردًا على سؤال مفاده:ـ ألم تفكر في كتابة ترجمة ذاتية صادقة وشاملة على الرغم مما قد تمس من موضوعات حساسة؟ 

جاء رد محفوظ بليغاً:
أما فكرة السيرة الذاتية فهي تراودني من حين لآخر، أحيانًا تراودني كسيرة ذاتية بحتة، وأخرى تراودني كسيرة ذاتية روائية، ولكن الالتزام بالحقيقة مطلب خطير، ومغامرة جنونية، وبخاصة وأنني عايشت فترة انتقال طويلة تخلخلت فيها القيم وغلب الزيف وانقسم فيها كل فرد إلى اثنين، أحدهما اجتماعي تلفزيوني، والآخر ينفث حياة أخرى في الظلام.(2) التزام "نجيب محفوظ" الذي صار سمة لحياته، يؤكد حرص الفنان بألا يخل بالعقد بينه وبين القارئ فمن أهم شروط كتابة السيرة الذاتية كما وضعها نقادها أمثال "جورج ماي"، الصدق العاري، هذا الصدق الذي لا يظن محفوظ أن يتحقق فيما يكتب، وبالفعل تأكيداً لهذا الوعد والالتزام منه، وخشيته ألا يكون مخاتلاً فجاءت سيرته عبر تنويعات لم تألفها الكتابات العربية.

فمرة جاءت موّزعة عبر رواياته، فاعترف هو نفسه بأن شخصية "كمال عبد الجواد" في الثلاثية هي صورة منه، وهناك من رأى من النقاد أمثال الدكتور "خالد محمد عبد الغني" أن شخصية وتاريخ عاشور الناجي في الحرافيش هو تاريخه. حيث قدم "نجيب محفوظ" في ملحمة الحرافيش استبصاراً بذاته وبمصيره هو وبخاصة في شخصية بطلها "عاشور الناجي".(3) وبعضاً منها جاء على سيرة أصداء مثل (أصداء السيرة الذاتية)، والتي رأى أن الصدى يُتيح قدراً من الحرية، لا يمكن محاسبة الكاتب على التفاصيل. هكذا جاءت الأصداء. أما فكرة كتاباتها قفد جاءت بعد إجراء العملية الجراحية له في لندن بعد عودته إلى القاهرة، وقد كانت كما يقول محفوظ (الرغبة مُلِّحة في الكتابة، إلا أنه لم يكن هناك موضوع مُحدَّد للكتابة، إلا في بعض الخواطر قد دارت في ذهنه، وبدأ يكتب هذه التأملات المتمثلة في الأصداء). 

(1 - 2)
وبالمثل (أحلام فترة النقاهة)، فسيرة محفوظ موزّعة داخل هذه الأحلام. وقد رأى "رجاء النقاش" أن أصداء السيرة الذاتية وأحلام فترة النقاهة عملان يعتصران الشعر والموسيقى في أدب "نجيب محفوظ"، وهما موجودان في أدب محفوظ حتى في أعماله التاريخية الفرعونية  وفي أعماله الواقعية، وفي أعماله التي كان يميل فيها إلى الرمز، ومناقشة المشكلات الروحية الكبرى للإنسان، ولكن في أصداء السيرة الذاتية وأحلام فترة النقاهة، لا نجد سوى الشعر والموسيقى في هذين العملين بالتحديد، فنجيب شاعر وموسيقى قبل أن يكون روائياً، ونستطيع أن نُضِيفَ إلى الشعر والموسيقى في هذين العملين ما يمكن أن نسميه بالنظرة الصوفية. هنا "نجيب" يُسلِّم نفسه للكون الكبير، ويمتزج بهذا الكون كأنه أصبح جزءاً من الهواء والماء في الطبيعة، هنا نجيب محفوظ كما يبحث عن إجابات عقلية ولا يضع يده على ظواهر اجتماعية أو فلسفية ويقوم بتحليلها بل هو في (الأصداء والأحلام) شاعر وموسيقار من حيث التعبير المرهف الحساس الدقيق الناعم الذي يعتمد على التركيز الشديد، وهو هنا أيضاً صوفي يرى بقلبه وإحساسه ما لا تراه العيون.

وأعود فأؤكد أن ينابيع الشعر والموسيقى والتصوف موجودة في كل أعمال نجيب محفوظ السابقة ولكنه في (الأصداء والأحلام) تخلّص من كل عناصر الفن الأخرى ؛ ليبقى وحده مع أنغام الحياة والطبيعة وهى الأنغام التي تحولت على يد نجيب إلى عصير نادر يمتزج فيه الشعر بالموسيقى بالتصوف.(4) 

(2 - 1) تَشَكّل الأحلام
جاءت فكرة الأحلام التي بدأ يكتبها نجيب محفوظ، بدءاً من أكتوبر في عام 1994، بعد الحادث الأليم الذي تعرّض له من أحد الشباب المتطرفين، والذي أعماه تعصبه وجهله وسدد خنجره في رقبة الأديب، لكن الله أبي أن يخمد قلب هذا الأديب وقلمه. كان لهذا الحادث الأليم الذي مرّ به الأديب الكبير أثر قوى. فقد وجد الأديب صعوبة في الكتابة خاصة كتابة الروايات الطويلة. ومن ثم بدأ التفكير في شكل جديد يستطيع من خلاله التواصل مع جمهوره ليكمل مشواره الإبداعي. يتلاءم مع الظرف الطارئ الذي ألمّ به. ولم يكن بدًّا إلا أن يكتب قصصاً قصيرة جداّ , أو مقطوعات قصيرة. وبذلك ظهرت الأحلام وأيضاً الأصداء. عدد الأحلام التي نُشرت تحت مُسمّى (أحلام فترة النقاهة) 206 حُلم، وهي الأحلام التي كانت تنشر في مجلة نصف الدنيا، ثم جُمعت في ملحق تابع لمجلة نصف الدنيا. ككتاب تذكارى بتاريخ 3 سبتمبر 2006. ع (864) مضافاً إليها الأحلام الثلاثة التي أرسلها محفوظ للمجلة قبل وفاته.

وما أن صدر العدد الجديد من (مجلة ضاد) الفصلية، التابعة لاتحاد كُتاب مصر، وهو عدد تذكاري خاص بنجيب محفوظ حتى فاجئنا الأديب "محمد سلماوي وأحد حواري نجيب محفوظ، وكاتب حواراته في الأهرام، بآخر ما كتب نجيب محفوظ من أحلام. وهو عبارة عن ثلاثة أحلام جديدة (كان محفوظ قد أعطى الأحلام الثلاثة "لمحمد سلماوي" كي يتم نشرها في العدد المقبل من (ضاد) دون أن يعرف أن القدر لن يمهله كتابة أحلام بعدها، وأن العدد المذكور من المجلة سيكون عدداً خاصاً عن نجيب محفوظ بمناسبة رحيله)(5). وبعد صدور هذه الأحلام بدأت (نصف الدنيا) في مواصلة نشر أحلام جديدة، وصلت إلى (224) حلم حسب آخر ثلاث أحلام نشرت في عدد (890) بتاريخ 3/3/2007م.  

 

(2 - 2) وها هي الأحلام الثلاثة المنشورة في (ضاد):

(الحلم الأول)
رأيتني في مستشفى لإجراء بعض التحاليل وهناك علمت أن مصطفى النحاس يرقد في العنبر المجاور فذهبت إليه وتأثرت لمنظره، وقلت له سلامتك رفعت الباشا.
فقال: إن المرض الذي أعانيه الثمرة الحتمية لنكران الجميل.
فقلت له: عند الله لا يضيع أجر من أحسن عملا! 

(الحلم الثاني)
رأيتني في مدينة غريبة جميلة المعمار، وكلما دخلت بنسيونا أجده يتكلم لغة غريبة حتى وصلت إلى بنسيون تديره امرأة زنجية اللون جميلة التقاسيم و الملامح، فقلت لها هنا يمكن أن أقول ما أريد وان أسمع ما يقال، فقالت لي: وأيضا الحياة هنا لا تقل في رقيها عن أحسن البنسيونات الأخرى!  

(الحلم الثالث)
رأيتني سائرا في الطريق في الهزيع الأخير من الليل فترامى إلى سمي صوت جميل وهو يغني:
زوروني كل سنة مرة!
فالتفت فرأيت شخصا ملتفا في ملاءة تغطيه من الرأس إلى القدمين، فنظرت إليه باستطلاع شديد فرفع الملاءة عن نصفه الأعلى، فإذا هو هيكل عظمي، فتراجعت مذعورا ورجعت وأنا أتلفت والصوت الجميل يطاردني وهو يغني:
زوروني كل سنة مرة!

 

وبهذه الأحلام الثلاثة الجديدة، يصل عدد ما كتب ونشر محفوظ من (أحلام فترة النقاهة) إلى 224حُلم في حين أن محفوظ قال: "لا تزال عندي أحلام كثيرة" حسب تصريحاته لمجلة "لوفيجارو" الفرنسية في عددها الصادر بتاريخ 12 أغسطس 2006. أما الحاج "محمد صبري" سكرتير محفوظ، فقد صرّح بأن هناك ما يزيد على خمسمائة حلم من الأحلام التي لم تنشر حتى الآن.(6) وبهذا التصريح يصير عدد الأحلام التي كتبها محفوظ أكثر من سبعمائة حلم، أما ما نشر منها فيصل عدده إلى 224حلم. 

(2 - 3) كتابة الأحلام ونوعيتها
كتب نجيب محفوظ ـ بخط يده ـ من هذه الأحلام عدد 103 حلم، ثم بدأ يُملي كاتبه بقية الأحلام وكان ما يمليه محفوظ عبارة عن (دفقة واحدة في أقل من خمس دقائق).(8) وعن كتابة محفوظ لهذه الأحلام  كان يكتبها كل يوم ثلاثاء، ويكتب حوالي ثلاثة أحلام مرة واحدة. بالنسبة لمسألة النوع الذي تنتمي إليه هذه الأحلام، يقر محفوظ نفسه أن هذه الأحلام تأخذ شكل (القصة القصيرة جدا). أما عن حدود الحلم وارتباطه بالواقع. فيقول محفوظ (بالنسبة لحدود الحلم فهي حدود متناهية الكبر وبعضها حقيقة مستمرة من النوم، أو شكل من أشكال التأمل، وأنا بالطبع لا أسجلها وأكتبها كما أتلقاها، ولكن تدور في رأسي وتتحول، فهي كيمياء غريبة، فهناك الفكرة الناضجة، وهناك الإبداع الأدبي، هذا يعمل عادةً لكن أحياناً لا يعمل فمن الناحية النفسية، فأنا أُحدِّد أنَّ هذه اللعبة الداخلية تَحْدث في أسبوع أو أسبوعين فهي عبارة عن حيلة أو مناورة فالحلم الذي يكون عادة في رأسي هو الآتي:

"رأيت عبدالناصر يعطيني خبز الصعيد وهو خبز جاف وخاص جداً بهذه المنطقة، فقد تم تسويته على أشعة الشمس. وهو يقدم لي يطلب مني أن آكله، ومن هذه الرواية فأنا لم أفعل شيئاً حتى الآن. ولكن إذا شعرت بالقوة لأفعل هذا فسأكتبه يوماً ما وسوف أتركه يلازمني ويخالطني. نعم فالحلم هو حدود عالمي.(9)".

 

 يشير محفوظ في هذا الحوار إلى مصادر الحلم لديه، فمرة يرجعه إلى الحلم أساساً المنتمي إلى النوم أو إلى تأملات محفوظ الخارجية في الحياة. ولكن شكل الحلم أو صياغته، فهي راجعة إلى الفن الذي ينتمى إليه محفوظ، فهو لا يكتب الحلم كما يتلقاه، وإنما يرده إلى العملية الإبداعية لكي يصوغه صياغة فنية تجمع بين الحقيقة والخيال المنتمي إلى الفن. فإذا كانت مصادر الحلم معروفة ومحددة لدى محفوظ، إلا أن الشكل النهائي عنده مصبه (الفن) أيضاً فيجعله يقف أمام الحلم لمدة أسبوع أو أسبوعين حتى تختمر فكرته في رأسه متفاعلاً مع كيمياء الفن.  

