تقدم هذه الرواية الجديدة للقاصة والروائية السورية حفرها السردي في المسكوت عنه، فتتخلق عبره رواية توثيقية جديدة يتضافر فيها السياسي بالإنساني بالفني.

نيغاتيف (رواية توثيقية)

روزا ياسين حسن

لا أعرف إن كان ثمة ما يسمى: رواية توثيقية!
لكني أعتقد أن التخييل هو الفضاء الذي تزهر فيه الروايات. والتوثيق عكس ذلك تماماً. أي أن الدروب تحت تأثيره تكون مرسومة قبل البدء بالكتابة! بالتالي فالعالم التخييلي، الأجمل في السرد برأيي، هو في التوثيق محدّد بمسارب لا يحيد عنها، بنهايات منجزة سلفاً، وبشخصيات معروفة ومؤطرة خارج تطور لغوي، ينبغي أن يكون حراً، وخارج تنويعات السرد والحكاية يعبث بهما الخيال الخلاّق.

لكن الأمر كان هنا مختلفاً!

لأن التخييل سيعمل، كالعادة، على ليّ القصة الحقيقية. بمعنى آخر سيعمل على حقن ما حدث بنكهة ما لم يحدث، بالتالي ستبقى التجارب، المتاهات، الحيوات، كل ما كان هناك ولم يكتشف، ولم يعرف عنه، قيد التخييل فحسب. وهذا ما لم أرده.
كان علي إذاً أن أضحّي بروعة التخييل الروائي، الذي ما زلت من أشدّ المتحمسين له، في مقابل حفظ الحقيقة، أو لنقل، بمعنى أدق، حفظ التجربة.
ولمَ رواية؟!
ربما لأن ما حدث هناك لم يحدث إلا لتكتب عنه الروايات.

روزا ياسين حسن
دمشق 2007

* * *

بمثابة مقدمة:
                          وأسير غدا له السجن لحدا 
                          فهو حي في حالة الملحود
                                                    البحتري
(إني أتحصن في هذه القلعة، وأكابد هذا الحصار، لا لكي أرضي سلطاناً أو أحمي إمارة، إني هنا كي لا يقال في قادم الأيام اجتاح تيمورلنك هذه البلاد ولم يوجد من يقاوم).

مقولة أطلقها أزدار آمر قلعة دمشق: الشخصية المؤثرة في مسرحية سعد الله ونوس "منمنمات تاريخية".

ستتلخص في هذه المقولة، برأيي، فكرة أساسية قد تنظم نسقاً كاملاً من حيوات الدونكيشوتيين الفدائيين، حيث يندرج المئات وربما الآلاف ممن وقفوا في وجه الطغاة على مرّ الزمن، الذين كانوا باعتقادي موقنين أن الطريق إلى النهاية قريب، وأن ما ينتظرهم إما أقبية السجون المظلمة أو حبال المشانق أو الرصاص الغادر.

تجربة المعارضة السياسية في بلاد الديكتاتوريات، وبمختلف أطيافها، جزء لا يتجزأ من هذا النسق، سواء بعملها السري أو العلني، هي التي عملت على تأكيد مقولة بريشت: فغداً لن يقولوا كان زمناً صعباً، بل سيقولون لماذا صمت الشعراء؟.

التجربة النسائية بين صفوف المعارضة تؤكد أيضاً على ذلك، وما تجربتها في المعتقلات إلا انسحاب لإجهار الصوت في زمن الصمت، حين تتحوّل الأنوثة، بمعناها التاريخي النظري والمكرّس، لتصبح قادرة على الوقوف في وجه الطغيان وظلمة المعتقلات.

كان من الممكن أن يستمر العمل بهذا الكتاب لسنوات أخرى! ذلك أن عدد المعتقلات، اللواتي رحت أكتشفهن كل يوم، كان يزداد ويزداد! هذا ما جعلني أضطر إلى حصر العدد وإلا فلن ينتهي الكتاب. فيما لم يملكني وهم الإحاطة بالتجربة كاملاً في كتاب واحد، لأنها، حقيقة، تحتاج إلى كتب كي يتم رصدها بشكل وافٍ.
أثناء بحثي كنت أصطدم على الدوام بالرعب المعشش في قلوب الكثيرات من المعتقلات، خاصة المعتقلات الإسلاميات، مما جعل تجربتهن تبدو، على الرغم من كل المحاولات للإحاطة بها، ناقصة، فأية واحدة قابلتها منهن لم تجرؤ على الكلام، عدا استثناءات قليلة جداً، وسط هيمنة الخوف القديم في دواخلها. وأعتقد أن هناك بحقّ ما يبرر ذلك الخوف. لذلك كان لابد من اتباع أساليب مختلفة لكشف بعض الجوانب المتفرقة في تجاربهن الغنية، وفي كشف الحقيقة الأكثر غنى، بمعناها الإنساني المؤلم، من كل التجارب الأخرى. وعلى الرغم من قناعتي أن الإيديولوجيات تغيب في المعتقل، وهذا ما حاولت أن أسلّط الضوء عليه، إلا أنها ستبدو حاضرة هنا بشكل أو بآخر، ذلك أن ما تعرضت له المعتقلات الإسلاميات مختلف عما تعرضت له الشيوعيات (باعتبار أن الكتلتين الأساسيتين للمعتقلات كانتا من هذين التيارين).

لكن ثمة أمر رافقني طيلة فترة العمل كاد يتحول إلى هاجس، وهو أن أختار بين أمرين أساسيين: الوفاء للتجربة غير العادية، أو الوفاء للكتابة. أنا شخصياً اخترت الأخيرة لإيماني ألا تجربة تستمر إلا حين تدوّن، والضياع كتب على كل شيء لم ينقش في الحجر. ذلك أن ما استحوذ على اهتمامي، منذ اللحظة الأولى، هو أن أستطيع إخراج كتاب ممتع إلى قارئ مفترض، كتاب يحاول أن ينقل، لذلك القارئ أيضاً، بعض الويلات والانتهاكات التي ارتكبت بحق النساء، والرجال على السواء، دون أن يعلم بها.

لذلك قد يبدو لقارئ ما أن تجربة كاملة تلخصّت في الكتاب بقصة واحدة أو قصتين!. الأمر لا يعني، بكل تأكيد، تقليلاً من قيمة التجربة برمتها، ولكن ربما كان له علاقة بما قلت قبل قليل: الوفاء للكتابة فحسب.
لطالما ناوشتني في هذا الموضوع تساؤلات عدة:
لِمَ الكتابة عن السجن؟
هل سيحقق النص الجمال المطلوب؟
هل سأغدو بعد القراءة كما كنت قبلها؟
يرى إيتالو كالفينو، الكاتب الإيطالي، إننا في الكتابة بحاجة إلى تركيز فولكان، الإله الحداد القابع في فوهات البراكين، وحرفيته المهنية لتسجيل مغامرات عطارد، الإله الخفيف الرشيق بقدميه المجنحتين.

أسمح لنفسي أن أستعير القول هذا في معرض حديثي: كم نحن في حاجة إلى حرفية اللغة ودلالاتها اللامتناهية وإلى نحت الكلمات كي نستطيع التعبير عن ذاكرة السجون المعششة في أرواحنا! وكم نحن في حاجة إلى ألم السجن وتجربته المشدودة كوتر في أعماقنا كي نهب اللغة تلك الحقنة من الواقعية المؤلمة حد الإنهاك! ولأن تجربة المعتقل تجربة من غير الممكن تدوينها، كما قلت آنفاً، في كتاب، ولن ينجزها كاتب واحد بالتأكيد، ولأن كل ما يدونه المرء يتحول، شاء أم أبى، إلى نسخة ممسوخة بل مشوهة من المعيش، لذلك ينبغي معاملة الكتاب، وكل ما يمكن أن يكتب عن السجون، كومضات ضوء تتوالى في العتمة، لن يتضح المشهد إلا بتوالي تلك الومضات وتكثيفها في تجارب متعددة بتعدد مسارات الطغاة، متنوعة بتنوع أساليب تعذيبهم وقمعهم، وعميقة عمق أقبية السجون.

لنعتبرها إذاً محاولة لتدوين جزء من تاريخ نسوي سياسي غيّب سنيناً طويلة كما غيّبت تجربة المعارضة عموماً وبمختلف أطيافها. باختصار، التجربة لا تقال بعيداً عن ظرفها الإنساني. المهم هو الخروج من الجحيم وأنتن ما زلتن مفعمات بالحب والحياة والرغبة بالفرح.
إلى لينا. و، عرفاناً بالجميل يا صديقتي.
إلى ناهد. ب وهند. ق وضحى. ع، ابتساما تكن أضاءت الكثير من المناطق المعتمة داخلي.
إلى كل الصبايا المعتقلات...
عليكن العمل كثيراً لفضح القليل من المسكوت عنه.

* * *

في كتابه "أنت جريح" يترجى الكاتب التركي أوردال أوز جسده، بلسان بطل روايته، كي يساعده على الاحتمال أثناء التحقيق، يترجّاه كي يصمد كيما يحمله سالماً إلى منطقة الأمان. ومنطقة الأمان هنا مختلفة اختلاف الزمان والمكان والشخصية والتقنية المستخدمة والخاتمة أيضاً!

حين ينتهي التعذيب يشكر معتقل أوز جسده، من كلّ قلبه، لتبدأ حياة السجن المتطاولة الممتدة.

همست لينا.(1) أن كلمات أوردال أوز، وحدها، كانت ترنّ في أذنها وهي تتلقى ضربات الكرباج اللاسعة على باطن قدميها. بلسانها كان بطل الرواية يترجى جسدها أن اصمد يا جسدي، وبروحها كانت الرواية تنكتب كلمة كلمة! حين انتهى التعذيب شكرت هي الأخرى جسدها، كما فعل بطل "أنت جريح" تماماً. لكن ما قرأته لينا بدا شديد التأثير قبل اعتقالها، وجعلها تشهق منتحبة لساعات ممتدة، تحوّل إلى حكاية هزيلة ومجتزأة إذا ما قورنت بالذي عاشته داخل المعتقل خلال سنوات سجنها الطويلة!
تتحوّل الكتابة في مواجهة المعيش قزماً لا يستطيع أن يبلغ مبلغ الرجال، أو مسخاً عاجزاً ومثيراً للضحك. لأن ما تلمسه أجسادنا، لمس الحقيقة، لا يمكن للغة، مهما فاحت منها رائحة التجربة، أن تجسده بعمقه الجوّاني.

ـ هذا ما يحدث تماماً.. تتغير كل نظرتنا إلى الحياة بعد أن نخرج!
أعقبت حديثها.

كلماتها تلك كانت أشبه بأسطورة أورفيوس(2).

ذلك أنه لم يكن قد مضى وقت طويل على زواجه من حبيبته يوريدس حين لدغتها أفعى قابعة في العشب. ماتت وهي بعد عروس شابة. صدح أورفيوس بحزنه لكل من يتنفس الهواء من الآلهة والناس، فلم يجد أحداً يبحث له عن زوجته في أقاليم الموتى. حينئذ قرر أن يهبط بنفسه لإنقاذها من العالم السفلي عن طريق كهف مهجور وعميق. هناك، في مجاهل الموت، وقف العاشق أمام عرش بلوتو وبروسربين، عزف على قيثارته، وغنّى باكياً وجده.

 كان غناء أورفيوس مؤثراً حتى أن إلهيّ العالم السفلي سمحا له باصطحاب حبيبته إلى عالم الضوء، عبر ممرات الظلام الشاهقة، شريطة ألا يلتفت إلى الوراء حتى يخرجا إلى الهواء الأرضي.
سار الحبيبان بصمت مطبق حتى اقتربا من المخرج. لكن هاجس فقدانها من جديد جعل أورفيوس يلتفت إلى الوراء ليلقي نظرة على حبيبته، نظرة واحدة لاغير. هكذا خسرها إلى الأبد.

هل يكون لظلام السجون ظلمة العالم السفلي! وذلك السّلم الشاهق، يفصل صقيعها القاسي عن دفء الخارج، هو الدرب الطويل ذاته الذي يقطعه كل معتقل ومعتقلة في محاولة للتخلص من رواسب الانكسار والألم! رواسب تراكمت على أرواحهم خلال سنوات السجن!.

ستبدو نظرة أورفيوس إلى الوراء كنظرة المعتقل/ المعتقلة إلى سنواته/ سنواتها المنقضية في هواء السجن الفاسد! لكن ربما كان ما نمضيه في السجن يبرمجنا لنوع من التهديم الذاتي(3)! وعلينا أن نحارب ضد هذا الشعور الذي يبقى معنا حتى عندما نخرج من السجن.

لمَ لا يكون مجرّد نبشنا لممارسات القمع هو طريقة للخلاص منها، طريقة لمقاومة ذاك التهديم الذاتي يأكلنا من جوانيتنا.
لكننا نكتشف حين نخرج أن الحكاية مختلفة تماماً. نكتشف أن هناك مناطق من أنفسنا حرقت نهائياً وليس من السهل أن نتابع الحياة معها. تغدو تفاصيل العيش بعد السجن مختلفة تماماً عما كانت قبله.

الحب غير الحب!
الفرح غير الفرح!

حتى للذة طعم مختلف.. كأن الروح استحالت إلى روح أخرى!
ربما كان أهم ما نستطيع فعله هو أن نبقى أناساً، بكل ما تعنيه الكلمة من حياة وفاعلية، أن نسير أبعد من طعم ذلك الرماد الذي بقي في أفواهنا.

هل تبدّل الكتابة طعم الرماد؟!.

ربما بدّلت ذلك لدى الكاتبة المصرية فريدة النقاش،(4) وهي أول من سجّل تجربة المعتقل بقلم امرأة عربية، بعد أن سجنت طويلاً كمعتقلة سياسية في سجون السادات. ثمة جملة أطلقتها النقاش في الكتاب ربما كانت تيمة أساسية في بلاد الطغاة، كل الطغاة:
(لم يعمل أحد بالسياسة من أبناء جيلي ويفلت من تجربة السجن. أصبح السجن إذاً جزءاً من الوجدان الوطني العام).
هذا ما تؤيده كاتبة أخرى، اعتقلت طويلاً في السجون المغربية، وهي فاطمة البويه(5).

دوّنت البويه كتابها في المعتقل، ثم نشرته بالعربية بعنوان: حديث العتمة، وبالفرنسية بعنوان: امرأة اسمها رشيد. رشيد هو الاسم الذي أطلق عليها في المعتقل حين كانت صلبة كرجل! تقول فاطمة البويه إن الدور الأساسي في إقناعها بالنشر كان للكاتبة المغربية فاطمة المرنيسي، بعد أن مرّ أكثر من عشرين عاماً على كتابته. والمرنيسي عملت كذلك على كتابة التاريخ المغربي بعيون مناضلات وسجينات سياسيات سابقات.

هل الكتابة عن "الوراء" كافية لتعود كل أحلام السجين/ السجينة بعالم الألوان إلى رمادية العالم السفلي؟ ليستحيل الولع بالقادم، الغريب برمته، إلى انتكاسة مريرة؟ أم هي محاولة لنبش ما دفن هناك وقتله إلى الأبد باصطحابه معنا إلى النور؟!!
لا يهمّ. لندع الحديث جانباً، ذلك أن صراخ المحقق، الداخل للتو إلى الغرفة، صعق ناهد.ب(6) وهو يقتحم المكان مصمّاً مبهماً.
لم تكن قد مرّت دقائق على خروجه بعد انتهاء حفلة تعذيبها بالدولاب،(7) حفلة استمرت ساعات. قدماها لا تكادان تحملانها على الأرض الباردة، وألم فظيع يجمّع حواسها كاملة في أسفلهما المنتفخ والمدمّى. كانت تترنح جاهدة للوقوف.. أو ما يشبه الوقوف.

الطمّيشة،(8) التي تغطي عينيها بالكامل، لا تترك مجالاً إلا لخيط نور رفيع آت من الأسفل. العرق يتسلّل إلى عينيها، يكيّل الملح حارقاً داخلهما، ورؤية ضبابية تلوح لطرف حذاء المحقق الأسود لاغير.

أجابت عن السؤال للمرة العاشرة بلامبالاة كي تفهمه أنها عرفت صوته ولم يخدعها:

ـ ناهد..
 ما هو عملك؟
ـ مهندسة!..
ـ أنت مهندسة!!.. أنت شرموطة.
لم تجد ناهد نفسها إلا وهي تصيح كمن نسي تعبه فجأة وكممسوسة:
ـ البلد كله يعرف من هم الشراميط ومن هم غير الشـ...

أتت الضربة مجنونة مباغتة على وجهها لتسكتها تماماً، وتلقيها بعيداً على بلاط الأرض العاري والقذر.

لم تدرِ ناهد إلا ومقدمة حذاء عريضة ومرّة تحاول الدخول بشراسة في فمها وهو يُفتح على الرغم منها. لم تكن تمتلك أية طاقة على تحريك أي جزء من جسدها المسجى كجثة لامبالية فيما سيل الشتائم وحده يمور في الغرفة، ويتواصل منهالاً عليها.

في المكان نفسه كان ثمة فتاة أخرى تدخل زمن الاعتقال تدعى هند.ق.(9) لكن أول ما قامت بفعله هند حال دخولها إحدى منفردات فرع الأمن1، وحالما أغلق السجان الباب الحديدي، أن شرعت تدقّ على جدران الزنزانة، تدقّ بهيستيرية علّها تصيب ولو دقّة خافتة من منفردة مجاورة على جدران منفردتها، تشعرها بوجود حياة ما في هذا الظلام الميّت والمميت.

إنه اعتقالها الثاني، لذلك كانت تتكهن، من معرفتها بالمكان، أن المنفردات المجاورة مليئة بالمعتقلين. كانت تحسّ الجو المحيط المحقون بالأنفاس والهمهمات المكبوتة. بالفعل، بعد ثوان أجابت على دقاتها اللهفة دقات أخرى على الحائط اليميني للمنفردة. بدأ الحديث بالدقات على الفور: لغة المعتقلين المعروفة.

سأل الطارق:
ـ من أنت؟ ما هي تهمتك؟
ـ أنا واحدة.
ـ أعرف أنك وحدك!!
ـ لا.. أنا واحدة.. بنت يعني.

الدهشة، أي التوقف عن الدق، هي ردّ الفعل الوحيد بدر عن الطارق المجاور. يبدو أنه فوجئ بوجود نساء في هذا المكان! ذلك أني كنت من أوائل المعتقلات في الفرع قبل أن تبدأ حملة الاعتقالات المسعورة سنة 1987.

استمرت الأحاديث بيننا طويلاً ذاك اليوم. كلما ابتعدت خطوات السجان أهرع إلى الحائط لهفة ليعلو صوت الدقات، وكلما اقتربت خطواته الطارقة على بلاط كوريدور الفرع، المليء بالمنفردات المتقابلة، تتلاشى أصوات الدقات.. حتى راح الخدر يستقر في أطراف أصابعي وهي تحتك بالحائط العاري الخشن طيلة الوقت. بعد أيام استطاع الطارق إخبار هند أن هناك طاقة في أعلى سقف المنفردة، تحت السقف المستعار، وهي محدّدة بالشبك تطلّ على الفراغ فوق سقف المنفردة الأخرى. تستطيع المعتقلة، إذا تسلقت جدران المنفردة الضيقة، أن تسمع صوت الآخر الهامس من هناك. نجحت هند، بعد عدة سقطات، أن تتسلق المنفردة، ساعدها جسدها النحيل على ذلك بوضع ساقيها على حائطيها المتقابلين حتى وصلت إلى أعلى واستمعت إلى صوت الشاب:
محمد.ع كان اسمه.
حاول الهرب من الجيش إلى تركيا، لكنهم استطاعوا القبض عليه على الحدود ليتّهم بالفرار من خدمة العلم، ويرمى هنا منذ ستة أشهر. حدّثني عن جحيم عاشه في الجيش، وعن جحيم كان ينتظره منذ لحظة إلقاء القبض عليه وحتى مجيئه إلى هنا.
ـ معك دخان؟!! سأموت من أجل سيجارة.. وليس لدي نقود..
همس محمد من بعيد مترجياً.
ـ معي..
أجبته ضاحكة.

من خيوط البطانيات العسكرية العفنة، بالكاد تدرأ برد آذار المجنون في تلك السنة، استطعت، تنفيذاً لتعليمات محمد، أن أنسج حبلاً طويلاً ومتيناً، ربطت إليه صابونة، كنت قد اشتريتها من السجان، وربطت إليها باكيت دخان "حمراء طويلة"، كنت قد اشتريته أيضاً بأضعاف ثمنه ودخّنت منه ثلاث سجائر فحسب في الليل. رميت الحبل والباكيت في آخره عبر الطاقة إلى منفردة محمد المجاورة. لم أنجح في المرة الأولى، لكن في الرمية الثانية انزلقت الصابونة، ومعها الحبل والباكيت، إلى زنزانته. بهذه الطريقة المبتكرة استطعنا، نحن الاثنين، أن نتبادل الكثير من الأشياء: كبريت، محارم، رسائل، وأشياء أخرى لم أعد أتذكرها جيداً.

ثم راح محمد يحرق أعواد الثقاب بالعشرات، يكوّم الشحار تلة صغيرة في زاوية منفردته ليكتب به كحبر. أما عيدان الثقاب فقد تحولت إلى أقلام نفيسة، تخطّ الرسائل على ورق كان يوماً ما أغلفة لباكيتات الدخان. يكتب، ثم يرمي رسائله الملتهبة إليّ.. يكتب ويرمي. رسائل عشق رائعة تحملني بعيداً عن قبري. رسائل عشق تحيل عتمة وبرد منفردتي إلى غرف حميمة، حميمة ودافئة. في ذلك الوقت استطاع محمد، الذي لم أر وجهه يوماً، أن يجعلني عاشقة ولهانة في منفردة منسية من فرع الأمن.
ـ أنا باقٍ هنا، وأنت بالتأكيد ستخرجين قريباً.. وحينها أتمنى أن تذهبي إلى أهلي، وتتعرّفي عليهم، وتطمئنيهم عني.
هذا ما قاله محمد واثقاً في الأيام الأخيرة، وكان قد مرّ حوالي الشهر على اعتقال هند في المنفردة المجاورة.
ذات صباح جاء السجان، رمى لها الفطور في القصعة المعدنية قائلاً: جهّزي نفسك ستنقلين إلى سجن النساء(10).
لم يكن للخبر وقعه الفرح المتوقع!
كان على هند أن توصل إلى محمد قرار انتقالها المفاجئ. دقّت على حائط المنفردة لهفة قلقة لتخبره بتحقق نصف نبوءته لا غير، وبأنها ستخرج لكن إلى سجن النساء. بما أن محمد لم يكن يمتلك أية نقود فقد عملت هند على رمي ما تبقى معها له. ربطت الأوراق النقدية بالصابونة، وراحت تحاول قذفها عبر الطاقة دون أن تستطيع ذلك.. كان عليها أن تتمّ المهمة بسرعة وقبل مجيء السجان، لكن توترها زاد الأمر سوءاً.
رمتها مرة تلو الأخرى.. مرة تلو الأخرى.. دون أن ينجح الأمر. أخيراً، قبل دخول السجان بثوان، نجحت هند في إيصال هديتها الثمينة إلى محمد قبل انتقالها.
لكنها نسيت في ذلك اليوم مسابح نوى الزيتون التي صنعتها طيلة الشهر المنصرم، نسيت أيضاً رسائل محمد الحارّة تحت البطانية العسكرية. وخرجت لتظلّ أكثر من ست سنوات بعدها في المعتقلات: في سجن النساء الأول، ومن ثم سجن النساء الثاني.
أما محمد، كما عرفت هند فيما بعد، فقد ظل حوالي ست سنوات بعدها معتقلاً في فرع الأمن1 قبل أن يطلق سراحه في سنة 1990

* * *

أنثى الكهف العارية: التعذيب
ربما كانت جملة إلهام سيف النصر، القابعة في نهاية كتابه "سجن أبو زعبل"(11)، حقيقية بشكل ما، وربما ابتعد عن الصواب من لم يجعلها ديدنه! فهو يرى أن كافة أشكال التعذيب وأهدافها، كذلك نفسيات السجانين وشخصياتهم، تكون دائماً متشابهة من معسكرات النازي إلى معسكرات اليابان إلى معسكرات "بابا دوبولوس" في اليونان!. إذاً الأمر ينسحب إلى هنا أيضاً، إلى فرع الأمن1، منذ بداية الاعتقالات في النصف الثاني من السبعينيات وحتى يومنا هذا. المشهد ذاته يتكرر مراراً، كما يقول إلهام سيف النصر، لكن بتغيّرات طفيفة:

غرفة رمادية يتوسد بلاطها معتقل ملطّخ بالدماء. غرفة تسبح فيها الدماء على الأرض، بركة مختلطة بالصديد والماء يسكب مراراً على شاب غيّبه التعذيب عن الوعي. معتقلون مرميون في الكوريدورات وما تزال جروحهم تنزف، يتنقل السجانون والمحققون والجلادون على أرجلهم وأيديهم وأجزائهم المنهكة.
 الكراسي الألمانية(12) هنا وهناك وفي كل مكان..
الطميشات الكتيمة بألوانها القاتمة معلّقة على الجدران.
رائحة دم متخثر، أنّات مكبوتة، صراخ، وصياح المحققين.
هذا هو فرع الأمن1 باختصار.

الكثيرون يرون التعذيب مجرد وسيلة للحطّ من النوع الإنساني، أي تحويل الإنسان إلى مجرد كائن مقهور بلا أي اعتبار ذاتي أو كرامة، بالتالي تصبح غريزة البقاء، ليس إلا، المحرك الأساسي لوجوده.

في يوم من أيام 1987عُرّيت إحدى المعتقلات الشيوعيات بثيابها الداخلية فيما كانت تُضرب بالكرباج أمام الملازم، وتُضرب بعيون الجلادين التي تلتهمها شبقة متشهية لعريها. وقت انتهى التعذيب رميت الصبية في غرفة السجان، وليس في الزنزانة كما هي العادة، كانت الذريعة عدم وجود أماكن في الزنازين، ولربما كانت ذريعة مقبولة وسط هيجان الاعتقالات ذاك الزمن.
أحسّت وسط ظلمة الليل بحركة السجان في الغرفة. كان المبنى خالياً من العناصر كما بدا لها. حفيف حركته يقترب منها. ثم أمسك بيدها، وهو يومئ لها بالسكوت، قبل أن يحاول جسده الإطباق عليها.

على الرغم من أنها لم تكن تقوى على إصدار نأمة، فجسدها منهدّ تحت وقع الألم والتعب، حاولت الصبية الهرب منه في أرجاء الغرفة الضيقة جارّة جسدها كخرقة. وحين حشرها بين جسده والجدار ما كان منها إلا أن بدأت بالصراخ. صرخت وصرخت. حتى التأمت مجموعة من السجانة المناوبين في الغرفة وأبعدوه عنها.

لكن تلك المعتقلة قررت ألا تصمت. في اليوم التالي اشتكت للملازم الآخر. ومساء، وقت طُلبت من جديد إلى التحقيق، عمل الملازم الأول على تعريتها كما الأمس قائلاً وعيناه تتوعدان:
ـ حتى لا تعيديها وتشتكي مرة أخرى.

الشيء اللافت، الذي لا يحدث إلا في تلك الأقبية، أن المعذبين كانوا ضباطاً في معظم الأوقات، ضباطاً وليسوا جلادين! أما أساليب التعذيب فقد كانت كثيرة ومبتكرة:

وُضعت الأوراق بين أصابع سحر.ب(13)، أشعلوها مستمتعين بصراخها وبرائحة جلدها المحروق.

بقية البنات، في دفعة اعتقالات 1987، عُذِّبن بالكهرباء وبالدولاب. حميدة.ت(14) مثلاً وُضعت في الدولاب دون أن يلبسوها البنطلون على الرغم من صراخها طويلاً. في نهاية التعذيب تركت حميدة مرمية، وهي ما تزال مضغوطة بالدولاب، فيما السجان يقهقه شامتاً: لقد رأيت كيلوتك.. لونه أبيض.

ثمة طريقة مبتكرة عذّبت بها حميدة أيضاً ومعها غرناطة.ج(15) تتلخّص في وضع الرأس في أداة الفلق، عوضاً عن وضع القدمين فيها، يرفع السجانون الأداة والمعتقلة فيها مما يؤدي إلى انضغاط رقبتها بين حبلي الفلق حتى توشك أن تختنق. يحتقن وجهها حتى يزرق، وتبدأ الحشرجات بالتصاعد. حينها فحسب يرمونها أرضاً وهي في أنفاسها الأخيرة.

ربما كانت ماهية التعذيب تتلخص في إعادة السجين/ السجينة إلى مركباتهما الأولية، مركبات الإنسان البدئية والفطرية، ليحوله/ يحولها إلى رجل/ امرأة كهف عاريين إلا من ورقه الشجر، إن وجدت. عاريين في مواجهة قوى الطبيعة الغاشمة والمبهمة تماماً على تفسيراتهما البدائية والقاصرة.

تتبدى الصورة كما يلي: معتقل/ معتقلة أعزل تماماً إلا من ذاكرة أضحت وبالاً عليه، ذاكرة هي المبرر الوحيد لكل هذا الجحيم الملقى فيه. معتقل/ معتقلة أعزل في وجه التعذيب والقهر والخوف الطبيعي والغريزي من الموت.. إذاً عمل التعذيب هنا على الغريزة.. غريزة البقاء فحسب. ربما كان ذاك الضابط الوسيم يعبث بتلك الغريزة أيضاً وقت غادر مكتبه، بعيونه الخضراء وقامته السامقة، ليضرب فتاة ملقاة على أرض غرفته بالكرباج. ضربها وضربها حتى بدأ باللهاث والتصبب عرقاً، حينئذ رمى الكرباج من يده، تركها تئن بآخر طاقتها على الأنين ليعود إلى مكتبه هادئاً كأن شيئاً لم يكن. على مكتبه كانت تصطف: علبة تقليم الأظافر، كأس الويسكي والثلج بدأ بالذوبان فيه، وزجاجة العطر. يرتشف رشفة من الكأس، يمضمض بها وهو يبتسم ساخراً رامقاً الفتاة بغواية، ثم يزدرد الطعم اللاذع والممتع، يبخّ من زجاجة العطر ويتنسم رائحتها تزكم أنف الصبية المرمية أرضاً على الرغم من أن رائحة الدم والقيح تفغم الفراغ المحيط. أخيراً يخرج الضابط بهدوء سيجارة من باكيت المارلبورو، يدفعها من بعيد، من خلف مكتبه، مومئاً للصبية التي راحت تراه غائماً من خلف حجب تنسدل على عينيها شيئاً فشيئاً..
تشربين سيجارة؟!
...
بالنسبة إلى سناء.ح(16) كان الدولاب أول شيء ينتظرها في فرع الأمن1 قبل التحقيق، وقبل أن تُسأل أي سؤال! ربما لأنها من أوائل المعتقلات في حملة الاعتقالات الواسعة في 1987، حملة عملت ذات صباح على اعتقالها في أحد أحياء العاصمة ونقلها مسحوبة من شعرها إلى سيارات الأمن ومن ثم إلى مقر الفرع.

كان ثمة أمر حدث قبلاً ربما استفزهم، لم ينسوه البتة وأرادوا الانتقام. كانت سناء قد استطاعت الهرب من عناصر الأمن قبل سنة، أي في حملة اعتقالات 1986 (حملة اعتقالات اللجان الشعبية)، حين دوهم بيت جميل.ح(17) وألقي القبض على مجموعة من الشباب المجتمعين فيه، فيما هربت سناء مدعية أنها ابنة للجيران.

الاستقبال الأول: أمسكني الضابط من شعري، وطفق يضرب رأسي بالجدران بهيستيرية. كنت أتطوح بين يديه كدمية قماشية، الجدران الصلدة تتلقى هشاشة رأسي قاسية كما هي دوماً. أحسّ بأن دماغي سيتطاير إثر كل ضربة. قبل أن يضيّع رأسي على الضابط متعة التعذيب ألقاني أرضاً، ليجعل الساعات المبهمة القادمة تنقضي وصدمات الكهرباء المتتالية على يدي ورجلي تجعلني أحسّ جسدي بكليته يرتفع ثم يخبط على الأرض فجأة، وروحي تصعد معه وتهبط آنة على قساوة البلاط. نهاية اقترب مدير السجن، الذي أشرف على تعذيبي بنفسه، وراح يتمشى بتشفٍّ على ساقي المشلولتين تماماً. رحت أصرخ بما تبقى لي من قوة على الصراخ وهو يفرك حذاءه على ركبتي كأنه يمعس صرصوراً، أو كأنه يحاول هرس العظام القابعة تحت الجلد.
كنت أحس بأن العظام تنهرس حقاً.
ـ شرموطة.. حقيرة..

صاح في أذني. لكني لم أستطع السكوت حينها وهو يرمي بسيل الشتائم، وحين رحت أردّ عليها بشتائم مماثلة أقحم حذائه في فمي وهو يعاود شتمي بالأقذع، ويعاود التعذيب بشكل أشد.
مرت شهور طويلة ولم ينته تعذيب سناء.
كلما أتت دفعة من المعتقلين أو المعتقلات الجدد يعاودون التحقيق معها، استجوابها من جديد، ومن ثم تعذيبها..
تعذيب.. تعذيب..

الأيام المتطاولة تلك جعلت طبيب الفرع يضطر إلى إعطائها علبة مهدئ كي تستطيع النوم، وعلبة ليبراكس كي تكفّ معدتها، الملتهبة بشدة، عن إقياء وتشنج أضحى لا يحتمل. في اليوم الرابع للاعتقال استيقظت سناء.ح صباحاً، كان جسدها منهكاً منهكاً حدّ التلاشي. الزنزانة خالية إلا من رائحة عفونة، أصوات السجانة الصباحية، بطانية عسكرية، وعلبة بلاستيكية مدورة كانت فيما مضى علبة للحلاوة. جاء موعد إخراجها إلى التواليتات. لم تدرِ سناء لمَ قامت بملء علبة الحلاوة حتى حافتها بالماء! عادت إلى الزنزانة بأناة وهي تحاول ألا تسكب أية قطرة منها على أرض الكوريدور. إلى المنفردة قفلت وهي تفكر أنها ستساق الآن إلى التعذيب كما كل الأيام السابقة. التعذيب صباحاً ومساءً.. يريدونني أن أسلّم أكرم. ب(18).. من أين أعرف أين هو أكرم؟!!!

همست سناء إلى نفسها. أحست بأنها متعبة للغاية، بأنها لا تمتلك أية طاقة على التحمل وهي في بئر عميق عميق وداكن على شكل منفردة، وبأن لا نهاية لكل ذلك.. لا نهاية.

فقدت الرغبة في مراقبة الانعكاسات على بقعة الماء التي دأبت على سكبها وراء باب منفردتها رقم 10. تلك البقعة كانت كمرآة تعكس صورة القادم من الكوريدور المواجه وذلك عبر الفراغ المتشكل أسفل الباب المرتفع عن الأرض. سناء كانت أول من يلمح أي قادم جديد أو نزيل للمنفردات من مرآتها المائية العاكسة، لتهمس إلى المنفردات المجاورة بالحدث الطارئ. لكن سطوة علبة المهدئ وعلبة الليبراكس، الموضوعتين إلى جانب البطانية، كانت هي السيدة لحظتئذ. سطوة تناديها للانصياع. أصوات التعذيب تتناهى إليها من غرف التحقيق في الطابق العلوي. كمسيّرة، قيّض لها ذلك، أفرغت سناء حبوب الدواء كلها في فمها، شربت بعدها كل الماء الموجود في علبة الحلاوة.
...
بداية أحسست بالخدر يتسلل إلى جسدي.
كان باب المنفردة يفتح، شبح السجان يقف بالباب ويريد أن يأخذني إلى التحقيق. الصورة راحت تغيم أمامي:
ـ يريدونك فوق.
همس السجان. ربما أحسّ بسحنتي الغريبة وعيني الغائمتين. لم أستطع القيام، أجبته واهنة وبصوت مبحوح:
ـ شربت كل الحبوب.. الآن سأرتاح.
كنت أشعر بأني سأرتاح حقاً. انقطعت أنفاس السجان قبل أن يسابق نَفْسَه مهرولاً إلى الأعلى. كان يصيح بأن سناء انتحرت، أسمع صدى صوته يتناهى إليّ وهو يتردد في الأقبية. لم تمر دقائق حتى كان مدير السجن بباب المنفردة، لمحته كشبح قبل أن أغيب عن الوعي تماماً.
...
حين استيقظت سناء.ح كانت ممدّة على سرير مستشفى! وثمة دكتور قبالتها يصيح بألم مغطياً عينيه بيديه:
ـ هؤلاء يهود.. ما الذي فعلوه بجسدك؟! مجرمين سفاحين.
الكدمات الزرقاء القاتمة منتشرة على جسد سناء، تملؤه كله، ذراعاها وساقاها متفسخة، الجروح عليها متقيحة، ووجهها متورم حتى لا تكاد عيناها تظهران فيه.

