هذه أحدث قصائد الشاعر العراقي الكبير، يرثي فيها شاعرا صديقا ورفيق حلم، أم تراه يرثي جيلا وبلدا وعالما كاملا، وهو يعلو بقدرة الشعر على الأحزان.

إلى سركون بولص

سعدي يوسف

البحيرةُ التي تلتمعُ في البعيدِ
البحيرةُ التي تلتمع في المساء المبكِّرِ
البحيرةُ التي تلتمعُ بين أشجار الشتاء المُعَرّاةِ
البحيرةُ التي ماؤها رصاصٌ
البحيرةُ التي لا سبيل لنا إليها
هذه البحيرةُ سنظل نرصدُها، غافلِينَ عنّا.
*
يومَ كانت أثينا  تجيءُ مع البحرِ والورقِ، استيقظتْ نحلةٌ  في الوريدِ.
المُغَنِّي تَرَنّحَ. والقصبُ الغَضُّ في الهَورِ مالَ. السماءُ
لها وردةٌ. أينَ نسكنُ؟ قُلْنا: سنسكنُ في الأُغنياتِ. وماذا سنَطْعَمُ؟
قُلْنا: رحيقَ البراري.
*
المدينةُ التي لم تتشكّلْ بَعدُ
المدينةُ التي ليس فيها شارعٌ واحدٌ
المدينةُ التي لا تصنعُ إلاّ السجائرَ
المدينةُ التي أضاعت مفتاحَ بوّابتِها
المدينةُ التي تنتظرُ البرابرةَ
هذه المدينةُ سوف نشقُّ فيها نهراً للهتاف.
*
ولْيَكُنْ!
قد تكونُ أثِينا وأبوابُها المائةُ، الآنَ، في مَدخَلِ السجنِ!
نضحكُ في وجهِ سَجّانِنا. الليلُ في القلعةِ اكتظَّ بالنجمِ أحمرَ.
والليلُ يلعبُ في النهرِ. كانت أثِينا تَلُوحُ. وكانت تُلَوِّحُ
والسجنُ يطفو خفيفاً على الماءِ. كنّا على الماءِ نمشي.
*
القطارُ الذي مَدَّ سِكَّتَهُ  الهنودُ والأسرى
القطارُ ذو العرباتِ الخشب
القطارُ الذي ليس فيه ماءٌ
القطارُ الذي يعوي في ليل المتاهةِ
القطارُ الذي لا يحبُّه البدوُ ومتمرِّدو العشائر
هذا القطارُ سيأخذنا، مكبَّلِينَ...
*
لن نقولَ لبيروتَ شيئاً.
سنشربُ قهوتَنا، مثلَ ما يشربُ الناسُ قهوتَهم في مقاهي
الرصيفِ. نخبئ  أسرارَنا في ابتسامتِنا. ثم نسألُ: والبحرُ؟
  أهيَ  أثِينا على الشاطئ الآخَر ِ؟  المرفأُ المُتطامِنُ
حيثُ الطريقُ  لها: المارجوانا... وجوعُ الطيور.
*
أميرِكا التي ذهبْنا إليها في الأقاصيص
أميرِكا التي يذهبُ إليها الآشوريّونَ ليتكلّموا بلُغتِهِم
أميركا التي لسانُها ذهبٌ
أميرِكا التي حملتْنا النسورُ إلى براريها
أميرِكا التي أحببْنا
أميرِكا، هذه، خذلتْنا مثلَ إلهٍ ساقطٍ.
*
جُعَةٌ، أو نبيذٌ. قليلٌ من الخبزِ.  نقلي بزيتِ المكائنِ لحماً قَدِيداً
ونرمي به بيضتَينِ. ملابسُنا الداخليةُ مَلَّحَها العرَقُ المتخثِّرُ. كم مرّةٍ
كادَ يُغْمى علينا... الدروبُ التي لا تؤدِّي تطاردُ أحذيةً مزَّقَتْها الصخورُ.
ولكننا نقرأُ. الأرضُ مِلْكٌ لنا. ونحِبُّ النساءَ الجميلاتِ. نفرحُ حتى نُجَنّ.
*
أثِينا التي قد أضَعْنا 
أثينا التي قد  قصَدْنا
أثينا التي لن نرى
أثينا التي في ظلامِ القُرى...
أثينا البهيّةُ  جاءتْ أخيراً لتأخذنا  نائمين...

لندن 11.03.2008