(2 - 4)
العنوان الأول الذي بدأ به محفوظ نشر الأحلام كان (أحلام فترة المراهقة)، وقد تمّ النشر على صدر مجلة نصف الدنيا عام (2000). ثم بعد تقدم النشر تمّ تبديل العنوان إلى (أحلام فترة النقاهة) وهو العنوان الذي عُرفت به أحلام محفوظ. لكن الثابت أن هناك عنواناً آخر كان ينشر تحته محفوظ باسم (رأيت فيما يرى النائم) والتي نشرت عام (1982) والحقيقة أنها تختلف عن (أحلام فترة النقاهة)، حيث أنها تبدأ عادةً بعبارة (رأيت فيما يرى النائم).

أما أحلام فترة المراهقة، فلا توجد بداية ثابتة للاستهلال المبدئي للنص/ الحلم. وأكثر الجمل الاستهلالية (رأيت)، ومن هذه المجموعة (رأيت فيما يرى النائم)، الحلم رقم (7).

"رأيت فيما يرى النائم... أنني في حديقة من أشجار الليمون، وأن الناس يزدحمون حول أشجارها ويتبارون في ملء مقاطفهم من ثمارها، وأن ثمة بيعاً وشراء مساومات، وتنافساً حماسياً يشتعل، وأن رجال الشرطة يتدخلون أحياناً بهراواتهم فتسيل دماء، وكنت أتجول بينهم بلا مقطف، حتى قال السمسار ساخراً: رجل مجنون جاء السوق بلا مقطف!

والحق أن الشذا هو الذي دعاني لا السوق، فهمت على وجهي أتغزل برشاقة الأشجار وخضرتها الباسمة وأغصانها الثرية.

وتخلق حب خالص في رعاية القبة الزرقاء، وفي لحظة مشرقة استحلت غصناً، فأفلت من مطاردة السمسار، ومضى الزمن وأنا أتاود على دفقات النسيم وأنهل من حرية عبقه بشذا الليمون".

تتفق الأحلام المعنونة بـ(أحلام فترة النقاهة) مع (رأيت فيما يرى النائم)، في الشكل الفني والمضمون الفكري وكذلك الدلالة، حيث الرمز هو الغالب في مُعظم (أحلام فترة النقاهة) وكذلك (رأيت فيما يرى النائم). كما تتفاوت الأحلام بين (الطول والقصر)، فأطول الأحلام هو الحلم (24) حيث يُقسمّه محفوظ إلى جزءين منفصلين تحت رقمين (أ، ب)، ويصل عدد سطور هذا الحلم إلى (34 سطراً)، أما أقصر هذه الأحلام فهو الحلم (205) وتصل عدد كلماته إلى (26) كلمة ويليه في القصر الحلم (82) وتصل عدد كلماته إلى (39 كلمة) وما عدا ذلك تتراوح الأحلام بين الطول والقصر. ويكتفي محفوظ بوضع أرقام تتابعية للأحلام، دون وضع عناوين فرعية لكل حلم، تعبر عن  مضمونه، مثلما فعل في (أصداء السيرة الذاتية).

تسلسل الأحلام بهذا التتابع الرقمي يشير إلى سمتين تميزان (الأحلام). الأولى: أن هذه الأحلام ليست منفصلة فيما بينها، وإنما هناك رابط يجمع بين هذه الأحلام غير أنها تنتمي لنجيب محفوظ، أما السمة الثانية فتتمثل في الدفقة الواحدة التي كُتبت بها الأحلام، حيث أنها جميعها على الرغم من كتاباتها في أوقات مختلفة وأزمنة متفاوتة متسقة، إلا أن هذا التسلسل والتتابع الرقمي يشير إلى التواصل الزمني فيما بينها. إغفال محفوظ لوضعية (العنوان الفرعي) في الأحلام دعّم التواصل السردي لهذه الأحلام، وإن كان في الأصل، هو حيلة فنية من محفوظ لإجبار قارئه على الغوص في الحلم حتى يفكك الحلم، ويصل إلى مضمونه، فالعنوان في كثير الأحيان يفك شفرة النص، وهو عتبة أساسية للدخول إلى النص. مُحاطاً بمعلومات مسبقة، ومن ثم لجأ محفوظ لكسر هذا التأويل المسبقي للنص عبر (شفرة العنوان) إلى الاحتفاظ بالتأويل الكلي عبر الانتهاء من قراءة الحلم، فيغوص القاري في مكنون الحلم ليكشف معانيه الكامنة خلف العبارات والألفاظ. فالحلم في الطبيعة لا يُقدم بواسطة عنوان، وإنما يُحكي متنه وجوهره، وعادةً الحُلم في الواقع يحتاج إلى تفسير، وهذا التفسير يأتي من خبير بالأحلام. وهذا ما عكسه محفوظ على (أحلام فترة النقاهة) فالوصول إلى دلالة الأحلام ورمزيتها ليس بالأمر اليسير الذي يُفهم ويُستشّف من العنوان الفرعي (العتبة الخارجية للنص) حسب تعبير "رولان بارت". أو ( ضمن النصوص المحيطة للنص).

ومن ثم تكتسب الأحلام دلالتها، من حيث محاولة ربط القارئ بالنص للبحث عن المعاني الأصيلة وجوهر الحلم ودلالته الرمزية، من خلال ربط الشفرات الناتجة عن تفكيك الحلم، ورده إلى واقعه وهكذا في الوقت ذاته ليس مطلباً يسيراً. فإذا كان الجهد الذي يبذله القارئ في قراءة نص روائي طويل، جهداً طويلاً ووقتاً أطول، فإن محفوظ آثر أن يكون الوقت المخصص لقراءة الأحلام يعادل أو يكاد الوقت المخصص للنص الروائي الطويل من خلال التركيز في الحلم، وفك شفراته وردها إلى واقعها للوصول إلى مبتغى محفوظ، الذي ضمّنه في هذه الأحلام التي شملت النواحي الاجتماعية والسياسية والفلسفية إلى جانب فلسفته الخاصة في الحياة والموت.  

(2 - 5) بين الأحلام والأصداء
لا تغفل عين الناقد البصيرة الوشائج الممتدة بين نصي (أحلام فترة النقاهة، وأصداء السيرة الذاتية). ومن هذه الوشائج:

إن كلا العملين (الأصداء والأحلام) بمثابة مقطوعات قصيرة، يصل عدد كلماتها في بعض الأحيان إلى (ثلاث كلمات) مثل مقطوعة (السر) ضمن "الأصداء"(10) ، أو يصل إلى (26 كلمة) مثل (الحلم 205) ضمن (أحلام فترة النقاهة). وقد يزيد ويصل إلى سبعة وثلاثين سطراً مثل مقطوعة (العدل)   أو ما يزيد عن ذلك بكثير مثل (الحلم 24) ضمن "الأحلام".

كلا العملين رغم اختلاف الشكل الذي كُتبا به إلا أنهما يشكلان وحدة متكاملة، تعكس فلسفة وفكر محفوظ في أعمق صوره، وأبلغ عباراته، وأوجز جمله.

الشكل الذي اتخذه محفوظ لكتابه (الأصداء والأحلام)، قد يتشابه مع بعض الكتابات والمأثورات الصوفية، التي يحتاج القارئ إلى التعمق الصوفي في فهم دلالات كثيرة من مقطوعاتهما.

إن العملين هما وحدات تدور حول نماذج بشرية كثيرة حملّها نجيب محفوظ الكثير من أرائه وأفكاره فنجد في الأصداء شخصية "عبدربه التائه" والتي تعد الشخصية المحورية في الأصداء. وبالمثل تتكرر شخصيات مثل "الشيخ مصطفى عبدالرازق والنحاس باشا" وأيضاً تتردد شخصيات مثل "مكرم عبيد  زكريا أحمد، أم كلثوم".. وغيرهم

تيمة الموت تُعد من التيمات الأساسية في (الأصداء والأحلام)، فقد جاءت في مقطوعات مستقلة في الأصداء مثل (المخبر والتلقين، والصور المتحركة، ورجل يحجز مقعداً، والهجرة، والمعركة  والضحكة، وأقوى من النسيان). أما في الحلام فقد شغلت الأحلام (70، 78، 107، 108، 135، 136، 143، 147، 151، 157، 170، 179، 186، 190، 194، 195، 201، 206) وأيضاً الأحلام الثلاثة المنشورة في مجلة (ضاد) (207، 208، 209) تدور في إطار الموت.

الرمز هو السمة المميزة للعملين وإن كان الرمز يَغْلٌب على الأحلام، حيث الدلالات الصوفية والفلسفية واضحة، وإن كان في الأصداء يلجأ إلى القص المباشر في كثير من الأحيان.

الاقتصاد في اللغة والتكثيف والإيجاز والعمق أهم سمات العملين (الأصداء والأحلام).

الأحلام والأصداء كلاهما نابعان من مصدر واحد هو ذاكرة "محفوظ".

العملان: الأحلام والأصداء، بدأ محفوظ في كتابتهما بعد الحادث الذي تعرّض له في أكتوبر 1994  وكلاهما يتسم بالقصر والتركيز مما يشير إلى عدم قدرة محفوظ الكتابة الطويلة إثر الحادث الذي تعرّض له.

10ـ في الأحلام والأصداء تعرّض العنوان للتبديل والتغيير قبل أن يصل إلى العنوان النهائي. فالأصداء جاءت تحت عنوان (تأملات) ولكن بعد تأمل وتدقيق ومراجعة من جانب محفوظ، وجد أنها ليست سيرة تامة، ومن ثم فكّر في كلمة (الأصداء) على اعتبار أن (الصدى يُتيح قدرًا من الحرية لا يمكن محاسبة الكاتب على التفاصيل) ؛ هكذا جاء العنوان النهائي: "أصداء السيرة الذاتية". وبالمثل في (أحلام فترة النقاهة) جاء العنوان الأول عند النشر (أحلام فترة المراهقة)، ثم غيّره محفوظ إلى (أحلام فترة النقاهة) ليكون أكثر تعبيراً عن رؤية محفوظ التي أرادها في الأحلام.

وعلى الرغم من هذه الاتفاقات بين العملين، إلا أن هناك بعض الاختلافات التي تُعدُّ بمثابة علامة فارقة تُميِّز العملين ومن هذه الوجوه: ـ

أن الأحلام تأخذ شكل القصة القصيرة جداً، بينما الأصداء تأخذ شكل السيرة الذاتية حيث فيها الكثير من حياة محفوظ الشخصية وأيضاً تجاربه، كما أنها بمثابة إجابة عن الكثير من التساؤلات التي لم يُسْأل عنها أثناء الحوارات والأحاديث التي أُجريت معه.

الأصداء انقمست إلى قسمين: ضمّ القسم الأول مقطوعات تحمل أصداء هذه السيرة، أما القسم الثاني، فيضم سيرة عبد ربه التائه وفكره. أما الأحلام فهي أشبه بدفقه شعورية واحدة.

جاءت قطع الأصداء معنونة بعناوين فرعية، في حين خلت الأحلام من العناوين واكتفى السارد بالتتابع والتسلسل الرقمي.

هذه أبرز وجوه الاتفاق والاختلاف بين الأصداء والأحلام... والتي تدل في معناها العميق على قدرة هذا المبدع الكبير على ابتكار أشكال وقوالب فنية، يصوغ من خلالها أفكاره وأرائه، هذه الأشكال وتلك القوالب ليست قوالب جاهزة مُعلبة، وإنما هي من إبداع المفكر المخيلة الإبداعية التي تعكس في جانبها الآخر فرادة إبداع محفوظ وأصالته.  