في ذلك اليوم، بعد غسل معدتها، أعيدت سناء مساءً إلى المنفردة.. ولم يقم أحد بتعذيبها! في صباح اليوم الثاني أخذوني مطمّشة إلى غرفة التحقيق. وصلوا أشرطة الكهرباء إلى معظم مناطق جسدي: إلى معصميّ وذراعيّ، إلى رسغيّ وذراعيّ، ثم إلى بطني ليبدأ التعذيب. لدهشتي، بعد أقل من خمس دقائق، سمعت صوت وشوشات وهمسات في الغرفة ثم فجأة توقف التعذيب، وخرج الجميع. على الرغم من الطميشة، تغطي عيني بالكامل، إلا أني أحسست بعدم وجود أحد حولي. كان الصمت قد خيّم على المكان!
ـ ما في حدا هون؟!!

صحت. لكن أحداً لم يجب! زحفت إلى الحائط، حاولت أن أنزع الطمّيشة بحفّها به، خُدش سطحه الخشن خدي ووجنتي، لكني أخيراً نجحت في نزعها. كانت الغرفة فارغة تماماً! من الخارج استطعت أن أسمع ضجة عناصر الأمن وهم يمورون في الكوريدور، وتعرّفت على صوت أكرم. ب.
إذاً لقد ألقوا القبض عليه.

بعد أكثر من ربع ساعة، وأنا منسية في الغرفة، رحت أضرب على الحائط بكلتا يدي، أصيح، أزعق، حتى أتى عنصر وأنزلني إلى المنفردة بدون الطمّيشة للمرة الأولى. لأول مرة أرى الممرات، الكوريدورات، ومتاهات الفرع وأنا أعود إلى منفردتي.
أحس بالأمر ككابوس.

لم أعرف كيف أتى أول الليل وعادوا لاستدعائي مجدداً. مدير السجن ومجموعة من الضباط مجتمعين في غرفة. من تحت الطميشة استطعت أن ألمح وجيه.غ (زوربا)(19) ملقى على وجهه يئن، جسده مثخن بالجروح المفتوحة، الدماء تغطيه، وتنسكب منه إلى الأرض في بقعة كبيرة تنتشر حوله.

كان يبدو في النزع الأخير.. لن أنسى هيئة زوربا ما حييت. ذاك الألم يسكن أناته لن يغيب أبداً عن ذاكرتي.. لن يغيب.
...
المنفردات المقابلة والمجاورة لمنفردة سناء غصّت أيضاً بالكثير من المعتقلات السياسيات. إحداها كانت منفردة رقم 9، حيث كانت لينا. و وأنطوانيت. ل(20) محشورتين في منفردة تضيق بمعتقلة واحدة. لطالما تهامستا في نهاية الليل مع المنفردة المقابلة رقم 10، منفردة سناء.

ـ أتعرفين.. عالم المنفردات هو عالم الأقدام والشحاحيط.
همست لينا لرفيقتها وهي جاثية كالعادة على ركبتيها، تسترق النظر من تحت باب المنفردة الحديدي. الوقت يمرّ، ولينا تقضيه منبطحة تراقب، من خلال السنتيمترات القليلة الفاصلة بين الباب والأرض، أقدام المارة في كوريدور الفرع، أقدام السجانة والمعتقلين علّها تلتقط هوية أحدهم. المنفردة تلك ضمّت لينا وأنطوانيت لأكثر من 33 يوماً، نامتا فيها (عقب ورأس)، كل منهما تحتضن أقدام الأخرى. على الرغم من ذلك كان الوضع في المنفردة أكثر رأفة من وجود لينا قبلاً، ولمدة 12 يوماً، في غرفة في الطابق الأرضي، طابق التعذيب والتحقيق. هناك كانت تشعر أنها في مسلخ حقيقي: أصوات التعذيب من حولها ترتفع ليل نهار، الصراخ والأنين ورائحة صديد تحاصر روحها وهي تقضي الوقت مستيقظة تحاول، كمازوخية، معرفة الشباب والبنات من أصواتهم، فيما تتوالى جلسات التعذيب على الدولاب والكهرباء والكرسي و... تتوالى وتتوالى.

في ليلة من تلك الليالي سمعت لينا أحد السجانة، أثناء نوبة حراسته الليلة، يغني بلسان أحد المسجونين أغنية سميح شقير:
هي يا سجانة!! هي يا عتم الزنزانة...
كان صوته يتهدج وهو يئن:
لو ما أمي تركتا بعيد..
ولو ما اشتقت لضيعتنا..
ثم صمت. لأول مرة تحسّ لينا بأن للسجان مشاعر تختنق بروائح الفرع، أذنين تتهالكان من أنات الألم وصراخ التعذيب، وأن له أحبة يحتاج إلى قلبه ليحبهم. لأول مرة تكتشف لينا أن للسجان قلباً.
...
ذات يوم، في وقت ما بين وجبة الصباح والظهر، دفع أحد العناصر الباب بغتة بحركة منتصرة. كانوا ثلاثة، عيونهم تنضح بشزرات الشماتة ونظرات الفرح.
اعتقلوا أحد رفاقنا.
فكرتُ.

ربما خطرت الفكرة ذاتها لرفيقتي أنطوانيت. لكنهم لم ينبسوا بحرف، أخذوني فحسب معهم، طمّشوني، شدّوني إلى فوق، وراحوا يجرجرونني على السلم باتجاه غرف التحقيق.
كان جسدي يرتطم بكل درجة من الدرجات الحجرية التي بدت لي أنها لن تنتهي.

هناك، في غرفة التحقيق الكبيرة، نزعوا الطميشة عن عيني.
كان أكثر من خمسة عشر ضابطاً متحلقين حول رجل جاث على ركبتيه في الوسط. رحت اقترب من الحلقة ودفشاتهم في ظهري تقرّبني أكثر.

الأجساد تبتعد عن الوسط، وأنا أتبين الصورة أوضح فأوضح:
الرجل مدمّى..
يداه مربوطتان إلى الوراء
يتضح الإنهاك الشديد من التعذيب عليه..
أضحيت، وبدفشة واحدة في ظهري، وجهاً لوجه معه..
كان عدنان. م(21).. زوجي.
لم أجد نفسي إلا وأنا منهارة على ركبتي أمامه، زحفت لأضمّه، لأضمّ رجلاً مدمىً من المفترض أن يكون زوجي، لكن العناصر شدوّني بعيداً فيما كان عدنان يصيح:
- لا تخافي لينا.. ما بيخوفو.. لا تخافي.
لبطوه على عينه.

صرت أسمع صوت صراخه وركلاتهم على جسده وهم يشدونني خارجاً على الرغم من صراخي الذي صمّ مبنى الفرع برمته.
في المنفردة كان وضع لينا شبيهاً بوصف كولن ولسن لأسلوب النازية الألمانية، فرض نظام أسموه: لم يعد إنساناً.
لا يجد الإنسان نفسه، بالتعذيب والقهر المتواصل، إلا وهو يتراجع عن إنسانيته حتى حيوانيته.
كان على عدنان في الأعلى، ولينا في الأسفل، أن يتّبعا ما سبق وأسميته غريزة البقاء، أي أن يفكرا بالبقاء فحسب. دون أية تبعات إنسانية جانبية وثانوية في ذلك الوقت.
كان عليهما أن يجاهدا للعيش.
تركوها طيلة الليل لتسمع أصوات تعذيبه التي تصلها بوضوح شديد، تجلدها، تلذعها، تطبق الخناق على صدرها، وتحاول أن تنتزع نفسها الأخير.
طيلة الليل بقيت لينا متقوقعة على نفسها في الزنزانة بلا حراك.
بعد أيام قليلة نقلت وأنطوانيت إلى المهجع رقم 6 دون أن تعرفا ماذا حلّ بعدنان، ومن ثم نقلتا من جديد إلى المزدوجات(22).
هناك كان ينتظرهما، كما كل المعتقلات، ما لم يتوقعنه.
...
التعذيب قد يؤدي أيضاً إلى الجنون..
فكرة أضحت ثابتة في ذهن معتقلات فرع الأمن1.
كيف سيستطعن جميعهن، حتى بعد سنوات من الإفراج عنهن، محو مجد.أ(23) من الذاكرة؟!

كانت مجد فتاة طويلة ممتلئة اعتقلت بعد أن تم اعتقال معظم الفتيات من حزبها الشيوعي. إلا أن شيئاً وحيداً ظلّت مجد.أ تتذكره هو التعذيب، التعذيب بالكهرباء فحسب! في الفترة الأولى ظلّت ساهية، لاهية عما حولها، متوحدة مع نفسها والورق الذي كان يأتي إما تهريباً من بعض السجانة المتعاطفين أو من الورق الأسمر يلفّون به باكيتات الدخان.
مجد والورق وقلم الرصاص.

كأنها كانت تكتب الناس، تستعيض بالكتابة عن علاقتها بالمعتقلات في الزنزانة، عن علاقتها بالعالم الخارجي البعيد.
قد تمر ساعات طويلة متواصلة ومجد منكبّة على الورق تكتب!
فجأة بدأت حالات الهيستيريا تأتيها متباعدة: نوبات طويلة من الصراخ المبهم والتشنجات العنيفة في يديها ورجليها.

النوبة قد تمتد أحياناً أربع ساعات أو أكثر في مكان ضيق كالزنازين محشور بعشرات الأجساد المتململة. ساعات من العواء حتى يبحّ صوتها، ومن ثم تهمد تماماً.. لتمتد ساعات أخرى من الموات، موات حقيقي بلا حسّ أو حركة! ثم تصحو.. وتعود إلى الكتابة.

تلك الحالة، حالة مجد المؤلمة، قد تعيد إلى الذاكرة ما كتبته فيليسيا لانجر يوماً، وهي صاحبة الكتاب الشهير: بأم عيني(24). كان هناك الكثير من حالات التعذيب للمعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. قاد التعذيب الكثيرين منهم إلى الموت أو الجنون أو العاهات الدائمة. من الأمثلة كان اسم سالم جاد عيد يلوح دوماً: أصيب بالجنون بسبب التعذيب، وظل سنوات طويلة في مستشفى الأمراض العقلية. وقاسم أبو عكر توفي بسبب التعذيب أيضاً.. وحالات كثيرة أخرى.

لكن التوتر انتقل بسبب حالة مجد.أ إلى كل الفتيات في المزدوجات. الحالة تتطور من سيء إلى أسوأ، خاصة حينما أخذت مجد، بعد طول مطالبات، إلى المستشفى للعلاج حيث كانت الصدمات الكهربائية هي العلاج الوحيد! أعطيت الصدمات العلاجية لمجد بطريقة التعذيب نفسها! تدهورت حالتها أكثر فأكثر، وهذه المرة فقدت النطق والقدرة على المشي. ثم أعيدت إلى المزدوجات نحيلة بشكل فظيع، لكنها، هذه المرة، بكماء وتزحف. بدا الأمر أشد سوءاً مما سبق، ومجد تشحط جسدها كل صباح إلى الحمام محاولة تهدئة نفسها، تفتح الدوش البارد عليها، وتشهق متكومة كقطة تحت وابل الماء المثلج. ثم بدأت محاولاتها لابتلاع لسانها! خصوصاً في لحظات الهيستيريا. لذا كان على الصبايا القريبات منها، اللواتي يعتنين بها بشكل مباشر: سونا.س(25) وحميدة.ت وأنطوانيت.ل، أن يدأبن، كعادة يومية، على دسّ أصابعهن في فمها، أو وضع ملعقة فيه ليمنعنها من ابتلاع لسانها بالفعل في إحدى حالات هيجانها.

أحياناً كان السجان أحمد يعمل على مداعبة الفتيات في المزدوجات بمزحاته الثقيلة: يطفئ اللمبة الشاحبة في أعلى السقيفة المطلّة على المزدوجات بشبك حديدي مما يشيع عتمة طاغية مرهبة، إذا وضعت إحداهن إصبعها أمام عينها لن تستطيع رؤيتها، ثم يعود ليشعل الضوء من جديد، ومن ثم يطفئه، فيشعله... وهكذا.
الضوء يومض وقهقاته تضجّ في الكوريدور!
تنتهي المزحة بنوبة هيستيريا شديدة تجتاح مجد، وحالة شقيقة مجنونة تمسك برأس لينا.و.

مع الزمن، تحت تأثير الحالة، راحت أنطوانيت.ل، وكانت على تماس دائم مع مجد، تعاني من نوبات اختناق شديدة تمسك برقبتها وتمنعها من التنفس، يضطر السجانة على إثرها إلى إخراجها لمدة ما خارج الزنازين كي تعاود قدرتها على التنفس.

طفقت التشنجات تغزو يدي سونا.س بسبب ملازمتها الدائمة أيضاً لمجد. تلك التشنجات امتلكت فكيها أيضاً، وحالة الكزاز المزمن راحت تمنعها من الكلام بطلاقة، وأحياناً تمنعها تماماً من الكلام. ليأتي يوم تخرّبت فيه حبالها الصوتية وجعلت صوتها أبحّ حتى اليوم.

الوحيدة التي صمدت كانت حميدة.ت وإلى وقت ليس بطويل فقد جاء الأمر بإطلاق سراح مجد.أ للعلاج في الخارج. لم تجد المعتقلات، وطيلة فترة مرض مجد، بدّاً من بعث رسائل استغاثة إلى الخارج كي يعرفن ما الذي يمكن أن يعملنه. رسائل كتبنها على ورق سجائر الحمراء،(26) ثم استطاعت المعتقلات إخراجها بالتهريب من فرع الأمن1، وذلك أثناء إحدى الزيارات النادرة لإحداهن.

كان ذلك في أواسط سنة 1990:
(بدأت حالة مجد في المنفردة بعد الاعتقال والتعذيب على شكل نوبة واحدة تاريخ 9/12/89 صراخ شديد وبكاء سبقها ألم في الدماغ شديد جداً وشعور قبل خمس ساعات من النوبة بشخصية أخرى بداخلها. تنكمش على نفسها مطبقة رأسها إلى رجليها وانتهت النوبة بإبرة فوستان.

في تاريخ 16/1/1990 بدأت الحالة في الجماعي من جديد بنوبة شديدة جداً.. ضحك وبكاء مع هيجان عصبي واضطراب في التنفس. بقيت 3 ساعات ثم نقلت إلى المشفى. استمرت النوبات 15 يوماً بشكل يومي. نوبات صراخ وبكاء. انقطعت لتعود بتسارع ـ شعورها بشخصية أخرى وانكماش وألم شديد في الدماغ.

النوبات الآن شديدة جداً قد تستمر لساعتين أو أكثر مع صراخ وبكاء وهيجان عصبي شديد جداً وتشنجات في الساقين واليدين اللسان والفك وبالعيون. (ترافق النوبات التي قد تستمر لساعات حالات كآبة، استفزاز من أقل حركة، كره شديد للذات، شعور بالذل شديد، وحزن شديد)(27).
...
في جانب آخر، ربما في زمن آخر، كانت تجربة مغايرة تتشكل.
على الرغم من أن أغلب المعتقلات الإسلاميات كنّ رهائن عن أزواجهن، أو أولادهن، أو حتى أقاربهن، إلا أن التعذيب الشديد، والانتهاكات، والمعاملة المتميزة بقسوتها جعلت معظمهن يخرجن محطّمات!. أجبرت الكثيرات من الإسلاميات على التعري بلباسهم الداخلي فحسب. يتم إحضار السجانين كي يتفرجوا عليهن وهنّ عاريات، يسمعوهن الكلمات البذيئة التي يتفنن عناصر الأمن والجلادون في اختراعها. إحدى الحاجات أجبرت على التعري، وأدخلوا أخاها ليراها وهي على تلك الحال. يقال أن الأخ خرّ مغشياً عليه على الفور.
...
ـ الحرق بالسجائر في كافة أنحاء الجسد.
ـ...
ـ الكهرباء على الحلمات، على الأيدي والأرجل، والمناطق الحساسة.. أساليب أخرى كثيرة.
همست الحاجّة بصوت خفيض.
ـ هل هناك أساليب أخرى؟!
ـ التعليق لساعات طويلة، ورشّ الملح مع الماء على أرض المنفردات بعد الضرب المبرح على باطن الأرجل وإجبارهن على الوقوف حافيات.. هذا غير الضرب بالخيزرانة والعصي والدولاب.. وغير التحرش الذي قد يصل إلى الاغتصاب.
ـ هل وصل الأمر إلى الاغتصاب؟
ـ نعم.. إحدى المعتقلات، كنت أعرفها صبية جميلة من مدينة الشمال، في العشرينيات من عمرها، كانت تدرس الأدب العربي قبل أن تسجن، تعرضت للاغتصاب في أوائل الثمانينيات وظلت تسعة شهور بعد الاعتداء عليها شبه فاقدة الوعي، تستيقظ لتمشي كالهائمة في المهجع وهي عارية، وأحياناً تسرح مشعّثة ومهمِلة كالمجانين.
ـ كنت معها في المهجع؟
ـ كنت معها.
ـ...!!
ـ تستيقظ ليلاً وهي تصرخ، ثم تدخل في نوبة من البكاء العالي.. نوبة قد لا تنتهي حتى الصباح.
سكتت الحاجّة وسهمت بعيداً وهي تدسّ طرف حجابها الأبيض في ياقة البلوزة القطنية.
أتت ليلة واستطاعت بعض المعتقلات أن يهرّبن رسالة طويلة إلى الخارج. كان الأمر مخاطرة ما بعدها مخاطرة لكن الرسالة خرجت بسلام(28). كتبت كالآتي تماماً:

(كم رسالة كتبناها. كتبناها بأناتنا. بدموعنا. بدمنا.. علّها تلقى من يسمعها. لم نكن نستطيع إرسال حروف على ورق فأرسلنا آهات واستصرخنا في دجى الليل، ولكن من يسمعنا في ظلمتنا، ولم يتجاوز صوتنا جدراناً سوداء وقضباناً حديدية. رحمنا ربنا واستطعنا إرسال هذه السطور نلقي فيها شعاعاً يعكس للعالم ما يجري لنا نحن القابعات في أقبية السجون، تنهال علينا ألوان العذاب ليل نهار، ويأتينا الزبانية ثمالى متوحشين.. ليتهم ظلوا يعذبوننا كما بدؤوا بالسياط والكهرباء.. ليتهم تركوا أختنا تلفظ أنفاسها بعد ما لاقت من عذاب ولم ينتزعوا منها عفتها.. ولم ينتزعوا منها عفتها.. ليتنا متنا قبل هذا وكنا نسياً منسياً.. قالتها مريم العذراء دون عذاب، دون وحوش بشرية وفي أحشائها روح من ربها.. فماذا نقول نحن؟ بماذا ندعو؟ نستصرخ العالم أن ينقذنا من عذابنا. ننادي بأعلى أصواتنا. بكل جوارحنا.. كل ذرة فينا تصرخ وتستغيث.. كل قطرة دم.. كل نبضة عرق.. كل نفس يصعد ويهبط..

نصرخ وامعتصماه.. وامعتصماه.. نادت بها امرأة مسلمة واحدة فلبى لها رجال كثر. ونحن هنا مئات من اللواتي يسحقن.. يسحقهن طغاة حاقدون.. مئات يعذبن.. يقتلن في كل لحظة بألف قتلة ولا يمتن..
ألا من معتصم.. ألا من معتصم..
ألا من مسلم ينشر (نساء يسحقن)..

رباه لمن النداء.. طال بنا البقاء.. أيام وشهور وتتلوها شهور ودماء المجرمين تسري في عروق جنين في أحشائنا. ماذا نفعل؟
رباه لم يجبنا أحد فارحمنا. لا نريد منكم أن تنقذونا. لا نريد منكم أن تنقذونا بل هدموا علينا السجون.. أفتوننا بقتل أنفسنا.. وقتل ما في بطوننا. فلم نعد نقوى على ما بنا.. لا ليل يقلنا. ولا نهار ينير ظلمة حياتنا. يا عالم استفق طال بك الرقاد، ونحن لا نعرف الرقاد..
يا عالم استفق..

لك يوم تقف فيه بين يدي الله ليسألك ربك ماذا فعلت؟ ماذا فعلت لمن انتهك عرضها؟ ماذا فعلت لمن فقدت وعيها من صدمات الكهرباء؟ ماذا فعلت لمن علقت من قدميها بعد أن نزع عنها حجابها، وتناثرت عنها الثياب، وضربت بقضيب ثقيل من حديد فأسلمت وعيها لربها؟ لا تعلموا كم من الساعات على هذه الحال.. ماذا فعلت أيها العالم المسلم وأختك هناك في دولاب طويت فيه تنهال عليها السياط.. تسيل دماؤها.. تتورم أخدادها.. تفقد صوابها ولا مغيث.. ماذا فعلت لمن عذبوا زوجها على مرآها، واستغاثت دمائه فلم يجب أحد، فانفجرت تبكي على دمائها؟ ماذا فعلت لمن سيقت إلى المستشفى بين الموت والحياة بعد أن نهب لحمها 26 مفترساً متوحشاً؟ ماذا فعلت؟ ماذا فعلت؟

بماذا ستجيب؟ ومن أين لك أن تجيب، وأنت لا تزال في الرقاد.. ألا يا عالم استفيق وانتشلنا من الحريق.. انتشلنا من الغريق.. فلقد جفت العروق ولا نهار ولا شروق في وحشة واد سحيق في ظلمة بحر عميق.. ننادي.. ننادي.. ننادي.. نلتمس الطريق.. هل من بريق.. هل من بريق).
أخواتكم المعذبات في سجون الطاغوت (...)
...
بعد سنوات طويلة، حين استطاعت اللجوء إلى أوروبا، كتبت هبة.د كتابها(29) الذي يحكي بعضاً من أساليب التعذيب التي تعرضت لها:

(نادى المقدم ناصيف على أحدهم، وقال له: اذهب وأحضر لها بنطالاً، وأعطها إياه، خلّيها تنستر، وضعها على بساط الريح.
تقدم العنصر مني، وطرحني على لوح من الخشب له أحزمة، وطوّق بها رقبتي ورسغي وبطني وركبي ومشط رجلي. ولما تأكد من تثبيتي، رفع القسم السفلي من لوح الخشب فجأة فبات كالزاوية القائمة، ووجدتني وأنا بين الدهشة والرعب مرفوعة الرجلين في الهواء، وقد سقط الجلباب عنهما ولم يعد يغطيهما إلا الجوارب والسروال الشتوي الطويل، ولا قدرة لي على تحريك أي من مفاصل جسدي).
...
كتبت هبة. د أيضاً:
(عائشة، وهي طبيبة من مدينة الشمال في سجن... معتقلة لأنها قامت بعلاج شاب من الإسلاميين الملاحقين).
 تولى التحقيق معها مصطفى.ت، فسألها في البداية:
ـ أترضين أن تبقي بلا جلباب؟
ـ لا طبعاً
ـ فما رأيك أن تبقي بلا جلباب؟

انتفضت تتطلع إلى مكان تلجأ إليه، لكنه لم يترك لها فرصة، وهجم عليها كالوحش، يصفعها ويضربها، وهو يمزق ثيابها قطعة قطعة، وهي مكبلة تقاوم بكل ما أوتيت من قوة دون أن تستطيع الدفع.. فلما مزق كل شيء وصل إلى جواربها، وقال لها: سأتركهم عليك حتى لا تبردي. وأمر فمددوها على بساط الريح، ومرّ عليها بكافة أنواع التعذيب: الخيزران والعصي والكهرباء.. علاوة على نزع نظارتها الطبية وحرمانها من استعمالها فترة من الزمن. ثم أتى دور عمر، فأجلسها على كرسي وقد كبّل يديها ورجليها من الخلف ببعضهم البعض، وجعل يطفئ أعقاب السجائر في أعف منطقة ببدنها).

1984
ـ ما في نوم.. اليوم سنظل نضربك حتى تعترفي.
صاح المحقق بعد أن أنزلوا هند.ق إلى القبو، وشرعوا بالتحقيق معها. الطميشة على عينيها، الأصوات حولها من هنا وهناك.. كأنهم كانوا يريدونها أن تجنّ. بالتأكيد كانوا يريدونها أن تجنّ.
ـ تضعونها تحت دوش الماء الباردة بعد كل فلقة.. وإذا لم تجلب الشباب تصلونها إلى الكهرباء...

صرخ الضابط قبل أن يغادر غرفة التعذيب ويتركها لعدد مبهم من العناصر كي يكملوا تعذيبها.

بدؤوا بالدولاب، حشروها فيه، راحت العصي تنهال على قدميها وساقيها وجسدها المطوي حتى كاد يغمى عليها. وتنفيذاً لأوامر الضابط شحطوها، وهي شبه فاقدة للوعي، تحت الماء البارد. أعيدت الكرّة مرات.. حين يكاد التعذيب يغيّبني عن الوعي يعمل الدوش البارد على إعادتي إلى الحياة. لا أذكر إلا جسدي وهو يسبح في فضاء آخر. ألم فظيع يجعلني أتهاوى، ثم دفق ماء بارد كالثلج يعيدني من جديد إلى غرفة التعذيب. أخيراً أشفق أحد العناصر عليّ، همس إلي بصوت مبحوح خافت بعد أن أصبحنا وحدنا:

ـ اشلحي الفيلد لتلبسيه بعد الدوش.. وقفي إلى جانبي.
ما كان منه إلا أن تركني أتهاوى على الحائط، وعاد بعد لحظات جالباً قصعة معدنية عبأها بالماء، وصار يرشّني بها بلطف. لكني لم أستطع أن أتبين وجهه من تحت الطميشة.
همس إلي من جديد:
ـ إذا قالوا لك قعدت تحت الدوش؟ تقولين نعم قعدت..
ظلوا يضربونني طيلة الليل. في أول الصباح تركوني واقفة بلا استراحة في غرفة التحقيق. كنت منهكة حتى الموت، لكن إحساسي من تحت الطميشة بوجود مراقب منعني من الانهيار على الأرض.

كان الجلوس، أو حتى الاتكاء، يعني عقاباً جديداً ليس باستطاعتي تحمّله بعد. بقدرة ما ظل جسدي متماسكاً ولم يتشظّ على الأرض إلى عشرات الأجزاء المفككة تعباً وألماً وإحساساً بالعجز أمام كل ذلك القهر اللامنتهي. حين دخل المحقق من جديد، مصطحباً شتائمه معه، وعلم بعدم اعترافي صاح كالممسوس:
ـ لا تطعموا هذه الكلبة.. ترمونها في المنفردة، وتجعلون أرضها كلها ماء وبدون بطانيات..
ـ...!
ـ باب المنفردة يبقى مفتوحاً.. ويظل عنصر على الباب.. تمنعونها من النوم والطميشة على عيونها، وحين تجلس تضربونها حتى تقف.. لنشوف أنا أم هذه الكلبة..
ـ...
رميت في المنفردة حافية. كان محالاً أن يدخل أي حذاء في قدمي المنتفختين والمتقرحتين. الملح، المرشوش على أرض الزنزانة، يستفزّ أسفل قدمي كالسكاكين، والألم، الذي تركّز هناك، يصعقني كل لحظة حتى يصل حدّ الموت. ثم ملؤوا الزنزانة بالماء، وأجبروني على الوقوف حافية طيلة الوقت في شتاء آذار الذي كان استثنائياً بمطره وبرده في تلك السنة: سنة 1984.

في اليوم الثالث لوقوف هند في المنفردة، وحين لم تعترف، وضع الجلادون الكهرباء بين أصابع قدميها. بعد ضربتين على الجلد المتقرّح غابت عن الوعي.

وقت استيقظت كانت هند ممدة على طاولة معدنية عالية ورجل يرتدي الأبيض يدهن أسفل قدميها باليود. رائحة اليود القاسية تثير غثيانها، ألم عميق يتشعّب من الأسفل مروراً بأجزائها وحتى داخل رأسها، والطبيب المتجهّم صامت طيلة الوقت لم ينطق بكلمة. كانت هند تتمنى أن يكلّمها ذاك الرجل الأبيض، يسألها عن أي شيء، أو حتى يشدّ أزرها بنظرة، لربما نشلها همسه المتعاطف من ضعف مقيم امتلكها. لم يتنازل عن صمته! بعد أن انتهى أعيدت هند إلى الزنزانة من جديد.

مع الوقت صار السجان يغادر باب الزنزانة لفترات وجيزة. الأمر الذي جعل هند تجلس، ولو لدقائق، حين يذهب، وتعود للوقوف وقت تقترب خطواته في كوريدور الفرع. مع الزمن صارت متأكدة من أنه يقوم بكل ذلك تعاطفاً معها، يجعل باب المنفردة موارباً بدل أن يكون مفتوحاً بشكل دائم! وحين يعود يعمل على خبط الأرض بقدميه عامداً، فتتحامل هند على نفسها وتقف، على الرغم من أن صدى خطواته القادمة كانت أشبه بخطوات فيل تضجّ بصداها جدران الفرع كلها. خلال تلك الأيام استطاعت هند أن تشتري من السجان، ببقايا نقود بقيت في جيب الفيلد العسكري الذي ما تزال ترتديه، باكيتين دخان حمراء، منشفتين، وعلبة محارم تواليت.

أما رولات المحارم الأربعة فقد تحولت إلى سجادة واهية، لم يكن الماء يصلها حتى تنقلب إلى وسادة أسفنجية مبللة، تزيد البرد في جسدها بدل أن تقيها منه.. البرد كان مجنوناً مجنوناً.. بعد سبعة أيام كنت ما أزال متكئة في زاوية المنفردة، وربما كان منظري يرثى له: كنت أحسّ بجسدي يتلاشى، أشعر بهزاله بعد أن راح سرج البنطال لا يعلق بخصري. كنت أحسّ بشفقة بعض السجانين علي من رمقاتهم الطويلة.

دون طعام ولا بطانيات. الماء ما زال يغطي الأرض وأنا بلا حذاء.. ركبتاي توجعانني، جروحي تقيّحت وراحت تنزّ صديدها. مرت أيام طويلة دون أن أتمدد ولو لدقائق.

فُتح الباب فجأة، لم أستطع الوقوف من فوري فقد كان إنهاكي أشبه بالموت، فكرت لثوان: سأعاقب بالتأكيد.. إلا أن السجان، لدهشتي، لم يقل أية كلمة ولم يقم بأي فعل إلا أنه أغلق الباب. تنفست الصعداء وأنا متكوّمة في مكاني في الزاوية. غاب السجان قليلاً ثم عاد. كان يشتم، يسبّ عناصر الأمن وقلوبهم الحجرية، يلعن زمناً رماه هنا وجعله يرى صبية على هذه الحال.

يشتم ويشتم.. جلب معه بطانيتين: واحدة فرشها على الأرض، ورمى بالأخرى لي. ثم قال قبل أن يذهب:

ـ ستنتهي دوريتي في الساعة 6، الصبح لازم تفيقي قبل ما تخلص حتى لا يعرفوا أني أعطيتك البطانية.

لم أصدق أن بإمكاني أخيراً أن أتمدد! أن أنام كالبشر العاديين مستلقية، وأتدثر أيضاً ببطانية!! يا إلهي!.. كان الحدث أكبر من أحلامي. لا أذكر إلا إني خلال ثوان غبت في نوم عميق عميق.
...
لم تستيقظ هند إلا وساعات الليل قد مرّت عليها هنيهات، وكان ثمة رجل يهزّها بجنون صائحاً:
ـ قومي يا 48(30) قومي يا 48..
وهند لا تستطيع الاستيقاظ..

لما أحسّ بأن الصراخ لن يفيد شدّ البطانية من تحتها، خطف الأخرى، وطفق يهرول في الكوريدور قبل أن يلمحه أحدهم.
مرمية على الأرض الرطبة كانت هند، غواية النوم والتدثّر ما تزال تمتلكها، وشعور الامتنان للسجان الغريب يغمرها تماماً.
بقيت هند.ق في المنفردة خمسة عشر يوماً بدون بطانيات.

سمحوا لها في اليوم السابع بالخروج إلى الحمامات، حينئذ استطاعت أن تقعد قليلاً. كان التواليت بالنسبة إليها ترويحاً عن النفس. في اليوم الخامس عشر جلبوا لها الأكل صباحاً فلم تأكل، مما حدا بمدير السجن للمجيء، ووقف صائحاً أمام المنفردة:

ـ خير يا 48 لماذا لا تأكلين؟
ـ لم أعد أستطيع التحمل بدون بطانيات.
هز رأسه وذهب.
بعد قليل جاء أحد العناصر، الذي طالما كان لطيفاً مع هند، يصرخ فرحاً وهو يقترب في الكوريدور، حتى أن صوته سمعه جميع معتقلي المنفردات:
سمحوا لك بالبطانيات.. سمحوا لك بالبطانيات..

يومئذ أعطاها عشر بطانيات عسكرية وعازلين.(31) لأول مرة، بعد أيام طويلة، تنام هند باطمئنان لساعات متواصلة. ويبدو أنها أغفت طويلاً حتى استيقظت وقد حلّ الليل في طاقة الزنزانة الصغيرة.
...
مع الزمن ومن أجزاء الفروج، الذي كانوا يدخلونه إليها كل حين، شفّت هند عظمة مدببة قاسية، صارت تستخدمها، بغياب الأقلام والأوراق، لتحكّ على الحائط الإسمنتي العاري ما يخطر لها. بذلك نقشت هند كثيراً من الجمل والخربشات، ملأت جدران الزنزانة بكل ما اعتمل في روحها، بكل الأغاني والكلمات، بحالات الحب الغامض، وبالحزن والأمل. أما فوق الباب مباشرة فقد حفرت جملتها الأثيرة: غاب نهار آخر. بالعظمة أيضاً عملت هند على نقش روزنامتها الخاصة التي استطاعت من خلالها معرفة مرور الأيام المتشابهة والمتكررة، المتكررة كدوامة لا بداية لها ولا نهاية.

كانت الروزنامة تبدأ بيوم الاثنين: يوم اعتقالي. وبما إني لم أكن لأتكهن بمدة اعتقالي فقد رحت، في صباح كل اثنين، أشخط خطاً صغيراً عمودياً حتى يستوعب حائط الزنزانة الضيق روزنامتي الآخذة بالامتداد كل أسبوع. كما أني حفرتها وراء الباب الحديدي حتى لا يلمحها السجانون حين يدخلون الزنزانة. الشيء الأساسي الذي كان علي أن أتأكد منه كل صباح.. هو قدوم الصباح! لم يكن ذلك صعباً في الحقيقة، على الرغم من غياب الشمس وضوء الحياة، لأن الصخب المجنون الذي يخلقه السجانة كل صباح، وهم يفتحون ويغلقون أبواب الزنازين الحديدية على طول كوريدور السجن الطويل، كان كافياً، لأن ذلك يعني أنهم يوزعون قصع الفطور على المعتقلين، ويأخذونهم، كل بدوره، إلى الخط(32).

بقيتُ في الاعتقال الثاني أكثر من شهرين في المنفردة ذاتها، ومن ثم نُقلت إلى سجن النساء الأول، وبعده إلى سجن النساء الثاني. أما هناك فقد كانت حياة جديدة.. جديدة تماماً!

بعد سنتين من ذلك، في سنة 1986، اعتقلت حسيبة.ع(33).
مرّ أكثر من 11 يوماً حتى اكتشف فرع الضابطة الفدائية الفلسطينية هويتها. كان هذا هو الاعتقال الثاني لها والسنة ما تزال في بدايتها. إثر اكتشافهم أن حسيبة عملت على إخفاء حقيقة هويتها صار العناصر يقحمون الخرق الوسخة والأسمال في فمها، يغلقونه بتلك القاذورات حتى كادت تختنق. لكن غلّهم تجاهها لم يشفَ، فانهالوا عليها بالكابلات الرباعية على قدميها وساعديها وأجزاء جسدها الأخرى وهي مقيّدة مرمية أرضاً بحيث لا تستطيع الحراك. كلما كان جسدها يوشك على الانهيار، أو تقترب من الإغماء، يدلقون سطول الماء عليها كي تستيقظ. ويعاودون التعذيب مجدداً. كتكملة لحفلة التعذيب تم صعق حسيبة بالكهرباء. صعقت مرات ومرات قبل أن تبعث، شبه منهارة جسدياً، إلى فرع الأمن2 العسكري.