(2 - 6) الأحلام رؤية من الداخل
تتكون الأحلام من وحدات تتناول جوانب عديدة للتكوين الشخصي والثقافي والعاطفي والفكري لنجيب محفوظ، وخاصةً في فترة النشأة الأولى: طفولته وصباه وشبابه. وإن شغلت الأحلام في فترة النضج أبعاداً وجوانباً في الحياة والفلسفة والسياسة... ورؤية محفوظ لهذه الجوانب يسيطر عليها الراوي/ الأنا الذي يروي بصوته فتظهر خلجات النفس وتكويناتها. كما يستعيد الرائي/ الحالم الكثير من الشخصيات في أحلامه، تلك الشخصيات الواقعية والتي لعبت دورًا حيويًّا ومؤثرًا في واقعها. هذا الاستدعاء لتلك الشخصيات له دلالته الرمزية والتي سوف يظهرها الباحث في حينها. ومن هذه الشخصيات التي شغلت حيزًا من أحلام الرائي/ الحالم، شخصية "الشيخ مصطفى عبد الرازق" شيخ الأزهر السابق، بما يَحْمِلُه من دور تثقيفي وتنويري في فترته. وقد شغل أحلام (123/ 155/ 180) وتلاه في الإطراد في الأحلام الزعيم "مصطفي النحاس باشا"، وقد شغل أحلام (158/ 177/ 189/ 208)، وبالمثل جاءت شخصية الزعيم "مكرم عبيد" في حلم (104) الزعيم "سعد زغلول" في حلم (108)، والفنان "سعد الدين وهبه" في حلم (159) و"السير ريد هيجارد" في حلم (193) والفنان الكوميدي "شكوكو" في حلم (61). كما جمع أهل الفن جميعاً في حلم (188) مثل الشيخ زكريا أحمد، أم كلثوم، الحامولي، المنيلاوي  عثمان عبد الحي، سيد درويش، محمد عبد الوهاب، منيرة المهدية، فتحية أحمد، وليلى مراد  في إشارة دالة إلى اشتياقه للزمن الجميل، ذلك الزمن الذي أخرج هذه الأصوات الجميلة التي غذت العقول وألهبت العاظفة بألحانها الشجية، وكلماتها العذبة، وحلاوة صوتها حتى انه في النهاية يقول: ـ  "أما أنا فتلوت الفاتحة" في إشارة دالة لرثاءه لهذا الزمن، وغياب الأصالة والإبداع في زمننا الذي خلا من هذه الأسماء. بل لوّثها كما فعل اللمبي وغيره. وقد جاء زكريا أحمد في حلم خاص به وهو حلم (53).

هكذا نلاحظ أن "محفوظ" جمع في أحلامه الشخصيات التي أثرت فيه وجدانيًّا وفكريًّا وثقافيًّا وسياسيًّا فهو بهذه الترددات لهذه الشخصيات يُرسي لقيمة نادرة اختفت في الجيل الحالى ألا وهي قيمة رد الجميل والعرفان لأصحاب الفضل. وهذه القيمة تجلت في أحلام "محفوظ" سواء بالنسبة للإنسان أو بالنسبة للمكان. حيث شغل حي الجمالية والعباسية، وخاصةً البيت الذي كان يعيش فيه "محفوظ" مساحة ليست قليلة داخل الأحلام فقد تردد في أحلام (17/ 30/ 33/ 35/ 43/ 82/ 58/ 72/ 73/ 103/ 141/ 154/ 163/ 170)  يقف الباحث عند قيمة الوفاء عند محفوظ خاصةً وفائه للأشخاص. 

 

الحلم رقم (207)

يقول الحالم/ الرائي
"رأيتني في مستشفى لإجراء بعض التحاليل، وهناك علمت أن مصطفى النحاس يرقد في العنبر المجاور، فذهبت إليه وتأثرت لمنظره، وقلت له: سلامتك رفعة الباشا.
فقال: إن المرض الذي أُعانيه الثمرة الحتمية لنكران الجميل
فقلت له: عند الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً"

[مجلة ضاد: ع (5)، نوفمبر 2006، ص ـ 8]

لو حاولنا تفكيك الحلم لاتضح لنا القيمة التي يدعو إليها محفوظ في هذا الحلم القصير بالغ الدلالة. فالزعيم مصطفى النحاس هو رمز للجيل القديم/ المعلم الذي يدين الجميع له بالوفاء والعرفان. و"محفوظ": الجيل اللاحق الذي تعلّم... و(المرض) هو رمز للشدة والمحنة التي تعرض لها النحاس والتي تستوجب من المحبين أن يقفوا إلى جواره. ومع أن "محفوظ" هو الآخر مريض ومع أن هذا المرض مُبَرِّر لعدم القيام بالواجب إلا أنه يضرب بهذه الأعذار عرض الحائط، ويذهب لأستاذه ويقف إلى جواره في محنته (مرضه) ويقول له إن أعماله الخالدة التي قدمها لأمته لن تضيع سُداً، بل سوف يأتي اليوم الذي يعلم الناس بقدر مكانة النحاس. وسوف تكون خالدة ليس مع جيل محفوظ، بل مع الأجيال اللاحقة.

(3 - 1) التكوين الفني للأحلام
العناصر الأساسية لدراسة البنية الفنية (لأحلام فترة النقاهة) هي (اللغة الفكر الرمز) حيث هذه العناصر هي القاسم المشترك في جميع الأحلام، ومن ثم سوف يقف الباحث عند كل واحدة على حدة للوقوف على الجماليات الفنية التي صاغ من خلالها محفوظ أحلامه.

أولاً: اللغة في الأحلام:
اللغة التي تتشكل بها الأحلام، هي لغة خاصة قريبة من اللغة الشعرية وإنْ لم تكن شعرًا ففيها درجة عالية من الحساسية، والرهافة والشاعرية التي تجعل النثر المكتوب به الأحلام يبدو غريبًا وغير مألوف عن اللغة النثرية التي نقرأها ونكتب بها. ولا يعني هذا أنها تنتمي إلى النوع الثالث (قصيدة النثر) حيث "بناؤها ومحتواها أعمق من أن تسمح بانتسابها إلى تلك الكتابات التي قد تكون مغرقة في الغموض والألغاز"(11). كما تحتوي هذه اللغة المركبة والتي تجمع بين فصاحة اللفظ، وبساطة المعنى على سمات "محفوظ" وملامحه الفلسفية والصوفية بالإضافة إلى الثراء والبساطة والتكثيف والشفافية. ففيها من المتناقضات ما يجعلها لغة غرائبية مائزة ومقتصرة على "محفوظ" ذاته.. فهي تحوى من الصور الدارجة والشاعرية والتراكيب الأليفة والغريبة , ونجد الرقة والحدة والسلاسة والغموض، وذُرا الخيال وأخاديد الواقع.

هكذا تُحلِّق بنا في أجواء الصوفية وبساطة الواقع، دون أن تفقد عذوبتها أو رقتها أو شاعريتها، بل تزداد عُمقاً ودلالة باحتوائها على هذه الصفات. وفوق كل هذا التكثيف اللغوي، والاقتصاد في اللفظ، والإيحاء ذي الدلالة العميقة. وللمزيد من التعمق في معرفة اللغة وتراكيب بنائها نقف عند بعض الأحلام لتطبيق ما سلف ذكره.

الحلم (40)
"قبل المساء وأنا عائد إلى بيتي متدِّثرًا بالمعطف والكوفية اعترض سبيلي صبي وصبية غاية في الجمال والتعاسة، وطلبا مني ما أجود به لوجه الله، وبحثت في جيبي عن فكة فلم أجد، فأخرجت ورقة من ذات الجنيهات الخمسة وطلبت من الصبي أن يذهب إلى أقرب كشك ويشتري لي قطعة شيكولاته ويجيئني بالباقي. وما غاب الصبي عن عيني حتى بكت الصبية واعترفت بأن أخاها يُعلِّمها بغضب شديد ويدفعها لارتكاب الأخطاء فهي تزداد كل يوم انحرافًا وشرًا وتدعو الله أن ينقذها مما تعاني. تأثرتُ وتحيرتُ. ثم عرفت أن الصبي لن يعود وأدركت مدى حماقتي لما أوليته من ثقة وتذكرت كيف يتهمني أهلي بالطيبة والغفلة ولكني لم أترك له أخته وأخذتها إلى بيتي لتبدأ حياة جديدة مع أهلي. وتحسنت أحوالها وبدت وكأنها من الأسرة لا شغالة لها.

وذات يوم جاء لي شرطي ومعه الصبي الأخ ولما رأى أخته أمسك بها. وعلمت أني مطلوب في القسم. وهناك وجُِهّت إليّ تهمة اغتصاب البنت والاحتفاظ بها في بيتي بالقوة. وذُهلت أمام ما يوجه إلي وطلبت من البنت أن تتكلم فبكت ووجّهت إليَّ من الكبائر ما لم يخطر على بال. وكان المحضر يسجل كل كلمة والدنيا تسوّد في عيني وعلى الرغم من إيماني الراسخ فلم تغب عني خطورة الموقف.
[أحلام فترة النقاهة. ص ـ 33].

هذا الحلم قائم في بنائه على جوهر القصة القصيرة جداً. حيث اشتمال الحلم على عناصر القصة بدءًا من الشخصيات والحبكة والحدث والنهاية. التي تخدم الفكرة الأساسية التي تطرحها القصة. يبدأ السارد حلمه/ قصته بحشد العناصر الفنية للقصة القصيرة دون تراخٍ فمنذ السطر الأول والثاني نجد أن الشخصيات كالتالي: السارد/ الروائي، الصبي/ الصبية، والزمان: ليلاً، والجو: شتاءً. وهذا واضح من دلالة قوله (متدثراً بالكوفية) حيث من خصائص القصة القصيرة أن تدعو القارئ لكي يبني ويتصور تفصيلات غير واردة في النص، تفصيلات تتعلق بالسببية والترابط بين الأحداث، ودوافع الشخصيات.(12) أما المكان فهو: الطريق العام.

لا يسهب السارد في وصف شخصياته، وإنما يشير إلى ذلك باستخدام اللغة الموحية التي تكمل ثغرات النص (التي يتركها السارد وليملأها القارئ)، فيأتي وصف الصبي والصبية بعبارات موجزة دالة وأبلغ من السرد صفحات، فيقول: "صبي وصبية غاية في الجمال والتعاسة" من خلال الجمع بين المتناقضات قدّم لنا حال الصبي والصبية والتي انعكست على السارد الذي رقَّ لحالهما. ومن هذه النقطة تعاطف السارد معهما، يبدأ استغلال السادر. بدءًا بالادعاء لحاجتهما للمال. وبالفعل ينصاع السارد ليس لهما، وإنما لحالهما، ولمّا لم يجد فكة يعطي للصبي الخمس جنيهات ليشتري شيكولاتة إلا أنه لم يفطن إلى أن الصبي ذهب ولن يعود. وليكتمل سيناريو الإيقاع بالسارد، تبدأ الفتاة في البكاء وتحكي له عن مأساتها التي هي من فعل الصبي، ويرق لحالهما، ويقود اصطحابها إلى المنزل لتتم الخطة غير المُعلنة لكنها تُفهم من السياق حيث يعود الصبي ومعه الشرطي ؛ متهماً السارد باغتصاب الصبية، وإمعانًا في الحبكة تبكي الصبية، هنا ـ فقط ـ يشعر السارد بأنه وقع في الفخ، ومن ثم أخذ يدرك (خطورة الموقف).

بهذا الإدراك بخطورة الموقف تنتهي القصة/ اللوحة، كاشفة عن فكرتها الجوهرية، التي عبرت عنها اللغة ذات الإيحاء. حيث حُسن النية المفرط فيها بدرجة مبالغة والتي ظهر فيها السارد، وفي المقابل استفحال الشر دون الاقتصار على فئة عمرية معينة، فالصغار بدأوا يقلدون الكبار في الشر. فهم يلاحظون أن عناصر المجتمع الأفراد في تعاملهم مع بعض، يكون التعامل بـ (مبدأ) أيهما أقدر على استغلال الآخر وفي أسرع وقت دون أن يُضار.  

الحلم [84]
"رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأمل. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبق منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار ذو مئذنة هي غاية في الطول والرشاقة. ودهشت وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الآذان داعيًا إلى صلاة المغرب دون تردد دخلت الجامع وصليت مع المصلين ولما ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أريد أن أرغب في مغادرة المكان. لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فقد، وأن عليَّ أن أجد لنفسي مخرجا ً"
[أحلام فترة النقاهة: مرجع سابق، ص ـ 58].

هذه القصة/ الحلم تحكي عن حالة (الفقد) والعيش على أمل العثور على المفقود، خاصةَ لو كان محبوباً كما هو حال السارد هنا. الراوي/ الحاكي يعود بخياله عبر الحلم إلى عالم الحب/ الرومانسية، هرباً من الواقع التعيس. فيتخيل نفسه في (شارع الحب) حيث أيام الصبا، وما يراه المحبوب بنظرة المحب "من قصور وحدائق" فيهيم في هذه العوالم التي تفصلها نفسه، لكن هذه الحدائق والقصور لا تروق له لأن محبوبته لم تكن معه فيبحث عن قصرها، فلم يجد له أثراً، ويكتشف أن حل محله (جامع) رائع العمارة ذو مئذنة غاية في الطول والرشاقة. وبينما هو على هذا الحال يُصاب بالدهشة حيث المسجد/ رمز الطهر حلّ محل القصر الذي كان تقطن فيه المحبوبة، يخرج من دهشته على صوت أذان المعرب، فيستجيب للصوت دون تردد. صوت الأذان يوازي صوت الحب لديه، ومن ثم لم يتأخر لكن المفاجأة أنه بعد الصلاة يكتشف أنه فقد حذائه، ويبقى حائرًا في البقاء في المسجد، أو أن يخرج ليحل هذا المأزق. وهنا ينصاع لصوت العقل فيخرج باحثاً عن بديل، بدلاً من البقاء والبكاء على (مَنْ رحل) أو (مَا فُقِد).

هكذا يصوغ محفوظ فلسفته في الحياة والحب بأسلوب رائع، قائم على التماثل والتوازي بين الأشياء فيرى "محفوظ" في إطار فلسفته أن البكاء لن يُجدي، وأن الإنسان مهما فقد حتى ولو كان هذا الفقد أغلى شئ (الحب) والذي هو رمز للطهارة والقدس، فيجب ألا يقف عنده وإنما يتخطاه لعيش ويواصل حياته. فعلى الإنسان لكي يعيش يجب أن ينسى ويواصل؛ لأن الحياة لن تقف و العاقل هو من يجد لنفسه حلاً (الخروج من المسجد)، وألا يقع فريسة لهذه الأوهام والهواجس. اللغة التي استخدمها "محفوظ" ليعبر بها عن فكرته هي لغة شاعرية حالمة، انتقى من الألفاظ ما يلائم المعاني التي أراد يوصلها، فعبر عن الحب بـ (القصور والحدائق)، وعن صوت الحب بـ (الآذان) الشجي الذي تصغى له القلوب، والفقد بـ (الحذاء) والأمل في الحياة بالخروج والحرية. 

التكثيف والاقتصاد
من الأحلام التي جاءت فيها اللغة تميل إلى الاقتصاد والتكثيف والإيجاز، أحلام رقم (199/202/205) وغيرها من الأحلام التي لم تُخل لختها من هذه السمات السابقة. يقف الباحث عند حلم (199) ليوضح مدى فاعلية هذه اللغة الموجزة في إيصال الفكرة.

حلم [199]
"رأيتنى أتجول في حديقة الحيوان مع صديقة ثم جلسنا في ركن خالٍ بجزيرة الشاي، كلَّما ترامى إلينا زئير وخوار أو عواء ازددنا التصاقاً حتى ذبنا ذوباناً"
[أحلام فترة النقاهة: مرجع سابق، ص ـ 93].

 يتكئ محفوظ على اللغة المكثفة ذات الدلالات والإيحاءات الغنية بالمعاني والرموز والتي تحتاج إلى صفحات طوال لفك شفرتها حتى نصل إلى مضمونها أو الدوران حوله. ففي هذا الحلم الذي هو أشبه بدفقة شعورية غنية بالمعاني الفلسفية المتعددة الدلالة والأبعاد، فالحلم يحكي عن السارد وصديقته اللذين يتجولان في حديقة الحيوان، ورغبتهما في الانفراد ببعضهما، فيصلان إلى مكان خالٍ (في حديقة الشاي)، وهي تعبر عن الرغبة في الإنفراد بالذات وتأملها بعيداً عن أنظار المتطفلين. ومع الاختيار المدقق للمكان (المكان الخالي) إلا أن أصوات الآخرين (تقتحم) الخلوة.. في إشارة دالة إلى صعوبة الإنزواء والتأمل في هذا العصر الذي تداخلت فيه العلاقات. ومع هذه الأصوات التي تأتي على غير متوقع أو انتظار، ينجح الحالم في توظيفها كعامل مساعد فى الالتصاق بالذات وهذا ما عبر عنه السارد بقوله "ازددنا التصاقاً حتى ذبنا ذوباناً". وكأن محفوظ يريد أنْ يقول لنا ما أحوج الإنسان إلى الالتصاق بذاته وتأملها عن قرب مهما اشتدت الضغوط وحالت دون تحقيق هذه الرغبة.

ويمكن تأويل الحلم بمعنى آخر: حيث يشير محفوظ في هذه القصة/ الحلم إلى انقسام المجتمع، خاصة أفراده إلى فريقين كل فريق يسعى لتحقيق مصالحه دون الاعتداد بالآخر.. وكأن الآخر لا حساب له ولا وجود في محيطه، فالراوي هو رمز للفرد الطامح في تحقيق مصالحه الشخصية، دون الالتفات إلى الآخر أو حتى حساب "العرف والقيم والأخلاق"

والصديقة هنا ـ رمز للرغبات والتطلعات التي يسعى إليها الفرد محاولاً الاستحواذ عليها دون النظر في عواقب ما يسعى إليه، حتى ولو كان فيه انتهاك لمنظومة القيم. أما الحيوانات، فهي رمز للنوع الأخر من أفراد المجتمع ألا وهو (المتطفلون) الذين يقحمون أنفسهم في شئون الآخرين. أما الانزواء في الركن الخالي، فهو بمثابة انتهاك الفرد الأناني في تطلعاته ومصالحه الشخصية للقيم والأخلاق. هذه المعاني وتلك الدلالات المستخلّصة من (الحلم) عبرت عنها ألفاظ قليلة، لكنها غنية بالإيحاء والدلالة. وبذلك تكون اللغة التي شكلت الأحلام هي لغة دقيقة، موجهة، بالغة الإحكام، لا تحتمل إضافة أوحذفاً أو تبديلاً وتخلو من كل الزوائد اللغوية المألوفة. وهي أيضاً لغة شديدة التكثيف، تنوء كلماتها وعباراتها بمعاني ودلالات أعمق وأوسع مما اعتادت أن تتحمل. وهي في النهاية (لغة متدفقة)، تتولى كلماتها وجملها وفقراتها في إيقاع سريع يتساوى مع الثواني المعدودة التي تعيشها كل مقطوعة في الأسماع وفي الأذهان من بدايتها إلى نهايتها.(13)  

(3 - 2) ثانيا: الرمز في الأحلام: 
لم يكن الرمز بعيدًا عن أعمال محفوظ السابقة، بل يكاد يكون الرمز سمة واضحة في مجمل أعمال محفوظ حتى أعماله التاريخية الأولى مثل (كفاح طيبة/ رادوبيس) والتي تُعد بمثابة إسقاط للحاضر الذي عايشه محفوظ بكل ملابساته السياسية والاجتماعية والثقافية. وقد وصل الرمز واستخداماته إلى النضج في رائعته (أولاد حارتنا) التي حملت رموزًا أُسيئ تأويلها وتفسيرها عند الكثير، وقد انعكس هذا (سوء الفهم) على محفوظ نفسه عندما تجرأ شاب أرعن في طعن محفوظ بمديه في رقبته، دون أن يفهم ما قصد محفوظ، بل والأعجب أنه لم يقرأها، وإنما إنساق خلف خفافيش الظلام الذين يأخذون بظاهر المعني دون تفسيره وربط دواله ببعض، ليصل إلى المعاني. وبالمثل حملت أعمال محفوظ رموزًا عديدة، حتى رائعته (الحرافيش) كان لها اسقاطها السياسي الواضح وجرت الرموز في معظم أعمال محفوظ، حتى وصلت إلى الذروة في في (الأصداء والأحلام).

الرمز ـ هنا ـ في الأحلام ليس سهلاً، وإنما يحتاج إلى عمق من القارئ وتأني في البحث عن دلالتها المختفية في ثناياها. والمتأمل في أعمال محفوظ السابقة يلاحظ إطراد عناصر بعينها يستخدمها محفوظ كرموز للتعبير عن رؤاه وأفكاره، هذه العناصر يعتقد البعض في إطرادها، خاصةً في وصول القارئ إليها في يسر بالغ وسهولة وبغير تكلف، أوببساطتها قد يتشكك البعض في التسليم بأنها (رموز وفي التفاعل معها على غير ولأنها المباشرة، أو يتصورون أن ورائها أجواء صوفية)(14) وتتجلى عبقرية "محفوظ" هنا ـ أثناء تشكيل هذه الأحلام، حيث قام بصياغتها صياغة صريحة أو بمعنى أدق مباشرة فقد قام ببنائها وتشكيل صياغتها فنياً، بحيث يكون (القالب) ظاهره يسير وباطنه عميق يحتاج إلى دلالات وعمق لتفكيك هذه الأحلام، ولكي تتضح الصورة أكثر يقف الباحث عند ثلاثة أحلام يفككها ويرد دوالها ليصل إلى مضمونها.  

حلم [123]
"هذا ميدان الأوبرا وفيه أسير نحو مقهى الحرية، فأدهشتنى أن أجدها خالية من روادها اللهم إلا شخص منكب على قراءة أوراق مبسوطة بين يديه وسرعان ما تبين لي أنه أستاذي الشيخ "مصطفى عبدالرازق"، فأنشرح صدري واندفعتُ نحوه مشتاقاً إلى لقاء حميم غير أنه التفَت إليّ متهجماً فهبط قلبي وأشار الأستاذ نحو الأوراق وقال لي: آسف إنه قرأ اسمى بين شهود الإثبات فلم أدر ماذا أقول ولا كيف أعتذر".
[أحلام فترة النقاهة : مرجع سابق، ص ـ 73].

 

الحلم هنا بمثابة لمحة يغوص بها الحالم بين الماضي والحاضر، تجمع بين زمنين: زمن الأصالة والزمن الحالي في مفارقة لها دلالتها.

مضمون الحلم:
(ب)
الحالم/ الراوي يتخيّل نفسه يتجول في ميدان الأوبرا، ويدخل مقهى (الحرية) فيجده فارغًا من روَّاده ماعدا الشيخ مصطفى عبد الرازق، يقرأ أوراقاً بين يديه، فيشعر الرائي بالسعادة للقاء الشيخ أستاذه، لكن الأستاذ يقلب السعادة حزناً عندما يتجهم في وجهه دون معرفة السبب لكن الأستاذ يفاجأ الرائي بأن اسمه ضمن أسماء شهود الإثبات... فيقف حائراً ماذا يقول له وكيف يعتذر؟".

(ج) هذه فكرة الحلم كما سردها محفوظ، أما عن دوال الحلم، فهي:

(ميدان الأوبرا ـ مقهى الحرية ـ الشيخ مصطفى عبدالرازق ـ أوراق الإثبات ـ خلو المقهى ـ الراوي)

 

(د) تفكيك الحلم:
معظم هذه الدوال تشير بطرف خفي أو بصورة رمزية إلى الحداثة والنهضة، فـ (ميدان الأوبرا) هو رمز للحداثة والتحديث في المجتمع، والإسهام في تشكيل خطاب تنويري ومعرفي للمجتمع.