في فرع الأمن2 كان ينتظر حسيبة ما هو أكبر. الاعتقالات هناك على قدم وساق، الفرع مليء بالمعتقلين، والزنازين متخمة على آخرها الأمر الذي جعلهم يرمونني في كوريدور الفرع. أفكر اليوم بأني عشت الجحيم بكل معناه. بقيت أياماً بلا نوم ولا طعام، لا يمكنني أن أسمع إلا صراخ المعتقلين وهم يعذبون بوحشية، وأصوات المحققين والأنات.. لأيام لم أعِ شيئاً متمايزاً! كنت كمن ألقي في هيولى ليس لها تحديد، هيولى قاتمة، أترنح فيها والطمّيشة على عيني لا يسمحون لي بخلعها. لا أذكر إلا دخولي إلى غرفة التعذيب، مطمّشة بالطبع، أعذّب لساعات، يحقق معي، ثم أرمى في الكوريدور حتى موعد الجلسة التالية.

أحسّ بأجساد المعتقلين والمعتقلات، المشلوحين مثلي على الأرض، تحيط بي من كل جانب. دماء وماء وصياح وأنّات.. إنه الجحيم الحقيقي.

الكرسي الألماني كان له نصيب أيضاً من جسدي، هذا ما أتذكره بدقة، على الرغم من أن تفاصيل التعذيب تغيب عني في بعض الأحيان، لا أكاد أستحضرها بدقة وأنا في ذاك الجنون لأيام. أذكر شعري، وكان وقتها طويلاً، وهو يتملّخ بين أيديهم، يضربون رأسي بالجدار، يشحطونني على بلاط الغرفة، ثم يسلخونني بالكهرباء على فمي ولساني وأصابع قدمي ويدي. لم أكن أعرف من أين يأتيني الضرب، ولا من أين تصيبني لسعات الكهرباء.. أصوات في كل مكان.. أصوات.. أصوات.. كأني دجاجة مذبوحة للتو تفرفر على الأرض.

بعد أكثر من أربعة أشهر في المنفردة نقلت حسيبة إلى مهجع المعتقلات. كان في المهجع معتقلتين من بعث العراق ومعتقلة عرفاتية واحدة. يومئذ أُحضر الطعام لهن وهو قصعة من البرغل لكل معتقلة كما في معظم الأوقات. على الرغم من الجوع الشديد والانتظار المضني للطعام تركت المعتقلتان قصعتيهما جانباً بعد تذوق لقيمات قليلة منه، فيما راحت العرفاتية في نوبة من السعال. ثم جلسن دهشات يتأمّلن حسيبة التي استمرت تأكل بنهم شديد كأن شيئاً لم يكن.

ـ كيف تستطيعين الأكل؟!
سألتها العرفاتية مستغربة.
ـ الأكل مالح كتير.
أردفت معتقلة بعث العراق.

لحظتئذ فقط عرفت حسيبة أن ثمة مشكلة ما في التذوق لديها، ولا بد أن يكون بسبب لسعات الكهرباء على لسانها، الأمر الذي لم تكتشفه وحدها في المنفردة طيلة شهور، فلم يكن هناك من يقول لها بأن الطعام مالح جداً. احتاج الأمر إلى شهور أخرى كي يعود شعور حسيبة بالطعوم تدريجياً.
...
زمان الفرع ذاك وأيامه العصيبة دوّنتها ناهد.ب حالما انتقلت إلى سجن النساء. كانت تشعر أن كل ما حدث هناك سينسى إن لم تكتبه، سيضيع من الحقيقة، وتنشله الأيام من الذاكرة مهما كان راسخاً. دفتر مدرسي صغير ومهمل، اشترته من الندوة الصغيرة في آخر باحة السجن، أصبح ديواناً لكل ما يمكن أن تشعر به، تحلمه، يحدث لها أو لغيرها.
سمّته: دفتر مذكراتي. وعليه كتبت(34):

(سمعنا صراخ انتصار وتصفيق، وهي عادتهم عند كل اعتقال رفيق جديد يعتبرونه مهماً، من نافذة فوق السقيفة مطلة على الطابق العلوي حيث يجري التحقيق. ثم تلا الضجيج صرخات ألم ناتجة عن التعذيب. صرنا نطرق جدران الزنازين علّنا نحصل على اسم المعتقل الجديد. ولم يدم بحثنا طويلاً إذ فتح باب المزدوجة، وطلبوا بثينة. فتهاوينا مدركين أنه نزار زوجها، وكانت قد أخذت رهينة من أجله. وعندما عادت أخبرتنا بأنهم عذبوها أمامه(35). في نفس اليوم علمنا أنهم اعتقلوا مضر.ج(36)، وكنا قد سمعنا أصوات تعذيبه، دون أن ندري أنه هو، لمدة تسع ساعات متواصلة).

* * *

الحرب النفسية أولاً.. الاعتقـال
الأغاني:

بكرا لما بيرجعوا الخيّالة
بترجع يا حبيبي..
صوت بثينة.ت(37) يصدح في ممرات فرع الأمن1 قاهراً الصمت الوحشي، مالئاً حنايا الجدران الموحشة بألفة غريبة تماماً عنها. صوت بثينة كان بحقّ عنواناً لسنوات الاعتقال حتى لا يكاد حدث يغيب عن مرمى صوتها وأغنياتها. وقت يأتي الليل، يغيب الرعب الذي يبثه عناصر الأمن بين الزنازين وفي الكوريدورات، تبدأ بثينة الغناء من المزدوجات التي كانت مليئة بالمعتقلات، ليردّ عليها المعتقلون في الزنازين الأخرى. أغنيات تتوالى وتتصاعد حتى الصباح. كأن الغناء كان الوسيلة الوحيدة لإعادة الروح إلى مكانها بعد أن مسخها المعتقل! حتى السجانة بكوا أحياناً تحت عصف أغنية ما! ولطالما ناجاها المساعد "أبو شادي":

ـ غنّي قليلاً.. صوتك حلو.. غنّي قليلاً.
يتمايل تحت سطوة الطرب وهو قابع على كرسي المراقبة، ومفاتيح الزنازين تتحول بين يديه إلى آلة موسيقية تخشّ مع النغمات.

ربما تحيل تلك الفكرة للذاكرة فيلماً كرتونياً من إنتاج شركة والت ديزني للسينما. الفيلم يحكي قصة المتمرد الإنكليزي الشهير روبن هود في حربه ضد الملك المزيف. روبن هود (الثعلب) ظلّ مرابطاً في غابات شيروود حتى عودة الملك ريتشارد (الأسد) من حروبه واستعادته الكرسي الملكي من جديد. في ذاك الفيلم الكرتوني يعمل المتمردون في الغابة على تأليف وتلحين أغنية ساخرة عن الملك الأخ (الأسد الأصلع)، الطاغية الذي استولى على العرش في غياب أخيه، وراح يضطهد الناس ويسرق أموالهم. وصلت الأغنية إلى القصر الملكي، ذلك أن للأغنيات أجنحة في العادة. وصلت بالضبط إلى مسمع جنود الملك. ليأتي من ثمّ مشهد معبّر للغاية يغنّي فيه قائد جند الملك (الدب) الأغنية نفسها التي تفضح الطاغية وتهزأ به، يغنيها وهو طَرِب مأخوذ بنغماتها اللطيفة، فيسمعها الوزير (الحيّة) منه ويبدأ هو الآخر الغناء بدوره.

ربما كان للأغاني قوة لا تستطيع أية سلطة أن تقوّضها. للأغاني أجنحة قادرة على هزيمة أية جدران مهما علت وبدت عصيّة على الاختراق. للأغاني مكان في القلب لا علاقة له بانتماءاتنا، ذلك أنها تخاطب ذاك الجزء العميق والمدفون في داخل كل منا مهما كان، ومهما اختلفت دوافعه وآراؤه واعتباراته ومصالحه.

في مشهد ليس ببعيد كانت بثينة.ت تغنّي ذات ليل، وتردّ عليها حميدة.ت من المزدوجات الأخرى المقابلة حتى طلع الصبح حوالي الساعة السادسة. حينئذ جاء السجان م، الملقّب بالحمام الزاجل(38)، وهمس إلى بثينة من وراء باب الزنزانة متأثراً:

ـ كنت أسمعك منذ بداية الليل.
ـ لمَ لم تقل لي؟ كنت غنّيت لك الأغنية التي تحبها.. يا جبل البعيد.
ـ لو عرفتِ أني أسمعك لما غنّيت مثلما غنيت اليوم.. كان غناك حلو.. حلو كتير.
...
حنا الجودة أيضاً كان شريكاً في حفلات الغناء.
هو رجل لبناني فلسطيني نحيل غزا الشيب كامل رأسه فأضحى كتاج من فضة يميزه. كان حنا متهماً بتزوير جوازات سفر، وإدارة السجن تستخدمه لجلب المعلومات من بقية المعتقلين. على الرغم من أن الجميع، تقريباً، كان عارفاً بوظيفة حنا المخابراتية إلا أن صوته الجميل، خصوصاً حين يغني مواويل عبد الوهاب ويصدح في كوريدورات الفرع، ينسيهم أي موقف مسبق منه:

بالبحر لم فتكم بالبر فتوني
بالتبر لم بعتكم بالتبن بعتوني..

أمام زنزانته رقم 201 كان حنا يستطيع الجلوس على كرسيه بعد أن يرشي السجانة بمبلغ ما. ككل ليلة كان يبدأ بغناء شيفرته التي صارت معروفة في الفرع: ردّي علي كلّميني. حينئذ تردّ بثينة، وقد فهمت الشيفرة وحفظتها، من الطاقة على السقيفة فوق المزدوجات، فيبدو صوتها هادراً كأنها تغني في مكبر للصوت. يبدأ الثنائي، بثينة وحنا، بالغناء الشجيّ الآسر حتى يبكي السجن كله. لكن ذاك اليوم أتى واكتشف أطباء السجن أن مرض السرطان طال كبد حنا الجودة بالكامل، وأن أيامه غدت معدودة. جلبوه من المستشفى ليودع السجن بكل نزلائه: السجانة والمعتقلين. وضعوا له الكرسي في الكوريدور، كما كان يحبّ دائماً طيلة سني سجنه، لكن هذه المرة بجانب مزدوجات الصبايا. ومن هناك استطاعت المعتقلات رؤيته من ثقب الباب.

كل بدورها تتلصص عليه ثم تترك الثقب لرفيقتها.

كان حنا الجودة قد أضحى نحيلاً للغاية وشاحباً كشبح. وقتئذ، وحالما لمحته بثينة على هيئته المحزنة، صارت تناديه من الداخل: ردي عليّ كلميني. الشيفرة التي كان يناجيها بها. لكنه بقي صامتاً هزيلاً على كرسيه ولا يرد. أخيراً غنّت له بثينة:
قديش حلوة هالشيبة
بتنقّط حسن وهيبة
...
وبكى حنا الجودة للمرة الأخيرة.
بعد يومين أعيد إلى المستشفى ومات هناك.
عن الأغاني كتبت ناهد.ب في مذكراتها:
(كان الغناء هو الوسيلة الأخرى للمقاومة وللتواصل مع الزنازين أيضاً. خاصة أن أزواج بعض رفيقاتنا كانوا هناك.
بعد نوم الحراس كان صوت بثينة الشجي يحضر أغاني فيروز لعندنا فيغيب المكان والزمان، ونطير مع طيارة فيروز الورقية، ونجلس تحت العريشة سوا، والزنابق حدنا تعلو، ونشم رائحة الطيون يا ستي، ونسهر على السطح كي لا ينسانا القمر.
كانت تجلس على السقيفة فوق المزدوجات بجانب النافذة المطلة على الممر، وتبدأ الغناء ليسمع زوجها ورفاقه في الزنازين..
 يا حلو شو بخاف إني ضيعك..
 طلعنا على الشمس طلعنا ع الحرية..
يا حرية يا طفلة وحشية.. يا حرية.)

1982
لم يكن أمام هند.ق(39)، في فترة اعتقالها الطويلة في المنفردة، إلا الغناء لفيروز بصوت خفيض، الأمر الذي وهبها متعة لها ملامح الخلاص من ذاك الحيّز المضغوط الخانق والموحش كقبر. ربما كانت تغنّي لنفسها ليس إلا. مع مرور الأغاني والأيام نفذت ذاكرتها تماماً، كل ما كانت تحفظه من الأغاني ألقته في هدوء زنزانتها، صاخباً أو ناعماً، بنغمات سريعة أو متهادية.. ألقته كله! ثم بدأت تجاهد لتذكّر أغنية جديدة.

ربما مرت ساعات وهند تقلّب ذاكرتها بحثاً، وحين تتذكر أغنية منسية تشعر بسعادة غامرة وهي تدندنها كأنها أهديت كتاباً جديداً يعمل على بثّ الألق في خوائها. إنه أسلوب نفسي لا غير، أنا مقتنعة بذلك.

الاعتقال والتحقيق حرب نفسية لا غير.. وينبغي ألا أسمح لمعنوياتي بالانهيار. لم يكن التعذيب هو ما يهدّ كياني بل الحرب النفسية أولاً. يريدونني أن أنهار قبل أن أتلقى صفعة واحدة، أن أدخل غرفة التعذيب وأنا منهارة ومحطمة، بالتالي يأتي الضرب تتمة للانهيار النفسي. بعد أكثر من 45 يوماً من سجني في المنفردة قمت بصنع ملعقة من عظم ظهر الفروج، استخدمتها طويلاً لآكل بها بدل الملاعق المنفّرة التي كان السجانة يأتونني بها مع قصع الطعام المعدنية. اعتدت الملعقة، أحببتها، صارت جزءاً من عالمي الضيق، جزءاً خاصاً ومميزاً في مكان لا حميمية فيه إلا مع الأشياء. كانت تلك الملعقة من أشيائي الحميمية هنا. أتى وقت بليت فيه مع الاستعمال، فبكيت.. بكيت طويلاً عليها، أحسست بأن جزءاً دافئاً ويخصّني قد غاب.

الحرمان كان يحيط هند بكليتها. الحرمان من كل شيء. كان الأمر كما وصفته تماماً: حرب. حرب يؤيدها شعور أليم بالوحدة والحصار والعجز. لكن الأمر الأكثر إيلاماً كان حرمانها من رائحة القهوة الأثيرة إلى قلبها. لم يكن لصباحات الزنزانة معنى الصباحات وهي تمضي دون رائحة خرجت من ذاكرتها لتحاصرها في كل دقيقة. انحصرت كل رغباتها في لحظة برشفة من القهوة تفوح منها رائحة الهيل المنكّه. رشفّة واحدة قد تختصر كل رغباتها، تكثّفها. تجرأت ذات صباح وقالت للسجان:
ـ أنا على استعداد أن أعطيك كل ما معي من نقود. فقط اجلب لي فنجاناً من القهوة.. أيام طويلة مرت لم أتنشق فيها رائحة القهوة.. فنجاناً واحداً فقط.

كانت تملك في ذلك اليوم حوالي المئة ليرة.
لكن السجان لم يستجب لها في المرة الأولى، نظر إليها لا مبالياً، رمى لها القصعة، وخرج مغلقاً الباب.

صارت تطالبه بالقهوة كلما أدخل لها الطعام، أو أخرجها إلى التواليتات، أو فتح عليها الزنزانة.. تحاصره بحنينها العاصف لرشفة.

ذات يوم جاءني ظهراً، سألني عن كاسة الستانلس التي أشرب فيها.

ـ وين كاستك يا 36؟
همس برقم زنزانتي وقد صار هو اسمي.
لدهشتي أخرج من وراء ظهره إبريقاً معدنياً، سكب سائلاً بنياً له رائحة القهوة ولونها البنيّ المعتق في كأسي، لتصعد الهبلة حولها، وتعبق الرائحة في الزنزانة الضيقة. رائحة نفاذة تفتّح الروح حتى أني خشيت أن يشمّها من في الخارج. كانت تلك أثمن هدية قد تتلقاها امرأة في زنزانة: كأس كامل من القهوة الساخنة.. يا إلهي كم كانت ساخنة وشهية ومليئة بالغواية! ظللت أرتشف من القهوة حتى المساء. رشفة فرشفة.. كأني كنت أخشى أن تنتهي. كلما فُتح باب الزنزانة أخبئ كنزي وراء الفرشة التي أتوسدها، لأعود إليه من جديد، أتوحد مع لذته، حال انغلاق الباب.

بعد تسعة أشهر في المنفردة، بلا زيارات ولا أغراض، ومع توقف التحقيق منذ وقت طويل كان الكيل قد فاض بهند، ولم تعد تقوى على الاحتمال. ذات صباح حين جلبوا لها الفطور صاحت بالسجان، بكل ما أوتيت من قوة وحزم جمّعتهما طيلة الشهور الماضية:

ـ أنا مضربة عن الطعام.. اذهب وقل لمديرك.
ما كان من السجان إلا أن ذهب من فوره، ليأتي رئيس السجانة. أجابته الجواب نفسه فما كان من الأخير إلا أن ذهب مسرعاً ليأتي ضابط جديد، ويسأل عن السبب.
ـ إما اعطوني كتب أو جرايد.
قالت هند وهي تتكئ على الحائط في زاوية الزنزانة.
ـ أنت سجينة وتريدين أن تطلبي وتتغنجي؟ أنسيت أنك سجينة؟
ـ انقلوني إلى مهجع النسوان إذاً.
ـ ومن قال لك أن عندنا نسوان؟!!
ـ لا.. عندكم نسوان..
ـ وهل نجلب لك نساء من الشارع حتى تفرحي؟!

صرخ الضابط ساخراً بتكشيرة مرعبة على وجهه الغاضب. لكنها كانت مصرّة فقد فاض الكيل بها حقاً. تسعة أشهر في منفردة لم تكن لعبة بالمرة. في الساعة الثالثة ظهراً قالوا لي أن أضبّ أغراضي. لم يكن لدي الكثير: بشكير ومحارم تواليت وكاسة ميلامين ودخان حمرا. خلال دقائق كانوا ينقلونني إلى مهجع اسمه: المهجع 11. تناهى إلى سمعي، وأنا أقترب في الكوريدور، صوت وشوشات ناعمة كانت تتصاعد والسجان يفتح لي الباب. وانسفحت أمام ناظري مجموعة نساء مبعثرات في المهجع.

كان مهجعاً للمعتقلات الإسلاميات! لم أكن أتصور البتة أن هناك سبع إسلاميات معتقلات قربي في قبو الفرع وطيلة شهور. الآن أصبحت أنا المعتقلة الثامنة بينهن.

لكن السجن يدمّر البشر بالمعنى الداخلي. السجون أساليب لقتل البشر في البشر. يُغلق الباب فيفيض الأسوأ، وكل ما عمل المرء خارجاً على إخفائه أو مداراته، أسوأ ما في الإنسان أي الجانب الذي لم يفكر به يوماً، يخرج بكل وضوح. الناس عارية هناك أمام بعضها، عارية تماماً، والعري صعب أمام النفس فما بالك أمام الغير. في اليوم الثاني لمجيئها إلى مهجع الإسلاميات طلبها (المعلم): اسم كانت الإسلاميات يطلقنه على مدير السجن. خاطبها (المعلم) بلهجة هادئة غير مألوفة بعد أن طلب من الحاجب أن يقدم لها كأساً من الزهورات الساخنة. كانت المرة الأولى التي تراه هند فيها، لأنها المرة الأولى التي تصعد إلى مكتبه دون أن تكون الطميشة على عينيها.

ـ ارتحت في المهجع؟
ـ كله سجن.
ـ طيب.. ما رأيك أن تناضلي بين الإسلاميات؟
ـ هذه ليست شغلتي.

كان جواب هند على اقتراح المعلم أن تعمل مخبرة وسط الإسلاميات. لكن مع ذلك ظل المدير طويلاً يشرح لها كيف يجب أن يعاقب المرء حين يخطئ، والإسلاميون أخطؤوا، وعليهم أن يعاقبوا. وربما كانت هذه وسيلة كي تكفّر هند عن أخطائها بحق الوطن.. وما إلى ذلك من خطبة طويلة استمعت إليها هند مرغمة. نصف ساعة كاملة وهو يتكلم فيما تستمتع هند بدفء السائل المحلى ينزل متهادياً إلى جسدها. نهاية الحديث كان واضحاً أن المعلم أسقط في يده.

ـ هل تريدين شيئاً؟
سألها بجفاء هذه المرة، واعتقدت هند أنه سيعيدها على الفور إلى المنفردة.
ـ أريد تشعيلة للدخان فقط.
ـ اطلبي من السجانة عندما تحتاجين إليها.
ـ كلما طلبت منه يتمايع ويتغالظ.. في الحقيبة التي جئت بها تشعيلة.. بدي إياها بس.
ـ وماذا أيضاً؟
ـ كتب أو جرايد ومجلات.. سأصبح أمية بعد فترة إذا ظللت هكذا.
نزلت هند من مكتب المعلم، لكن إلى المهجع 11 وليس إلى الزنزانة، معها التشعيلة فقط، دون كتب ومجلات بالطبع.. لتظل حوالي الشهرين قبل أن يطلق سراحها من اعتقالها الأول.

1987
الساعة الخامسة والنصف صباحاً: داهموا البيت. الليلة الكانونية الباردة ما تزال تنفث صقيعها مع اقتراب الشروق، وخبطات عناصر الأمن العسكري على الباب تكاد تخلعه. كانوا يريدون نزار زوج بثينة.ت. لكنه كان قد سبقهم، حالما سمع بضجيجهم الآتي من صمت المكان، وقفز من شرفة البيت إلى شرفة الجيران قبل أن تفتح زوجته الباب لهم كأن شيئاً لم يكن. ليلتئذ كانت بثينة قد أتمّت اليوم الأربعين لولادتها. حين فتحتُ الباب، مدّعية استيقاظي للتو، أشهر الضابط الهوية الأمنية في وجهي:

ـ زوجي ليس هنا.

بالطبع لم يكتفوا بكلمتي، دخلوا البيت من فورهم بالعشرات كالداخل إلى ساحة حرب. فتّشوا كل زاوية فيه، كان مليئاً بالأدبيات: البيانات والمناشير والمجلات... دسّوا الفرشة وكانت ما تزال دافئة، هذا يعني أن نزار لم يبتعد. أجبروني، بعد انتهائهم من التفتيش، على النزول من البيت إلى سيارة الأمن (ستيشن بيضاء) مع ابنتي، وأنا ما زلت أرتدي قميص النوم في برد كانون، لم يدعوني أغيّره، أو أرمي رداءً ما على الصغيرتين. ابنتي الصغرى راما، لم تكن تبلغ الأربعين يوماً بعد، أشدّها بقوة إلى صدري، فيما أنزلوا الكبرى لانا، ذات الأربع سنوات، حافية باكية ورائي. أخذوهن على الفور إلى فرع الأمن1. هناك في زنزانة في مجاهل الطابق السفلي بقيت الابنتان مع الأم حتى أقبل الليل حين أتت جدتهما وأخذتهما. كان أطول نهار مرّ على بثينة في حياتها، قضته في محاولة لحماية الطفلتين من البرد والوحشة، وفي درء شعور بالعجز الكامل راح يقطّع دواخلها. أما الصغيرتان فقد قضتا نهاراً من الرعب الحقيقي في ذاك المكان الغريب البارد والموحش.

ظلت بثينة.ت أكثر من خمسة أيام في المنفردة، وهي نفساء تنزف. كان السجانة يضطرون إلى أخذها يومياً إلى المستشفى، ومن ثمّ إعادتها من جديد، ذلك أن شحوب وجهها، والدماء المنسابة، التي لوّثت ثيابها والفرشة وحتى أرض المنفردة، جعلتهم يرتعبون من إمكانية موتها. لم يكونوا بحاجة إلى شهيدة جديدة، وفي الوقت نفسه لن يطلقوا سراحها قبل أن يؤتي اعتقالها ثماره، أي: الضغط على زوجها كي يسلّم نفسه. نتيجة تلك الأيام الخمسة عانت بثينة لسنوات قادمة من تقرّح في الرحم، إضافة إلى الكثير من المشاكل النسائية الأخرى، جعلتها تخضع لأكثر من عملية جراحية مستقبلية. بثينة أخذت كرهينة على الرغم من أن زوجها اعتقل بعدها بشهر واحد فقط. لم يطلق سراحها إلا بعد ذلك بسنوات ثلاث.

في السنة ذاتها وصلت دفعة من الصبايا المعتقلات في مدينة الشمال بعد اعتقالهن هناك مدة شهر تقريباً. كنّ ثماني معتقلات هن: مي.ح(40)، سحر.ب، لينا.ع(41)، أميرة.ح(42)، وفاء.ط(43) صاحبة الصوت الجميل وأغاني صباح فخري، حميدة.ت، هدى.ك(44). وغرناطة.ج. تم نقلهن في باص مع أربعة من رفاقهن. كان الانتقال أشبه برحلة، كأن عناصر الأمن يكفّرون سلفاً عن سني العذاب التي تنتظر الصبايا في العاصمة. لم يضعوا الطميشات على عيونهن، كما جرت العادة، ولم يربطوا أيديهن بالكلبشات.. قاموا بكلبشة الشباب فحسب.

فرصة جيدة كي يودعوا الحياة لمدة أربع سنوات قادمة.

غرناطة.ج، التي نقلت معهن من المدينة الشمالية حيث اعتقلت، لم تكن قد بلغت الحادية والعشرين من عمرها بعد، تدرس في كلية الهندسة الميكانيكية وذلك في كانون الثاني سنة 1987.

في الليلة التي سبقت يوم اعتقالها خرجت غرناطة في صقيع الساعة الثانية فجراً من بيت جدتها. كان خالها قد اتصل منذ ساعة وقال إن الأمن سأل عنها في المدينة الجامعية حيث تسكن، ومن ثم سأل في بيت خالها في المدينة نفسها.

لم أكن أعرف ماذا سأفعل؟
فتاة مثلي في مدينة محافظة كهذه المدينة، وفي وقت عصيب كالثمانينيات، وبعد منتصف الليل.. ما الذي سأفعله الآن؟! نزلت إلى الشارع، ولم أجد نفسي إلا وأنا أوقف سيارة تاكسي لأذهب إلى بيت أصدقاء من الممكن أن يكون بيتهم آمناً. لكني لم أجد أحداً في البيت، فلم يكن مني إلا أن عدت وأوقفت سيارة تاكسي من جديد. تحديقات شوفير التاكسي كانت تحاصرني، تجبرني على تبرير وجودي في مثل هذا الزمان والمكان. صرت أؤلف قصة ما تبدو مقنعة: أني تعاركت مع زوجي في الليل، أني هاربة منه ومن بطشه إلى بيت أهلي.. وما إلى ذلك.

حينها سألني الشوفير: لوين بدك تروحي؟
لم يكن في ذهني شيء، ربما كنت قد أخذت التاكسي لأترك لنفسي فسحة للتفكير.. حينها تذكرت بيت صديق حميم، وتوجهت إليه على الفور.

حين نزلت من السيارة لم يكن هناك أحد في المنزل، مشيت إلى الأمام قليلاً، كان هناك بناية ببيت درج زجاجي، دخلت إليها وقعدت إلى الصبح. البرد كان شديداً. كلما سمعت صوتاً مقترباً أصعد الدرجات إلى الأعلى ثم أعود حالما يختفي. ما أن أطلّ الفجر حتى كنت قد انهرت تماماً، فقررت الذهاب إلى بيت أصدقاء آخرين. الباب الخارجي هناك كان مغلقاً. هذه رسالة تعني أن هناك أحداً في الداخل: رجال الأمن بالتأكيد. على الرغم من ذلك فتحت البوابة، ودخلت من فوري، كانت الساعة قد بلغت السابعة صباحاً. رجال الأمن كانوا في الداخل فعلاً. أنا أشبه بطفلة متشردة في العشرينيات، ترتجف من البرد والتعب.

ـ ماذا تريدين قبل أن نذهب؟
سألني ضابط الأمن على غير عادته وقت الاعتقال.
ـ أريد أن أنام.
بالفعل تركني أنام في الداخل حوالي ساعتين. الغريب أني ارتميت بكامل ملابسي على السرير، وغرقت في نوم عميق خلال هنيهات على الرغم من كل الجو المتوتر المحيط بي. في التاسعة تماماً أيقظني:
ـ لم نعد نستطيع التأخر أكثر من ذلك.. يا الله.

 قال الضابط، ثم طلب مني أن أغيّر ثيابي. كنت أرتدي تنورة وجاكيت وكندرة، فلبست بنطلون وبوط صديقي، ومن ثم أخذوني إلى فرع الأمن2 العسكري.

لم يكن أمام الصبايا الثماني، المنقولات بالباص من مدينة الشمال إلى العاصمة، إلا أن يغنين طيلة الطريق. كانت مي.ح، التي اعتقلت سابقاً في فرع العاصمة، تنقل إليهن طيلة الوقت صورة مفزعة عن الوضع في الفرع، هذا ما جعلهن خائفات للغاية.
حدثتهن عن الأوساخ والقذارة هناك، عن الحشرات العجيبة والفئران، عن الوحشية التي سيعاملن بها. حدثتهن أيضاً عن اعتقالها السابق وقت أتتها الدورة الشهرية، بعد أيام من الاعتقال، ولم يرضَ السجان أن يأتيها بالمحارم النسائية، لأنها، حسب قوله، كان ينبغي أن تحتاط للأمر، وتجلب معها الفوط قبل الاعتقال! اضطرت مي وقتئذ إلى استعمال الجرائد التي أتاها السجان بها بدل الفوط النسائية.

على الرغم من كل ذلك أملت الصبايا بوضع مغاير قليلاً. لأن الفرع في مدينة الشمال كان قذراً للغاية، ولا يعقل أن يكون هناك أقذر منه. حتى أن بعضهن كحميدة اضطرت إلى أخذ مضادات تحسس، لأن الأوساخ عملت على جعل البثور الحمراء تجنّ في جسدها. إضافة إلى أنهن حشرن، وهن حوالي خمس عشرة معتقلة، في زنزانة ضيقة مما جعلهن مضطرات إلى تقسيم أدوار النوم، قسم ينام بطريقة التسييف(45) فيما ينتظر القسم الآخر دوره عند الباب.

الوضع كان مرهقاً حقاً، ازداد بؤسه بوجود حالة عصبية زادت الطين بلة: فتاة كردية شابة تدرس في المعهد الطبي. على الرغم من عدم قيام الفتاة بأي فعل سياسي خارجاً، وعدم انتسابها إلى أي فصيل معارض، فقد اعتقلت بشراسة، وذلك بتهمة حضورها لما سميّ: المؤتمرات الطلابية تلك السنة في جامعة الشمال، حيث اشتعلت المشاكل بين طلاب الاتحاد الوطني للطلبة/ حامل لواء السلطة وبين طلبة المعارضة. كانت تلك الفتاة من بين البنات الكثيرات اللواتي سقن في ذلك الوقت إلى السجون. اعتقلت الفتاة مع صديقها الكردي: آزاد. في ذلك اليوم عمل العناصر على تعرية الفتى تماماً، ومن ثم عذّبوه تعذيباً وحشياً ولمدة طويلة وهم يجبرونها على مراقبة ذلك، كلما حاولت إغماض عينيها يجبرونها على فتحهما، يغرسون أصابعهم بين جفنيها، يشدّون شعرها، ويعاجلونها بضربة مباغتة تجبرها على البحلقة! دخلت الفتاة في حالة من الانهيار العصبي. ظلت بعدها أكثر من عشرة أيام وهي تضرب أبواب المهجع بيديها ورجليها، وتصرخ بجنون فيما المكان الضيق، الذي ينوء بالمعتقلات المحشورات، يهتزّ من صدى ضجيجها وضجيج الضرب على أبواب الحديد. ظلت الفتاة الكردية تصرخ، تزعق، تخبط، تشتم، وتتلوى في أرض الزنزانة حتى أخرجوها منها. لكن إلى أين؟ هذا ما لم يعرفه أحد!

 وصل الباص من مدينة الشمال إلى ساحة رئيسة في العاصمة، وهناك راحت الصبايا يغنين:
زينوا الساحة.. والساحة لينا..

ربما كنّ يحاولن بالغناء أن يطردن شبحاً قبيحاً لازمهن عن العاصمة، أو كن يحاولن أن يسترجعنها كمدينة حرّة كانت قبلاً تزفّ الأحرار وفي هذه الساحة بالذات. تلك الساحة لا تمتّ اليوم بصلة لكل ما كانته. ربما كن يحاولن تحصين أرواحهن من الآتي المرعب حتى وصلن فرع الأمن2 العسكري.

حملة الاعتقالات التي طالت أطياف المعارضة كانت آنذاك في آخرها، وكل ما تريده السلطات الأمنية من معلومات كان مكشوفاً لها، لذا فقد كان تكهّن مي.ح في غير مكانه. وضعت الصبايا في غرفة وأغلق الباب. هنا بدأت الرحلة الأشد خصوصاً أنهن وصلن بعد العشاء، الأمر الذي جعل إمكانية تقديم الطعام مستحيلة، وهنّ جائعات.. جائعات جداً. لذا كان لابد من جمع كل ما معهن من نقود، وإعطائها للسجان المناوب ليأتي لهنّ ببضع زيتونات، يسددن بها رمقهن.

الشباب الأربعة، الذين وُضعوا في الغرفة المجاورة، دأبوا على دق الحائط المشترك: كانوا جائعين أيضاً. لكن ما كان متاحاً للصبايا لم يكن متاحاً لهم، لذا فقد حاولت البنات استخدام تمديدات الكهرباء غير المنجزة، التي أحدثت ثقباً في الحائط بين الغرفتين، ليدخلن حبات الزيتون حبة حبة في الثقب، ثم ينتظرن ليتلقين بذورها بعد أن يأكلها الشباب. ما فعلنه كان الحل الأنسب كيلا يكتشف السجانة بذر الزيتون في مهجع الشباب، وحينها سيتعرضون جميعا للعقاب المؤكد.

في فرع الأمن2 العسكري كان كل شيء ممنوعاً حتى الأصوات.. عليك أن تهمسي همساً. الجدران صماء لكنها تنقل أية نأمة. السجانة صمّ لكنهم يلتقطون تنهيدة النفس. وباب الحديد أصمّ لا يرد صوتاً ولا ضجيجاً. في فرع الأمن كان كل شيء ممنوعاً حتى الحياة، وربما كانت أول الأشياء الممنوعة! في صباح اليوم التالي أخذوا سحر.ب وأميرة.ح، وتركوا البقية في الغرفة. رميتا في زنزانة مألوفة بعد أن أخرجوهما من مزدوجة أخرى، قيل أن الجرب استشرى فيها.

كانت الزنزانة الجديدة زنزانة هند. ق قديماً. لم تتأخر أميرة وسحر باكتشاف ذلك، فقد كانت مليئة ببصمات هند الخاصة، بالكتابات وبخربشات الحك والقلم، والروزنامة على الحائط وراء الباب الحديدي، والجملة المتوهجة التي نقشتها هند فوق الباب:

غاب نهار آخر..

كان لتلك الجملة قدرة السحر في بثّ السلوى في روحيهما القانطتين.

كل شيء في زنزانة هند على حاله، كأن السنوات الثلاث لم تمرّ على تلك الجدران الوفية. وزنزانة أبي مهند، المعتقل الفلسطيني الذي كان سكرتيراً لياسر عرفات، ما تزال على حالها بجانب زنزانة هند، وساكنها ما يزال نفسه: ذاكرته متقدة حاضرة، وميّزاته الكثيرة، دون بقية المعتقلين، لا تزال: زنزانته مفتوحة دائماً فيما تغلق الأبواب على الزنازين الأخرى، يخرج في بعض الأحيان ليتمشى ببيجامة الرياضة في الكوريدور، الأمر المحرّم بالطبع على باقي المعتقلين إلا حين الذهاب إلى الخط، يدردش مع العناصر، والأهم لديه راديو مفتوح دائماً، وبصوت عال، على صوت فلسطين.. الصوت الوحيد وسط صمت الزنازين وصراخ السجانة وخبطات أبواب الحديد.

أول أغنية سمعتها أميرة.ح، بعد زمن طويل من الاعتقال، كانت من راديو أبي مهند: ثوري ثوري. حينئذ فقط علمت، هي وسحر، أن انتفاضة 87 قد قامت في الأراضي المحتلة.