أما الشيخ "مصطفى عبد الرازق" فهو رمز لليبرالية والحداثة، وحضور الشيخ بما يمثله من ثقافة معرفية، هو دلالة على السعي لاستعادة البنية المعرفية والفلسفية الغائبة، والتي هي واحدة من ثمرات الشيخ في المجتمع.. رغم التناقض بين لقب (الشيخ) وثقافته (الفلسفية) وهو ما يؤكد في حضوره سماحة عصر الشيخ، والتي يسعى الراوي لاستعادتها. ومن ثم يستعيد الحالم كل مفردات هذا العصر الغائب بما فيه المقهى (مقهى الحرية) وما يمثله المقهى في البنية الاجتماعية كمكان للاجتماع والنقاش والحوار والتداول والحرية والصحافة وحرية التعبير.

هكذا تجتمع كل مفردات (الحداثة/ اللبرالية/ الحرية) وتتقابل مع الراوي عبر الحلم ومع سعادته بهذه الاستعادة، إلا أنه يُحبط حيث هو المعد نفسه سلفًا بهذه السعادة. عند صدود الأستاذ وتجهمه في وجهه  تنقلب السعادة إلى حزن. حيث يواجه الراوي/ الرائي من الشيخ بشهادة الإثبات التي تدين التلميذ، الذي مازال يقف في مكانه، رغم كل الظروف لتي وفرت له لكي يستكمل ما بدأه الرعيل الأول من مشروعات النهضة والتحديث وإضافة إلى ذلك يجد المقهى خالياً، وكأنه فقد دوره في دلالة واضحة لإنصراف الناس عن الفكر والحداثة وإنشغالهم بأمور أخرى وهذا ما يُعاقب الشيخ تلميذه عليه والذي يقدم له شهادة إثبات على مجتمعه تُظْهر (التخلف والرجعية) وكأنه لم يستفد من جهود السابقين في النهضة والدعوة إلى الحرية والحداثة.. والتلميذ نفسه "نجيب محفوظ" خير دليل على عودة المجتمع إلى عصور الظلام، خاصة ما تعرّض له إبداعه من حجب، ووصل إلى اغتياله هو.

ومن ثم نجد في نهاية الحلم يقف التلميذ أما الشيخ حائرًا بين ماذا يقول ولا كيف اعتذر؟ وبذلك يكون التهجم الذي قابل به الشيخ تلميذه له ما يبرره.

حلم [180]
"رأيت أستاذي الشيخ "مصطفى عبد الرازق" وهو شيخ الأزهر وهو يهم بدخول الإدارة فسارعت إليه ومددت له يدي بالسلام، فصحبني معه ورأيت في الداخل حديقة كبيرة جميلة فقال إنه هو الذي أمر بغرسها نصفها ورد بلدي والنصف الآخر ورد أفرنجي، وهو يرجو أن يولد من الاثنين وردة جديدة كاملة في شكلها طيبة في شذاها.."
[أحلام فترة النقاهة : مرجع سابق، ص ـ 88].

 

(ب) مضمون الحلم
الحالم هنا ـ يلتقي بالأستاذ الشيخ "مصطفى عبد الرازق" شيخ الأزهر أثناء دخوله الإدارة فيمسك بيده، ويصطحبه إلى حديقة كبيرة جميلة غرسها بيده الشيخ، نصفها ورد بلدي، والنصف الآخر ورد أفرنجي، ويتمنى في النهاية أن يولد من الاثنين وردة جديدة كاملة في شكلها، طيبة في شذاها.

 

(ج) دوال الحلم

(الشيخ مصطفى عبدالرازق الأزهر الحديقة [ذات الورد البلدي والورد الأفرنجي] الوردة الوليدة الراوي)

(د) تفكيك الحلم
يأتي حضور الشيخ "مصطفى عبدالرازق" ـ شيخ الأزهر السابق وأستاذ الفلسفة في الجامعة المصرية ـ في أحلام محفوظ باعتباره أولاً أستاذًا لمحفوظ نفسه، والذي نهل من علمه ومعرفته وباعتباره ـ ثانية ـ رمزاً للثقافة الفلسفية الحديثة، ورمزاً للحداثة الليبرالية في عصرنا. يأتي حضوره في النص/ المحفوظي ليكشف عن الحاجة المُلِّحة لاستعادة المعرفة الحداثية الغائبة عنا والتي يُعدُّ الشيخ رمزًا من رموز تنويرها.. وكذلك قلقه الدائم لغياب هذه الثقافة المعرفية (لاحظ الحلم السابق، كان المقهى خاليًا) وهو ما يرادف للمأزق الراهن الذي تمر به الحداثة والثقافة في مشهدنا المعاصر.

أما الأزهر فهو رمز للقيم الأصيلة والعلوم الإسلامية/ الدينية، والأصالة، وتذكيراً بالدور الذي لعبته (مؤسسة الأزهر) وروادها الأوائل في إحداث حركة التنوير والتثقيف في المجتمع المصري، رغم ارتدائهم (العمم) وهو ما يخالف دور الثقافة الناتجة عن الطرابيش وهي مرادف الثقافة الغربية.  وشفرة الحديقة الموصوفة بأنها كبيرة وجميلة، ومحتوية على زهور بلدية وأخرى أجنبية، يشير إلى تنوع المعارف والعلوم... سواء أكانت فلسفية أو دينية، وخاصة علوم الغرب والتي كانت في العصور الأولى تعد خروجاً عن الدين.

أما الوردة الوليدة التي تجمع بين (جمال الشكل وطيب الرائحة) فهى رمز لتكامل العلوم والمعارف وأن النهضة والحداثة لا تأخذ بجانب من العلوم دون الآخر، فهو يرى أن المجتمع ينهض بالعلوم الشرعية والعلوم الغربية معًا.

بهذا الحلم يكشف "محفوظ" الدور المعرفي الذي لعبه الشيخ "مصطفى عبد الرازق" في ترسيخ ثقافة تضافر العلوم، والعدوة إلى الحداثة والتنوير والأخذ بعلوم الغرب. واصطحاب (الراوي) وهو الرمز للجيل الجديد، دعوة للتواصل والاستمرار والعمل على مراعاة هذه (الثقافة) إلى أسهم الرعيل الأول في ترسيخها، والأخذ بنتائجها مجتمعة دون الأخذ بالشكل دون المضمون.  

حلم [202]
"رأيتنى أقرأ كتاباً وإذا بسكارى رأس السنة يرمون قواريرهم الفارغة، فتطايرت شظايا وينذرونني بالويل، فجريت إلى أقرب قسم شرطة، ولكنى وجدت الشرطة منهمكة في حفظ الأمن العام، فجريت إلى فتوة الحي القديم وقبل أن أنتهي من شكواي هب هو ورجاله وانقضوا على الخمارة التي يشرب فيها المجرمون، وانهالوا عليهم بالعصى حتى استغاثوا بي"
[أحلام فترة النقاهة: مرجع سابق، ص ـ 94].

(ب) مضمون الحلم:
الحلم يأخذ بُعدًا سياسيًا، ويعكس قراءة جيدة من محفوظ للواقع، خاصة الواقع السياسي. فالراوي/ الحالم هنا بينما هو يقرأ كتابًا، إذا بمجموعة من السكارى الذين يحتفلون بليلة رأس السنة يقذفون الراوي بالزجاجات الفارغة وينذرونه بالويل، ولم يجد إلا اللجوء إلى قسم الشرطة، لكن للأسف يجد الشرطة منهمكة في حفظ الأمن العام، أي بلاغة يقصدها محفوظ بكلمة (الأمن العام)، وكأن ما يحدث له خارج عن مهمة الشرطة. لكن مفهوم الأمن العام عند الشرطة مقتصر على حفظ نظام الشخص الحاكم فقط  ومن ثم يلجأ الراوي طلبًا للحماية من الفتوة، ويستجيب الفتوة ورجاله، وينقضون على الخمارة. أما مبلغ الدهشة فإن هؤلاء السكارى الذين توعدوا الراوي هم أنفسهم يستغيثون بالراوي.

بلاغة الحلم واضحة، وما أخشاه أن أفسد بلاغته الموزعة بين مفردات النص من خلال تفكيك الحلم لكن ما باليد حيلة علّ وعسى أن تكون رسالة محفوظ واضحة تصل إلىمَنْ يهمه الأمر.

(ج) دوال الحلم:
(الراوي الكتاب ـ سكاري رأس السنة ـ قسم الشرطة ـ الأمن العام ـ فتوة الحي ـ العصى)

(د) تفكيك الحلم:
شفرة الراوي الذي يقرأ هي رمز للمثقف البصير الذي يرى ما لا يراه الآخرون، بينما هو يقرأ في كتاب، وهذا الكتاب هو رمز الحياة والواقع الذي يحياه الذي يشكل صورة كابوسية للواقع. هذا المثقف بصورته وهو ممسك بالكتاب، وهو رمز الحكمة التي يجب أن تكون مرشداً لنظام الحكم ولكن الأغرب هو تواجده على قارعة الطريق العام... ووقوف المثقف في الطريق العام. إنما هو تجسيد للدور الحيوي الذي يشغله ويلعبه، متمثلاً في ضبط إيقاع الحياة... والوقوف على الأخطاء وإرشاد الحاكم بها. أما السكارى فهم أفراد الشعب اللاهي والعابث الذين لا هم إلا نزواتهم، وتهديد لكل من يقف في طريق نزواتهم. واختيار رأس السنة بالذات جاء كرمز لبداية الحياة، وكأن هذا التحذير الذي يقوم به المثقف يأتي منذ البداية، قبل أن يصل الطوفان ولا ينفع عندها النذير، بعدما يكون ضاع ما قد ضاع. أما قسم الشرطة، فهو رمز "للسلطة" القوة التي من واحيها حفظ الأمن والاستقرار، ولا تجعل الأمور تسير بعشوائية لكن ـ هنا ـ يأتي دوره مغايراً عما أُنشئ من أجله، فدوره صار مقتصراً على حماية النظام الذي هو جزء من المجتمع، وليس كله.

فتحول دور الشرطة من حماية الكل إلى حماية الجزء، وكأن مفهوم الأمن أصبح هو استقرار النظام فقط.. ومن هنا يلجأ الضعيف/ المثقف إلى قوة أخرى لتحميه/ قوة لكنها قوة غاشمة، فيلجأ إلى (فتوة الحي) الذي هو رمز للبطش والقوة الغاشمة التي لا تتعامل بالمنطق أو العقل وتكون الاستجابة عبارة عن شحذ الهمم والفتوات للانتقام بالقوة والعصا. وهكذا يتبدل الحال... فهؤلاء الذين توعدوا الراوي/ المثقف بالويل والثبور هم أنفسهم الذين يستغيثون به، ولكن بعدما هوجموا بنفس السلاح الذين هاجموا به الراوي.

بعد تفكيك الحلم ورد الدوال إلى مدلولاتها يتضح أن رؤية محفوظ، رؤية عميقة، نابعة من مفكر فيلسوف وليس أديباً فقط. فالفلسفة التي درسها تسيطر على رؤاه، وهو بعين بصيرة يشير إلى تهميش السلطة لدور المثقف. وكأن لا وجود له مع العلم فإنه عينها الذي يجب أن ترى بها حيث هو الذي يمتلك عين (زرقاء اليمامة) التي تستشرف المستقبل. والعجيب أن محفوظ على الرغم ما تعرّض له من تهديد ووعيد من خفافيش الظلام التي تقف حائلاً دون أن يؤدي دوره التنويري والمرشد لأمته. لا يملّ من نشر دوره.. والأعجب أن هذه الخفافيش هى نفسها التي تلجأ إليه بعدما تشيع الفوضى، وتلجأ إليه لينقذها وكأنها اكتشفت ـ أخيراً ـ دوره، بعدما أشهرت في وجهه المدى والأسلحة التي هي رمز للعنف والقتل. وفي النهاية بعدما تحدث الفوضى يبقى المثقف الخبير والمبصر بالأمور شاهداً على الأحداث دون أن يؤخذ برأيه لأن الأمر خرج من يده.

الحلم [60]
"دققت جرس الباب ففتح عن ثلاث فتيات يقينًا إني لا أعرفهن لكنى شعرت بأنني لا أراهن لأول مرة. سألت عن السيدة صاحبة الشقة فأجبن بأنها مازالت في الحج، ولم يعرفن بعد ميعاد عودتها، وسرن بي إلى حجرات الشقة وعند فتح كل باب أرى جماعة حول مائدة مستديرة غارقين في مناقشة حادة ولكني لم أعرف أي موضوع يتناقشون من اختلاط الأصوات وتداخلها، ولم أرغب في الدخول في أي غرفة مفضلاً انتظار السيدة صاحبة الشقة، ولفتت نظري إحدى الفتيات بأن السيدة سوف تتأخر بضعة أيام، ومن يأسي أجبتها بعد أن اشتركت في المناقشات دون جدوى أننى أفضل انتظار عودة السيدة"
[أحلام فترة النقاهة: مرجع سابق، ص ـ 46]

(ب) مضمون الحلم
يذهب الحالم إلى شقة السيدة، وهناك يُفاجأ بأنها غير موجودة حيث ذهبت لأداء فريضة الحج وتقوده ثلاث فتيات إلى داخل الشقة، حيث حجرات الشقة ملأى بالرجال الذين يجلسون على موائد مستديرة غارقين في الجدال والنقاش دون اتفاق أو وصولاً إلى نتجة، ورغم رفض الحالم المشاركة في النقاس إلا أن إذاء رد (الفتيات الثلاث) بأن صاحبة الشقة لن تعود قبل ثلاثة أيام، يضطر الراوي إلى الجلوس والاسترسال في النقاش على أمل انتظار صاحبة الشقة.

 

(ب) دوال الحلم:

(الباب/ ثلاث فتيات/ السيدة صاحبة الشقة/ الحجرات/ الراوي)

 

(ج) تفكيك الحلم:
الباب هنا ـ رمز للرغبة في المشاركة في الحوار والنقاش حول قضايا مصيرية باعتبار أن الراوي واحد من أبناء الشعب، ومن حقه أن يشارك في إقرار مصيره وصياغة مستقبله. أما الثلاث فتيات، فهن رمز للأحزاب الثلاث الكبرى التي يرى الراوي أنه (لا يعرفها) أي ليس لها تأثير ملموس، إلا أنه يشعر بأنه لا يراهن لأول مرة، في دلالة واضحة لوجودها، لكن الوجود الشكلي وليس الفعلي أو بمعنى أدق وجود (ورقي) حيث وجودها يتمثل في اللافتات المعلقة على الشقق أو الأسماء التي تطبع على ترويسة الصحف التي تصدرها، ماعدا ذلك فلا وجود لها. أما السيدة صاحبة الشقة، فهي مصر نفسها، وشعبها أصحاب الحق في الجلوس على مائدة الحوار للمشاركة ومناقشة قضاياه، والذين هم أولى من غيرهم بالمشاركة في تنمية وتقديم الحلول والبدائل للخروج من مأزقه، لا أن يُغيّب ويجلس بعيدًا، ويقرر الآخرون مصيره. أما الحجرات الملأ بالأفراد والذين يتناقشون حول المائدة المستديرة، فهي رمز للحجرات المغلقة والبعد عن الناس الحقيقين الذين يجب الإندماج معهم ومعايشة مشاكلهم.

ويبدو أن ذهاب السيدة صاحبة الشقة (إلى الحج) رمز للتبريرات غير المنطقية لعدم وجود صاحب المشكلة (أبناء مصر)، والمنعقد الحوار بشأنهم، بحجة أنها (ذاهبة للحج). فالحج هو المنسك الوحيد المعلوم سلفًا (الزمان والمكان)، أما كون الفتيات يقولن بأنهن لا يعرفن بعد (ميعاد عودتها) فدلالة واضحة إلى التبريرات الكاذبة للغياب العمدي لصاحب الحق في الوجود. أما الجدال واختلاط الأصوات، فهو رمز للنخبة واختلافهم فيما بينهم وتواجد الراوي معهم مع عدم جدوى اشتراكه كما يرى في ظل غيبة صاحبة الحق على أمل عودة صاحبة الحق، وهو الأمل الذي ينتظره الرائي ؛ حتى يتسم الحوار والنقاش بالجدية والأداء ليخرج في النهاية مُعبِّرًا عن آمال الشعب كله لا عن أفراد يكتفون بالجلوس في الحجرات المكيفة دون الخروج إلى الجماهير، ومناقشة القضايا في الساحات،  ومعالجتها لا الاكتفاء بالجدال وارتفاع الأصوات. هذا الحلم بكل دلالاته التي اتضحت بعد فك شفراته (دواله)، يعكس رؤية محفوظ المستقبلية وكأنه يقرأ المستقبل الواقع الذي نعيش فيه، حيث انشغال النخب بالتعديلات الدستورية دون مشاركة فاعلة للجماهير الغفيرة، أو حتى بعض فئاته.  

(4 - 2) الموت... ودلالاته في الأحلام:
ظل هاجس (الموت) مُسيطراً على إبداع محفوظ بشكل لافت للنظر، بل إن هذا الهاجس شغل محفوظ نفسه منذ بداياته الأولى حتى أنه أصدر قصة قصيرة بعنوان (حكمة الموت) نشرها في مجلة الرواية عدد ( 5 أغسطس 1938) هذا التبكير في التفكير في الموت وفلسفته، إنما يشي بإيمان محفوظ بالقدرية الحتمية التي ينتهى إليها مصير الإنسان، وليس فقط الإنسان وإنما الكائنات جميعاً، ومن ثم بدأ لدى محفوظ تتكرر صياغته للتساؤلات الأساسية لمسار مصير الإنسان في توجهه نحو المطلق وقد وصل الحال بمحفوظ إلى أنه (يتناغم وهو يدور مع المطلق، وهو يُعرّي ضلال الخلود ويساويه بالموت الآسن، كما استطاع أن ينبهنا إلى أن (الوعي بالموت) هو "أعظم حافز للحياة"(15) هذا الإيمان المطلق بالموت/ حقيقته، هو الذي دفع أحد أبطال محفوظ إلى أن يقول في الحرافيش:ـ "لو أن شيئاً يدوم، فَلِمَ تتعاقب الفصول....". لكن الشئ اللافت أن الموت شغل محفوظ وسيطر على مجمل أعماله والأخيرة بصفة خاصة، مثل: (أصداء السيرة الذاتية، وأحلام فترة النقاهة). وقد وصل عدد المقطوعات التي دارت حول الموت في الأصداء إلى حوالي ثمانية مقطوعات، أما في الأحلام فقد شغلت تيمة الموت حوالي أحد عشر حلماً وهي الأحلام (68/ 78/ 135/ 136/147/ 151/ 157/ 191/ 194/ 195/ 201/ 206). الشئ الآخر الملاحظ في هذه الأحلام أن نجيب محفوظ يستدعي الأموات، ويقيم معهم حواراً وهذا يؤكد أنه ينتظر الموت ولا يخاتله.

يقف الباحث عند هذه الأحلام ليوضح كيف رسم محفوظ صورة للموت، من خلالها نكتشف فلسفة محفوظ ورؤيته للموت.

الحلم (209)
"رأيتني سائراً في الطريق في الهزيع الأخير من الليل، فترامى إلى سمعي صوت جميل وهو يغني: زوروني كل سنة مرة!

فالتفت فرأيت شخصاً ملتفاً في ملاءة تغطيه من الرأس إلى القدمين، فنظرت إليه باستطلاع شديد، فرفع الملاءة عن نصفه الأعلى فإذا هو هيكل عظمي فتراجعت مذعوراً، ورجعت وأنا أتلفت والصوت الجميل يطاردني وهو يغني: زوروني كل سنة مرة!
                                                 [مجلة ضاد: ص ـ 12]

لم تكن المرة الأولى التي يلتقي فيها محفوظ بالموت (وجهاً لوجه)، ففي أصداء السيرة الذاتية نجد مقطوعة (أقوى من النسيان) رقم (98) من الأصداء. في هذه المقطوعة يتقابل محفوظ مع الموت، ويهمس له بهمسة بأن يتذكره "لتعرفني حين ألقاك" هذا اللقاء كان بينهما في حُلم، ومع هذا فلم يغب هذا الحلم عن ذاكرة محفوظ في شغله أو لهوه بل يعود وكأنه لم يغب لحظة واحدة. هذا الإلحاح في الحضور، يقابله تساؤل مُلِّح حول "متى اللقاء، وكيف؟" ولم يطل الغياب، فيتحقق اللقاء في الأحلام، ولكن بصورة أكثر كابوسية. يقابله: بعد أن كان "محفوظ" قد وصل إلى الهزيع الأخير من الليل وهي آخر مرحلة من مراحل عمر محفوظ، لكن صورته هذه، صورة مخيفة حيث يظهر على حقيقته "هيكل عظمي" بصيب محفوظ بالذعر... والخوف. وبدلاً من أن يستمر محفوظ في سيره في الطريق، يتراجع مذعورًا، والصوت يطارده" (زوروني كل سنة مرة).

هذا هو ملاك الموت يتجسد له فعلياً، ينذره بقرب الأجل، ولكن التناقض بين الذعر الذي خلّفه لمحفوظ، وحالة الغناء يوحي باستعداد النفس لاستقبال الموت.

يبدو أن انشغال "محفوظ" بالموت جعل نتيجة الموت في أعماله كما سبق أن ذكرنا بصورة مطردة والأمر لم يقتصر عند هذا الحد، بل تواصلت أفكار الموت وموضوعاته في أعمال محفوظ مع تبديل طفيف وهذا ما يعني أن هذا الكابوس، أرق محفوظ، وراح يرصده عبر أكثر من صورة. فمثلاً،الفكرة التي دارت حول الموت في الأصداء ـ خاصة المقطوعة التي تحمل اسم المخبر ـ تكاد تتشابه مع الحلم رقم (143) مع اختلاف طفيف في الصياغة، وإن تشابهت الأفكار العامة في المقطوعة والحلم. ومن ثم وجب عرض الحلم والمقطوعة معًا في مقابلة بين الحلم والمقطوعة، لمعرفة عناصر التشابه والاختلاف وهل هذا التشابه مقصود، أم أنه نوع من أنواع المراوغة لفكرة الموت، أو بمعنى أدق نوع من أنواع المقاومة لسطوة الموت وأحابيله التي يتأخذها للإيقاع بمن يريد.  