أما بقية الصبايا فقد نقلن إلى المهجع رقم 6.

حميدة.ت كانت تعاني من إدرار بول شديد، والاعتقال زاد حالتها سوءاً على سوء، الأمر الذي جعلها لا تستطيع انتظار الليل بطوله كي يأتي الصباح، وبالتالي تدخل إلى الحمامات وقت يسوق السجانة المعتقلات إلى الخط. كما إنها لم تستطع الاعتياد،
كما معظم المعتقلات، على التبول على مرأى من الجميع في علبة بلاستيكية كانت مخصصة فيما مضى لمعجون الجلي. تلك العلبة البلاستيكية تحولت إلى مرحاض صغير متحرك: لونه قاتم وتفوح منه رائحة نشادر قاتلة تفغم المهجع بكامله. كان ذلك في المهجع قبل أن تُنقل الصبايا إلى المزدوجات حيث الحمام من ضمن الفراغ المغلق عليهن.

المهجع رقم 6 كان محاطاً بزنازين المعتقلين. قبالته منفردة فيها معتقل شيوعي شاب اسمه: موريس، فيما بقية الزنازين مليئة بعساكر معاقبين. لم يكن أمام المعتقلات إلا طلب المعونة من رفيقهن المقابل، وذلك عبر مناداته من شقّ الشراقة في باب المهجع، وكان على موريس مساعدة حميدة في محنتها بأية وسيلة كانت، فالمسكينة كانت تتلوى من الألم، ومثانتها تكاد تنفجر!.
 بالفعل استطاع موريس اختراع طريقة مبتكرة لحلّ المشكلة:

نادى في صمت الليل على سجين المنفردة المجاورة له، وهو عسكري معاقب بسبب سرقته لسيارة ضابطه وهربه بها. وبما أن شرّاقة العسكري كانت مفتوحة، بخلاف السياسيين، فقد استطاع موريس، بشقّ النفس، تمرير حزامه الجلدي إليه. إثر ذلك راح العسكري يطوّح بالحزام من شراقته إلى باب المهجع المقابل: مهجع المعتقلات. فشلت محاولات عديدة في جعل بكلة الحزام المعدنية تعلق بالمزلاج الذي يغلق المهجع من الخارج. امتد الزمن والمحاولات الفاشلة تتالى، وحميدة يكاد يغمى عليها.

لكن الخطة نجحت أخيراً فقد عَلِقت البكلة المعدنية بالمزلاج، واستطاع العسكري أن يسحبه ويفتح باب المهجع. بخفة قطة مجربة تسللت حميدة عبر الكوريدور، الصامت والمعتم، إلى الحمامات في نهايته لتقضي حاجتها الملحّة بسرعة، وتعود من فورها، وعلى رؤوس أصابعها، إلى المهجع الذي يغصّ بالمعتقلات المنتظرات والخائفات لئلا يكتشف الأمر، ويخضعن كلّهن لعقاب جماعي لم يكنّ يتكهّن بشراسته.

بعد أيام في المنفردة نقلت سحر وأميرة إلى المهجع 6 أيضاً، حيث صار عدد المعتقلات هناك حوالي إحدى وأربعين معتقلة من تهم مختلفة: شيوعيات، عرفاتيات، بعث عراق، ودعارة سياسية، وذلك قبل أن ينقل بعضهن إلى المزدوجات في فرع الأمن1، حيث قضين الثلاث سنوات القادمة، وينقل بعضهن الآخر إلى سجن النساء ليقضين السنوات الأربع القادمة.

من الصعب وصف ذاك الشوق الكبير الذي استقبلت به المعتقلات في فرع الأمن. كان عددهن تسع شيوعيات فحسب إضافة إلى المعتقلات الأخريات. الفرع ممتلئ، حتى التخمة، بالمعتقلين والمعتقلات. الشباب في المزدوجات المقابلة لمزدوجاتهن. الأمر الجيد، الوحيد ربما، أن المعتقلات كنّ قادرات على رؤية رفاقهن من السقيفة فوق المزدوجة، وذلك عن طريق شبك الباب الفوقاني الذي يطلّ على الكوريدور المطل بدوره على سقيفة مزدوجات الشباب.

تحدثت البنات لرفيقاتهن عن التعذيب الشديد الذي تعرّض له المعتقلون قبل قدومهن، وذلك حين طالبوا بتحسين الخبز (ما اصطلح على تسميته فيما بعد انتفاضة الخبز). ضربوهم بشكل مسعور في الكوريدور. شبحوهم لساعات طويلة على أبواب الحديد أمام الجميع.. كان صراخهم يملأ الفرع: عباس.ع، سمير.ح، أكرم.ب، فرج.ب، مازن.ش، وراشد.ص. حينها جلب السجانة أكل الغداء للبنات في المزدوجات، فرفضن أن يأكلن حتى فكّوا الشباب عن الشبك. بالنسبة إلى القادمات الجدد كان مجرد سماع القصة يحرك ألماً عميقاً لا يستطعن احتماله فما بالك باللواتي عشنه.

انتفاضة الخبز تلك شهدتها حسيبة.ع أيضاً. وحيدة في منفردتها كانت، وما حدث يضجّ حولها حتى اللحظة: كانوا يضربونهم بجنون.. بجنون وهي منكمشة على نفسها، تحاول أن تمنع أصواتهم المتألمة من الدخول إلى رأسها. لم يأكل أحد في ذلك اليوم، كان يجب أن يُعلن الإضراب العام لكنها كانت حملة اعتقالات مسعورة وأي ردّ من هذا القبيل سيشعل النيران أكثر! الحرب النفسية هي السلاح الأمضى المشهر أبداً في وجه المعتقل. ربما هذا ما حدا بالمحققين إلى وضع المعتقلات في جو من الرعب والتحقير: لست بطلة.. لست صامدة.. أنت شيء صغير صغير جداً.. أنت باختصار وبفيض كلام: لاشيء.
...
تلك الحرب النفسية كانت أول حرب تشنّ عليّ وقت اعتقالي حين رميت إلى جانب مزدوجات البنات في منفردة محايدة.. وحدي وحدي.. كان قد مرّ أكثر من سنة على اعتقالي الثاني، وبضعة أشهر على وجودي في سجن النساء، حين أعدت من جديد إلى فرع الأمن1 للتحقيق معي. يبدو أن جملة معلومات إضافية اكتشفت، إثر حملة الاعتقالات الكبيرة في سنة 1987، وأرادوا أن يتحققوا مني بشأنها. أو ربما كان الأمر، على ما يبدو، مجرد أخبار تسرّبت من سجن النساء عن كوني أتكلم بأشياء لها علاقة بالسياسة أثناء زيارات الشبك.. أو شيء من هذا القبيل. بقيت في المنفردة أربعة أشهر ونيّف. الزنازين حولي مليئة بالمعتقلين طيلة شهور، أصوات التعذيب تصلني في كل وقت، في الصباح والمساء، في الظهيرة وبعدها، صراخ مؤلم يمنعني النوم والتفكير وحتى التنفس. في تلك المنفردة كانت القوة النفسية هي المهمة، القوة الداخلية وليست الإيديولوجيات. تحوّل الأمر باعتقادي إلى امتحان، امتحان حقيقي، ولا توجد وسائل تقاتلين فيها إلا الجسد.. إذاً كان عليّ أن أقاتل الاعتقال والزنازين وبطشهم بجسدي.
الكثيرات مثل حسيبة حاربن الاعتقال والسجن بأجسادهن لا غير. لكن الأمر لم يكن سهلاً البتة ومخالب الوحدة والعجز تنهش فيهن يوماً بعد يوم. حين كان الليل يخيّم، تخفّ وطأة العناصر المراقبة في الكوريدورات، يبدأ ليل المعتقلين، ليل من الأحاديث الحميمة والأصوات المألوفة والحب، ليل يجعل النهار الجحيمي يمضي بعيداً.

فاديا.ش(46) كحسيبة، وغيرها من المعتقلين، تنتظر الليل بفارغ الصبر لتتحدث مع قاطني الزنازين المجاورة، وذلك من تحت الباب الذي يرتفع سنتيمترات قليلة عن الأرض. توسّد رأسها إلى صلب الإسمنت، وبعين واحدة تراقب الأبواب الموصدة للمنفردات المقابلة، ترمي كلماتها بصوت هامس، وتستمع إلى الدقّ على الجدران المشتركة بين مهجع المعتقلات ومنفردات المعتقلين. كانت فاديا تحاول أن تحيك، من الهمسات والأحاديث الخافتة والطرقات، أمسيات عذبة وحميمية على الرغم من كل شيء. في ليل الزنازين تشرق شمس جديدة، شمس تبدّد ظلمة الوحدة والصمت وقهر السجون. بعد كل تلك الشهور والتحقيق أعيدت حسيبة.ع من جديد إلى سجن النساء. كانت تصيح في الكوريدور بصوت عال وهي تغادر الفرع يجرّها السجان من يدها:
ـ أنا خارجة.. هل هناك من يريد شيئاً مني؟ أنا ذاهبة إلى دوما هل...
لم ترد على صياحها إلا النحنحات من المنفردات المتقابلة، النحنحات المتصاعدة والوجلة، وهي تحمّلها وعود المعتقلين. فيما أنّات زوربا (وجيه.غ) تصاحبها وهي تغادر، ويصاحبها حتى اللحظة صوته المتعب وهو مرمي في المنفردة مدمّى من التعذيب، يطلب من السجان كل حين طلبه الأوحد: شعّليّ سيجارة..
...
عن الاعتقال كتبت ناهد. ب في مذكراتها:
(بعد انتهاء التحقيق أنزلوني إلى القبو أي سجن الفرع. أول ما بادرني وأنا ما زلت على درجه تلك الرائحة الغريبة والفظيعة والتي لا يعرفها إلا من زار مثل هذه الأماكن، ولكن يمكنني تشبيهها برائحة قن دجاج غير مهوّى لمدة سنة كاملة. ثم بادرتني لوحة معلقة أمام الدرج بحيث يقرؤها النازل بسهولة، لوحة مكتوب عليها الآية القرآنية: وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون(47). فابتسمت في سري وقلت لم يفتهم استثمار أي شيء. بعد نهاية الدرج دخلنا في ممر عريض تتوزع أبواب المهاجع على اليمين واليسار في آخره حمامات الزنازين على يمينها ممر صغير يفضي إلى عشر زنازين، وعلى يسارها ممر صغير آخر يفضي إلى ثمانية زنازين ومهجع جماعي صغير يسمونه 802. الزنازين اليمنى كانت مليئة بالنساء الشيوعيات واليسرى بشبابه. وهنا أيضاً خدمتني الظروف بأن لا مكان لي في الزنازين كما هي عادتهم أول الاعتقال، فقد أدخلوني إلى المهجع 6، وهو غرفة تقع على يسار الممر الرئيسي، غرفة مربعة أظن أن ضلعها يساوي 5م، ومقابل الباب يقع المرحاض. دخلت إلى الغرفة ووجدت فيها خمس معتقلات هن: آسيا، رجاء، هتاف، أم بسام، ورقية، وعرفت فيما بعد أنهن من نفس التهمة. وكان وضعهن النفسي صعباً فقد تركن وراءهن أطفالاً صغاراً، ورقية كانت حاملاً.

واصلنا الحياة بأقصى ما نستطيع من التحايل على هذه الظروف السيئة. ابتدعنا طرقاً للتواصل عبر الجدران مع رفاقنا في الزنازين وكانت تضم أسامة وعدنان ونزار و.. آخرين. في البداية كنا نكتب الكلمة بقطعة معدنية ويحاول الرفيق على الطرف الآخر إدراكها عن طريق الإصغاء بلصق الأذن على الجدار، إلا أنها كانت وسيلة صعبة وغير ناجحة في بعض الأحيان. فابتكرنا طريقة أخرى تعتمد على الطرق على الحائط عدد من الطرقات يساوي موقع الحرف الذي نريده في الأبجدية مع فاصل بين الحرف والحرف وهكذا تبادلنا الأخبار ودارت أحاديث طويلة).

أما هبة. د فقد كتبت بعد سنوات طويلة عن الاعتقال في كتابها:
(الخروج.. لكن إلى...(48): كنا نراقب خروج الشباب بعد الإفطار في السجن إلى الخط، فيقبل بعضنا إلى شق في طاقة بابنا تراقب ما يجري وتترقب بعضهن أن ترى أخاً لها أو قريباً بينهم.. ولم تكن تلك الصلة الوحيدة بيننا وبين الشباب، فلقد اكتشفت البنات قبلنا وجود فراغ بسيط حول أنبوب التدفئة بين مهجعنا والمهجع المجاور فطلبن من العناصر خرطوماً بحجة استعماله في الحمام فأحضروه لهن، فمددوه عبر الفراغ وصرن يحادثن الشباب عبره أو يمررن لهم الماء من خلاله لأن المهاجع الأخرى(49) باستثنائنا لم تكن فيها حمامات أو صنابير مياه، ولم يكونوا يسمحون لأحد بطلب ماء أو الذهاب للحمام إلا في المواعيد. ذات يوم وبينما كانت الحاجة(50) تحادث الشباب في الزنزانة المجاورة عبر الأنبوب أتاها من وراء الجدار صوت سائل منهم يسأل إن كان بيننا حمويات. فقالت له: نعم.. فقال لها: يا خالتي نحن من المدينة أيضاً وسنخرج غداً إفراج، فلو كانت لدى أي من الحمويات رسالة لأهاليهن اكتبوها وضعوها في شق الطاقة ونحن سنسحبها بإذن الله أثناء خروجنا إلى الخط بطريقة لا تشعر العناصر ونوصلها لهم..
والذي تبين فيما بعد أن هؤلاء الشباب المساكين وعدوا بالخروج في اليوم التالي وبالفعل ولكن الخروج كان في الحقيقة إلى...!.)

1992
لم يعدم عناصر الأمن وسيلة للضغط على أسرة ضحى.ع(51). جرّبوا مختلف الأشكال: بقوا شهوراً طويلة يترددون عليهم في مدينة الشمال فيما هي متخفية، تخفيّاً احترازياً، منذ سنة 1987 في المدينة نفسها. استدعوا معظم رجال العائلة للتحقيق معهم عشرات المرات. ضربوا خالها وزوج أختها أثناء التحقيق معهما فيما كان أخوتها الثلاثة معتقلين منذ سنوات: أسامة (اعتقل في صيف 1982)، ومازن ونمير (اعتقلا في شتاء 1983). كتكريس لمجموعة الضغوط على أهل ضحى، كي يعملوا على تسليم ابنتهم إلى الأمن، أخذوا أختها الصغرى لينا.ع رهينة عن ضحى لتبقى معتقلة لسنة كاملة من 1987 بفرع الأمن2 بالعاصمة. كان عناصر الأمن يزيدون من الإرهاب النفسي على العائلة، وهم يضغطون على الأم باتصالاتهم أو بزياراتهم المتلاحقة:

 سلّمي ضحى نعيد إليك ابنتك الأخرى. على الرغم من عدم تعاون الأم أطلق سراح لينا قبل أن يتم القبض على ضحى، لتذهب الأخيرة متخفية للقاء أختها. ما بقي في ذهني بعد تلك الزيارة هو تعب أختي، نحولها الشديد، شحوبها وخوفها.. كانت نتائج التجربة عليها سيئة للغاية، هذا ما وضح لي تماماً. انقطعت إثر ذلك عن رؤية أهلي لزمن طويل، ثم تزوجت خلال هذه المدة من أحد رفاقي. لكن الأمن استطاع اعتقالي بعد أربع سنوات ونيف من ذاك اليوم.

كان صباح يوم من عام 1992 وقت اعتقلتُ في العاصمة وكنت حاملاً حينذاك في شهري الثالث. الموعد الحزبي كان مقرراً عند أحد الفنادق الضخمة. شيء داخلي غامض يخبرني بأني سأعتقل. إلى اليوم لا أعرف السبب الذي جعلني أذهب إلى الموعد! ربما كنت مقتنعة أن ما سيحصل سيحصل، ربما أحسست بالتعب، بالتعب الشديد، من التخفي الطويل الذي استمر لسنوات طويلة وفي ظروف غاية في القسوة. حملات الاعتقال المتوالية طالت وقتئذ جلّ رفاقي في الحزب، حتى العدد القليل الذي بقي خارجاً اعتقل مؤخراً: أربعة من رفاقنا الشباب، وقبلهم خديجة(52). د، فيما ظللت أنا فحسب خارجاً. فكرت، وأنا أجهّز نفسي للذهاب إلى الموعد، أن عليّ شرب الحليب، ارتداء سترة فضفاضة وكبيرة، وعلي ألا أحمل أية أوراق قد تستخدم ضدي في حال تم اعتقالي. ويجب أن أنزع المحبس من يدي كي لا يعلموا أني متزوجة، وبالتالي يطالبونني بتسليم زوجي أيضاً.. يجب ألا يعلموا بزواجي البتة.

اعتقدت أني لم أنسَ شيئاً، لكني خرجت دون أن أنزع المحبس.. نسيته في غمرة ارتباكي. عند مدخل الفندق حاصرني أكثر من عشرة عناصر، وراحوا يشدونني إلى السيارة. كنت أصرخ، وأنا أحمي بطني بيدي، محاولة معرفة الجهة التي ستعتقلني. بالفعل استجاب النقيب المشرف على الاعتقال وأشهر بطاقته في وجهي: أمن سياسي. كانت فرحة إدارة السجن لا تقدر بثمن وقد اعتقلت المحاربة الأخيرة في الحزب. كنت أشعر بسعادة غامضة وأنا أسمع باسمي بعد كل تلك السنوات: ضحى.ع، وقد قدّر علي ألا أسمع، طيلة سنوات طويلة طويلة، إلا بسلسلة أسمائي الحركية المتتالية. استمر التحقيق مع ضحى مدة ثمانية أيام.

أخفت فيهما حقيقة حملها وزواجها، وظلت كذلك حتى نقلت إلى سجن النساء. حينها كان الضغط قائماً على البلد لتوقيع الوثيقة العالمية لمنع التعذيب في السجون، الأمر الذي أرخى بالقليل من الميزات عليها، إضافة إلى أنهم لم يكونوا يريدون منها تسليم أحد: الجميع كان في الداخل، فالمطلوب هو اعتقالها فحسب.

المشكلة كانت، أول لحظات الاعتقال، هي التخلص من المحبس الذي يشعّ في إصبعها كشاهد لا يقبل التراجع. في الطابق الثالث للفرع أدخلوها إلى غرفة الرائد. لم يكن من ضحى إلا أن ادّعت إصابتها بنوبة ربو مفاجأة، فكرة طارئة خطرت لها، ووسط سعالها المسعور ارتبك العناصر وتبلبلوا، ثم تركوها تخرج إلى الشرفة ريثما يجلبون لها زجاجة بخاخ الأكسجين.

كانت ضحى تفكر بشيء واحد: التخلص من المحبس ومفتاح البيت. فكرّت لهنيهات بابتلاع المحبس، لكنها، حين أصبحت في الشرفة، رمته من فورها إلى الأسفل. إذاً لم يبق إلا مفتاح البيت.

ـ إذا استجبت للتحقيق وكنت إيجابية سنخرجك غداً.
قال الرائد وهو يعتقد أن ضحى ستصدّق أقدم كذبة على الإطلاق.
ـ أريد أن أدخل الحمام.

كان جوابها. هناك في الحمام تخلصت من المفتاح برميه في الحفرة. كل شيء جيد حتى اللحظة. تنفست ضحى الصعداء وهي تخرج من الحمام، وتستعد للقادم الذي كان غامضاً ومظلماً ورهيباً أمامها.

بقيت في الزنزانة مدة شهرين. لم أعرف خلال تلك الفترة الليل من النهار! عندما يفتح باب الزنزانة صباحاً، ليرمي السجان الفطور أمامي، أعرف أن الصباح أتى، فأنسل خيطاً من البطانية العسكرية التي أتغطّى بها، وأخبئه تحت الفرشة إيذاناً ببدء يوم جديد في الزنزانة/ القبر. بدأ الحمل يضغط عليّ، جنيني يحتجّ بشدة على هذا الويل أزجّه فيه: رغبة بالقيئ لا تفارقني. أحسّ بجسدي يتهاوى شيئاً فشيئاً. عفن ورطوبة يستفزان أنفاسي في كل لحظة! لا أستطيع الأكل! كل ما يحضرونه لي يبدو مقرفاً حدّ الغثيان ورائحته منفرة.. خصوصاً قصعات الستانلس تلك. الحرقة تأكل معدتي، تجعلني أعتقد أن سائلاً من أسيد يطحن جوفي، يجعله يتآكل ويتحلّل. والماء بارد. شتاء قاس للغاية.

الجرذان والصراصير تسكن معي، تقاسمني كل دقيقة من وقتي، وكل فتات من طعامي.. كان الوضع جحيمياً. بطني يكبر شيئاً فشيئاً لكنه بقي مخبّئاً تحت سترتي التي مازالت فضفاضة. هذا أفضل ما فعلته قبل الاعتقال: أن ارتدي شيئاً فضفاضاً. حين مرّ وقت لم أقرب فيه طعامي المنفّر صار العناصر يجلبون لي الفواكه الشهية ليتأكدوا من أني غير مضربة عن الطعام. حتى أن إدارة السجن بعثت لي في يوم واحد: أربع تفاحات وثلاث برتقالات! قمت بإعطاء السجان نصفها. تلك الفواكه بدت لي كهدايا مرسلة من الجنة، ذلك أن الفاكهة هي الشيء الوحيد الذي تقبّلته معدتي المتقلبة في تلك الفترة وأنا أدخل شهر حملي الرابع.

في أغلب الكتب التي تدوّن لحظات السجن والاعتقال السياسي يصوّر المعتقل/ المعتقلة نفسه، أو هناك من يصوّره، على أنه بطل لا يقهر! ناسيين، أو متناسين، أنه إنسان، بكل ما للكلمة من معانٍ، وليس صخراً أصماً.

يرى برايتن برايتنباغ(53) أن في الأمر كثيراً من الديماغوجية: ندّعي البطولة والقوة، يصير الواحد منا "سوبرمان" في الوقت يستحيل فيه إلا أن يكون ضعيفاً، ضعيفاً بما تعنيه كلمة إنسان.
لم يكن أمام ضحى في هذا الموقف إلا أن تكون كذلك. أي أن تعترف بلحظات العذاب التي راحت تقهر دواخلها المليئة بحياة جديدة. من هذا المنطلق فأننا نكون أكثر ذكاء حين نشرح للناس تناقضات هذا العالم الفظيع، وما نقوم به في تلك المجاهل الخانقة. الكلام مع الجنين كان تسلية ضحى الوحيدة في شهري الزنزانة. حين نقلوا خديجة.د إلى زنزانتها صار الوضع بوجودها أكثر إنسانية، أضحى هناك إنسان آخر يقاسمها الهواء والطعام والكلام والأوجاع والأمل، لم تعد الزنزانة مجرد قبر يغصّ بألمها ووحدتها وبالجرذان والصراصير.

نهاية نقلت ضحى.ع وخديجة.د إلى سجن النساء وذلك في سنة 1992، لتظلا هناك حتى سنة 1998 حيث أطلق سراحهما.

1978
إنها مليئة بالأحذية.. ومن مختلف الأشكال! أحذية أحذية، وفقط أحذية على بلاط قذر. مشهد ضيّق ومتبدل لم تستطيع روزيت.ع(54) أن ترى إلاه من خلال الطميشة التي يعصبون عينيها بها. كانت تجاهد لتلمّس أثر ما مختلف في غرفة التحقيق، شيء قد يبعث ظلال طمأنينة في روحها المترقبة الخائفة.

ـ أتيت بالتنورة وليس بالبنطلون؟!

صرخ المحقق فيها. جملة كانت تلوّح في داخل روزيت ضاربة على جدران قلبها المرتعب، جملة عنت أن حفلة التعذيب المعتادة ستبدأ. الأمر بدا جلياً أمام ناظريها حين ألبسوها بنطلون بيجاما رجالي له رائحة عفنة، كأن عشرات الأجساد المتتالية لاقت فيه عذابها، وتركت فيه ذاكرتها ورائحة عرقها المتصبب من الألم. ثم راحت أصوات متداخلة، تصدر عن أحذية مختلفة، تكيل الشتائم لها وهي تقف وسط الغرفة في مهب الآتي. مضاضة الانتظار تقتلها، ولا يمكنها سوى أن تتلمّس الأصوات، والأهم كان صوت ارتطام دولاب التعذيب الكاوتشوكي بالأرض وقد أحضروه للتو.

ـ من المؤكد أن الكبل الرباعي معه.

فكرت روزيت وهم يمطرونها بأسئلة لا تنتهي. بعد انتهاء التحقيق نقلتُ وبقية المعتقلات إلى السجن السياسي. هناك في غرفة علوية من السجن، الذي كان يوماً ما قصراً للرئاسة(55)، رمينا لسنوات طويلة. كنا عشر معتقلات وأنا معهن. ثم انضمت إلينا حسيبة.ع لنصبح إحدى عشرة معتقلة: الأختين خلود.ع(56) وهالة.ع(57)، نجود.ي(58)، ليلى.ن(59)، فيروز.خ(60)، سناء.ك(61)، راغدة.ع(62)، رنا.س(63)، وصباح.ع(64). بدا واضحاً أن نوافذ الغرفة/ الزنزانة كانت فيما مضى غاية في الجمال: زجاج قصر بديع مشغول بالألوان وتناغمات القيشاني. لكن كل تلك الألوان طليت بدهان غامق، بشكل فظ وكيفما اتفق، ليمنعوننا من رؤية الخارج، طمست كل المعالم الجميلة لتتحول إلى نوافذ سجن حقيقي، وتتحول كل الغرف الفارهة والممرات والصالات إلى مهاجع وزنازين. لم يعد هناك ما يذكّر بماضٍ عريق وأبيّ للقصر، اللهم إلا أشباح مبهمة تحلّق فوقه، تندب ماضيه وذاكرته المنسية.

خشخشة مفاتيح السجان:

صوت عمل دوماً على زلزلة روحي. أعتقد أنه كان يفعل الشيء ذاته مع المعتقلات جميعهن، خاصة إذا كانت الخشخشة في غير أوقات الخط ومواعيد مجيء الطعام. ذاك الصوت كان كافياً ليجعلنا نتجمد من الرعب، ننتظر حابسات أنفاسنا متوجسات، وقت يتناهى إلينا مع قرع حذاء السجان صاعداً الدرج إلى الزنزانة في الطابق العلوي.. هذا يعني أن معتقلة جديدة أضيفت إلى سلسلة المعتقلات اللواتي رمين هنا. ربما تكون قد عُذبت بوحشية لترمى عندنا في الزنزانة وهي أشبه بجثة حيه متأوهة.. وتعود جروحنا لتتفتح من جديد ونحن نراقب عذابها أمامنا.

لن أستطيع أن أنسى يوماً أصوات التعذيب تزعق طوال الوقت في أذني، أصوات تمزّق هدوء الليل ووداعة الحي السكني المحيط بالسجن.

عذّب معتقل ذات يوم.

كانت الحارة كلها تسمع صراخه وأنينه. أتساءل إلى اليوم كيف لم ينتفض الناس في تلك الأبنية السكنية المكتظة! أرواحهم كانت تجلد في كل وقت على وقع تلك الأصوات. ثم صمت الرجل فجأة، ليرين بعد ضجيجه هدوء غريب ومريب. آخر الليل، من ثقب باب الزنزانة/ الغرفة، رأينا عنصرين من الأمن يحملان جثته الملفوفة بالبطانية، كما يحملان سجادة عفنة، وينزلان الأدراج بسرعة.
أصوات التعذيب كانت تحرمنا النوم لليالٍ طويلة، خصوصاً أن حملة الاعتقالات كانت شديدة ذاك الوقت. لم يمر يوم دون صراخ ألم، أو شتائم مجنونة من العناصر، أو ضجة ولغط الاعتقال والتعذيب. الكثيرات من معتقلات ذاك السجن ما زلن يذكرن صراخ الألم الذي يصدر عن حسيبة.ع وهي تحت التعذيب، يتناهى إليهن حافراً في أوقاتهن وأدمغتهن. تركوها وقتئذ في المنفردة السفلية حتى التأمت جروحها وحروقها، ثم أحضروها إلى الزنزانة المشتركة. لكن آثار الكدمات الزرقاء، حروق السجائر المطفأة على جسدها، كانت ما تزال تضجّ شاهدة على ما حصل في الأسفل، أما صوتها فقد بقي مبحوحاً لفترة طويلة بعدها.
..
كانت روزيت قد حلمت، قبل الحدث الأهم بيوم، بإطلاق رصاص في الحارات الضيقة والمزدحمة المحيطة بالسجن. في ذاك المساء من سنة 1978 كانت المعتقلات جميعاً جالسات في الزنزانة العلوية يتلصصن من فوق المساحة المعتمة، التي تغطي الشبابيك، إلى البيوت المحيطة والسجانة المنتشرين في أنحاء القصر مدججين بسلاحهم، يسمعن صوت فيروز من مسجلة الجيران:

جايين ع الدار.. دار العز كمّلها.
ويحظظن عليها. كانت الأغنية من نصيب روزيت.
والدار بالعيد مضوية منازلها..

يبدو أن النبوءة تحققت، ففي اليوم التالي، وحالما نزلت المعتقلات إلى التنفس في الباحة السفلية، همس أحد الرفاق المعتقلين في الزنازين السفلية، ومن شباكه الضيق المطلّ على ساحة التنفس، بأن أكرم.ب قد اعتقل.

هل كان عليها أن تفرح أم تحزن؟!

مشاعر مختلطة راحت تطوّحها بين جدران باحة التنفس. أن يعتقل أكرم يعني أن الكارثة حلّت. لكن اعتقاله يعني أيضاً أنها ستلمح حبيبها أخيراً وقد مرت شهور طويلة دون أن تراه.

كان للقسم الشرقي من السجن، وهو عبارة عن بيت الخدمة والمونة والمطبخ، شبابيك على ساحة التنفس. الساحة تشكّل جزءاً من الحوش الكبير للقصر اقتطعت منه بمساحة لا تتجاوز 5*4 أمتار. حين كان يأتي وقت تنفس المعتقلات يغطي السجانة شبابيك زنازين المعتقلين بألواح من الخشب حتى ينتهي الوقت المخصص، بذلك يضمنون إجهاض أية فكرة للتواصل مهما قلّت بين الرفاق.

في ذلك اليوم، الذي عرفت فيه روزيت باعتقال أكرم، أخرجه السجان (الصديق) إلى الحمام عبر الساحة، وربما عمل على توقيت الأمر بحيث تكون روزيت في وقت التنفس.

حينها رأته للمرة الأولى. كان بعيداً ومتعباً. لم تستطع أن تلمسه على الرغم من محاولاتها المستميتة لإقناع السجان بذلك. لحظات ومضى أكرم داخل المبنى. مع ذلك كان ذاك السجان عرّاب الحب الذي راح ينضج هناك في المعتقل. بعد مدة من محاولات اللقاء المستمرة، والرسائل عبر السجان وفي فسحات التنفس، استطاع عمي أن يجلب من الكنيسة ورقة زواج كتبها الخوري المتعاون! جلب معها محبسين، محبسين صغيرين كانا يشكلان لي كل أملي. وفي غرفة من غرف السجن تمت خطوبتنا أنا وأكرم في سنة 1979. لكن لم يمض وقت طويل بعدها حتى نقل أكرم إلى سجن آخر. بعد ذلك صار يؤتى به لنصف ساعة كل أسبوع إلى السجن كي يراني، زيارة عاشقين لنصف ساعة لا غير، لكنه في النهاية كان أمراً رائعاً أن أستطيع رؤيته وأنا في السجن! أنتظر الأسبوع دقيقة بدقيقة، ساعة بساعة، كي تأتي نصف الساعة تلك. نصف ساعة فحسب كانت قادرة على تخفيف ضغط الزنازين والاعتقال، نصف ساعة كانت تحملني على أجنحة فراشات إلى حلم جميل رحت أرسمه في خيالي.

نصف ساعة ثم يعاد به إلى سجنه من جديد.
استمر الوضع هكذا حتى بدايات سنة 1980 حين تم إطلاق سراحي وسراح أكرم من الاعتقال الأول لنا.

ستمر سنوات طويلة قبل أن تستدعى روزيت.ع من جديد في سنة 1992 إلى فرع الأمن1. كان زوجها ما يزال معتقلاً منذ سنة 1987، أي بعد ثماني سنوات من إطلاق سراحه الأول. في ذلك الوقت تم استدعاء رفيقاتها، اللواتي سجنّ قبلاً، الواحدة تلو الأخرى وبأشكال مختلفة. إحداهن أخذوها من العمل، الثانية بمذكرة إحضار من البيت، والثالثة ألقوا القبض عليها في الشارع، وهكذا.. هذا ما جعل إحساساً أكيداً بقرب الاعتقال يراودها. كانت تشعر أنها تنتظر دورها كمن ينتظر قرار إعدامه في سعير الحرب. كلما دقّ الباب أو سمعت خطوات مقتربة من مدخل البيت تقول لنفسها: أتوا. كانت تنتظر نهايتها لا غير.

لم يطل الأمر فقد استدعيت روزيت لتراجع فرع الأمن1 وبسرعة. شعور عميق جعلها تحرص في تلك الليلة على توديع ابنتها بيسان، كأن الزيارة القصيرة تلك ستطول. الصغيرة كانت تبكي وتبكي بلا توقف كأنها تشعر بقرب غياب أمها. وروزيت تودّعها متصنعة الهدوء واعدة إياها بعدم التأخر:

ـ ساعات وأعود يا حبيبتي لا تبكي..

حين تركت منزل أهلي، وذهبت تاركة ابنتي هناك، كنت متيقنة أن الأمر سيطول أكثر من ساعات، أحسّ بقلبي يتفتت إلى أجزاء وأنا أرى ملامح بيسان الباكية للمرة الأخيرة. كنت أفكر بالذي تحمّلته تلك الصغيرة دون ذنب، بالذي عانت منه بغياب والدها، والآن بغياب أمها. ابنتي الصغيرة حُمّلت فوق طاقتها دون أي ذنب سوى أنها ولدت في هذا المكان ولهذين الأبوين!.
...
انتظرت روزيت في فرع الأمن1 حتى المساء. تركوها في المنفردة طيلة الوقت منسية، أو تقصدوا نسيانها، كي يجعلها الترقب أكثر خوفاً وضعفاً. أصوات التعذيب والصراخ تحاصرها من كل صوب. المعتقلون يُضربون ويعذبون في الممرات وبين الزنازين. على الرغم من أن التعذيب، حسب العادة، كان يجري في الأعلى، في غرف التعذيب وليس في الأسفل بين الزنازين.. فرع الأمن1 كان أشبه بجحيم مستعر في تلك الليلة الطويلة الطويلة.

كل حين كانت طاقة الباب الحديدي الضيقة تُفتح، وروزيت تسمع صوت ضربات قلبها الوجل، ينظر العنصر إليها وهي قابعة في الزاوية المعتمة ملتفة على نفسها، ويسأل:

ـ أنت امرأة أكرم.ب؟.

تهزّ برأسها لأن صوتها بعد حين أبى أن يخرج من جوفها، فيغلق السجان الطاقة ويمضي. يعود سجان آخر بعد فترة ليسأل السؤال ذاته، ويمضي.. وهكذا. لم يطل الأمر على هذه الحال، وبعد تحقيق قصير نُقلت روزيت.ع إلى المزدوجات لتسجن مع بقية المعتقلات حتى سنة 1993.

* * *

الدخول إلى مملكة الجنون
أمهات في المعتقل

بلد يسجن فيه الأطفال بسبب جرائم آبائهم.. إننا ندخل مملكة الجنون.
مليكة أوفقير (السجينة)

خمس وأربعون معتقلة من الشيوعيات والعرفاتيات في المهجع رقم (6) في فرع الأمن1. المكان الضيّق حدّ الاختناق جعل المعتقلات ينقسمن إلى مجموعتين: مجموعة تنام (تسييف)(65)، والمجموعة الأخرى تسهر عند الباب، تنتظر بفارغ الصبر استيقاظ الأخريات كي تستطيع النوم.

كانت غرناطة.ج ومنى.أ(66) تسهران قريباً من فوهة الشباك العالية المحددة بالشبك المعدني، المطلّة على أرضية ساحة السجن الخارجية، تنكمشان على نفسيهما، كل منهما تحتضن ركبتيها وتراقب قطعة السماء الصغيرة الكحلية المقسّمة إلى مربعات حديدية. كانت ليلة جليّة للغاية، ونقية بشكل مثير للشجن.. فجأة غطّى الفوهة القاتمة وجه نوراني، ملاك ظهر أمام ناظريهما بشكل خاطف وكأنه بعث إليهما من السماء حقاً! مرّت هنيهات قبل أن تكتشف غرناطة ومنى أن البدر أشرق فجأة كان وجه طفل، طفل حقيقي في هذا المكان القاحل كالصحراء والمعتم كقبر. كان عمره قريباً من عمر مجد: ابن منى. ربما تجلّى مجد أمام الأم للحظات، كحلم أو كطيف بعيد لم يغب لثانية واحدة عن خيالها الذي لم يستطيعوا اعتقاله أبداً. كأن القدر بعثه إليها كي ينشلها من هذا العذاب. صارت منى تحاول التقرب منه، وقد بدا أن قطعة من قلبها تعلّقت بوجه الطفل المطل من الشباك العالي. ثم راحت المعتقلات الأخريات تتزاحمن تحت الفوهة العالية، مشرئبات بأعناقهن تجاه الطفل، محاولات، كل بدورها، أن تتحادث معه أيضاً. ربما تخيّلت كل أم منهن طفلها ماثلاً في وجهه. لم يجب الطفل، عيناه مفتوحتين على سعتهما، الدهشة تقطر منهما وهو يحاول تبيّن كتلة الأجساد والوجوه تشرئب إليه، واللمبة الصفراء تحيلها إلى تهويمات ضبابية شاحبة كالموت.

أخيراً، بعد طول محاولات، استطاعت منى أن تجعله يجيبها، ولكن بجملة واحدة:

ـ ما لازم إحكي معكون أنتو مجرمات.
صاح الصغير وهرب. غاب فجأة كما أشرق.

ثمة شيء ما تحطّم في داخلهن، بدا ذلك على وجوه السجينات، وعلى ملامح منى وعينيها اللتين امتلأتا بالدمع. عادت المعتقلات للجلوس من جديد والانتظار، كما عادت منى وغرناطة إلى الزنزانة. لكن شيئاً داخلياً لم يعد كما كان، لم يعد البتة كما كان. لم تمر لحظات حتى رجع وجه الصغير من جديد لينير الزنزانة من الشباك. لم تكد منى تعي رجوعه حتى طفق يرمي لهن بزهور صغيرة برية، برية وصفراء، من تلك الأزهار تنمو في كل مكان حتى في باحة معتقل كفرع الأمن1. كان يدخل كل زهرة على حدة من فراغات الشبك الحديدي الصغيرة والقاسية لتتهادى الزهرة بغواية إلى عمق الزنزانة كنور يسقط من الأعلى، والفتيات يتسابقن للإمساك به.

زهرة فزهرة فزهرة..

كان يبدو أن ما لقّنه له والده الضابط لم يكن كافياً لجعل الطفل يبتعد عنهن كمجرمات.. كن يشبهن أمه أيضاً! مرّت دقائق فحسب استطاعت منى خلالها أن تعاود الحديث مع الطفل، لتخلق الكلمات حياةً جديدة في فراغ روحها، ولتجعل صورة مجد ابنها تظلل أوقاتها، قبل أن تسحب يد ثقيلة وجه الطفل من الشباك، ويعود الظلام من جديد إلى المهجع رقم 6، وتعود الأمهات إلى البكاء الذي ما انقطعن عنه.

 
في فرع الأمن كان هناك الكثير من الأمهات المعتقلات، حوالي السبع أمهات من أصل اثنتي عشرة معتقلة، ظللن أكثر من ثلاث سنوات في المعتقل بعيدات عن أطفالهن: دلال.م(67)، لينا.و، رجاء.م(68)، بثينة.ت، منى.أ، هتاف.ق(69)، آسيا.ص(70)، منيرة.ص، وسهام.م(71). بعضهن مثل رجاء وبثينة لم يكن منظّمات في أي حزب، مع ذلك قضين سنوات طويلة في السجون. لدى سهام.م، الملقبّة بأم حديد، ولدين في الخارج، وزوجها معتقل كذلك. وسهام لقّبت بأم حديد لأن زوجها، وكان صديقاً للحزب، بدأ يوماً ببناء بيت جديد له، وكان الحزب يحتاج إلى بعض المال، فما كان منه إلا أن باع الحديد ليتبرع بثمنه للحزب. ثم كتب رسالة إلى المعنيين بالأمر قال فيها: زوجتي ليست أقل مني حماسة لتقديم مساعدة للحزب. نتيجة لذلك دفعت سهام (أم حديد) ثمن حماستها الشفهية ثلاث سنوات ونيّف من عمرها وعمر أطفالها في المعتقل.

صباحاً حين كانت أصوات الأبواب الحديدية توقظهن تلقي المعتقلات تحية الصباح على بعضهن: صباح سندويشات اللبنة..
صباح كوي الصداري.. لكن الصباحات كانت تمضي دون أن يستطعن تعويض الغياب: غياب الأطفال عنهن، وغيابهن عن حياة أطفال تركوا في الخارج بلا أمهات، وفي الغالب بلا آباء أيضاً. الغياب كان العذاب الأول والأخير بالنسبة إلى معتقلات فرع الأمن1، خاصة أن الزيارات كانت قليلة بل نادرة في بعض الأحيان.

بالنسبة إلى بثينة.ت كان الأمر محطِّماً. ذلك أن ابنتها راما أبعدت عن صدرها وهي ترضع بعد، أخذوها ولم تكن قد بلغت شهرها العاشر. حينذاك كانت بثينة تصرخ في زنزانة فرع الأمن1 طيلة أيام وتطالب براما، لكنهم لم يجلبوها بالطبع. بقي صدر بثينة، الممتلئ بالحليب، يضغط عليها بآلام شديدة وابنتها بعيدة، حتى سقطت مريضة محمومة طيلة أيام. بعد سنة ونصف من الاعتقال، وقت سُمحت بأول زيارة في فرع الأمن1 لأهل سونا.س، وصلت مع الزيارة مجموعة من الصور إلى جميع المعتقلات. صرت آخذ الصور من الحقيبة لأوزعها على رفيقاتي. أستلم الصورة، أنظر إلى الخلف لأقرأ الاسم، ثم أنادي باسم صاحبتها لتقفز الأخيرة إلى كنزها، وتتلقفه بولع. وقت وقعت تلك الصورة بين يدي لم أعرف لمن: صورة طفلة صغيرة وجميلة، ولا يوجد اسم خلف الصورة. حينئذ صحت وأنا أرفعها:

ـ لمين هالصورة؟. صورة طفلة صغيرة.. لمين؟!
ـ إنها صورة ابنتك بثينة.. صورة راما.. ألم تعرفيها؟!!

صاحت إحدى الرفيقات اللواتي كن يعرفن ابنتي جيداً.
صعقت، ثم شعرت قلبي يتفتت ببطء وأنا أتأمل الصورة من بين دموعي. كان مؤلماً للغاية اكتشافي: الصورة لابنتي راما حقاً، العينان الناعمتان والضحكة الساحرة. وأنا لم أتعرف عليها؟!! كنت أسال نفسي هل هناك أم لا تعرف ابنتها؟! لم أستطع رؤية راما إلا بعد سنتين ونصف من اعتقالي حين سمحوا بأول زيارة لي. جاء أبي وأمي وأختي ومعهم صغيرة يحملونها. بحلقت بالصغيرة ولم أعرفها من جديد، كانت راما الطفلة التي كبرت!. أما ابنتي الكبرى: لانا فلم يحضروها إلى المعتقل البتة، كنت مصّرة ألا تتشوه ذاكرتها الغضة بمشهد اعتقالي في ذاك المكان المقيت، ولم أرها حتى خرجت في سنة 1990، وكانت لانا قد تجاوزت الثامنة من عمرها.

من الفرع كتبت بثينة رسالة إلى ابنتها(72):
(للوشة الحلوة: يا نور عيون ماما وبابا.. صورتك وإنت رايحة عالمدرسة بتجنن، وصورتك وإنت عم ترقصي بعرس خالتك بتاخد العقل.. هالمرة يا حلوة بدي صورة وإنت عم تكتبي الوظيفة.

كيفك يا ماما.. زعلانة منك كتير لأنك لسه نحيفة والظاهر إنك ما عم تشربي حليب وما عم تاكلي منيح. تأخرت عليك يا ماما بس ما بإيدي.. يلا ياحلوة اصبري رح إرجع لك إنت وراما أكيد أكيد(73).. انتظريني يا قمري رح ابعتلك مانطو كتير حلو إلك ولراما إن شاء الله يعجبك.. وتصوروا فيهم وابعثوا لي الصور.. وابعثي لي صوف لإعمل لك طقم حلو.. إنتي أشري لي عليه عالجورنال وأنا بعمل لك إياه.. شفت بالصور سنوناتك الجداد.. دخيل عيونك وسنانك وقلبك يا لانا. صرت صبية وأكيد قربت تصيري بطولي.. بكره يا ماما برجع وبفهمك كل شي. أهم شي يا حلوة ما تنسي أبداً أنو أنا وبابا غبنا عنك من شانك ومن شان راما وكل الأطفال الحلوين والشاطرين وأنو نحن بدنا نرجع بس ما عم يخلونّا.. إذا إجت تيتي لعندي (كلمات ممحوة) مشتاقتلك كتير ومشتاقه لراما.. كيفك إنت وياها يا صبية أكيد عم تعتني بأختك لأن إنت الكبيرة.

اكتبي لي رسالة يا ماما بخطك الحلو.. على فكرة، خطك حلو كتير وأكيد إنت شاطرة بالمدرسة.. بدي ياكي تطلعي الأولى هاه.. وبدي تبعتي لي الجلاء بس تاخديه.

لانا: لا تفكري أبداً يا ماما أن فينا نكون جنبك وما عم نرجع. كل شي عم يصير غصب عنّا وعنّك.. وبس إرجع بحكي لك كل شي بالتفصيل.

لانا: أنا لسّا عم غنيلك (عم تكبر الفرحة) وإنت لسه رفيقتي وأنا رفيقتك.. وهلق بغيابي لازم تيتي ونانا وجدو وجوجو.. يكونوا رفقاتك وتحكي لهم كل شي عم تفكري فيه.. مئة بوسة على خدودك وعيونك وعيون راما يا أحلى الحلوين).

ماما وبابا

بعد سنتين من الاعتقال جاءت زيارة لدلال.م (أم علي) ورجاء.م على الشبك: أي يفصل بين المعتقلة والزوار حاجزين من الشبك الحديدي، وبين الحاجزين مسافة يتمشى السجان فيها طيلة فترة الزيارة. عادة ما يغضّ السجان النظر ليدخل الأولاد ويروا أمهاتهم داخل الشبك. دقائق قليلة تتنشق فيها المعتقلة رائحة طفلها وقوداً لشهور قادمة، وربما استطاع طفلها أن يتمتع، لدقائق أيضاً، بضمّة أمه وحنانها على الرغم من حالة الرعب التي تزرعها فيه رهبة المعتقل وحواجز الشبك وصراخ السجانة.
هذا ما منّت دلال نفسها به وهي تخرج للزيارة محاولة ترتيب ثيابها على الدرجات القليلة الفاصلة بين القبو والطابق العلوي حيث ينتظرها أولادها.

حين خرجت إلى الشبك متلهفة لاهثة لم أرَ أحداً ينتظرني! كان أهل رجاء.م ينتظرون مقدمها من وراء الشبك. سألتهم:

ـ أين أولادي؟؟

أجابوني أنهم منعوا سلفي وسلفتي، وهما يعتنيان بصغيريّ بعد اعتقالي وأبيهم، من الدخول إلى الفرع، باعتبار أنهما لا يعدّان، حسب عرف السجن، من الأقارب! والزيارة ممنوعة إلا للأخوة والأولاد والأبوين.

فجأة وقبل أن أقفل عائدة إلى القبو نظرت خلفي لأرى طفليّ، مي التي لم تبلغ الرابعة وعلي الذي لم يبلغ السادسة، يدخلان وحيدين لزيارتي! كانت صدمة كبيرة لي أن يُترك صغيراي ليدخلا وحدهما إلى هذا الجحيم. الهلع يملأ وجهيهما الصغيرين، وهما يلتفتان يمنة ويسرة ويبحثان عني، فيما لا يواجههما إلا الشبك والسجانة وبكاء أهل رجاء.

ماذا أفعل؟ بالله ماذا أفعل؟

هل أتركهما وأهرب من هذا المشهد القاسي كي لا يروني؟ ماذا سأقول لهما؟

لم أستفق من الصدمة حتى كانت سلفتي قد دخلت عنوة وراء الولدين، في اللحظة ذاتها هدر صوت مدير السجن صارخاً ألا تدخل، وانتهت الزيارة بخروج الجميع.

إلى المهجع المظلم والخانق عدت.

كانت الدموع تشوّش الرؤية أمامي. رحت أشتم وأسبّ بصوت عالٍ لأني كنت سأموت اختناقاً إن لم أفعل. أشتم الجلادين القتلة السفلة والسجان يسوقني إلى المهجع، يحاول جاهداً أن يهدئني لئلا يسمع مدير السجن صراخي..

كان المفترض بالزيارات أن تكون أشبه بطاقة نورانية تفتح أمام السجينة سهلاً أخضر وعطراً وسط عفن أيامها، لكنها تحولت في هذا المكان إلى رحلة عذاب؟! رحلة عذاب حقيقية خاضتها مريم.ز(74) كذلك. كانت مريم قد اعتقلت في فرع الأمن1 ولم تكن ابنتها فداء قد بلغت الخمس سنوات من عمرها بعد. وفداء عاشت طيلة فترة اعتقال أمها في بيت جدتها لأمها(75)، ولم تستطع رؤية مريم إلا بعد ثلاثة أشهر من بدء الاعتقال حين سمح لها بالزيارة للمرة الأولى. في ذلك اليوم أتت أم مريم وأختها وأخوها مصطحبين فداء معهم. كانوا قد أفهموا الصغيرة أن الفرع مكان عمل أمها الجديد ليس إلا، وعليها أن ترى أمها لدقائق كي تعود الأم إلى عملها من جديد. الجميع كان مقتنعاً أن فداء صدقت ما قالوه! لكن إلى اليوم، وقد أضحت فداء أماً في الخامسة والعشرين من عمرها، وصورة تلك الزيارة محفورة في ذاكرتها، لا يخدش دقتها شيء على الرغم من مرور الأعوام:

عنصر الأمن على الباب.

الرائد يجلس إلى كرسي في وسطهم، يسكتهم عندما لا يعجبه الحديث، ويهز رأسه راضياً عندما يعجبه. ووجه أمها المتعب والشاحب وهي تضمه. الزيارة كانت في غرفة تغصّ بعناصر الأمن، يتربصون بكل نأمة تخرج من أفواه الزائرين وكل حركة تنمّ عن أحدهم. استمرت الزيارة نصف ساعة تقريباً، ظلّت فداء فيها منكمشة في حضن أمها دون أن تنبس بكلمة، تتحسّسها فحسب، تشتمّها، وتراقب ملامح وجهها وهي تكلّم الزائرين، وتطبع كل حين قبلة على وجه صغيرتها. حين أُمروا بالمغادرة نزلت الابنة عن حضن أمها مستسلمة، كانت تبكي بصمت وهي تمسك بيدها فيما دسّت الجدة مبلغاً من المال في يد ابنتها مريم قبل الوداع. فداء، التي كانت تلتقط كل ما يحدث كرادار، أخرجت مصروفها اليومي من جيب الجاكيت، ليرة واحدة كانت الجدة تهبها إياها كل صباح، ودفعتها بسرعة وتلهّف إلى أمها كما فعلت الجدة تماماً:

ـ ماما.. خذي هذه أيضاً حتى تشتري فيها.
...
لم يكن الأمر مختلفاً كثيراً في سجن النساء. كان هناك أيضاً العديد من الأمهات. لكن الأمر المختلف تمثّل في وجود بعض الأطفال والطفلات المعتقلات مع أمهاتهن في المعتقل!.

كان هناك الكثير من الأمهات الشيوعيات: أميرة.ح، فاديا.ش، سحر.ب، رنا.م، أم أكرم (زهرة.ك) وتالياً ضحى.ع. لكن الأمر كان أقسى بالنسبة إلى المعتقلات الإسلاميات! هناك صغيرة اسمها سمية ابنة سلوى.ح، إحدى المعتقلات الإسلاميات، صار عمرها سبع سنوات وهي في السجن مع أمها، وظلّت معتقلة حتى وقت الإفراج عن الإسلاميات من سجن النساء، وذلك في شهر كانون الأول 1989. ربما كانت تلك الجملة التي خطّتها سمية الصغيرة بيدها على جدران الزنزانة في فرع الأمن2 العسكري، حيث نقلوا الإسلاميات قبل وقت قليل من إطلاق سراحهن، ما تزال شاهدة:

أنا سمية من مواليد سجن... سكنت في سجون... و...

لم يكن ثمة أحد في الخارج تستطيع الأم (سلوى.ح) أن توكل إليه تربية الصغيرة، لذلك كان لابد من إبقائها معها في المعتقل.

جاءت نساء تلك العائلة إلى سجن النساء في1985، بعد أن قضين حوالي السنتين في السجن الصحراوي، أم حسان وحفيدتها وابنتاها: سلوى.ح(76) ويسرى.ح(77). النساء الأربع كنّ رهائن لزوجي الابنتين: محمد.ش زوج سلوى، وهو من الإسلاميين الذين هربوا إلى الأردن فيما بعد، وزوج يسرى الذي أعدم إثر محاكمات الإسلاميين.

عن الصغيرة سمية كتبت هبة.د في كتابها، عنونت الفصل بـ: ولادة أصغر المعتقلات:

(سيقت سلوى وأمها وأختها ومعهم ليلى إلى (...) وهناك في ذاك المكان المرعب، الذي كن يرين فيه مواكب المعتقلين تساق صباح كل يوم إلى الإعدام، حان موعد ولادة سلوى دون أن تكون لديهن أية وسيلة لذلك أو حتى أية ملابس للمولد القادم. لكن الله رحمهن بوجود قابلة معتقلة معهن اسمها رغداء س. متى جاء سلوى الطلق كتمن الخبر وصياحها معه خشية أن يكون ذلك سبب لعذاب جديد لها أو حتى لهن!! حتى إذا ولدت سمع أحد الحراس على السطح بكاء المولودة فسأل فأخبرنه، فجاء هذا الشاب الذي لم تمت فيه بقايا الإنسانية بعد، وأدلى لهن علبة صفيح فارغة وعود كبريت فأشعلن من ثيابهن فيها ما يكفي لتسخين ماء حمّموا به المولودة، وروت الأم بنفسها إنهن قصصن لها الحبل السري بقطعة تنك اقتطعنها من علبة الصفيح تلك!

غير أن المأساة لم تنته بعد، والخطر لم يبتعد عن هذه المولودة البريئة التي أسمتها الأم سمية.

وقد قامت إحدى المعتقلات بالإبلاغ عن العنصر فحضر مدير السجن المقدم فيصل غانم وجعل يسمعهن سيلاً من الشتائم والإهانات والتهديدات كعادته ثم أخرج عائدة ك ونزع عنها حجابها وجعل يدوسه بقدميه والشتائم لا تزال تتدفق من فمه المنتن.. فلما انتهى وهدأت نفسه أمر بمعاقبة المهجع كله ونقله إلى "السيلون" وهو عبارة عن قبو كبير رطب ومعتم لا منفس فيه مسكون بالعناكب والصراصير والحشرات وقتها كان عمر سمية عشرين يوماً فقط، وكان عليها أن تنتقل إلى السيلون مع بقية السجينات، فأصيبت المسكينة من حينها بربو مزمن لم تشف منه إلى الآن).

بالنسبة إلى أميرة.ح لم يكن الأمر مغايراً أيضاً. لكنها فكرت لهنيهات، وهي تلمح ابنتها سنا للمرة الأولى بعد ثلاث سنوات على غيابها: هل من الممكن أن تكون هذه ابنتي؟

لم تكن تلك الطفلة الواقفة في غرفة الزيارة، اللاهثة من اللهفة، تشبه صورتها أبداً: صورة صغيرة معلّقة فوق فرشة نوم أميرة على حائط المهجع العاري في سجن النساء. كنز استطاعت أختها سمر أن تهرّبه إلى الداخل بعد سنة من بدء الاعتقال، وذلك في زيارة لأهل حسيبة.ع وكانت معتقلة معها في سجن النساء.

لم تكن تشبه الصورة أبداً، فكرتُ من جديد.

صورة لفتاة لطيفة جعلتني أتذكر سنا ابنتي بشكلها الجميل والقديم. تلك الصورة عملت على هدم كل المسافات بيننا، على خلق شيء شبيه بالخرافات بين روحي وروحها، كنت أحسّها بين يدي وأنا نائمة وفي صحوي، تصاحبني في كل دقيقة من دقائق عيشي..
ما الذي حدث لها في غيابي؟.

كانت سنا قد بلغت السابعة بعد سنة من تخفيّ وسنتين من اعتقالي. طيلة فترة الزيارة، التي استمرت حوالي الساعة، وهي تجلس في حضن حرمت منه طيلة تلك الفترة. كنت أحتضنها بكلتا يدي وهي تتشبث بي بقوة، تدور بعينيها ذات اليمين والشمال. وجه يحمل خوف العالم كله، قلقه، شحوبه، وينوء بعشرات الأسئلة التي لا إجابات لها، أسئلة فوق طاقة طفل بعمرها، وأنا أغالب دموعاً كانت مصّرة بعناد على الهطول أمام صغيرتي وأهلي.

نهاية الزيارة عدت من جديد إلى المهجع. كنت أشعر بالاختناق، يد شبحية ثقيلة تطبق على رقبتي حتى تكاد تقطع تنفسي. لم أقدر على مداراة فجيعتي بطفلة ظلمت بلا رغبة أو قصد. فجيعة حقيقية.. لحظة دخولي المهجع لمحت رفيقتي تماضر وجهي المحتقن. كنت أحسّ بالنار تخرج من عينيّ، وجسدي أشحطه شحطاً كأني أنوء بأثقال فظيعة. رمت جملتها كقنبلة في وجهي.. جملة جعلتني أنفجر لساعات ببكاء طالما كبتّه:

ـ خرجك الله لا يردك.. التي تأتي بطفل إلى الحياة تبقى معه لتربيه لا لترميه هكذا..

على الرغم من قساوة الجملة إلا أنها كانت محقة! كان غيابي عن سنا شبحاً يطاردني منذ ذلك الوقت وحتى اللحظة، على الرغم من أني كنت، ولا زلت، مقتنعة ألا يد لي في كل ما حصل!

ربما كان صنع الهدايا للأحبة في الخارج، من المواد القليلة المتوافرة في المعتقل، طريقة تصعيدية للتعويض عن غيابهم، أو ربما طريقة لبث كل حبّ المعتقلة في قطع ستلمسها أيدي أحبابها، وبهذا سيشعرون بكل ما يرسله قلبها إليهم. هذا ما حدا بأميرة، كغيرها الكثير من المعتقلات، إلى صنع الهدايا لابنتها في الخارج. الوقت يمرّ كطيف خفيف مسرع في المعتقل، ساعات تنقضي وأميرة منكبة على حياكة فستان لسنا، أو تطريز شيء آخر لها. كل غرزة صوف مثقلة بالحب، بالشوق، وبألم الفقد. وبما أن المشاعر السلبية والإيجابية تتضخم جداً في المعتقل، فقد كانت أميرة تعمل 12 ساعة أحياناً دون أن تعي وهي تفكر بسنا، وبسنا فقط، وكيف ستستقبل صغيرتها هديتها هذه.

أول هدية بعثتها أميرة.ح لابنتها كانت جزداناً من الخرز، نقشت عليه اسم: سنا، إضافة إلى بطة صغيرة صنعتها جميلة.ب(78)، وفستان بسنارة واحدة حاكته هند.ق. أما وفاء.إ(79) فقد بعثت معها عصفوراً صغيراً مصنوعاً من الخرز الملون. كل تلك الهدايا أرسلت إلى سنا من سجن النساء مع سجينة قضائية جرى إطلاق سراحها في ذلك الوقت. حُمّلت بكل ما يمكن أن يخبئه قلب الأم ورفيقاتها لصغيرة وحيدة خارجاً.

لكن تلك الهدايا الثمينة لم تصل حتى اليوم!

في سجن النساء كتبت هند.ق قصة تدور في الفلك ذاته. أسمتها: وراء القضبان. كانت حادثة حقيقية جرت معها، عملت على تدوينها في دفتر صغير اشترته من الندوة في السجن. على ذلك الدفتر ستكتب هند، خلال سنوات سجنها الطويلة، الكثير من القصص:

(آه من الأطفال
آه من براءتهم، من صفائهم وشفافيتهم.
آه من وجوههم النضرة ونظرتهم الصادقة.. وقلبهم الأبيض..
آه.. وآه.. وألف آه.

اليوم جاءت أختي لزيارتي في السجن، جاءت كطائر حزين يحتضن صغاره تحت جناحيه. جاءت وكانت المفاجأة!

لأول مرة أشعر بالارتباك والعجز.. وأمام من؟؟ أمام طفل الثماني سنوات.

لأول مرة يعجز لساني عن النطق. تشربكت الأحرف، وتأتأ اللسان و.. و.. نعم.. طفل الثماني سنوات.. يقلب كياني، ويشلّ تفكيري (وأنا المناضلة وراء القضبان)!! بسؤاله الحزين البريء:

ـ خالتو ليش حطك الشرطي بالحبس؟

كان يسألني وحزن قاس على وجهه، ودموع تجول في عينيه، ونظرة حارقة مؤلمة لعيني. اختل توازني، كدت أتهاوى لولا التحامي بالقضبان الباردة. هرول الشرطي صارخاً بوجه البراءة الطفولية:

ـ عمو اسكت.. ويلا روح من هون.
لم يتحمل الطفل هذه الإهانة، وببراءة الطفولة أيضاً صرخ في وجه الشرطي:
ـ يا حمار ليش حابس خالتي بدي اخدها معي..
ومد يده الصغيرة ليشدّني من وراء القضبان. لكن يد الشرطي كانت الأسرع والأقوى والأوجع، ونتره خارجا مع أهلي، لتنتهي زيارتي وصدى سؤاله:
ـ خالتو ليش محبوسه؟
بلا جواب...)

1988
أنجبت رنا.م(80)، في 7 تشرين الأول 1988 في سجن النساء، ابنتها الأولى: ماريا. أتى المخاض رنا أول الليل بعد أن أغلقوا أبواب المهاجع. بدأ كعادة أي طلق بمغصات متباعدة وبألم محمول، لكن "مية الراس" راحت تسيل منذ أول المخاض. صارت المعتقلات يضربن على الأبواب محاولات إيصال أصواتهن إلى السجانات البعيدات، لكن أحداً لم يستجب. مع مرور الوقت راح الطلق يشتد، ورنا مريمة على الفرشة في أقصى المهجع. السائل الأمنوسي يسيل باستمرار، وصرخات الألم تزداد تواتراً وقوة مع مرور الليل. لكن أحداً لم يرد على صيحات الاستغاثة.

الساعات تمرّ، والصرخات العديدة، المطالبة بإسعاف رنا، تتصاعد وتقوى من وراء أبواب المهاجع المغلقة. لم يعرهن أحد اهتماماً حتى راحت الصيحات تتصاعد من مهاجع القضائيات(81) المجاورة مطالبات بإسعاف رنا. حين راحت المهاجع كلها تطالب بحضور الإسعاف وفي الساعة الثالثة والنصف فجراً دخلت سجانة هزيلة، لم تستطيع تحمّل كل هذا الصياح المستنجد، إلى مهجع السياسيات حيث كانت رنا.م توشك على الولادة. أخذتها وحدها إلى المستشفى، وقد راح وضعها يغدو مقلقاً لرفيقاتها، ومرعباً للسجينات البعيدات. غابت رنا الساعات الباقية من الليل، فيما المعتقلات ينتظرنها في وضع لا يحسدن عليه. في الصباح عادت وهي تحمل صغيرة على يديها لتنطلق الزغاريد في كل المهاجع وفي الباحة المليئة بأكثر من 200 سجينة قضائية وسياسية. مجيء تلك الصغيرة غدا عرساً حقيقياً في سجن النساء.

أتت الطفلة ماريا كشعاع مشرق اقتحم سجن النساء. وقد استطاعت، خلال أيام، أن تخرج كل ذلك القهر المتراكم من دواخل المعتقلات، حتى أن القضائيات احتفلن على طريقتهن الخاصة بمجيء صغيرة جديدة، أتت بعينين مفتوحتين على سعتهما كأنهما تحاولان اجتياف كل ما يحيط بها من غموض. أعطيت زاوية مهجع السياسيات لرنا ورضيعتها على فرشتين متلاصقتين، وبقيتا في تلك الزاوية طيلة الوقت الذي قضته ماريا الصغيرة مع أمها في المعتقل، أي ما يقرب من 11 شهراً. شهور حاولت فيها كل معتقلة أن تردم قليلاً من فراغ راح يكبر كلما مضى الزمن وهي بعيدة عن أطفالها. كل معتقلة في المهجع صارت أماً لماريا. بهذه المناسبة كُتبت افتتاحية مجلة: (الجرح المكابر)(82) إثر الولادة:

(لك هذه الورود يا ماريا:
ماذا يمكننا أن نقول؟!

أنقول غمرتنا زقزقة العصافير، رائحة الياسمين، أسراب السنون التي تبشر بالربيع، فسحة سماء تطل منها شمس المستقبل؟.
أم نقول، لقد طالنا الحقد الأعمى، الأيدي السوداء التي لا تفرق بين الطفل وحجر الصوان. غمرنا شعور بالقهر والتحدي، شعور بالحزن والمرارة. كل ذلك مجتمعاً قد حصل، جمعت كل تلك المعاني في لحظة من الزمن واحدة... شكراً.. شكراً لك يا ماريا على لحظات فرح ومشاعر حب لبذرة نتجمع حولها، نسقيها ونرعاها، نعلمها ونتعلم منها. لنقل لها: آه يا ماريا كم تحتاجين، وكم نحتاج، وكم يحتاج المستقبل كي يزهر إلى الحرية.
.. الحرية حلم ومناخ وصليب نحمله على ظهرنا ونمضي).

سجن النساء 1988

لكن السجن لم يكن بحال مناسباً لتربية صغيرة. صارت الأمراض تتوالى على ماريا. تأمين احتياجاتها غدا أصعب فأصعب، لذلك كان لا بد من انفصالها عن أمها الحقيقية وأمهاتها الأخريات. خرجت ماريا من المعتقل تاركة المهجع أكثر فراغاً مما كان قبل ولادتها، لتبقى أمها وحدها حوالي سنتين ونصف في سجن النساء قبل أن يطلق سراحها.

 1993
لأول مرة ترى ضحى.ع جنينها على الإيكو.
في الشهر الثامن لحملها، الخامس لاعتقالها، جاءت أول زيارة إلى المعتقلات في سجن النساء. كن وقتئذ أربع معتقلات شيوعيات:
تهامة.م(83) وخديجة.د وفدوى.م(84) إضافة إلى ضحى، ومعتقلة واحدة من حزب العمال الكردستاني، وأم بسام العدل.

الزيارة جاءت لتهامة.م. كانت سعادة ما بعدها سعادة، ركضت ضحى لهفة لترى أهل تهامة على الشبك فوقعت قبل أن تصل، وبدأ النزيف على الفور. ليومين كاملين استمر النزيف دون توقف، ثم راحت ضحى تشعر أن جنينها توقف عن الحركة في بطنها. بعد يومين جاءت طبيبة من مشفى سجن النساء، وحالما كشفت عليها حوّلتها على الفور إلى المستشفى.

للمرة الأولى ترى الجنين على الإيكو.. كانت تلك السعادة، وهي ترى أرجلاً وأيدٍ صغيرة تتحرك على الشاشة، كفيلة بجعلها تنسى السجن والسجانة وكل ما مرّ معها من آلام طيلة الأشهر السابقة.

جاءني الطلق في سجن النساء، بشكل مفاجئ وفي يوم جمعة، وقد صادف دوري في الطبخ للمهجع كله(85). بدأ الطلق منذ الصباح واستمر طيلة النهار. كنت ملقاة على الفرشة أتلوى، والسائل المحيط بالجنين ينزّ مني ولا من مجيب. كنت أحسّ بصراخ الصبايا وهن يواصلن الطلبات لإسعافي إلى المستشفى. إدارة السجن المدني لا تستطيع نقلي إلا بموافقة الفرع، والفرع في يوم العطلة لا يجيب على البرقيات المتلاحقة يبعثها السجن.. لا جواب البتة. كنت أتمزق بين الطلقة والأخرى وقد راحت تتقارب حتى لم يعد يفصل بينها دقائق، مما حدا بالمعتقلات في المهجع للضرب على الباب بشكل هيستيري. كن يصرخن ويصرخن، لأني على ما يبدو كنت قد تعبت كثيراً. بعد مدة سمعت إجابة السجانة من وراء الباب وكأنه صوت من عالم آخر:

ـ لا نستطيع إخراجها على مسؤوليتنا حتى الساعة السادسة صباحاً.
ـ حتى السادسة.. تكون قد ماتت.. الرحم لا يفتح.

صرخت إحداهن.

جوابها جعلني أدخل في دوامة رعب مرافقة لألمي. نهاية، راحت المعتقلات يبكين، الوضع بدا ميئوساً منه وما من حل.. حين جاء رد الفرع. كانت السوائل المحيطة بالجنين قد ذهبت كلها، وبدأ الجنين يضغط على ظهري، على فقرات ظهري السفلية بالضبط، دون أن يستطيع الخروج. الأمر جعلني لا أستطيع الحركة بعد ولادتي لمدة 40 يوماً. نقلت إلى المستشفى أخيراً، وأنا أحس بأني بين الموت والحياة بعد أن استمر الطلق طيلة النهار.

بعد ساعتين لا غير عدت.

لم أكن أحمل فرحة أم جديدة، فصغيرتي ديانا نحيلة للغاية، وثمة تشوه واضح في قدميها. كنت أشعر بأني أحمل ثمرة ظلمي لهذه الصغيرة، وأفكر، وأنا أفلش قماطها، أن هذا التشوه ربما كان من نقص الكلس وفقر الدم الشديد الذي عانيت منه طيلة أشهر الاعتقال، أو ربما من الجلوس الخاطئ أثناء الحمل وأنا أحاول إخفاء حقيقة حملي عن السجانة وإدارة السجن.

كانت صغيرتي المسكينة تغرز في قلبي عشرات السكاكين كلما أمعنت فيها أكثر. منهكة للغاية كنت، أشعر بالذنب يكبلني.. ما ذنب هذا المخلوق الصغير.. ما ذنبه!!

حالما دخلت ضحى من باب السجن إلى الباحة بدأت البنات يزغردن ويبكين، السياسيات والقضائيات على السواء، ويومئذ قمن بتنظيف باحة السجن: حوش البيت العربي قديماً، وطالبن بتمديد فترة إغلاق أبواب المهاجع، من الساعة الثامنة ليلاً إلى الحادية عشرة، كي يستمتعن أطول بالضيفة الجديدة القادمة. كانت الأم تخشى أن تحمل الصغيرة لذا فقد استلمتها رفيقاتها عنها، ثم رحن يحضرنها كي ترضعها فحسب، ويعدن إلى أخذها من جديد، وضحى ما تزال طريحة الفراش. الوجه المؤلم والحزين للأمومة هو كل ما رأته ضحى في تجربة ولادتها الأولى والأخيرة. لم تستطع أن تفرح بتلك القادمة إلى هذا الوجود المرير، كان القلق والتوتر يحاصرانها وليس فرح الولادة الجديدة. بعد لأي سمحوا لابراهيم، زوج ضحى، بزيارتها ورؤية طفلته، ولكن عبر طاقة في الباب: توضع كرسي لضحى من هذا الجانب وكرسي لزوجها من الجانب الآخر.

إبراهيم كان سعيداً للغاية على الرغم من كل حصل، فرحاً ومستبشراً، وضحى منهكة وخائفة على الصغيرة التي كان يجب أن تؤخذ إلى المستشفى على الفور.

ـ لازم تطلبي أخذها إلى مستشفى الأطفال فوراً.. وضع ابنتك غير جيد.. لازم تعرضيها على طبيب عظمية.