المخبــــــــــر
"كنت أتأهب للنوم، عندما طرق الباب طارق فتحت الشراعة فرأيت شبحاً يكاد يسد الفراغ أمام عيني، وقال:
ـ مخبر من القسم
ومد لي يده ببلاغ يأمرني بالحضور مع المخبر لأمر هام.
أصبح من المألوف في حينا أن يذهب هذا المخبر إلى أي ساكن لاستدعائه يذهب في أي وقت ودون مراعاة لأي اعتبار ولا مناص من التنفيذ ولا مفر. ولم أجد جدوى في المناقشة فرجعت إلى غرفة نومي لارتداء ملابسي.
سرت في إثره دون أن نتبادل كلمة واحدة ولمحت في النوافذ أشباح الناس يتابعونا ويتهامسون، إني أعرف ما يتهامسون به فقد طالما فعلت ذلك وأنا أتابع السابقين.
[أصداء السيرة الذاتية: مرجع سابق، ص ـ 79]
حلـــــم 143
"سمعت صوتاً غير مألوف فقمت فمرقت بسرعة إلى فناء العمارة، فرأيت رجلاً غريباً أثار في نفسي الريب فناديت البواب، ولفتٌ نظره إلى الرجل الغريب، فأخبرني بهدوء أنه موظف ويؤدي واجبه الرسمي، وهو أخذ الزائد من الأفراد من المساكن المكتظة وينقله إلى مسكن يتسع له فاعترضت قائلاً: إنه يأخذ فردًا من أسرته، ويُخلِّف حزناً وينقله على رغمه إلى مكان لا يرحب به.
فقال البواب بأن هذا هو القانون ونحن لا نملك حياله إلا الإذعان والتسليم".
[أحلام فترة النقاهة: مرجع سابق، ص ـ 78] 

الفكرة التي يدور حولها الحلم وكذلك القطعة متشابهة، كلاهما يدور حول فكرة الموت وعلى الأخص ملاك الموت الذي لا يمتلك الإنسان حياله إلا [الإذعان والتسليم] كما في الحلم.. أو الذهاب خلفه دون كلمة كما في حالة [المخبر]. الموت مثّل في الحالتين سُلطة عُليا لا يجب مخالفتها ولا يجد الشخص لها إلا الإذعان وقد تجسد هنا في قطعة المخبر بصورة [المخبر] الذي هو تابع لسلطة أعلى. وفي حالة الحلم... جاء في صورة [الغريب] موظف الحكومة الذي هو مُكلَّف بأداء مهمة دون الاهتمام بمشاعر الناس، فهو لا يمثل القانون الذي يجب الإنصياع له.

يبدو الاختلاف واضحًا بين موقف "نجيب محفوظ" من الموت في [المخبر] عنه في الحلم، حيث في المخبر نرى محفوظ يستعد للموت ويستسلم له، ويستقبله في غرفة نومه، وهذا ما نراه واضحًا في قوله "ورجع إلى غرفة نومه لارتداء ملابسه" أما في الحلم فنرى محفوظ معترضًا وليس الاعتراض هنا ـ لرفضه فكرة الموت، وإنما يأتي الاعتراض في الطريقة التي يُمارس بها ملاك الموت مهامه وما يخلِّفه من آثار لأسرة الفقيد. وهذا ما يظهر في قوله "فاعترضت قائلاً إنه يأخذ فردًا و أسرته ويُخلِّف حزنًا وينقله على رغمه إلى مكان لا يرحب به"

إذا كانت صورة الموت قد تجسدت لنجيب محفوظ في صور عدة، بدءًا بالمخبر في (أصداء السيرة الذاتية) أو صورة الموظف الغريب في (الحلم 143)، والهيكل العظمي الذاي طارده في (الحلم 209)، إلا أن الصفة الغالبة لصورة الموت كما جاءت في الأحلام الأخيرة أخذت شكل استدعاء للسابقين، وخاصة الذي يرتبط بهم بعلاقة حميمية مثل الأب والأم والأخوات. الحضور والغياب هو تجسيد للموت الفعلي والشعور بالفقد وهذا واضح في الحلم (206)

"رأيتني أعد المائدة، والمدعوون في الحجرة المجاورة تأتيني أصواتهم أصوات أمى وأختي وأخواتي وفي الانتظار سرقنى النوم ثم صحوت فاقد الصير فهرعت على الحجرة المجاورة لأدعوهم فوجدتها خالية تماماً وغارقة في الصمت وأصابني الفزع دقيقة ثم استيقطت ذاكرتي إنهم جميعاً رحلوا إلى جوار ربهم وأنني شيعت جنازتهم واحداً بعد الآخر."
[أحلام فترة النقاهة: مرجع سابق، ص ـ 97]

 

في هذا الحلم نجد الحالم/ الرائي، يُعد مائدة، والمدعوون الذين يحضرون هم في الأصل أموات وهم (الأم الأخوة الأخوات) وبينما هو على هذا الحال تأخذه سُنة من النوم، وعندما يستيقظ يكون قد فقد الصبر في الانتظار، فيهرع إلى الحجرة المجاورة حيث (المدعوون) إلا أنه يكتشف أن الحجرة خالية وغارقة في الصمت فيصاب بالذهول.

وبعدما تستيقظ ذاكرته، يتذكر أنهم رحلوا إلى جوار ربهم وأنه شيعهم إلى مثواهم واحداً بعد الآخر. هكذا التذكر بالرحيل، بمثابة تذكير لنفسه بأن الموت الذي (حضر) في صور الراحلين قادم، وأنه يجب ألا يتنساه لأنه قريب وسلطانه قوي.  

 

قرب النهاية

حلم (179)
"زارني المرحوم صديقي الحميم وسألني عن أسباب حزني، فقلت له إن ضعف السمع والبصر حال بيني وبين مصادر الثقافة المقروءة والمسموعة والمرئية فمضى بي إلى دار نشر يديرها أحد زملائنا في الجامعة وسألوا عن كتاب بجميع الأفكار الحديثة في العلم والفلسفة والأدب فجاءنا بكتاب ضخم ثم أهدانا طبعة أخيرة من القرآن الكريم، قائلاً إن التفسير الموجود به غير مسبوق فأخذناها، وفي الطريق قال لي صديقي: "سأزورك مساءً وأقرأ لك سورة من القرآن الكريم وفصلا من الكتاب حتى نختمها"، فدعوت له يرحمك الله ويسكنك فسيح جناته.
[أحلام فترة النقاهة: مرجع سابق، ص ـ 88]

 

يفطن الرائي/ الحالم في هذا الحلم إلى قرب الأجل، ومن ثم فهو يستعد له استعدادًا خاصًا، فعندما يزروه المرحوم صديقه الحميم، ويسأله عن أسباب حزنه يجيب الرائي بأن ضعف البصر أحال بينه وبين مواصلة الهواية هي القراءة، وفيها إشارة بالغة لكبر سن محفوظ  وشيخوخته التي كانت عائقًا له لممارسة أنشطته وهواياته. وعلى الرغم من اعتراف الرائي لصديقه بأن سبب حزنه هو عدم القدرة على القراءة لضغف بصره إلا أن هذا المرحوم الصديق يُصِرُّ ويأخذه إلى إحدى دور النشر، فيجد صديقهما الجامعى يديرها ويسألانه عن كتاب يجمع الأفكار الحديثة في العلم والفلسفة والأدب... فإذا به يُحضر كتابًا ضخمًا، ويهديهم أيضاً طبعة أخيرة من القرآن قائلاً: أن هذا التفسير الموجود غير مسبوق. حرص المرحوم على التأكيد بالعودة لمراجعة القرآن إشارة دالة على الرغبة في حُسن الختام... وحتى لا يقلل الرائي من قيمة العلوم الأخرى يشدد عليه بمراجعة فصل من الكتاب الضخم الذي يضم المعارف جميعها. وتواجد الصديق المرحوم معه، ومعاودة الزيارة دوال على قرب الأجل ومن ثم يجب الاستعداد لهذا الزائر الذي ربما يأتي فجأة دون سابق إنذار.

 

ملحوظة:

في هذا الحلم ورد خطاءان نحويان، الأول:
يقول الرائي: وسألوا عن كتاب يجمع الأفكار الحديثة.
والصواب: (وسألا) حيث الضمير يعود غلى مثنى هما (الرائي والصديق)

والثاني من الأخطاء النحوية، يقول في ختام الحلم (حتى نختمها) والصواب: (حتى نختمهما)

 

بين الحياة والموت

الحلم (201)
"ياله من بهو عظيم يتلألأ نوراً ويتألق زخارف وألواناً وجدتني فيه مع إخوتى وأخواتي وأعمامي وأخوالي وأبنائهم وبناتهم، ثم جاء أصدقاء الجمالية وأصدقاء العباسية والحرافيش وراحوا يغنون ويضحكون حتى بحت حناجرهم ويرقصون حتى كلت أقدامهم ويتحابون حتى ذابت قلوبهم والآن جميعم يرقدون في مقابرهم مخلفين وراءهم صمتاً ونذيراً بالنسيان وسبحان من له الدوام."
[أحلام فترة النقاهة: مرجع سابق، ص ـ 94]

في نظرة فلسفية عميقة تتسم بالعمق في الحياة، يرسم لنا محفوظ على لسان الرائي الذي هو صورة منه وملاصق له. صورة متناقضة لحياة الإنسان، صورة لحياته وهو يحيا متمتعاً بمباهج الدنيا وزخرفها وأخرى حيث الصمت/ الموت. وكيف تتبدّل هذه الحياة من الحركة إلى السكون،  في دلالة لعبرة الموت ومراعاة لمفاجأة الموت الذي يأتي دون استئذان. يكاد هذا الحلم يتقاطع مع الحلم رقم (206) وهو الحلم الأخير حسب المنشور في ملحق مجلة نصف الدنيا، فالرائي هنا في هذا الحلم (201) وفي الحلم (206) يجتمع مع الراحلين من أهله وهم في حالة نشوة وطرب وسعادة ثم يكتشف في النهاية المصيبة، حيث أنهم جميعًا رحلوا. ومع هذا التقاطع بين الحلمين إلى أن الحلمين يكادان يكونان منفصلين مع إنهما يكوّنان معًا في النهاية (وحدة واحدة) متكاملة، تعبر في أبعادها عن فلسفة محفوظ نحو الموت حيث جوهر الحلمين أن الموت قادم لا محالة ولا مناص منه، ويجب على كل إنسان أن يتذكره، ويجعل صورته ماثلة أمامه حتى لا يفاجأ بها. فحضور الموت واضح وماثل في فقد الأحبة الذين يتساقطون واحدًا بعد الآخر، بعدما كانوا يملأون الدنيا (ضحكًا وضجيجًا).

ما يميز هذا الحلم أن محفوظ لم يقصره على الأهل فقط في الاجتماع كما في الحلم (206)، وإنما هنا يشمل جميع الأحبة (الأهل والأصدقاء) سواء أكانوا من الجمالية أو من العباسية وكذلك الحرافيش. فالرائي يرسم بصورة عميقة حالة هؤلاء وهم في الدنيا حيث الأنوار المتلألئة، والزخارف والألوان والضحك الذي وصل بهم أن بُحَّت حناجرهم، وحالتهم الثانية بعد الموت وهي الإنطفاء والإنزواء والصمت المطبق. وبعد هذه الصور التي ذكرها محفوظ (الموت لا خوفًا منه) وإنما استعدادًا له فهو لم ينس عندما ذكر في أذنه "تذكرني لتعرفنى حتى ألقاك" ومع تساؤلات محفوظ تحت وطأة القلق، متى يلقاني وكيف يتم اللقاء، وما الداعي إلى ذلك؟ ومع كثرة هذه التساؤلات إلا أنه لم يجد إجابة لها حتى فاجأه وهو محاط بالحب والنور والأحضان الدافئة، كما توقع في الأصداء وينذر أنه آطرد على الهواجس حتى في "الأحضان الدافئة".  

(4 - 3) تنويعات أخرى في أحلام (فترة النقاهة)
قدّم محفوظ في أحلام (فترة النقاهة) تنويعات أخرى لم تقتصر على الموت أو السياسة وإنما شملت نواحي فكرية وفلسفية وحياتية مختلفة، وقد عكست هذه النواحي المختلفة خبرة "نجيب محفوظ" العميقة في هذه الحياة، وتجاربه المتنوعة، هذه الخبرة، وتلك التجارب مدعومتان بفلسفة ورؤية بعيدة المدى لهذه الجوانب، بالإضافة إلى أنها عكست قراءة جديدة لهذه النواحي، ومعالجة مختلفة لها. أبرز ما يميز هذه الأحلام، هو تيمة (الحنين) والتي اشتملت حنينه إلى الأحباب والأهل والشخصيات التي أثرت فيه وجدانيًّا وفكريًّا، وكذلك الأماكن، خاصة الأماكن الأولى التي شهدت فترة طفولته وصباه  وهذا واضح في إبراز المكان بصورة واضحة ولافتة، فنرى العباسية وعلى الأخصّ (بيت العباسية)    حظى بعدد غير قليل من الأحلام، وهذا واضح في الأحلام رقم (17/30/35/43/58/72/73/82/103/141/154/164).