كان كلام طبيب السجن، بعد أن كشف على الصغيرة، حاسماً ومقلقاً للغاية. لذلك فقد ظل إبراهيم، لأكثر من أسبوع، يأتي بديانا كل عدة ساعات إلى السجن لأرضعها، ومن ثم يعود بها إلى المستشفى. تماثلت الصغيرة للشفاء، ولكن قدميها ظلتا كما هما.. وحين غدا عمر الصغيرة ثلاثة أشهر قُطعت زيارة والدها.

تلك القابلة السجينة، والمتهمة بالقتل، كانت خير معين لي. تهتم بالصغيرة وتحممها، إضافة إلى مساعدة الرفيقات في المهجع، الألكن الوضع في السجن لم يكن مناسباً لتظل ديانا فيه. كان هناك حوالي اثنين وثلاثين طفلاً في السجن مع أمهاتهم. في الصيف خصوصاً يسود ضجيج وشجار وسيول من الشتائم المقذعة. لذلك فقد ظلت ديانا معي في المعتقل سنة وشهرين قبل أن تغادره، ثم صارت تزورني مرة كل 15 يوماً..

كان قراراً صعباً أن أبعث بابنتي إلى الخارج، لأن الفراغ والحزن تمكنا مني الآن تماماً بعد رحيل الصغيرة. كانت صغيرتي تملأ فراغ السجن ووحشته، منذ لحظة اعتقالي وهي في أحشائي تؤنسني وحتى ساعة ذهابها، ساعدتني على احتمال جحيم المعتقل وهي في بطني أو على يدي. بخروج ديانا فقط أحسست بأن السجن قد بدأ.. بدأ بشراسة.

تولى والد ديانا في الخارج تربيتها حتى إطلاق سراح أمها في سنة 1998، وخضعت للعلاج الفيزيائي طويلاً حتى تماثلت تقريباً للشفاء.

* * *

كثافة الزمن المتلاشية:
عالم التفاصيل الصغيرة

الزمن هو الجلاد الأول في المعتقل أو لنقل العدو الأكبر!

حين يعود بلا أية كثافة، يتبدل ويتحوّر ليغدو فكرة مهيمنة، ليغدو كل شيء ولا شيء في وقت واحد، كأنه هيولى تغلّف الأرواح والأجساد، فيرزح المعتقل/ المعتقلة في قلبها دون أن يمايز التفاصيل. الزمن بماهيته هو الزمن المتبدل، المتطور، وربما المتأخر، بمعنى إنه الزمن: الديناميكي. في المعتقل يغدو الزمن ستاتيكياً. فالمعتقل/ المعتقلة يكون خارج الزمن بالمعنى الديناميكي فيما هو في ستاتيكيا دائمة. على الرغم من ذلك علي بدفع أتاوات الزمن باعتبار أن السنوات تمرّ على روحي وجسدي ودماغي كما تمر على أي إنسانة في داخل الزمن/ خارج المعتقل.

اعترضت أميرة. ح على الحديث الدائر بين الصبايا. كن يختلفن حول ماهية الزمن في المعتقل. ذاك الخلاف الأبدي الذي ظل دائراً بين معظم المعتقلين.

ـ الأمر يختلف بين معتقلة ومعتقل فسنوات الزمن كانت أقل وطأة علينا منها على المعتقلين، وذلك لاعتبارات مختلفة منها أن سنوات سجن المعتقلين، بكافة الأطياف الإيديولوجية، كانت أكثر عدداً، ولأننا عموماً سجنا إما في فروع الأمن، لسنوات أقصاها خمس، أو في السجون المدنية مع المتهمات بجرائم جنائية! وتلك السجون كانت بشكل من الأشكال مجرد فسحة مصغّرة عن العالم السفلي خارجاً. بعض المعتقلات كن يرين أن عليهن إمضاء السجن فحسب، لأن علاقتهن مع سجنهن مجرد علاقة تعداد لا غير وليست علاقة تعايش البتة. تلك المعتقلة رفضت التعايش مع أمر، أو مكان، أجبرت على التواجد فيه، وسفحت جزءاً من عمرها بين تفاصيله التافهة. بالتالي كان مجرد التعايش معه، أو اعتبار أن زمنه هو فسحة لإعادة تدوين حياتها الخاصة، أو مجرد محاولاتها لتطويع ستاتيكية زمن اعتقالها هو قبول لما فرضه الطغاة عليها. ربما كانت تلك العلاقة السلبية مع الزمن مجرد وسيلة للاحتجاج.. وربما لا. تكتشف المعتقلة بعد مضي سنوات السجن، الثقيلة والبطيئة كسلحفاة عجوز، أنها كانت تمشي على روحها حتى أبلتها.

بعضهن رأين الزمن مختلفاً!

بدا الأمر كأنها في حلبة للمصارعة، لكن الخصم وحش ليس إلا، وأحدهما سيقتل الآخر، فإما ستعمل المعتقلة على هزم الزمن أو على العكس، سيعمل الزمن على هزمها شر هزيمة. وقد اختفلت أشكال الهزيمة تلك من معتقلة إلى أخرى. لكن في كل الحالات الزمن في المعتقل: إنه المطلق.

ثم ندخل دوامة التفاصيل اليومية، تفاصيل صغيرة تغدو فيها نقطة الشامبو ونقطة معجون الأسنان لكل معتقلة أهم من وجودها نفسه. المسألة مؤذية حين تكون المواد قليلة للغاية. والخلافات الصغيرة تسمم جوّ المعتقل، خلافات على كل شيء: على فصل الثياب الداخلية، التي كانت مشتركة، ثم فصل الثياب الخارجية، على حصص الطعام... خلافات على كل تفصيل حياتي صغير. السجن لم يكن بحال من الأحوال تربة جيدة لإنضاج علاقات سوية بين المعتقلات. معظمهن كن شابات، في العشرينيات أو الثلاثينيات، لا يعرفن متى سيطلق سراحهن، ولا إذا كان قطار الزواج سيفوتهن وهن معتقلات. الحصار الاجتماعي خارجاً يكبلهنّ، خوفهن على أهاليهن وأطفالهن وتوجسهنّ من رأي المجتمع، لأنهن في النهاية نساء، نساء في مجتمع بطريركي مكرّس. إحساس بالذنب والتشتت.

الزمن في المعتقل: الحافة الأمضى التي تنكسر عندها الأحلام، لتغدو المباراة في النهاية من تنقذ أحلامها، وتمضي أبعد من سيف الزمن المسلّط فوقها في كل حركة.

1987-1990
بارد قاتل وثقيل كان الزمن في فرع الأمن1. الأمر المختلف عن سجن النساء حيث هناك مجالات متعددة لتمضية الوقت. في فرع الأمن1 لا بد من اختراع شيء ما للتسلية غير الكلام. ذلك أن البقاء دون أية فاعلية شبيه بالموت، بل هو أكثر مضاء من الموت لأنه ينوجد في كل ثانية من الفراغ. وبما أن الحياة كانت ممنوعة هناك، وعلى المعتقلة أن توقف وجودها كإنسانة لأنها فقط معتقلة في الفرع، فقد كان لابد من التحايل على ذاك الزمن والمكان والجلاد. أول الأشياء التي قامت المعتقلات بصنعها هي أحجار شطرنج، من عجين الخبز المبلل بالماء، جففوها لتغدو قاسية، ومن ثم لوّنوها بصبغات الأدوية القليلة التي قد تدخل الزنازين في حالات المرض الشديد. قمن بعد ذلك بتطريز رقعة الشطرنج من خيوط البطانيات العسكرية. أما الإبرة فقد استعرنها من أحد السجانين المتعاونين.

قمن بعمل موقدة من العجين كذلك. خاصة أن فترة طويلة مرّت وإدارة السجن تقدم لهنّ خبز الجيش السميك. كن يأخذن لبّه، يعجنّه مع الماء حتى يغدو عجينة طيّعة بين أيدهنّ. من تلك العجينة شكّلن جرناً صغيراً، وضعن فيه زيت المازولا، الذي يشترونه من إدارة السجن، ثم فتحن المحارم النسائية ليستخرجن قطنها ويٍشعلنه في الجرن، ثم يعدن طبخ الطعام الذي يأتيهن.. كان ذلك كفيلاً بتحسين الأكل قليلاً.

يأتي الشتاء لتزداد أوضاع الزنازين سوءاً. المياه الباردة، صيفاً شتاءً، تزداد برودتها حتى تغدو كسكاكين تخزّ الأجساد، وتتحول فوهات التهوية، التي تضخ الأوكسجين المفقود في زنازين تحت الأرض، فوهات للحياة والموت على حدّ سواء. فالهواء البارد الذي تأتي به كفيل بتجميد الأجساد المتراكمة دون أية تدفئة. لذلك كانت المعتقلات يفضلن أحياناً أن يغطين الفوهات بالبطانيات أو بالثياب حتى لو اختنقن.. البرد كان جهنمياً. أما الإنارة فكانت من ضوء في أعلى السقيفة يطلّ شاحباً إلى المزدوجة السفلى من خلال الشبك في سقفها المفتوح بدوره على السقيفة.

في أول الشتاء الثاني على الاعتقال صار عدد الصبايا الشيوعيات 14 معتقلة في المزدوجات، وقد انضمت إليهن سناء.ح وسامية.ح(86)، إضافة إلى عدد من الكتائبيات والعرفاتيات المتبدلات ومعتقلات بعث العراق، فيما أخذت بقية المعتقلات الشيوعيات إلى سجن النساء، وقبلهن كل المعتقلات الإسلاميات. في ذلك الشتاء أتت تلك الهدية كأنها قادمة من حلم بعيد! هدية من أثمن الهدايا التي تلقتها معتقلات الفرع. كان المهجع المجاور لهن مهجع الشباب العرفاتية، يشترك المهجع والمزدوجات ببالوعة للصرف الصحي تصل بين الحمامين في الفراغين. في ذاك المساء استطاع العرفاتيون، عبر الدق بالشيفرات على الحائط المشترك، أن يخبروا البنات إنهم بعثوا لهن بشيء عبر البالوعة.

كانت الهدية ملفوفةً بكيس من النايلون وهي عبارة عن آلة اخترعها الشباب لتسخين المياه: علبة طون فارغة مقصوصة كصفيحتي معدن وفيها قطعتا بورسلان ووشيعة بينهما. ما كان على المعتقلات إلا وصل الوشيعة إلى أسلاك الضوء العارية في سقف السقيفة فوق المزدوجات، ثم وضع الآلة في الماء لتسخنه على الفور. إنها المرة الأولى، بعد أكثر من سنة وثلاثة أشهر، تستحم فيها البنات بمياه دافئة، المرة الأولى التي يشربن القهوة فيها ساخنة وليست باردة في كاسات الستانلس. جلسن متحلقات حول ركوة القهوة، رائحتها الزكية وهبلتها تتصاعد في الزنزانة، ثم رحن يغنين وهن يتمتعن بمذاقها الساحر:

دارت القهوة وعنين بدها تدور..
دارت عليّ وفنجاني مكسور.

فيما بعد راح الشباب العرفاتية يبعثون، عبر الممر السريّ/ البالوعة، هدايا متعددة ملفوفة بأكياس النايلون، يدفشونها بالنبريج، ويسكبون الماء إثرها لتصل إلى المزدوجات المجاورة: قطع ملبّس عبر البالوعة، قطع حلوى أيضاً، والكثير الكثير من معلبات الأغذية المحفوظة.

تحت وطأة الزمن البطيء البطيء، يشمت في كل لحظة منهن، صار الإضراب عن الطعام وسيلة لا بد منها، ذلك أن عبئه الثقيل قد يغدو أكثر خفة مع وجود وسيلة للتواصل مع الخارج. كن يعتقدن أن الإضراب قد يؤثر على إدارة السجن، وتقتنع بإدخال الجرائد أو المجلات التي كانت ممنوعة منذ أكثر من سنتين ونصف. بدأ الإضراب الأول، وكان إضراباً تحذيرياً، استمر ليومين ثم انتهى. أما الإضراب الثاني، بعده بأيام، فقد كان مفتوحاً. اتفقت المعتقلات ألا يكسرن الإضراب حتى تلبّى مطالبهن، أي يضحي الطعام أفضل، المعاملة أفضل، وتُدخل إليهن الجرائد والمجلات والكتب. إثر إعلان ذلك الإضراب نزل مدير السجن إلى المزدوجات، دخل كوحش إلى النساء هناك، ثم بدأ يضربهن بالكرباج كالمجنون ذات اليمين وذات الشمال، وحين لم يروِ الكرباج غليله راح يصفعهن بيديه، يركلهن بقدميه، يصرخ وملامح الانتشاء والنصر على وجهه. في نهاية حفلة الضرب أمسك بإحدى المعتقلات، وهي هند.أ(87)، وكان شعرها طويلاً مسترسلاً وأسود، لفّه على ساعده، وصاح بالسجان الذي يلوذ خلفه ليأتي بآلة جزّ الشعر. تردد السجان، ويداه ترتجفان، وهو يقترب بالآلة من شعر هند التي كانت تتكسر ملتوية تحت ساعده. وحين وضعها أخيراً على شعرها وهمّ بالجز صرخت الفتاة متوسلة.. وتوقف الإضراب.

بعد الإضرابين سمحت إدارة السجن بإدخال مجلة العربي فحسب، وظلت المطبوعة الوحيدة التي تدخل الفرع حتى نهاية الاعتقال. مع أن تلك المجلة أعانت المعتقلات، في الأشهر الباقية من الاعتقال، على تحمّل الزمن البليد إلا إنّ كثيرات منهن لا يستطعن حتى اليوم رؤية مجلة العربي: شكلها شبيه بشكل العفن المتراكم على أرواحهن طيلة سنوات السجن الطويلة الممضّة، ورائحتها تشبه رائحة الأقبية المظلمة هناك في فرع الأمن1.

من المهجع المجاور لمزدوجات المعتقلات، وهو ذاته مهجع الشباب العرفاتية، رُمي ذات ليلة جهاز راديو. كانت الساعة الثانية فجراً، والشباك الضيّق، فوق الباب الحديدي للمزدوجات، يحمل إلى صمت الزنزانة راديو صغيراً وأحمر. ثلاث سنوات انقضت لم تسمع واحدة منهن سوى صوتها، أصوات رفيقاتها وربما غناءهن، صراخ السجانة، وإغلاق الأبواب الحديدية المدوّي. هذه هي الذاكرة الصوتية المتشكلة طيلة تلك الفترة! حين رمي الراديو في ذاك الفجر التقطته لينا.و ذاهلة. بدا الراديو كأنه أعطية بعثت فجأة من الفردوس! وبما أن جميعهن كن نائمات فقد راحت لينا تقلّب موجات الراديو وحدها. لم تصلها إلا وشّات متصاعدة على طول المحطات المغلقة في الساعة الثانية فجراً.

عند الساعة السادسة صباحاً، بعد سهرة طويلة بانتظار مجيء الصباح، بدأ الراديو يبثّ شيئاً ما، صوت منخفض لن يستطيع السجانة أن يسمعوه مهما كانوا قريبين. بدأت محطة ما ببث تلاوة قرآنية جميلة بصوت عبد الباسط عبد الصمد، ثم تهادى صوت ساحر كصوت الملائكة في فراغ وصمت المزدوجات. كان صوت فيروز. صوت ملائكي ممتزج بصمت مقيم يناسب صداها المشعشع:

إنت وأنا يا ما نبقى
نوقف على حدود السهل

ثلاث سنوات مرت دون صوت فيروز! يا إلهي كم كانت الحياة فقيرة! حملت لينا الراديو، وصارت تدور على المعتقلات وهنّ نائمات، تضع الراديو على أذن كل واحدة فتهبّ الأخيرة من نومها دهشة كأنها استيقظت في الجنة.

وعلى خط السما الزرقا
مرسومي طريق النحل

هكذا أيقظتهن معتقلة معتقلة على هديل فيروز الصباحي. وضعن الراديو على الأرض، في منتصف الزنزانة، بصوته الواطئ إياه، واجتمعت رؤوسهن حوله وهن منبطحات على الأرض ملصقات آذانهن إليه! كان يوماً لا ينسى في تلك المزدوجات! وضع الصبايا في فرع الأمن1 كان شبيهاً بما قالته مليكة أوفقير، وهي عاشت مع عائلتها عشرين سنة في سجون ملك المغرب الحسن الثاني، وذلك في روايتها: السجينة. تقول مليكة أن فترات النهار كانت طويلة جداً لا نهاية لها. أما عدوهم الرئيسي فكان الوقت: نراه، ونحسّ به، نقاسي منه متوحشاً، مهدداً... أما الآن فنقضي يومنا بالتسلية المملة. متابعة سير الصراصير من ثقب لآخر. النوم قليلاً. تصفية الذهن. تبدل لون السماء، والنهار في طريقه إلى النهاية. ما تحكيه مليكة عن الوقت يجعل الأمر يبدو متماثلاً في كل السجون! ويجعل حياة السجين/ السجينة مجرد صراع مع الشيطان الأكبر: الزمن!

ع البطاطا البطاطا.. يا عيني ع البطاطا..

أهزوجة رائعة تنغّمها الصبايا حين يكون العشاء بطاطا. وعلى لحن أغنية صباح الشهيرة: ع البساطة البساطة تقضي معتقلات فرع الأمن1 الليل وهن يغنين، فقد ضمنّ، بأكل البطاطا، الشبع الذي يفتقدنه بشكل دائم في حال كان العشاء قصعة شوربا مع البحص مثلاً.

اللحم كان يستحق احتفالاً خاصاً بقدومه حين يقدّم إليهن لمرة واحدة في الأسبوع وبكميات قليلة للغاية، فيما الفطور عبارة عن بيضة مسلوقة فحسب للمعتقلة، أو ملعقة لبنة محمّضة، أو ملعقة مربى مع عشر زيتونات بالعدد. أما الزعتر فقد كنّ يأكلنه مع الماء ليقتصدن بالزيت المشترى. فيما بعد، أي بعد الاعتقال بسنوات، سُمح بإدخال الطعام مع الزيارات. حينها كنّ يحاولن حفظ الطعام، خاصة في الصيف، بوضعه في قصعة معدنية، وغمره بالماء البارد طيلة الوقت. مع ذلك كن يضطررن أحياناً إلى تناوله وهو نصف فاسد! ربما كان الانشغال بكل تلك التفاصيل الطعامية وسيلة أيضاً لتمضية ذلك الزمن الثقيل.
كل ما حدث في المزدوجات، على مدار الزمن الذي اعتقلت فيه لينا.و، حدا بها أن تكتب أكثر من رسالة(88).

تقول في إحدها:

(ظروف سجننا قاسية جداً، حيث لا كتب فقد عادوا ومنعوها.. لا جرائد ـ والتنفس حسب مزاج مدير السجن ـ قد يكون أسبوعياً أو شهرياً. لا ولا.. ولا... لا شيء سوى الفراغ يملأ حياتنا من جدراننا الموحشة التي يغطيها الغسيل المنشور إلى قلوبنا التي أيبسها الانتظار.

(الكلام الباقي ممحو بسبب الرطوبة)

وفي رسالة ثانية تقول:
(أحبتي الغوالي: (...) عدة أجساد نائمة تعانق حلماً بعيداً، تحضن في عيونها النائمة صور الأحبة والحياة والجمال. البعض يقرأ، إحداهن تحتضن صور أطفالها، تعانقهم في الصور وتحادثهم، والبعض يطبخ (رز جديد مع إصلاح فاصولياء حب جاؤوا به بالسجن) وصاحبة زيارة اليوم تتحدث بحرارة عن تفاصيل زيارتها "رجاء" زوجها وطفلتها. وأنا ضمن هذه الصورة بأكملها أحدثكم. انتقلنا إلى بيتنا الجديد. بيتنا الآن مختلف ـ غرفة واسعة (5*4)م فيها حمام واثنتا عشرة فتاة من نفس التهمة. هذا مسكننا الجديد ـ ننتظر الراديو والمسجلة وقد أصبح لدينا تلفزيون أعارنا إياه العميد. (...) لدينا كتب.. قرأت مثلاً "وليمة لأعشاب البحر"حيدر حيدر و"مدن الملح" عبد الرحمن منيف والعديد من الروايات، هذا غيّر كثيراً من ضعفنا النفسي، أصبحت حياتنا أفضل بما لا يقاس مما كانت. صحيح إن شوقنا للحياة كبير- لكم- ولأطفالنا لكن ظروفنا الجديدة تساعدنا على تحمل السجن أكثر...).

بعد لأي استطاع والد حميدة.ت أن يزورها في فرع الأمن1. لم تتوقع حميدة أية زيارة من أهلها، لأنها تعرف أحوالهم المادية السيئة للغاية، وتعرف أنه لا بد من وساطات ودفع أموال كي يستطيع الأهالي رؤية بناتهن المرميات في الفرع منذ شهور. كان والدها قد ذهب إلى المدينة الساحلية الصغيرة، حيث يقطن الشخص الذي سيؤمّن له الواسطة، وهناك أنهى كل الأعمال المتعلقة بالتمديدات الصحية في بيت الأخير، وبعد عشر ساعات من العمل المتواصل أعطاه الرجل ورقة السماح بالزيارة. من هناك اتجه إلى العاصمة على الفور لينتظر أسبوعاً كاملاً قبل أن يستطيع زيارة ابنته حميدة.

طق قفل الباب الحديدي يوم الجمعة ثلاث طقات، هذا يعني زيارة لإحدى المعتقلات. وقف السجان بالباب وصاح: حميدة.ت. حين سمعت اسمي لم أتوقع أية زيارة، ربما كان مجرد سؤال وجواب لا غير، لكني استجبت لرغبة الصبايا في أن ألبس لباس الزيارة الذي ترتديه كل معتقلة في زيارتها. كان أجمل لباس لدينا: بلوزة قطنية خضراء وبنطال من جينز بلون أزرق حائل.

لبست الزي غير مقتنعة وخرجت وراء السجان.

وقت لمحت والدي، من شباك غرفة المدير المطلة على الكوريدور، دفشت السجان وركضت لأرتمي في حضنه. يا الله كم كنت مشتاقة له! مشتاقة.. مشتاقة. كان والدي متعباً وبدا أكثر شيخوخة مما هو عليه. يا إلهي كم غيّرته تلك الشهور الماضية! كان وجهه قاتماً ومليئاً بالتجاعيد! أول سؤال سأله وهو يحتضنني بين ذراعيه:

ـ هل اقترب منك أحدهم؟
ـ لا يابا.. ما حدا قرّب.

تنفس الكهل الصعداء كأنه ينتظر هذا الجواب منذ شهور.. وتهاوى على كرسيه. كان والدي يعرف أني أعاني منذ مراهقتي من مشكلة مع شعري. كان مجعداً للغاية، ويصعب عليّ دائماً تسريحه. في الخارج كان قد جلب لي جهازاً لتمليس الشعر، أما في الفرع كان قد غدا مشعثاً للغاية ومزعجاً. ابتسم وهو يرمقه:

ـ جلبت لك مسبلاً للشعر يابا.

وقدّم لي حقيبة الأغراض مبتسماً. كانت حقيبة متخمة فتّشها السجانة كما لم يفتشوا حقيبة من قبل. الحقيبة/ الهدية كانت مليئة بباكيتات الدخان، بالثياب، وبكنزات الصوف التي حاكتها والدتي، و500 ليرة دسّها والدي في يدي آخر الزيارة التي استمرت عشر دقائق لا غير. في المهجع اكتشفت، حين فلشت الحقيبة مع الصبايا، أن مسبّل الشعر الذي جلبه والدي ما هو إلا بلسم "دياميم" لتسريح الشعر بعد الحمام.

آه يابا.. كم كانت زيارتك سبباً لتوليد ألم مضاعف في داخلي، ألم الحنين والحب والفراق.. آه يابا.
...
ربما كانت العزلة، التي يفرضها السجن علينا، تجبرنا على التركيز في عيش هذه التجربة، وعلى التوحّد فيها حدّ التماهي! هذه هي المفارقة! تتغير في السجن المفاهيم التي كنّا نعيش عليها من قبل، مفهوم الزمان والمكان مثلاً، والكثير من المفاهيم الأخرى شخصية كانت أم عامة. ما كنا نجده طبيعياً في الخارج يتغير فجأة هنا! ما كنا نجده مستحيلاً يصبح ممكناً، بل ممكناً جداً! هذا الأمر جعل كتاباً صغيراً، كديوان رياض الصالح الحسين (وعلٌ في الغابة)، يفتح أبواب الحنين على مصراعيها، ويمارس لعبة الغواية التي لا تقاوم. كانت المعتقلات في فرع الأمن1 قد استطعن تهريبه في إحدى الزيارات. معظمهن عشن، ومنهن غرناطة.ج، أجواء رومانسية غريبة مع الديوان. قرأته غرناطة، كغيرها، بأصوات تتناغم وتتهادى كأنها ترتّل أهزوجة للأرواح. وهي اليوم تتذكر أنها سكرت، وراحت النشوة تدبّ في أنحائها فيما هي تقرأ ليلاً إحدى قصائد الديوان!

عاشت حالة غريبة، وجدانية وعميقة، نامت فيها منى.أ على حضنها، وصارت تعبث بشعرها، وتقرأ الديوان.

حتى في ذلك المكان القذر لا تستطيع المرأة أن تعيش بلا حب! ذاك الديوان الصغير عمل على بثّ الحب فيّ من جديد، بعد أن كادت تقضي عليه الشهور السبعة في الأقبية. سبعة أشهر تحت الأرض بلا شمس أو هواء حتى أن حلم المعتقلات الوحيد، وأنا منهن، أن يخرجن إلى الساحة كي يتنسمن هواء ليس بفاسد، ويرين شمساً كدن ينسين سطوعها والزنازين مثقلة بأجسادهن المتلاصقة. بعد مضي تلك المدة سمحوا لنا بالخروج إلى الساحة الأرضية لمدة نصف ساعة فحسب. خرجنا إلى الساحة أخيراً، غزلان انفلتت من عقالها وطفقت تهرول على درج الفرع إلى الأعلى. ركضنا على الدرجات المفضية إلى العالم الخارجي وهبّت تلك النسمة المنعشة، كانت الشمس تعمّ الباحة، صباح صيفي مشرق جعل من الصعب علينا أن نفتح عيوننا في هذا الضوء المبهر الرائع حدّ الحلم. أمسكنا بأيدي بعضنا، وصرنا ندور فرحات كأطفال، ندور مشكلات حلقة كبيرة جميع من فيها يقفز فرحاً!

درنا ودرنا.. فجأة تسمّرنا مصدومات، ثمة شيء في النظرات كان ينكسر! الضوء المبهر قام بكشف ما لم يكن موجوداً في عتمة العالم السفلي، ما لم نكن قادرات على التقاطه هناك في الظلام: العفن. العفن يعشش بين جذور شعورنا. في زوايا أفواهنا وعلى رموشنا! العفن كان يغلفنا بكل تفاصيلنا. راحت الضحكات تتلاشى وهي تطبق على العفن الذي وصل إلى ما بين الأسنان! ربما كان المحزن في الأمر أن الأنثى انكسرت داخلنا، انكسرت بصورة قاسية. في الأسفل كنا نعتقد أنفسنا جميلات، على الرغم من كل ما مرّ، في الخارج بدا أن العفن طال الأرواح أولاً ثم تفاصيل الأنثى دون أن ندري.. عفن.. عفن. بعد حوالي السنة والنصف استطاعت المعتقلات في فرع الأمن1، عبر إحدى الزيارات النادرة، تهريب ملقط شعر ومرآة صغيرة، بذلك استطعن نزع شعر حواجبهن بعد كل تلك المدة. أما قبلاً فقد أوصين على علبة علك كبيرة ونزعن شعر سيقانهن بمضغات العلك تلك. بعد ذلك بأشهر استطعن إدخال قطع من العقيدة ومشط بلاستيكي، كان أشبه بنعمة سماوية، جعلهن يسرّحن شعورهن بعد أشهر طويلة لم تعرف رؤوسهن المشط فيها.

عن بعض تلك التفاصيل كتبت مي.ح(89):

(كان التنفس صعباً، نسينا الشمس والقمر والهواء، انتشر بيننا الجرب والالتهابات الجلدية، فطلبوا جميع بطانيات المهجع لتعقيمها بالد.د.ت. ثم جاء دور تعقيمنا بالشمس. خرجنا صفاً أحادياً متجاوزين المهاجع المصطفة على جانبي الممر، كنا نطرق على أبواب المهاجع لنصحي ساكنيها. خرجنا إلى الباحة ولأول مرة عرفنا أن للفرع باحة وحدائق، بحلقنا بوجوه بعضنا كانت الصدمة قاسية لم نكن نشبه أنفسنا، تعرفنا على وجوهنا لأول مرة، ألوان العيون والشعر والبشرة لم تكن كما هي في المهجع.

أما الأساور التي صنعناها من نوى الزيتون وخيوط البطانيات فقد صدمنا لبشاعة ألوانها الظاهرة، أقبح أنواع الألوان، وقفنا بعجز أمام أشعة الشمس كأننا تجمدنا، وشعرنا بالقهر من بشاعة الأساور التي كنا نلبسها).

1987-1991
في سجن النساء كان الوقت أخف وطأة بما أنه كان سجناً مدنياً يجمع الكثير من الحالات المتباينة. السجن ذاك كان فيما مضى بيتاً عربياً بحوش مكشوف فيه نافورة في الوسط وأربعة أحواض كبيرة للنباتات، دأبت سلافة.ب(90)، المهندسة الزراعية، على العمل فيها كعاشقة، تزرع الورد والليف وأنواع النبات المختلفة، تركشها وتسقيها كل يوم حتى حوّلت الأحواض الأربعة إلى جنة حقيقية، تغطّيها شتاء بالنايلون، وترعاها كأطفالها.. حتى أنها زرعت البقدونس، ودعت الصبايا في بعض الاوقات لأكل التبولة الطازجة.

يرى فكتور فرانكل (الوجودي الديني) أن نوع الإنسان، الذي يتحول إليه السجين/ السجينة، إنما يتم نتيجة لقرار داخلي، قرار يتخذه السجين/ السجينة نفسه، وليس مجرد نتيجة يصيرها بسبب تأثيرات المعسكر.

ماذا سأكون؟
إلى أين سأصل؟
ما الذي ستسفر عنه سنوات السجن؟

كانت أسئلة ممضة ظلت تدور في ذهن الكثيرات من المعتقلات السياسيات في السجون. هل كان القرار الداخلي هو الفيصل في عيشهن تلك السنوات الطويلة في المعتقل أم لا؟ ربما ذلك ما حدا بهنّ إلى اختلاق الوسائل لتزجية الوقت: من القراءة، إلى إصدار مجلة (الجرح المكابر)(91)، إلى مجموعة مسرحيات قامت المعتقلات بتأليفها أو اقتباسها وتمثيلها(92)، إلى الحلقات الثقافية التي استمرت فترة لا بأس بها.

كانت اللجنة الموازية تقيم الحلقات المؤلفة من حوالي اثنتي عشرة معتقلة(93). نوقشت العديد من المواضيع في تلك الحلقات الثقافية من تاريخ الحزب، إلى برنامج الحزب، إلى عدد من المواضيع الفكرية المتنوعة مثل اجتياح الكويت أو قراءات في كتب حسين مروة وغيره. لكن الصبغة الإيديولوجية، التي كانت تحيط تلك الحلقات، جعلت الكثيرات يبتعدن عنها، وأحياناً يتجنبن حضورها، وقد فقدت الإيديولوجيات غوايتها القديمة مع الزمن، وراحت تفاصيل العيش ودواخل المعتقلة الدفينة تحتل المرتبة الأولى في العيش وليست الأفكار الكبرى.

كانت الرغبات في المعتقل مختلفة عن الرغبات خارجاً. الأمر هذا يتجلى فيما كتبته هند.ق على دفترها في سجن النساء:

(رغبات:
أيتها الأرض: أريد أن أتمدد لآخري... لكن المكان ضيق
أيها القمر: أريد أن أفرد خلايا جسدي كلها... لكن المكان ضيق
أيتها الشمس: أريد أن أفرش بعضي كله... لكن المكان ضيق
أيها البحر: أريد أن أتبعثر في أعماقك... لكن المكان ضيق
ضيق... وضيق... وضيق
أيها الكون: أسألك أتسمعني؟؟ أين أجد هذا المكان؟!
جسدي ينتفض عشقاً، وأريد مكاناً لعاشقين
لغجرية تعبة... وحبيب غائب ومجهول
والمكان ضيق هنا.. ضيق ضيق و...
ضيق هنا).
جن النساء

13/7/1989
في يوم من سنة 1990 تم استدعاء جميع المعتقلات الشيوعيات من فرع الأمن1 إلى الساحة الخارجية في الأعلى. قرأ الضابط أسماءهن جميعاً باستئناء اسمين: سناء.ح ومنى.أ.

ـ ليش ما مذكور إسمي!!

صاحت سناء فيما كان السجانة يحاولون تسيير المعتقلات إلى السيارات. أمسكت البنات بيدها يردنها معهن، وأمسكها مدير السجن باليد الأخرى كي يبقيها، كل جهة تشدّ إليها أكثر. شعرت سناء حينها أنها أشبه بطفل فقد أمه، كأنها رميت وحيدة في بئر دون قرار.. وضعوهن في سيارات الفرع، وذهبوا بهن إلى فرع الأمن2 العسكري. أما سناء فقد عادت وحدها إلى المزدوجات. كانت موحشة للغاية فيما امتلأت قبل قليل ببقية رفيقاتها، بأجسادهن وأصواتهن، بعبق وجودهن في المكان الخاوي، الخاوي حد الرعب. الآن ظلت وحدها مع العرفاتيات. كانت تبكي بحرقة الوحدة والظلم الذي أحسّت به يكوي داخلها. خلال الأيام القادمة بعثت سناء بكتابين إلى عميد السجن: لمَ كان عليها أن تبقى وحدها فيما جميعهن نقلن إلى سجن النساء؟ حيث اعتقدت أن رفيقاتها نقلن إليه. لكن أحداً لم يرد عليها. في المرة الثانية حين سلّمت الكتاب إلى السجان بادرها:

ـ رأيت رفيقتك في الطريق أمس.

اكتشفت سناء، متأخرة، أن رفيقاتها أطلق سراحهن ولم ينقلن، كما اعتقدت، إلى سجن النساء. لمَ هي هنا إذاً؟! لم يكن أمامها إلا التهديد بالانتحار من جديد، أو القيام بحركات شغب كالطبش على الباب الحديدي والصراخ في الكوريدورات. كان عليها فعل المستحيل كي لا ترمى منسية لشهور طويلة أخرى في الفرع.
أخيراً، تم نقل سناء إلى فرع 2 حيث كانت منى.أ وحدها كذلك. وهناك أقامتا لمدة شهرين تقريباً قبل أن تُنقلا إلى سجن النساء.
...
في دفتر مذكراتها(94) كتبت ناهد. ب:

(فجأة دون مقدمات دخلت هذه القصيدة إلينا. اخترقت أسوار السجن ونفضت غبار أعوام طويلة. لن أستطيع وصف ما حدث لي حين قرأتها اليوم. كنت سأتعارك مع البنات حولي حين لم يتفاعلوا معي في لحظة اكتشافي وجود القصيدة في ديوان نزار قباني جاء بإحدى الزيارات. ولكني تجنبت المعركة وحملت الديوان وانفعالاتي وركضت خارجة من الغرفة أبحث عن رماح(95). وجدتها تقرأ كتاباً سياسياً، اقتلعتها منه، وجلسنا نقرأ القصيدة. كم هي جميلة. ولكني تفاجأت بأن الأجمل منها هي قصائد نزار عن بيروت وأنا لم أكن أعرفها، وبدأت أسأل أيهما أجمل قصائده عن العاصمة أم عن بيروت... تابعنا وتشابكنا أنا ورماح والقصائد في كتلة من المشاعر ذات الزخم لم أشعر به منذ زمن بعيد فقد كانت دواخلنا في تلك اللحظات بحر تتلاطم الأمواج فيه أم أن كلمات القصائد كانت تتدفق فينا بحيث لم يعد وجود لأجسادنا؟ لا أعرف، ما أعرفه أننا شكرنا ربنا بأن مقولة شعر الرأس يقف عند الانفعال غير صحيحة، أو كنا عندها سنتحول أمام من يراقبنا عن بعد إلى قنفذين يمسكان كتاباً.

بعدها جاء التأمين(96) توجهنا كل إلى غرفتها. أخذت رماح الديوان وقلبي معه وذهبت. شعرت برغبة جارفة بالبكاء. اتجهت إلى غرفتي ووجدت لينا(97) بوجهي ضممتها وحكيت لها عن جمال تلك القصائد بصوت يشبه البكاء. ولكنه كان حدثاً قصيراً جداً إذ أن باب المهجع الرابع سيقفل أيضاً).

23/6/1990
أما بثينة. ت(98) فقد كتبت من فرع الأمن رسالة إلى أهلها قالت فيها:

(ماما الحبيبة.. بابا الحبيب.. أخوتي الأحبة:
بكل شوق العصفور الحبيس لكسر قضبان سجنه وإطلاق جناحيه للريح أتوجه إليكم، عبر هذه الطريقة الرائعة.. ولن أوفر فرصة أطمئنكم بها، وأطمئن عليكم. جاء الربيع وتلاه الصيف.. ونوار ملأ الدنيا، وعبق الياسمين وزهر الليمون يفوح على الطريق بين الموقف وبيتنا.. ما أخبار الطبيعة لديكم؟.. كيف النارنجة والكبادة والليمونة والمليّسة والياسمين العراتلي.. و.. و.. الخ؟ هل لا زالت تلك الأشجار الرائعة ما زالت تأسرني، هل ما زالت موجودة أم طالتها يد التغيير في الحديقة.. كيف أشجار السرو الرائعة سور بيتنا؟ أصبحت أروع وأشمخ حتماً.. أشتاق لكل شبر في الخارج أشتاق إليكم.. كيف زريعاتك يا بابا؟ هل ما زلت تقضي جلّ وقتك مع الأخضر؟!.

أحبتي: هل تستمعون كل صباح باهتمام لزقزقة عصافير الصباح وهي تؤذن ببداية نهار جديد هل ما زال بابا يقطف كل صباح باقة من أزهار الياسمين ويزين بها الغرفة؟.. هل تراقبون بانتباه نمو زهرة صغيرة (جملة ممحوة..).. تبدل الفصول وأنواع الزهور، وشروق الشمس، وبزوغ القمر، ولون السماء، وروعة التراب، ورائحة دخان السيارات وزحمة الشوارع، وعيون الأطفال وضحكات الفرح، والحكايا الخجولة تنتقل من فم إلى فم بصوت هامس والنسمات العليلة تدغدغ الروح وتبعث بها النشوة..؟ هل.. وهل.. وهل..؟!

شوقي كبير لكم وللربيع والحياة.. وشوقي كبير لربيعي الخاص، طفلتيّ، براعمي الصغيرة تتفتح يوماً بعد يوم وأنا بعيدة.
ماما الحبيبة: كل شوق العالم لك.. لعينيك الحنونتين، ويديك الدافئتين. أشتاقك كثيراً، وليس لدي بديل عنك. وتشتاقين كثيراً وعندك لانا وراما بديلاً عني. ضميهما بكل دفء صدرك الذي يقشعر بدني لذكراه.. عوضي عني بهما فهما بحاجة لك أكثر.. وأكثر.. أكلاتك الطيبة تدغدغني، تعيدني إلى أيام الطفولة والأمان. لم أزل قوية، ولم تزل بسمتي على شفتي، لا تقلقي.. ولم أزل أتذكركم وأعيد، أنتم هروبنا الوحيد هنا، وأنتم بلسم الحياة بالنسبة إلينا..

يسلموا إيديك يا غالية على أكلات الكبة والرز بفول والبامياء والرز واللوبياء(99)، وصلت جميعها ساخنة وأكلناها مباشرة، وأكل منها الجميع. الكميات التي ترسلونها ممتازة، تكفي غداء واحد مشبع للجميع (18 فتاة، 13 بنفس التهمة) فقط لو تكثري من أكلات الزيت لأنها تبقى لليوم الثاني فتصبح أيضاً غداء مشبع. كان احتفال رفيقاتي بي رائعاً، شربنا القهوة، وغنينا ورقصنا، وكانت تلك المرة الأولى التي نأكل فيها التبولة. بابا: طريقة كتابة الأغراض على ورقة مستقلة طريقة رائعة تضمن وصول كل شيء..

أبكتني علبة البهارات، هدية لانا في زيارة سونا(100) قبل الأخيرة: صرخت عندما قرأت اسمها على العلبة قبلتها كثيراً، فيدي لانا الصغيرتين الحبيبتين قد لمستاها. ترى، ما هي معلومات لانا عني وعن الأغراض التي ترسل لي، هل تعرف أنها لي؟ هل زاركم أحد من البنات اللواتي خرجن، جوليا، زينب.. أمينة.. مي.. إلخ. والأهم كيف كان رد فعل لانا تجاههم وتجاه الأخبار التي حملوها.. أرجوكم أخبروني بالتفصيل عن ذلك لأعرف أين أصبح موقعي بالنسبة إليها.

أحبتي: قلقي على نزار(101) كبير.. انقطاع أخباره عني يكاد يقتلني، لا خبر مطلقاً منذ حزيران قبل الماضي. أتوقع أن أهله يتواصلون مع أهالي المعتقلين معه في (...) ويطمئنون عليه. طمئنوني عنه أتوسل إليكم، إذا كان لديكم أي خبر لا تبخلوا علي.. أرسلوه كتابياً أو شفهياً. لست أدري لماذا تبخلون علي بأخباركم التفصيلية، أخبار الجميع. أطالب بالتفاصيل فتأتيني أخبار سريعة..).

* * *

المختبر البشري:
حين تغيب الإيديولوجيات
نقل عدد كبير من المعتقلات الشيوعيات من فرع الأمن1 إلى سجن النساء فيما ظلت الباقيات في الفرع. ثم نقلت خمس منهن فقط، وذلك في صيف 1988، إلى فرع الأمن2 العسكري وهنّ: آسيا.ص، فاطمة.خ(102)، هتاف.ق، ليلى.ع، ومنيرة.ص. ظلت المعتقلات الخمس أكثر من سنة ونصف في فرع الأمن2، ثم نقلن إلى سجن النساء ليبقين حتى إطلاق سراح الجميع في سنة 1991.

فيما كانت المعتقلات الإسلاميات هناك قبلهن بسنوات.
الأزمة الأولى كانت في أماكن النوم!

ففي المهجعين الثالث والرابع كانت الغالبية العظمى من الإسلاميات وبعض المعتقلات بتهمة التجسس وحزب بعث العراق. كان على القادمات الجدد أن ينمن على حساب الفراغات بين فرشات الإسلاميات مما أدى إلى الكثير من الخلافات والمشاحنات.

تكبر المشاكل الصغيرة مع الزمن، ويتملك السجينة، كما يتملك السجين، شعور مهيمن أن جزءاً من روحها تآكلت. الأزمة الثانية بدأت حين قدمت الدفعة الجديدة من المعتقلات. فقد قدمن وقدم معهن قرار منع الزيارات على السياسيات فحسب فيما كانت السجينات الأخريات (القضائيات: قتل ودعارة وحشيش و...) يتمتعن بالزيارة الأسبوعية باستمرار في كل يوم أربعاء.

عن ذاك المختبر البشري، الذي راح يتوضح في سجن النساء وينيخ بثقله على الجو، كتبت ناهد. ب(103):

(نيّف وثلاثون امرأة جيء بنا كي نعيش حياة مشتركة بشكل قسري. جيء بنا من مختلف أرجاء البلاد، يجمعنا العمل أو محاولة العمل في السياسة من الموقع اليساري المعارض(104). جيء بنا وكل منا تحمل اختلافاتها عن الأخرى، اختلافات في العمر والتجربة.. اختلافات في النشأة والتربية والعادات اليومية.. اختلافات في الأمزجة والميول الشخصية. وهنا ابتدأ، ما سميته يوماً، المختبر البشري المركز، والذي لا يتاح إلا في مثل هذه الأماكن. مختبر تخضع فيه شخصياتنا إلى أقسى تجارب اجتماعية يمكن أن يخوضها البشر وأقسى وأهم تجربة من هذه التجارب، هي تجربة المواجهة مع الأنا واكتشافها، والشعور بالدهشة من مواصفاتها سواء الإيجابية أم السلبية. كذلك كانت تجربة المواجهة مع التاريخ الذي انقطع في لحظة الاعتقال، في عملية مراجعة أدّعي أنها لا تتم في عالم الحرية، بالتركيز والقوة التي تتم هنا).
دون تاريخ.

1983-1987
في الاعتقال الأول بقيت هند.ق، بعد شهور المنفردة التسعة، لمدة شهرين في مهجع الإسلاميات بفرع الأمن1. المعتقلات الإسلاميات في المهجع كنّ سبعاً وهي الثامنة. منهن: رجاء.أ (أم زهير)، أم خالد، أم صلاح، والأهم شفاء.ع(105)، استطاعت أن تبني وهند علاقة وطيدة على الرغم من كل المسافات بينهما. كانت الليالي تمضي وهما تحاولان تذكر بيوت الشعر وإكمالها، تذكر الأغنيات ومحاولات لاختلاق الجديد منها. شفاء صبية. لم تكن قد تجاوزت العشرين حين اعتقلت كرهينة عن زوجها، وكان صديقاً لأخيها. كانت تدرس الأدب العربي في الجامعة، وزواجها، الذي لم يستمر سوى سنة واحدة، انتهى باعتقالها وهرب زوجها إلى بلد مجاور.

هناك في عتمة السجون تعلمت هند ألا مكان للإيديولوجيات أو للآراء المسبقة، كلها تتراجع لصالح الحياة وحقيقة الإنسان. يبقى الوضع أن المعتقلة مضطرة لمعايشة أناس في الحيز الضيق نفسه من المكان شاءت ذلك أم أبت. إنسان لإنسان لا غير.. معتقلة لمعتقلة لا غير.

في الاعتقال الثاني سنة 1984 نقلت هند.ق، بعد شهرين في فرع الأمن1، إلى مهجع المعتقلات الإسلاميات في سجن النساء المدني.. كانت كالداخل إلى حقل ألغام. راحت الإسلاميات، حالما لمحنها والجة إلى باحة السجن الداخلية، يهمسن للشرطي القادم بها ألا يضعها في مهجعهن، إذا كان عليه أن يضعها في مهجع ما فليضعها إما في مهجع القتل أو الحشيش أو الدعارة، ذلك أن لفظة شيوعية بالنسبة إليهن كانت تعني شيئاً واحداً: الكفر والإلحاد.

لكن السجان، لسبب ما بالتأكيد، وضع هند في مهجع الإسلاميات، وأغلق عليها الباب. هناك ظلت هند حوالي ثلاث سنوات. ربما يستطيع المرء أن يداري حقيقته الداخلية شهراً أو شهرين، لكن من الصعب أن يداريها لسنوات. هناك في السجن يتعرى الإنسان، تنكشف كل دواخله، كل ما حاول الهروب منه من مشاكل داخلية تظهر إلى السطح، تتعرى، وتفضحه أمام الآخرين.

مهجع الإسلاميات كان يضم أربع عشرة معتقلة وهي الخامسة عشرة، مختلفات في الأعمار والطبقات، مختلفات في الأمزجة والتصرفات، والعلاقة بينها وبين الأخريات مرّت بمخاضات طويلة وعسيرة حتى استقامت في النهاية علاقات ودية مع معظمهن.

معتقلتان، لم تتجاوزا العشرين من عمرهما، أصبحتا صديقتين لهند وراحتا تفشيان أسرارهما أمامها. تلك الإسلامية، وكانت في الصف الثاني الثانوي حين اعتقلت، أضحت صديقة هند العزيزة، وكانت الأخيرة حاضرة في ذاك اليوم الذي شكّل منعطفاً في علاقتهما: جلب أهل الصبية، في أول زيارة لهم، مسجلة كانت سعيدة بها للغاية، وأدارت قفلها لتستمع إلى أغنية ما وهي تدخل المهجع عائدة من الزيارة. كانت تتمايل تحت عصف أحد الألحان حين خطفت إحدى الحاجات المسجلة من يدها ورمتها على الأرض لتتحطم إلى قطع:

ـ هذه أداة للفسق.. كان لازم اكسرها.

أجابت الحاجة على بكاء الصبية الهيستيري وعلى اعتراضات بعض الإسلاميات في المهجع.

أما الصغيرة سمية(106) فقد صاروا مع الوقت يطلقون عليها: بنت هند.

حين كان أهل هند يزورونها كانوا يأخذون الصغيرة في مشوار قصير حول مبنى السجن، ذلك أن الصغيرة ونساء عائلتها لم يكن يأتيهن زيارات البتة. لكن المفاجئ أن سمية كانت تخاف حدّ الرعب من العالم الخارجي، تبقى طيلة فترة رحلتها منكمشة تراقب الخارج بتوجس وريبة، ولا يعود وجهها الصغير إلى أمانه حتى تدخل باب السجن من جديد. جلبوا للصغيرة المحرومة من الزيارات(107) ألعاباً وكتباً وكاسيتات للأطفال وأرجوحة نصبت في منتصف المهجع. وأخيراً كانت الفرحة الكبرى حين أهديت دراجة هوائية لتلعب بها في باحة السجن أثناء فتح أبواب المهاجع.
...
وقت قدمت الدفعة الأولى من معتقلات سنة 1987 في فرع الأمن1 أصبح عدد الشيوعيات في سجن النساء خمس معتقلات وهن: فاطمة.ع(108)، أم كرم (زهرة.ك)(109)، شفق.ع(110)، وحسيبة.ع. بداية، تم وضعهن في مهجع القتل، وهناك بقيت حسيبة كالأخريات شهوراً طويلة. كانت المعتقلات الإسلاميات يأتين من مهجعهن المجاور إلى مهجع القتل لزيارتها.. نشأت علاقات طيبة بين تلك الشيوعية والإسلاميات. أما الصديقة المقربة لها فقد كانت طبيبة أخوانية تكتب الشعر اسمها: غزوة.ك(111).

عزيزة.ج(112) كانت تقود صلاة الجماعة في المهجع إلا أن علاقة ما استطاعت أن تخطّ طريقها بينها وبين حسيبة على الرغم من استحالة الأمر. لكنه حدث. حين كانتا تغسلان الثياب سوية تسألها حسيبة:

ـ سبّعت الغسيل؟!

كناية عن فضّ الغسيل بالماء سبع مرات، والأمر مأخوذ عن حديث للرسول محمد.

ابتسامة عزيزة كانت الرد الوحيد على ممازحة حسيبة. اشتركت المعتقلتان في الكثير من أشياء الحياة وتفاصيل الاعتقال اليومية. ذلك أن المعتقل يجعل داخل الإنسان هو الأهم، المزاج الشخصي هو الحاكم، ومعدن الإنسان في تفاصيل عيشه اليومي وليس الإيديولوجيات. بعد ذلك تم نقل جميع المعتقلات السياسيات بكافة أطيافهن إلى سجن النساء المدني الآخر. هناك أخذت الإسلاميات المهجع رقم 3و4، فيما أقامت الشيوعيات في المهجع رقم 6. أما المهجع 7 فقد كان للشيوعيات والقضائيات معاً، هذا ما جعل العلاقة بين السجينات تعود إلى سابق عهدها فاترة نوعاً ما. لكن ذلك لم يمنع الطبيبة الشيوعية: تماضر.ع(113) من أن تكون طبيبة الإسلاميات والشيوعيات والقضائيات بآن. حين كانت في فرع الأمن1، أو حين نقلت إلى سجن النساء، لم تمنعها تهمة المعتقلة المريضة، أياً كانت، من السهر بجانبها لساعات طوال.

في سجن النساء كتبت هند.ق نصاً كتبت فيه عن بداية العلاقة بينها وبين المعتقلات الإساميات:

 (كدوي فتح باب زنزانتي: تعي فوراً..
ووجهاً لوجه صرت أمام رئيس فرع الأمن2 العسكري:
ـ شو يا هند، إلك عنا ستة شهور ما خدنا منك لا حق ولا باطل. مفكرة إذا ما حكيتي شي راح نطلعك، والله لخلي السجن يأكل من لحمك شقف.. إنت واحده مناضله، ناضجة ومثقفه، بس ناقصك شغله واحده، ناقصك ثقافة البطرونات (البترونات) والشراميط! راح ابعتك عاسجن القضائيات بسجن النساء مشان تكملي ثقافتك، شو رأيك؟ والله لارميكي رمية الكلاب، وتختخ عظامك، وخليكي مزتوته ليطلعو رفقاتك الشباب بالسجن بتتطلعي معهم. روحي تثقفي بسجن النساء وناضلي بين البروليتاريا تبعكم، دعارة وحشيش وقتل و و... والله لخلي الجن الأزرق ما يعرف وينك... انقلعي...خذوها. عدت لزنزانتي أضحك في عبي. أخيراً انتهيت من التحقيق والتعذيب، وأصوات التعذيب أيضاً. لم أفكر بكلماته أبداً: سجن النساء!!.. مستحيل. بادره لم تحصل سابقاً. هناك بعض السياسيات الإسلاميات أما نحن لا. اعتبرت كلامه نوع من التهديد، كلام بكلام. صار ذهني كالزمبرك، أكيد سيخلي سبيلي.. إفراج، ليش لأ، ما علي شي. أخذت نفساً عميقاً، حاولت الاستلقاء، ما كاد جسدي يلامس الأرض حتى اقتحم السجان مملكتي:

ـ ضبّي غراضك ويلا قومي.

كلبشوني، ووضعوا الطميشة على عيني، أدخلوني القفص وساقوني لسجن النساء.

كم تشوقت إلى عالم الأحياء فوق: الشمس، السماء، الشجر، وجوه المارة، الأطفال بلباسهم المدرسي. لم يستوقفني أي من هذه الأشياء في طريقي. تزاحمت الأسئلة، وسؤال وحيد أرعبني وسيطر عليّ: سألتقي أولئك النسوة؟! نسوة الكتب والكتاب؟ لا لا لا أصدق. عالم الكتب شيء والواقع شيء آخر. اقشعر بدني، خوف، ذعر، توتر، لا أصدق وجهاً لوجه مع عالم النسوة هذا؟ وفي مكان واحد وزمن واحد، في دوامتي هذه!! جاءني صوته:

ـ وصلنا يلا انزلي.
ماذا؟ وصلنا! بهذه السرعة، ثوان، مستحيل،عاد الصوت أقوى:
ـ شو ما سمعت، انزلي بقا.
و.. نزلت. استقبلني الشرطي منفوخاً أمامهم يسبق كلامه جسده:
ـ خرجك، شو محسبي البلد سايبه.
ختم صك عبوديتي، وأسلمني لدهاليز سجن النساء.

كم من أبواب الحديد والشبك!! لا أعرف كيف صرت في باحة السجن، تراجعت مذعورة والتصق ظهري ببابه. تراكضت النسوة، وكبلهاء وقفت دون حراك، ضممت كيس أغراضي وعصرته بيدي، كأنني أحمي نفسي من شيء ما. أصواتهم تلتصق بي: سياسيه!! شكلا سياسيه... شوفي ثيابها والله سياسيه. معهم حق، كيف لا.. وصلت في شهر آب وكنت ألبس بنطال جوخ وفيلد شتوي، ولوني أصفر باهت، وشعر منفوش، وكيس صغير فيه ممتلكاتي: كأس وصحن ودخان ومنشفة.

تكومت النسوة فوقي، واختلطت الأيدي والوجوه والأصوات:

ـ تهمتي حشيش..
ـ أنا سرقة.. وهي دعارة..
ـ أما أنا قتل..
ـ لا تخافي نحن ما منخوف..
ـ هي كرسي اقعدي ارتاحي..
ـ بدك قهوة ولاّ شاي؟.. بدك كاسة مي؟
ـ قديش إلك بالسجن؟..
ـ ما حدا معك..؟!!!

هطلت أسئلتهم كالرصاص وأنا المذعورة، أتقلقز على أقدامي، أخافهم، لا أريد لمسهم ولا كلامهم ولا حتى ضيافتهم. حاولت الابتعاد عنهم، أردت أن أصرخ: حلّوا عني. عربش الكلام بحنجرتي واختنقت، فعصرت كيسي بكل ما تبقى لي من قوة وهرسته، تمسكت به كغريق يتعلق بقشه، ونسوة الكتب حولي يروحون ويأتون. ضجيج، صخب، وكلامهم يرتطم على رأسي على جسدي، ولم يعدني لرشدي إلا صوت جهوري ووقح: كش برّه وبعيد، ناقصنا كافره، حطها بالغرفة الثانية.

فجأة حلّ خوفي وتوتري بين هؤلاء النسوة نسوة الكتب، وقع الكيس من يدي، لألتفت باتجاه الصوت اللعين، وفهمت كل شيء. كان الصوت من غرف الإسلاميات السياسيات. مقفلة كانت غرفهم حيث لا اختلاط بالتنفس. نصف النهار للسياسيات، والنصف الأخر للقضائيات. لكنهم يرون كل شيء من شبك أبواب الحديد. أذعن الشرطي وذهب للغرفة الثانية، سبقه صوت آخر ربما أقوى وربما أوقح:

ـ لا.. حطها مع القضائيات، مكانا مو عنا.
ونساء الكتب مازالوا يحومون حولي، أسمع همس كلماتهم:
ـ يا حرام لحالها لو معا حدى، بكره بجننوها، يا حرام.

جسدي يترنح، أذناي تلتقط أنصاف الكلام، وعيني تراقب المشهد، والشرطي لا حول له ولا قوة أمام سلاطين المال والدين، ونسوة الكتب حولي، ونسوة السياسة في أوكارها تملي على الشرطي مهمته. وأنا.. أين أنا من هذا؟ وأي عالم من القذارة هذا؟؟! عند المساء، وبعد أن فرضت فرضاً في إحدى غرف الإسلاميات، تكور جسدي المتعب الحزين في فراشي، وكيسي المقهور يلازمني كصديق يواسيني، يؤازرني، ويحميني. وفي عتمة الليل، هرب النوم مني، فأخذت أعد الثواني، منتظرة بفارغ الصبر خيوط الفجر لأهرول عند نسوة الكتب، نعم نسوة الكتب التصق بهم، وأعتذر، أجل.. أعتذر منهم.

وربما...
ربما... أبكي على صدر إحداهن)
سجن النساء 17/8/1984
...
في فرع الأمن1، وفي نهايات الثمانينيات، اعتقلت اللبنانيات العرفاتيات مع الشيوعيات والكتائبيات ومتهمات بعث العراق واللواتي اتهمن بالدعارة السياسية. كانت هناك أختان، تبلغ إحداهما السابعة عشرة والثانية السادسة عشرة، اسمهما بديعة وماري. فتاة لم تبلغ السادسة عشرة بعد متهمة بأنها عملت مع القوات اللبنانية. السجن السياسي كان تعبيراً حقيقياً عن فسيفساء المجتمع بكل طوائفه وأديانه، بكل اتجاهاته السياسية والفكرية والاجتماعية، السجن، ويا للسخرية، كان نواة حقيقية لمجتمع مدني حلم.

أم محمود العرفاتية سيدة في نهاية الأربعينيات، ممتلئة ذات وجه جميل، تدأب على فتح قبّة ثوبها الطويل لتكشف عن صدرها العارم الأبيض. الوقت يمضي بسرعة فيما تتحدث أم محمود، وهي دائماً تتحدث، عن تفاصيل علاقتها بزوجها، وترمي النكات الجنسية المثيرة بين الحين والآخر. الطعام والجنس هما كل ما يشغل أم محمود في مكان تنتفي فيه متعة الطعام وغواية الجنس!
أما المكان المفضل إليها فكان على السقيفة فوق المزدوجات، حيث تطلّ على الكوريدور وتراقب السجانة والمعتقلين الغادين والرائحين.

أما أميمة فقد كانت فنانة فلسطينية أردنية من الضفة الغربية، اتهمت بالعمالة المزدوجة، واعتقلت في سجون إسرائيل لمدة ستة أشهر. حين جاءت إلى البلد اعتقلت بتهمة التجسس لشهور أيضاً. أحبت شاباً درزياً من عرب الـ 48، وهي تدرس في جامعة نابلس، وحين اعتقلت في إسرائيل أخذوها إلى مكتب الضابط هناك، أعطوها إبراً أدّت إلى تنويمها فترة طويلة، ظلت أميمة شهوراً بعدها تتعالج من فقدان الذاكرة، وقد أدت تلك الإبر إلى مسح كامل في ذاكرتها. لا أحد يذكر أميمة إلا وهي متربعة على أرض الزنزانة تغني بصوت عال أهزوجة فلسطينية:

خوش بوش.. خوش بوش..
أنا وشامير بنفس الحوش.

رسمت في عيد رأس السنة بابا نويل وهو يحمل كيساً كبيراً من البرغل. كما رسمت الصبايا من فوق، وهي تراهنّ من السقيفة، يتكئن على حائط المزدوجة الداخلي مصطفات بجانب بعضهن يعملن بسنانير الصوف، تبدو رؤوسهن من فوق، أياديهن المنهمكة، والخيوط التي تتحول إلى ثياب ملونة.

أما العجوز اللبنانية السبعينية، المتهمة بانتمائها إلى حزب بعث العراق، فقد كانت تقعد في زاوية الزنزانة بجانب الباب لأن الربو يمنعها من التنفس جيداً.

كانت بثينة.ت والصبايا الأخريات يغنين لها أغنية فيروز:
بيتك يا ستي الختيارة بيذكرني ببيت ستي.

لجلطة التي تعرضت لها قبلاً منعتها من النطق جيداً، لذا فلم يكن يسمع منها إلا أصوات مبهمة عالية. أما مشهدها، والصبايا يحملنها إلى السقيفة بعد أن أنهين حمامها، فقد كان مألوفاً على مدى شهور اعتقلت فيها تلك العجوز في فرع الأمن1.
...
في أواخر الثمانينيات قدمت إلى فرع الأمن امرأة قصيرة بدينة، ترتدي بنطالاً ضيقاً وبلوزة قصيرة، كان اسمها عهد.ع. وعهد من مدينة شمالية تنتمي إلى بيئة شعبية وأسرة محافظة فقيرة. والدها كان يكتب الحجابات، وقد أجبرت هناك على لبس ملاية اللف السوداء. الجو المغلق الخانق جعل عهداً تترك أولادها الأربعة وتهرب مع ابن جيرانها إلى لبنان، لأنها أرادت، كما عبرت أمام المعتقلات مراراً، أن ترتدي بنطلون الجينز وبلوزة بنصف كم لا غير. هناك تركها الشاب وهرب لتصبح وحدها تماماً في بلد لا تعرف فيه أحداً. قررت، في لحظة ما، أن تذهب إلى الجنوب وتقوم بعملية انتحارية هناك! على الطريق أمسك بها بعض الشباب من معسكر العرفاتيين لتقعد في خدمتهم شهوراً طويلة. ومن ثم قاموا بتسليمها إلى أفراد من جيش بلدها لتصل أخيراً إلى فرع الأمن.

حين أدخلت عهد إلى المزدوجات كان ينبغي عليها أن تمارس طقساً تقوم به كل معتقلة جديدة: أن تستحم أولاً، ومن ثم ترتدي ثياباً نظيفة تعطيها إياها المعتقلات الأقدم هناك. كانت عهد تعاني من الجرب المنتشر في كامل جسمها. سألنها إن كان هناك قمل في شعرها فأجابت:

ـ لا يخلو الأمر.

وضعن على شعرها شامبو ضد القمل. بعد الحمام صار القمل ينزل من شعرها، وهن يمشطنها، كالمطر الأبيض على أرض المزدوجات. سألنها أيضاً إن كان ثمة أمراض أخرى تعاني منها غير القمل والجرب فأجابت:
ـ لا يخلو الأمر؟
ـ...؟
ـ ينزل لي أحياناً من تحت شلخات شلخات..

إحدى الممرضات الشيوعيات، وهي ملك.خ، راحت تدقق في إجابات عهد، تلاحقها بالأسئلة والاستفسارات عن وضعها وأعراض مرضها.. أخيراً قفلت ملك عائدة، كان وجهها أصفر شاحباً وهي تخبر الأخريات ألا يقربن عهد أبداً فقد كانت مصابة بالزهري. تلك الليلة حجزت البنات عهداً في حجرة من حجرات المزدوجات الأربع حتى الصباح. وفي الصباح طلبن من مدير السجن حلّ الأمر بسرعة وإلا سينتقل الزهري إلى جميع البنات في الزنزانة.

وضعت عهد في زنزانة منفردة لمدة أربعة أشهر ريثما تمت معالجتها تماماً، ومن ثم أعيدت إلى المزدوجات من جديد.

1992
إلى أي مدى تستطيع المعتقلة، في ظل ظروف مشابهة لظروف المعتقل، أن تقرر بأي اتجاه ستسير نفسياً وروحياً وجسدياً. كم هي بحاجة، من أجل ذلك القرار، إلى جرعة كبيرة من الحرية الروحية التي لا يمكن لأحد أخذها منها على الرغم كل شيء. تلك الحرية الروحية، وحدها، تجعل للحياة معنىً وهدفاً.. أي باختصار إيماناً بالمستقبل.

لم تجتمع روزيت.ع طيلة اعتقالها الثاني، الذي استمر لسنة تقريباً في فرع الأمن1، مع معتقلات سياسيات. كانت السجينة الدائمة معها امرأة متهمة بالتجسس! بقي الأمر هكذا حتى جاءت تلك الفتاة الكردية السمراء: مهريبان جي جيك، المعروفة باسمها الحركي أزيما (عظيمة) من حزب العمال الكردستاني (p.p.k). أزيما أضحت رفيقتي الأثيرة بلباسها العسكري الذي لم تخلعه يوماً، وعينيها الكرديتين الجميلتين، وكتابها المفضل الذي جلبته معها ولم يكن يفارقها، كتاب: (قائد وشعب) عن أوجلان. طيلة شهرين، قضتهما أزيما في الزنزانة، كان السجن يمضي بشكل مختلف، حميم وفاعل ومؤثر، خاصة وأني بقيت حوالي الشهرين دون أن أخرج إلى التنفس، وأكثر من سبعة أشهر دون أية زيارة. خرجت أزيما بعد شهرين كما قلت، وبعد سنوات جاءتني أخبار أنها انضمت للجيش الكردي في شمال العراق، وقتلت هناك في إحدى المعارك.

كانت السجينات يتوالين على الزنزانة(114)، ما هبّ ودبّ، في كل يوم تدخل وجوه جديدة وتخرج أخرى، تهم معظمهن تجاوزات حدود من تركيا والعراق ولبنان وفلسطين.

نساء.. نساء.
فاطمة المتهمة بالتجسس من النبطية.

أم فواز وما حملته من أحاديث عن المخيمات الفلسطينية، وعن الفقر والجهل والعذابات التي يعانون منها.

وامرأة ذاك الطيار العراقي الفار، ذي الأصول الديرية من بعث العراق، وكانت جميلة للغاية، مرت أشهر اعتقالها دون أن تسرّ لا باسمها ولا باسم زوجها، ثم صارت تتعرى للسجانة في السقيفة ليلا، وهم يراقبونها من الكوريدور الخارجي. رأيتها يوماً، وكنت قد استيقظت فجأة بعد منتصف الليل، وجسدها الأبيض يلتمع في ظلام السقيفة. كانت قد خلعت بلوزتها وظلت بالستيان فحسب، وتهمّ بخلع بنطالها.

أخيراً جاءت إلى الزنزانة فتاة عراقية كردية، لا تتجاوز التاسعة عشرة من عمرها، متهمة بتجاوز الحدود أيضاً وقد فرّت من العراق. دخلت تلك الفتاة الناعمة وهي تحجل إلى الزنزانة. أقدامها متفسخة من التعذيب. ثم ما لبثت أن دخلت في واحدة من نوبات الربو المزمن، واحدة من نوبات كثيرة ستتلاحق خلال شهرين ستقضيهما في الزنزانة. لم يكن بخاخ الأوكسجين يفارق يد العراقية الكردية أبداً. تستلقي في حضن روزيت، تجاهد كي تتنفس مستعينة ببخات متلاحقة في فمها. في يوم جاءتها النوبة وهي على السقيفة فوق المزدوجات. صار صوتها مخنوقاً وهي تنادي من هناك. اعتقدت السجينات أنها نوبة من نوباتها المتكررة، والتي تبالغ بها وستمضي، لكن صوتها المخنوق لم يكفّ عن الاستنجاد، كانت تنادي باسم روزيت.. بدا الأمر حقيقياً هذه المرة.

طفقت أدق على باب الزنزانة والسجان لا يجاوبني. ظللت أدق وأدق حتى جاء، ومن وراء الباب الحديدي أخبرته أن البنت تعبانة.. تعبانة كتير. لكن السجان ذهب ولم يرجع. صارت النوبة تزداد، والفتاة نزلت لتنام في حضني، شحوب الموت يخيّم على وجهها، وصوت حشرجتها يملأ الزنزانة. عدت أخبط على الباب من جديد وأصرخ: البنت عم تموت.. دخيلكم أنقذوها عم تموت. كنت أراها وهي تموت بين يدي.. شبح الموت كان يرفرف في الزنزانة. طلّعوها عم تموت.. أخيراً، أخذوها إلى المستشفى وهي بين الموت والحياة، وطيلة يومين كاملين لم يأت أي خبر عنها.

بعد يومين جاؤوا وأخذوا أغراضها القليلة.. كانت الصبية الكردية قد ماتت.

1994-1998
ربما كانت هذه هي الفائدة من دخول السجن(115)، إن كانت ثمة فائدة بالطبع، أننا مجبرون على الالتفات نحو الداخل كي يعيش الواحد منا مع ذاته، يصير مزدوجاً، يتعدد.

ـ هذه الفكرة ربما تكون ذهنية في رأس السجينة أو مطلقة قبل أن تدخل السجن، ولكنها تصير حقيقة، واقعاً يعاش داخل السجن.

ستنطبق هذه المقولة تماماً على ضحى.ع وهي تنوء في الفساد الاجتماعي المستشري في سجن النساء المدني. كان عليها أن تخلق إيقاع حياة خاصاً بها، إيقاعاً مغايراً تنقطع فيه الصلة تماماً مع كل ما هو خارجها! على الرغم من أن الوضع هناك كان صورة مصغرة عن المجتمع الخارجي:

أكثر من 32 طفلاً مع مئات السجينات القضائيات، تلفهم حالة من الطبقية العالية والسرقة والنصب، وأربع معتقلات سياسيات وسط هذا الجو يجهرن بسرقات الطعام، يطالبن، كمن يطالب من بئر عميق، بتحسين الأكل.. وما من مجيب.
...
السجينات اللواتي كنّ يقدمن الرشاوى لعناصر الشرطة ينلن ميزات مختلفة من إدخال ما شئنه إلى مهاجعهن مثلاً، أو السماح لهن بزيارة كل أسبوع لمدة أربع ساعات أحياناً، فيما غيرهن، كالسياسيات مثلاً، محرومات من الزيارة.

السجينات اللواتي أقمن علاقات جنسية مع عناصر الشرطة استطعن نيل ما يردن أيضاً. إذاً، كحال الخارج، كانت القوة في الداخل هي للمال والجسد.

كان هناك بالطبع، كتكملة للمشهد الدرامي، من ينال الأتاوة! فرئيسة المهجع تتقاسم المال مع بنات الدعارة وعناصر الشرطة، الفقيرات يعملن خادمات عند الغنيات، يطبخن وينظفن مقابل مبلغ ما، ومقابل شيء أهم بالنسبة إليهن وهو: الحماية.

أما الباحثتان الاجتماعيتان، ووجودهما كان شكلياً في الحقيقة، فقد عملتا بالأجرة عند بعض البنات المتنفذات.

جنسيات متنوعة من السجينات، وضحى ورفيقاتها وحدهن في هذه المعمعة: برازيليات، إسبانيات، عربيات، وأميركية وحيدة كانت تاجرة مخدرات، تلك السجينة كانت تعامل كأن أميركا كلها موجودة في سجن النساء، والسفارة الأميركية ترسل مبعوثاً خاصاً لزيارة السجينة كل حين وإعطائها النقود. قبل انتهاء حكمها بستة أشهر نقلت ضحى.ع وحدها إلى سجن مدني آخر(116).
مهجع النساء السياسيات محاط بمهاجع الرجال، وفيه حوالي 14 معتقلة: معتقلتين من الحزب الشيوعي التركي، ثلاث معتقلات من حزب العمال الكردستاني (P.K.K.)، خمس معتقلات تركمانيات بقضايا التفجير في حاويات القمامة، وكان هناك أيضاً ثلاث معتقلات من شهود يهوه.