تجلَّى المكان في الأحلام لِم يأتِ دخيلاً على "محفوظ"، فمحفوظ منذ رواياته الأولى ظلّ المكان بصورة واضحة سواء في العناوين أو كخلفية للأحداث، وفي كثير من الأحيان جاء المكان كبطل أساسي ومحوري، أسهم في تشكيل معظم شخصيات محفوظ، وتقرير مصائرها وفق أنساق وأعراف المكان. المكان جوهري وأصيل في أعمال "محفوظ" حتى كان المكان عاملاً أساسيًا ضمن مسوغات حصوله على جائزة نوبل، ففيها جاء (استطاع محفوظ أن ينقل الحارة إلى العالمية) وقد وصلت إجادة محفوظ في رسم أبعاد المكان سواء أكانت أبعادًا نفسية أو جغرافية أو تاريخية أو غيرها من أبعاد... أنَّ إحدى الباحثات اللاتى درسنّ محفوظ في اطروحاتها. ذكرت أنها جاءت إلى مصر مشغوفة بوصف محفوظ لها، بل إنها اتخذت من روايات محفوظ عن (الحارة المصرية) دليلا تسير به في مصر دون حاجة إلى خرائط تقودها إلى دروب القاهرة وحاراتها.

ومن شغف "محفوظ" بالمكان، وحرصه على أن يكون بطلا، أن صدّر رواياته بعناوين ذات دلالة مكانية كما سبق أن وضحت، مثل روايات (رادوبيس/ كفاح طيبة/ بين القصرين/ قصر الشوق/ السكرية/ زقاق المدق/ قشتمر/ ميرامار/ الكرنك/ خان الخليلي/ القاهرة الجديدة.). وقد عكس هذا التصدير المضطرد لأسماء الأماكن في عناوين روايات محفوظ، عشق "محفوظ" للمكان أولا وثانيًا لإيمان محفوظ بأن المكان هو العنصر الفاعل الأساسي في الرواية، وهو بحق الذي يرسم مصائر شخصياته وليس ببعيد عنا شخصية "حسنية الفرَّانة" في (زقاق المدق)،وكذلك "زيطة صانع العاهات"، هذه الشخصية المُنسحبة من الحياة والذي اختار عالمًا تحتيًا ظلاميًا لا يصله بعالم الأسوياء، هو إفراز طبيعي للمكان الذي نشأ فيه. وبالمثل "حميدة"، فقد رسم لها "محفوظ" صورة لا تنفصل عن المكان، بل من خلال رسم ملامحها الشكلية استطاع أن يكشف أبعاد المكان، فهو يصفها بأنها: «جميلة سمراء، بنت بلد ذات شعر أسود ببشرة نحاسية، تبحث عن العيشة الهنيئة والملابس الفاخرة... حائرة بين حُبّ عباس الحلو ابن الزقاق، وبين الخروج من أسر الحارة والفقر».
[زقاق المدق: دار نهضة مصر، ص ـ 17]

وفي (القاهرة الجديدة) جاء رسم شخصية "إحسان شحاته" ليشكف وطأة المكان على هذه الشخصية، وقد وصل بنا نحن القرّاء من جراء هذا الوصف إلى أن تتعاطف معها رغم أن افعالها جاءتا غير متسقة مع نسق القيم المتعارف عليها. يقول محفوظ: «كانت إحسان شحاته عظيمة الشعور بأمرين: جمالها وفقرها.. كان جمالها فائقًا.. ولكن لم توجد بالدار مرآة حقيقية بأن تعكس ذلك الجمال الصبيح، فالفقر حقيقة ماثلة لذلك، وقّوى شعورها به إخوتها السبعة الصغار، وأن لا مورد لهم إلا دكان سجائر مساحتها متر مربع، وجل زبائنها من الطلبة! وطالما خافت على جمالها عوادي الفقر، وسوء التغذية!»
[القاهرة الجديدة: دار نهضة مصر، ص ـ 22]

من هذا المنطلق يأتي تردد وإطراد المكان في (الأحلام)، فعلى الرغم من أن هذه الأحلام دفقات شعورية نابعة من وعي محفوظ الباطن، إلا أن ذاكرته لم تنسَ هذا العالم الآثر الذي شُغِفَ به "محفوظ"، فكان للمكان نصيب الأسد في هذه الأحلام وربما كان هذا الإطراد مرجعه الأساسي هو الشعور بالحنين لهذه الأماكن وعلى الأخص (بيت العباسية).  هذا الحنين جعل محفوظ يسأل مُسْتَّفهِمًا في الحلم (103): ماذا جرى لبيتنا؟!

حلم (103)
ماذا جرى لبيتنا؟ جميع المقاعد تلاصقت وسًمِّرت قوائمها في الأرض وخلت الأسقف من المصابيح والجدران من الصوّر والأرض من السجاجيد، فماذا جرى لبيتنا؟!
قالوا بأنه إجراء لتأمين البيت لتعدد حوادث السطو على المنازل، فقلت دون تردد: إن السطو أحبُّ إلىِّ من القُبح والفوضى.
[أحلام فترة النقاهة: مرجع سابق، ص ـ 67]. 

ملحوظة: وردت كلمة (القُبح) على أنها (الصبح) في طبعة نصف الدنيا.. والصحيح أنها (القُبْح)

يبدو أن البيت الذي يتساءل محفوظ في استنكار عمّا حدث له هو (رمز) لمدلول سياسي.. إلا أن ورود البيت وإضافة الضمير (الناء) العائد على محفوظ، يوحي بالالتصاق الشديد بالمكان، وحرصه على مظهره وحزنه على ما آل إليه من اعتداء بغرض التأمين. أُلفة محفوظ للمكان يجعله يُفضِّل ويؤثر (المكان) دون هذه الحواجز التي تمنع السطو على ما آل إليه من (قُبح وفوضى). هذا الانتماء للمكان جعل "محفوظ" مولع بذكر تفاصيله، وكأنه يُقدِّم وصفًا تفصيلا للمكان: فيصف الجدران والأسقف، وخلوّها جميعها من مظاهر الزينة، والتي جعلته يتساءل باهتمام: ماذا جرى لبيتنا؟! وإذا كان محفوظ في هذا الحلم يحزن لما آل إليه البيت من مظاهر الحضارة إلا إنه في هذا الحلم (107) يُشرف بنفسه على عمليات الترميم.

حلم (170)
"جددت البيت القديم الذي ولدت فيه، ولما انتهى العُمَّال ذهبت إليه وتفقدت حجراته، وتذكرت ثم دخلت الشرفة ومن خصائص نوافذها رأيت ميدان بيت القاضي وقسم الجمالية وتوابعه والحنفية العمومية وأشجار دقن الباشا ثم سمعت ضجة في الداخل، فدخلت فرأيت زملاء الصبا الذين توافهم الله يهرعون إليّ فرحين ثم رددوا أناشيد الصبا الوطنية، وإذا بضابط ومعه قوة من الجنود يقتحمون البيت، فساد الصمت وسأل الرجل عن الذين كانوا يغنون، فقلت ليس في البيت سواي ففتشوا البيت ثم قادوني إلى القسم وهناك وجهت إليّ التهم بالتستر على مجرمين والتحريض على قلب نظام الحكم، وقال لي المحامي فيما بعد اطمئن فليس لديهم دليل واحد ولكنى لم أطمئن فرحتُ أتساءل عن مصيري؟!"
[أحلام فترة النقاهة: مرجع سابق، ص ـ 86]

يسعى "محفوظ" في هذا الحلم إلى إظهار الوظيفة الطبيعية للبيت، تلك الوظيفة التي ذكرها   "غاستون باشلار" في كتابه (جماليات المكان)، المتمثلة في (الشعور بالأمن والاستقرار)، ومن ثم يعود "محفوظ" إلى هذا البيت ليتنسم هذا الاستقرار والأمان، يعود إلى (البيت القديم) هذا البيت الذي شهد أيام الصبا، ليعيد إليه الحياة بعد أن أصابته آثار الزمن، فيسعى إلى تجديده، وبعد أن تنتهي أعمال التجديد يدخل إلى الشرفة ومنها يطل على العالم (بيت القاضي، قسم الجمالية وتوابعه، الحنفية العمومية، أشجار دقن الباشا)

صارت الشرفة رمزًا للانفتاح مع العالم الخارجي، وبينما هو يطل على هذا العالم يسمع ضجة آتية من الداخل، فيدخل فيرى زملاء الصبا الراحلين قادمين مهللين لرؤيته، ومن ثم أخذوا يرددون أناشيد الصبا الوطنية، وبينما هم على هذا الحال، يفاجأ بضابط ومعه قوة من الجنود يقتحمون البيت، وبدخلوهم يسود الصمت يسألون عمن كان يغنى، وعندما لم يجدوا شيئًا اقتادوا السارد إلى قسم الشرطة ؛ مًتهمًا بعدة تُهم جاهزة منها التستر على مجرمين والتحريض على قلب نظام الحكم. هكذا دون سابق إنذار يُقتحم البيت ويقتاد صاحبه إلى السجن، وهو رمز (الأمان)، تتبدل وظيفة البيت هنا إلى النقيض، فتواجد ضابط الشرطة داخل البيت وسؤاله عما كان يغنى إشارة دالة على عدم الشعور بالحرية وتوفر الأمان داخل أهم خصوصية يتمتع بها الشخص في منزله، السارد يريد أن يقول أن الإنسان فقد الأمان حتى في منزله، وإن كبت الحرية وصل إلى العقاب على الغناء والشعور بالحرية.

رسم "محفوظ في مفارقة دالة حالة الأمان وعدم الأمان من خلال هذا الحلم".  

Elnaby_55@yahoo.com 

هوامش الدراسة:  
اعتمدت الدراسة على (أحلام فترة النقاهة) الصادرة عن نصف الدنيا ع (864 بتاريخ 3/9/2006 
1 ـ فيليب لوجون: "السيرة الذاتية الميثاق والتاريخ الأدبي" ت/ عمر حلِّى المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1: 1994
2 ـ مجلة الهلال: فبراير 1970، عدد خاص لنجيب محفوظ، ص74
3 ـ خالد محمدعبدالغني: هل كانت الحرافيش سيرة محفوظ التراثية أخبار الأدب ع700 ، 10ديسمبر 2006  ـ ص ـ 14
4 ـ حوار مع رجاء النقاش: نجيب محفوظ مؤلف ألف ليلة وليلة حوار (حنان مفيد) نصف الدنيا ع (864 بتاريخ 3/9/2006، ص ـ 53)
5 ـ مجلة ضاد: ع (5) نوفمير 2006 ص ـ 8، صادرة عن اتحاد كتاب مصر
6 ـ حوار مع مجلة نصف الدنيا: أجرته "زينب عبدالرازق" بعنوان (الحاج صبري كاتم أسرار نجيب محفوظ) ع (684، ص ـ 28)
7 ـ السابق ص ـ 28
8 ـ حوار مع لوفيجاروا: ترجمة "هبة سليمان" نصف الدنيا، ص ـ 12
9 ـ أصداء السيرة الذاتية: مكتبة الأسرة  ـ الهيئة العامة المصرية للكتاب 2005، ص ـ 15
10 ـ عبد السميع عمر زين الدين:(أصداء الأصداء الآفاق الفكرية في أصداء السيرة الذاتية) الهيئة العامة لقصور الثقافة، كتابات خاصة يناير 2007  ـ  ص ـ 40
11 ـ د/ خيري دومة: تداخل الأنواع في القصة القصيرة المصرية الهيئة المصرية العامة للكتاب2002م ص ـ 259
12 ـ عبدالسميع عمر: مرجع سابق، ص ـ 45
13 ـ السابق ص ـ 46 
14 ـ السابق ص ـ 47
15 ـ مجلة ضاد: يحيي الرخاوي: نجيب محفوظ (السهل الممتنع) ص ـ
31