الزيارات هناك ممنوعة.
التنفس لساعات قليلة فقط بعد الظهر.

أما مهجع النساء فقد كان معزولاً تماماً عن بقية السجن حتى أن عناصر الشرطة كانوا يعملون على تغطية فتحات مهاجع الرجال بالبطانيات وتستنفر المفارز جميعها لو أرادت إحدى المعتقلات النزول إلى غرفة الطبابة مثلاً.

ظلت التركمانيات مهملات لأكثر من ثلاث سنوات، ولم ينزلن إلى المحاكمة(117). وسيلة تواصلهن الوحيدة مع الخارج هي الرسائل التي كن يرمينها للمعتقلين التركمانيين في فترات النفس، حيث كان مهجع النساء يطلّ على باحة تنفس الرجال. أخيراً نسّقن جميعهن للقيام بإضراب عن الطعام، إضراب قد يساعدهن في تحقيق مطالبهن! الأهم أن يضغطن على إدارة السجن لإطلاق سراح من انتهت مدة سجنها.. ومنهن أنا. كان إضراباً متدرجاً.. كل يوم تضرب معتقلة. لكن ردّ إدارة السجن كان عنيفاً، فقد قامت ببناء منفردات متطرفة للنساء، عددها أربع منفردات قريبة من المطبخ، وهددت الإدارة برمي التي تستمر في الإضراب في إحداها. بالفعل استطاع الخوف من الإنفرادي أن يوقف إضراب بعض البنات دون أن ينلن شيئاً منه. استمر إضرابي مدة سبعة عشر يوماً. كان رئيس المفرزة (العقيد) يأتي كل يوم إلى المهجع ليقدم العهود لي، لكني لم أصدقه. توالى مجيء عقداء من فرع الأمن2 العسكري يحاولون إثنائي عن الإضراب بلا جدوى. كان الأمر بالنسبة إلي تحدياً حقيقياً، إما سأعيش حياة مشرفة، أو سأضرب عن الطعام حتى الموت. التعامل معي بعشوائية جردني من شعوري الإنساني، ولم أكن قد فقدته طيلة سنوات اعتقالي، وأنا لا أدري ما سبب رميي في المعتقل بعد انتهاء مدة حكمي؟!

في أحد أيام الإضراب استيقظت صباحاً، كتبت وصية لابنتي ديانا، وكانت خارجاً مع أبيها، لم يكن الأمر حباً بالموت، بل حباً بالحياة، كنت أريدها أن تعشق الحياة بشرف. كنت مصممة أن أضرب عن الطعام حتى النهاية.

قال لي العقيد يوماً:

ـ جاء أخوك اليوم وقال أن اسمك موجود في قائمة العفو بالفرع.. ليش مضربة لهلق؟
ـ كان لازم إطلع من تموز.. مر شهرين وما طلعت.
ـ إذا لم تفكي الإضراب سنشحطك على السجن الكبير.. شو رأيك؟
ـ...
حين أتى شقيقي أسامة حاملاً معه قائمة العفو من الفرع، واسمي مذكور فيها، توقفت عن الإضراب. وهذا ما كان أطلق سراحي بعد عشرة أيام من ذلك أي في نهايات سنة 1998.

1988
اليوم تغيرت رؤية الكثيرات من المعتقلات السياسيات كما تغيرت رؤيتي تماماً. كنّا نعتقد، قبل دخولنا السجن المدني، أننا سنغيّر العالم بعملنا السياسي. اكتشفنا، بعد خروجنا، أننا لم نكن نعرف الشيء الكثير عن عالم كنا نسعى لتغييره!! اعتقلت العشرات منا في سجون مدنية، كسجن النساء مثلاً، تواجدنا مع أسرة كاملة، عمل الأب فيها على اغتصاب جميع بناته وتحت إشراف الأم! ربما كان شيئاً صادماً لنا.. قاسياً إلى درجة لا يمكن تخيلها ونحن على تماس مباشر مع أولئك النسوة وعلى مر السنوات، لكن كان ينبغي أن نراه ونسمعه ونحسّه بكل أرواحنا!.

سجينة قضائية قتلت زوجها. بعضنا، نحن السياسيات، لا يعرفن إلى اليوم، بعد سماع قصتها، ما الذي قد نفعله لو كانت إحدانا في مكانها؟!

سجينة ذوّبت زوجها بالأسيد بالتعاون مع عشيقه وعشيقته!!!

أمر أساسي خرجنا به من السجن باعتقادي يتمثل في أنه لا الصحيح صحيح بالمطلق، ولا الخطأ خطأ بالمطلق، والحدود بينهما ظرفية.. ظرفية للغاية.

وضعت فاديا.ش بداية، حين نقلت إلى سجن النساء المدني، في الغرفة الأساسية رقم 3 حيث المعتقلات الإسلاميات والشيوعيات معاً. ثم نقلت بعد أيام إلى المهجع رقم 7 حيث كان هناك خليط عجيب يضم المعتقلات السياسيات (11 شيوعية) مع أربع سجينات بتهم اقتصادية، وواحدة فقط بتهمة القتل. تلك الأخيرة لم تقعد كثيراً في المهجع، فقد راحت تختلف مع السياسيات على القناة التي تريد مشاهدتها في تلفزيون الأبيض والأسود. ثم اشتبكت معهن بالأيدي والعض والصراخ والشتائم.. حتى أخرجتها إدارة السجن من المهجع. كل ما كان يمكن أن تكرهه فاديا في المجتمع، أن تشمئز منه وتهابه، تجلّى أمامها هنا، وضعت في خضمّه تماماً! مع ذلك صارت علاقتها ببنات الدعارة مثلاً جيدة:

نساء مسكينات ومعظمهن مشوّهات جسدياً ونفسياً. مع الزمن لم تبق سجينة منهن لم تعرف فاديا قصتها، ومع الزمن صارت تكتشف أن معظم تلك القصص كاذبة..

امرأة الضابط التي دفعها زوجها إلى ممارسة الدعارة، بداية مع بائعي البطيخ وانتهاء بشبكة دعارة كبرى.

صفاء الفلسطينية، التي كانت تعمل كمعالجة فيزيائية وناشطة في وسط المقاومة الفلسطينية، انتهت كسجينة دعارة.

تلك العلاقات الإنسانية الحميمية جعلت إدارة السجن تتهم السياسيات بأنهن ينشطن، سياسياً، في صفوف القضائيات. أتى عناصر الأمن السياسي من فرع الأمن إلى السجن المدني للتحقيق في تلك الاتهامات. يومئذ كانت السياسيات يأخذن دروساً في اللغة الفرنسية، تعطيهن إياها إحدى المعتقلات الشيوعيات وهي هالة. ف(118). طلبهن ضابط الأمن السياسي كل واحدة على حدة كي يحقق معها في غرفة العقيد مدير السجن.

ثم جاء دور فاديا.ش كي تقصد غرفة التحقيق. ذهبت إليه كما هي بثياب بالية ممزقة تلبسها في الحالات العادية. على كل حال لم تكن تستطيع أن تكون أكثر قيافة، فلم يكن هناك ثياب كافية لجميع السياسيات(119).

سألها الضابط باستغراب وهو يرمقها من الأعلى إلى الأسفل:

ـ إنت فاديا. ش؟!!
ـ أنا..
صمت الضابط لثوان، فيما كان خليط من الاستغراب والشفقة والغضب يشعّ من عينيه، ثم بادرها من جديد:
ـ أنتن تنشطن سياسياً بين السجينات..
كأنها كانت تنتظر كلمة لتنفجر بكل ما كان يعتمل في صدرها، ألقت كل ذلك في وجه الضابط:
ـ هل تعرف ما الذي يعنيه أن تكون معتقلة سياسية في سجن مدني؟!.. هل جربت هذا؟! تقرف من كل شيء حتى من حالك.. تقرف حتى إن تستمع إلى الأخبار، فما بالك بالنشاط السياسي بينهن..
ـ...!!
ـ أحلم أن أعيش عمري كله في منفردة في الفرع، ولا أعيش هنا يوماً إضافياً.. نساء لا يمكن أن تنشط معهن في شيء فما بالك بالسياسة؟!!
لم ينبس الضابط بكلمة، اكتفى بالصمت وهو ينظر إليها ملياً، ثم تركها تذهب ولم يستدع أية سياسية بعدها.
هنا كان التحقيق قد توقف.
...
لكن مع الزمن اكتشفت بعض المعتقلات أن للسجانة قلوب بشر أيضاً:

بابا نويل كان لقب السجان ع في فرع الأمن1. كان اللقب مناسباً له بكل ما يحمله من دلالات تاريخية. في يوم من الأيام جلبوا للمعتقلات، وكنّ حوالي سبع عشرة معتقلة في المزدوجات، قصعات برغل كوجبة للعشاء. طعم البرغل ليلتئذ كان شبيهاً بطعم زيت السيارات، ورائحته المقرفة تنتشر حوله حتى يصعب الاقتراب من القصعة المصبوب فيها. لم تستطع أي منهن أن تضع لقمة في فمها. اللواتي فعلن، تحت ضغط الجوع الشديد، لفظن كل ما أكلنه على الفور. كن جائعات للغاية، خصوصاً أن وجبة الغداء لم تكن كافية. إحداهن تقيأت كل ما التهمته، سريعاً، على أرض المزدوجة.

صارت بثينة.ت تنغّم أغنية زياد الرحباني في الزنزانة:
أنا مش كافر..
والمعتقلات يرددن وراءها:
بس الجوع كافر.

ثم صرن يصرخن بأعلى أصواتهن: جوعانين يا ع.. جوعانين يا ع. فتح السجان ع الباب عليهن، رمقهن وهن منتشرات في أرجاء الزنزانة، يتوسدن الحيطان وينادينه.. ثم أغلق الباب. بعد دقائق عاد من جديد. كان يحمل كيساً مليئاً بالطعام رماه لهن ثم أغلق الباب.. اندفعت المعتقلات إلي الكيس، ولم يكدن يفتحنه، ويتفاجأن بالنفائس القادمة، حتى عاد ع من جديد ليلقي إليهن بكيس آخر! كان ع قد ذهب إلى مهجع العرفاتية المجاور للمزدوجات، ولمّ منهم ما يزيد على حاجاتهم بعد أن أخبرهم بحاجة المعتقلات للطعام. الأكياس، المليئة بعلب الطون والسردين المعلّب والفواكه وغيرها، جعلت المعتقلات في ذلك المساء يحتفلن كما لم يحدث من قبل، ويحضّرن من التفاح والبرتقال، الذي جلبه ع، سلطة فواكه فاخرة!!..
...
لكن بثينة.ت كانت ماتزال تنزف منذ اعتقالها الأول، وهي نفساء في يومها الأربعين في 9/12/1986 حيث اعتقلت لمدة أيام، وحتى اعتقالها الثاني في 14/8/1987. بعد فترة من الاعتقال الثاني في فرع الأمن1 صارت التصبغات تنتشر في أنحاء جسدها كله، وراح النزف يشتد.. بعد طول مطالبات وإلحاح أخذت إلى المستشفى، وهناك طالبوها بإجراء خزعة حين اشتبه الدكتور بسرطان في الرحم. كان عليها، بالضرورة، أن تراجعه بعد أسبوع، أسبوع واحد لا غير. بقيت بثينة في الزنزانة أكثر من شهر دون أن تعرف نتائج الخزعة وقد منعت من مغادرة الفرع. كانت تعتقد طيلة تلك المدة أنها مصابة بالسرطان. والموت، الذي راح يمدّ لسانه لها شامتاً، يجعلها تفكر في كل لحظة بابنتيها في الخارج، وما الذي سيحصل لهما إن استطاع السرطان أن يتغلغل بالفعل في جسدها. أما النزيف فقد أضحى مستمراً بلا توقف. بعد ذلك الشهر العصيب سُمح لبثينة بمراجعة المستشفى. لم يكن هناك تسرطن في رحمها، لكن تقرحاً قديماً غير معالج أدى إلى كل تلك المشاكل، وقد أضحت خطيرة للغاية.

لم يعرف الدكتور بالطبع ما سبب ذلك التقرح! ذلك أن السجان الذي أخذها لم يفصح عن وضعها الحقيقي. كانت مجرد مريضة تراجعه، والرجل الذي معها مجرد قريب. لكن الدكتور ذاك كان حاسماً: ينبغي أن تخضع بثينة لعمل جراحي مستعجل وإلا تعرّض الرحم للسرطنة بالفعل. وأجرت بثينة العملية.

على سرير المشفى المعدني استيقظت من البنج وحدي. لم يكن هناك أحد في الغرفة، وحدي فقط. بما أن المرافق الوحيد كان السجان زياد، سجان قاس وجاف، جلاد بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، كان مجرد وجوده معي كافٍ لأن يدخلني في دوامة من الاكتئاب. كنت أستيقظ شيئاً فشيئاً وسط غلالة ضبابية من الألوان والأصوات المتداخلة، أعي بشكل تدريجي تضاريس المكان وحالتي: يداي مقيدتان إلى السرير، صوت الممرضة العالي يتناهى إلي بعيداً بعيداً، كانت تصرخ على السجان زياد:

ـ فكّ يديها حرام عليك.. ألا تراها ليس لديها قدرة على تحريك رأسها.. كيف ستهرب؟!!!.. فكّها حرام عليك.. حرام.

لكن يديّ ظلتا مقيدتين إلى السرير وأنا أستيقظ باكية بهمّ وحيد: أن أعرف ماذا ولدت؟

لا أعرف لمَ ظننت أني أستيقظ من بنج الولادة! وبأني الآن قد وضعت طفلتي. ولما لم يردّ أحد علي أكملت صراخي بصوت أعلى:

ـ كسرتم نزار وأخذتوه إلى السجن!
ـ...
ـ كرسي الرئيس يتهدد إذا طلعت أنا من السجن؟!!!
في ذلك اليوم، على سرير المستشفى، شتمتُ الحكومة والنظام. شتمت وشتمت دون أن أتذكر ما الذي قلته. أذكر أن السجان زياد حاول إسكاتي بشتى الوسائل دون أن يستطيع. أخيراً نظرت إليه، بين النوم واليقظة، وهمست إليه بألم: قلبك أسود يا زياد.. قلبك أسود..

ـ لماذا تبكين؟
سألني وقد هاله كلامي الذي ينزف ألماً وحقداً.
ـ لأنك قبالتي..
أجبته.
-ـ بدل أن أرى زوجي أو أمي وأولادي أراك أنت..

راح بكائي يزداد، خاصة حين كنت ألمح القيود وهي تكبلني إلى السرير الحديدي البارد. في اليوم التالي أعادني السجان زياد إلى الزنزانة في الفرع. سلّمني إلى رفيقاتي منهكة متعبة. ثم حكى لهن، والدموع في عينيه، ما حدث. كانت دهشتهن كبيرة وهنّ يرين زياد يبكي. كان السجان، الذي طالما كان جلاداً بامتياز، متأثراً وهو يروي على الباب ما قلته في المستشفى وأنا أستيقظ من البنج..

ـ لست سيئاً إلى هذا الحد.. لست سيئاً.. أنتن تكرهنني!! تكرهنني..
يومها أقسم زياد ألا يعمل جلاداً أبداً. بالفعل لم تلمحه أي من المعتقلات في أقبية الفرع بعد تلك الليلة.

بعد ذلك بأشهر بعثت بثينة بأول رسالة إلى أهلها في الخارج. كان ذلك بعد ستة أشهر من اعتقالها، أي في شباط 1988. رسالة قصيرة كانت، بقلم الرصاص على ورقة مغلفة لباكيت سجائر الحمرا، بعثتها مع السجان م الذي كان لقبه، كما سبق وقلت، الحمام الزاجل. الرسالة بدأت كما يلي:

(ماما وبابا الغاليين، أخوتي الأحبة:
أشواقي بلا حدود، لكم، للأطفال، للحياة. صحتي وصحة نزار جيدة.. اطمئنوا. أحاول أن أعيش التجربة القاسية كأفضل ما يمكن فهي تجربة رهيبة لم أهيئ نفسي قط لها.. أعيش مع أربعين فتاة، أغلبهن شيوعيات ومن كافة المحافظات، ونحاول أن نوجد أفراحاً صغيرة تخرجنا من وحشتنا).

وللرسالة بقية على تلك الورقة. أخذ الحمام الزاجل العهدة وذهب إلى أهل بثينة. حين عاد م، بعد ساعات، راح يلوّح مازحاً بمجموعة من الصور وهو قادم في الكوريدور الطويل المفضي إلى المزدوجات. كان يعلم أن بثينة تنتظره وراء باب الزنزانة بفارغ الصبر وتراقبه من الثقب. وقف م وراء باب الزنزانة ليخبر بثينة بتفاصيل زيارته، بأنه لم يستطع أن يقول لأمها شيئاً لأنها شرعت بالبكاء حالما أعطاها الرسالة. إثر ذلك كتبت بثينة رسالة قصيرة للغاية على صفحة واحدة ما زال السيلوفان ملتصقاً بها فالوقت لم يكن كافياً لنزعه عنها. كان الحمام الزاجل مستعجلاً، والرسالة المستعجلة مثله رد على زيارته لأهل بثينه.. وأخذها إليهم من جديد. حين اكتشف أمر م في الفرع، وبأنه أمضى شهوراً يوصل رسائل المعتقلات إلى ذويهن، قام مدير السجن بمعاقبته، عذّبه بضربه ضرباً مبرحاً في كوريدور الفرع على مسمع من معتقلات ومعتقلي الزنازين. عوقب م لفترة طويلة، سجن خلالها ولم يسمح له بالنزول إلى الأقبية.

بعد ذلك لم يعد قادراً على إيصال أية رسالة إلى الخارج.

في جزء من تلك الرسالة المستعجلة كتبت بثينة:
(أحبائي: العشر دقائق التي قضيت بينكم بكل تفاصيلها، طعم فنجان القهوة، تفاصيل المنزل وازدحام المرضى في العيادة. وتلك الطفلة التي خرجت من الغرفة في نهاية الزيارة والتي انفطر قلبي عندها.. هل هي راما، كل ذلك أحسست به وما زلت أعيشه منذ تلك اللحظة وحتى الآن..

ماما الحبيبة: نبع الحنان والعطاء الذي لا ينضب وست الحبايب. دموعك جرحت قلبي وأوجعتني.. أرجوك لا تذرفيها ثانية.. أريدك قوية عندما أعود فأنا بحاجة لكم أقوياء.. أريد أن أتخيلكم تبتسمون دوماً، وتسعدون، وتستمتعون بالحرية، لا وقت نقضيه بالبكاء والقهر.. يكفي القهر الذي يسببونه لنا..

والمرسل: ماذا أوصيكم بشأنه.. نموذج من البشر قل مثيله.. احرصوا عليه وعلى مشاعره واشكروه معنوياً ولا تحاولوا غير ذلك. دعوه يرى كل شيء فأنا أراكم بعيونه، لتكن رسائلكم بالتفصيل الممل فهي ليست رسالة منكم لي.. إنها رسالة من كل الأهالي لاثنتين وثلاثين فتاة بينهم أكثر من عشر أمهات.. ستكون رسالتكم زادنا، نلجأ إليه كلما لفنا الشوق).
...
أما ناهد. ب فلديها تجربة مغايرة مع السجانين!
بعد انتهاء التحقيق معها أخذها السجان الشاب إلى غرفة جانبية ملاصقة لغرفة التحقيق ليكتب إفادتها ويثبّتها.
كانت ناهد متعبة ومنهكة حدّ الانهيار. بما إن التحقيق استكمل مع ناهد فقد بات من المعروف أن لها حبيباً في الخارج، اعتقل قبلاً لفترة وجيزة، ثم أطلق سراحه. اسمه كان حاضراً في التحقيق دائماً، وعلاقتها فيه مكشوفة أمام المحققين وأمام السجان أيضاً.. أغلق السجان الباب بسرعة، أجلسها على كرسي قبالة الطاولة. كان يبدو متحمساً للغاية ومثاراً. جلس على كرسيه، وبدل أن يبادر بتدوين إفادتها صار يسألها بفضول عن حبها! استحالت عيناه، اللتان كانتا قبل قليل عيني سجان، إلى عيني شاب متوفز، يريد أن يعرف ماهية الحب، يريد أن يسمع عنه بلسان امرأة غريبة، غريبة بأفكارها، غريبة بمظهرها، والأهم غريبة عنه تماماً بحبها!!

ـ لمَ تحبينه؟!
كان سؤاله الأول والمتردد.
ـ لأن أفكاري مثل أفكاره..
أجابت ناهد.
ـ فقط؟! ربما تحبينه لأنه غني؟!!
ـ لا.. ليس غنياً أبداً.
ـ عنده بيت وسيارة؟!!
ـ لا..
ـ لمَ تحبينه إذاً!!!

استمرت تساؤلات الشاب طويلاً. لم ينتبه حتى كان وقت التحقيق قد مرّ دون أن يدون أياً من الإفادات، ودون أن يسمع من في الخارج أصواتاً تدلّ على استكمال تحقيقه المفترض. انتفض من فوره، صار يضرب الكرسي الجلدي أمامه، ويطلب من ناهد الصراخ على أساس أنه يضربها مستكملاً أخذ إفادتها.. ثم عاد للسؤال مجدداً:
ـ لم تحبينه؟!! احك لي أكثر..
ـ...
حب من وراء القضبان:
تفاصيل الأنوثة والعشق

ربما تحدث الكثير من المعتقلين، سواء كتابةً أو مشافهةً، عن المرأة، عن غيابها وحضورها الطاغي، حضورها في الأحلام واليقظة، في الكلام والسكوت، في البياض والعتمة. ولطالما غصّت المهاجع والزنازين بالشهوة، بأحاديث الغواية، وبحمحمات لذة كان لها مسارب مختلفة للتحقق. لكن ماذا عن حضور الرجل في حياة المعتقلة؟

الأمر بالتأكيد مختلف تماماً بالنسبة إلى النساء: فحضور الرجل كان مشفوعاً على الدوام بالرغبة والخوف، الرغبة بالذكورة والخوف والقرف من بطش الجلاد. كان إذاً حضوراً ذكورياً محمّلاً بكل أغلال المجتمع خارجاً، وبكل أغلال دواخلهن.

لكن الأهم أن حضور الرجل في حياة المعتقلات، على عكس المعتقلين، كان حضوراً فيزيائياً. السجانة الذكور موجودون في كل دقيقة من دقائق النهار وفي صمت الليل وجوانبه الغامضة.
لا يعرف البعض، وقد يعرفون، ما قد يفعله صوت سجان يتناهى في صمت الليل إلى امرأة معتقلة منذ سنوات!! ما قد يحمله ذلك الصوت من نبش لرغبات كبتت طويلاً، من غواية لا متناهية، من تلاطم أمواج الشهوة مع كون الرجل سجانها ليس إلا، ومن اعتبارات تفرضها رقابة اجتماعية في الزنازين أشد هولاً من رقابة مجتمع طاغٍ في الخارج! حين يضحي حذاء عامل الصحية، المتروك بباب المهجع وهو يصلح الحمام، قادراً على بلبلة المعتقلات لأيام في سجن النساء. سجان يهرول ليلاً لأمر ما، وهو يرتدي بيجامته المرقشة، يجعلهن يستيقظن ليتدافرن على شباك المهجع كي يلمحن رجلاً ببيجاما.. رجل يرتدي بيجاما.. يا إلهي! كم كانت غواية ما بعدها غواية!
أن تعشق معتقلة سجانها أمر يحدث و ربما حدث.
أن تعشق معتقلة معتقلاً آخر أمر يحدث وربما حدث أيضاً.
أن تُفغم الأقبية بالعلاقات، بالأجساد المتداخلة، وبرائحة العشق والجنس بين السجانة والمعتقلات وبين المعتقلين والمعتقلات، إن أمكن الظرف بالطبع، أمر حدث ويحدث بالتأكيد..
والقصص تتوالد، تتناقل، وتكبر.

حدث الكثير هناك، سمع الكثيرون عدداً من القصص ربما كان بعضها حقيقياً، وربما كان بعضها مختلقاً! فالمعتقلات في النهاية نساء، بشر بالتأكيد، ولسن مجرد تماثيل حجرية. والذاكرة المستترة بألف حجاب وألف اعتبار، وجدران المعتقل كذلك، هما وحدهما الشاهدان في النهاية. القصص ذاتها ستتكرر، بسيناريوهات مختلفة متباينة، لن يكون هناك فرق بين الثمانينيات والتسعينيات وحتى السبعينيات، لأن الحب واحد، ولأن السجون واحدة، ولأن الإنسان، مهما اختلف، واحد.

إذاً هو موضوع زمن لا غير.
إحدى تلك القصص حدثت في سنة 1987:

فقد ظل عدنان.م في بداية اعتقاله حوالي ثمانية أشهر في المنفردة ذاتها في فرع الأمن1، بعدئذ نقل إلى منفردة أخرى حيث بقي فيها حوالي الشهر. كانت المنفردة الثانية ملاصقة لزنازين المزدوجات حيث تسجن المعتقلات. الزنزانة والمزدوجات يشتركان بالحائط نفسه، وهناك في المزدوجات كانت زوجته لينا.و معتقلة. عرفت لينا باعتقاله في تلك المنفردة عن طريق سجين آخر في المنفردة المجاورة، كان رفيقاً سجيناً فيها قبل مجيء عدنان، ومعتقلات المزدوجات يتحدثن إليه عبر الحائط قبلاً وذلك بلغة مورس، أي بالدق على الحائط المشترك. في ذلك المساء أخبرها السجين أن زوجها جيء به اليوم إلى المنفردة المجاورة.

ما إن حلّ المساء ورحل السجانة حتى التصقت لينا بالحائط المشترك، وطفقت تدقّ لعدنان محاولة أن تخبره بوجودها هنا. في ذلك المساء كان لقاؤهما الأول، عبر الجدار بالطبع، وبعد شهور طويلة من الفراق.

ولأن الحب هو القاهر الأكبر للسجون، السلاح الأمضى في وجه كل الجحيم المحيط، فإنه يتضخم هناك في الداخل، يتضخم حتى يطغى على كل أوقات المعتقل/ المعتقلة، على الروح والذاكرة وحتى أقاصي العقل، تصبح كل ثانية من الوقت المسفوح بين الجدران تتوق له فقط.. أي للحب. هذا ما جعل أوقات لينا تحقن بشيء جديد بعيداً عن شحّ المزدوجات، تحقن بوجود رجلها الذي جعل الحائط مجرد غلالة شفافة لا تستر ولا تحجب شيئاً، تحقن بحبها: المعين الأكبر على الصبر.

بداية كنت أتحدث إلى عدنان بالدق على الحائط المشترك.
ما إن يغلق السجان باب منفردته حتى أهرع إلى الحائط لاهثة مشتاقة. لكن عدنان كان مصراً على سماع صوتي، فصرت ألصق فمي بالحائط، وأهمس إليه خاصة أني كنت أستطيع الكلام لأن السجانة سيعتقدونني أتحدث إلى رفيقاتي في الزنزانة، أما عدنان فكان عليه أن يسمع فحسب ويجيب بالدق، فأي صوت سيخرج من المنفردة، ويسمعه السجانة، سيكون كفيلاً بإنزال أشد العقوبات عليه.

استطعت وعدنان أن نسرق أجمل الساعات بين نوبات السجانة كي نلهب الحائط البارد والأصم بسعير بوحنا وشوقنا المتدفق وسط الحرمان. شوقنا ذاك كنت أعيشه كموجة نارية تلفح كل برد وعطنة الزنزانة. في الساعة الثالثة صباحاً أتى إلى المزدوجات السجان م، الحمام الزاجل كما كنا نلقبه. المعتقلات جميعهن كن نائمات:

ـ أين لينا؟..

همس من وراء الباب ليوقظني. حالما هببت إلى الشراقة أخبرني همساً أن أصعد إلى السقيفة(120) على الفور، وغاب في عتمة الكوريدور. حين طللت من شباك السقيفة، المشرف على الكوريدور الخارجي الطويل، رأيته.. كصاعقة مباغتة كان وجهه يطلّ علي من الأسفل.. يا إلهي إنه هو: عدنان!! كان الحمام الزاجل، وقد خلا السجن من المراقبة، قد ساق عدنان خارج المنفردة إلى الكوريدور وأضحى بالتالي مواجهاً تماماً لي أنا المطلة من السقيفة. لم أستطع أن أتفوه بنأمة! مشدوهة ظلت، صامتة، مصعوقة، وعيناي مزروعتان على وجه حبيب لم أره منذ شهور طويلة. يا إلهي كم تغيّر، نحل كثيراً، وبدا متعباً وهو يرتدي البيجاما.. بقية المعتقلات لحقن بي إلى السقيفة، وصرن يتحدثن متلهفات إلى عدنان، يرشقنه بالأسئلة المتلاحقة وهو يحاول جاهداً الرد.

أما أنا فبكماء.. بكماء.

فجأة صدح صوت بثينة.ت في صمت الفرع بأغنية فيروز. كأنها كانت تغنيني، كل ما كان يجنّ بداخلي من كلمات الحب والعتاب والشكوى واللهفة وقفت منحشرة في حلقي، كل ما تمنيت لشهور أن أقوله في أحضان عدنان قالته بثينة بأغنية من بضع كلمات:

لشو الحكي.. طالل علينا قمر.
خلّي النظر للنظر.. يشرح هواه ويشتكي
لشو الحكي؟!

كانت فيروز، بصوت بثينة، تحكي تماماً ما حدث: النظر للنظر، والحب في العيون فحسب.

لشو الحكي عند التلاقي سوا
أهل الهوا ع الهوا بيتفاهموا من دون حكي!

شيء شبيه حدث في ذكرى زواجهما. كان عدنان لا يزال في المنفردة ذاتها، وعبر إشارات المورس أخبر لينا أن تنتظر هدية منه ستصل اليوم مع السجان المسؤول عن توزيع الطعام والتنظيف، سجان الخدمة جورج، وكان شاباً متعاوناً للغاية. ركضت لينا إلى باب المزدوجات الحديدي. بقيت طويلاً واقفة بانتظار السجان جورج وقد توقعت أن يقذف لها بهدية ما عبر الشرّاقة.، رسالة أو ما شابه تحمل رائحة عدنان وحبه، ووعداً ما بآت أجمل وأكثر دفئاً. لكن جورج وقف وراء الباب ولم يفتحه! لم يقذف لها بأي شيء. انتظر هنيهات ليصدح فجأة صوته اللطيف بأغنية آسرة:

كما ينبت العشب بين مفاصل صخرة وجدنا غريبين معاً.
وكانت سماء الربيع تؤلف نجماً ونجمة
وكنت أؤلف فقرة حب
لعينيك غنيتها...

كانت أغنية مارسيل خليفة لقصيدة محمود درويش هي الهدية!

غناها جورج بكل جوارحه كأنه يغنيها لحبيبته. راحت لينا تجهش بالبكاء فيما واصل جورج غناءه:
أحبك حب القوافل واحة عشب وماء
وحب الفقير الرغيف
حب الفقير الرغيف

لم يطل الزمن بين ذكرى زواجهما تلك والليلة التي تم ترحيل عدنان فيها من المنفردة في فرع الأمن1 إلى المهجع قبل أن ينقل إلى السجن الصحراوي. جاء السجان إليه بعد العشاء قائلاً:

ـ أنهيت طعامك؟.. هيئ نفسك للذهاب.. سترحل الليلة.

ما إن أغلق السجان الباب الحديدي حتى انتفض عدنان وشحط على طول الحائط الإسمنتي الخشن بالمعلقة البلاستيكية التي يأكل بها، إشارة كان قد اتفق ولينا عليها في حال أتى موعد ترحيله من الزنزانة، لم تنته الشحطة أسفل الحائط حتى كانت الملعقة قد ذابت، ويده التي أكملت الحركة نفرت الدماء منها.

حين سمعت لينا الإشارة انقضت على الحائط، لكن السجان كان قد عاد إلى منفردة عدنان وصوته يصل إليها واضحاً عبر الجدار.. سيق عدنان دون أن تستطيع لينا توديعه أو تمويله بأية كلمة للآتي المؤلم.

ولم تستطع لينا أن ترى زوجها بعدها حتى أطلق سراحها بعد سنوات وتم فتح الزيارات في السجن الذي نقل عدنان إليه بعد السجن الصحراوي، ليظل معتقلاً فيه حتى سنة 2001 حين أطلق سراحه مع مجموعة من المعتقلين.
...
أما في سنة 1986 فلم يكن تلفزيون الأبيض والأسود الصغير، في منتصف مهجع المعتقلات السياسيات في سجن النساء، نافذة مشرفة على عالم خارجي بعيد ومنسيّ فحسب، بل كان وسيلة لإيصال الأخبار السيئة منها أولاً قبل الجيدة!

على قناة التلفزيون الأولى، القناة الوحيدة التي يبثها التلفزيون، وأثناء النشرة الرسمية للأخبار في الساعة 8.5 ليلاً كان الإعلام الرسمي يبثّ محاكمات المسلمين، أو المتعاونين معهم، وقد اتهموا بسلسلة من الاغتيالات هزّت البلاد في السنوات الأخيرة، وكذلك بسلسلة من التفجيرات للحافلات ومرافق عامة أخرى.

كل يوم تطلّ مجموعة من الشباب، لهم سحن الخارجين من القبور، على الشاشة الضئيلة يتلون مجموعة من الجمل المتلاحقة كأنهم روبوتات لقّنت ما عليها قوله.

ذات ليلة بينما كانت المعتقلات الإسلاميات، ومعهن الشيوعية الوحيدة هند.ق، يتابعن الأخبار في مهجعن بعد إغلاق الأبواب، صرخت يسرى.ح فجأة، وضعت يديها على فمها متسمرة. انتبهت بقية المعتقلات إليها دون أن يعرفن ما الذي يجري!!.. هبّت يسرى واقفة من فورها، كانت ما تزال تغلق فمها بيديها وهي تدور كالممسوسة في المهجع وقد انفتحت عيناها على سعتهما، عينان مصدومتان تنضحان رعباً هلعاً وحزناً. فجأة انهارت يسرى على الأرض داخلة في نوبة فظيعة من البكاء العالي والزعيق المتوحش حتى فقدت الوعي. فيما بعد ستعرف المعتقلات أن ما حدث مع يسرى كان بسبب الخبر الذي بثّه التلفزيون: خبر إعدام زوجها وهو الأول في قائمة الإسلاميين المحكومين في تلك الليلة.
...
ستتكرر القصص على مدار السنوات بين جدران الزنازين، تختلف تفاصيلها فحسب. في سنة 1984 وفي اليوم السابع بالضبط لاعتقالها في المنفردة طلبت هند.ق من السجان أن تخرج إلى التواليت. هناك كانت فرصتها الوحيدة للجلوس الذي كانت محرومة منه في الزنزانة إلا خلسة أثناء ذهاب السجانة. إلى التواليت راحت هند تعرج إذ أن أسفل قدميها، المتقرح من التعذيب، يجعل سيرها صعباً للغاية.

حين عدت إلى المنفردة فوجئت بصابونة لها رائحة ذكية مرمية في عتم الزنزانة. كانت الصابونة تعجّ بأبيضها في الزنزانة الفارغة إلا من علبة محارم، اشتريتها من السجان ببقية المال المتبقي معي، ومن المياه التي تملأ أرضها. للوهلة الأولى شعرت بالخوف من هذه الهدية المفاجئة، ودسستها بسرعة في علبة المحارم. حين خرجت عند الظهر من جديد إلى التواليت وعدت إلى المنفردة فوجئت بباكيت دخان أجنبي أيضاً.

في الأيام السابقة كنت ألاحظ وجود ست منفردات في آخر الكوريدور، واحدة منها يظل بابها مفتوحاً على الدوام! كنت أعتقد أن وضع المعتقل فيها كوضعي، أي أن نزيلها مجبر على فتح باب زنزانته ليراقبه السجان بصورة مستمرة كما يفعلون معي أنا. كنت أفكر أنه قد يكون مجبراً على الوقوف مثلي طيلة الوقت، وربما كان الماء والملح يخز أقدامه الحافية.. مثلي أيضاً.

مع الزمن صرت ألاحظ أن وضع تلك المنفردة خاص، وأنا أراقبها من شق الطاقة في باب زنزانتي. نزيل تلك المنفردة كان رجلاً سميناً يتمشى على هواه في الكوريدور فيما العناصر ساهرة! يعني على مرأى ومسمع السجانة!! الأمر الذي كان محالاً حدوثه مع غيره.

في تلك الليلة، في الساعة الثانية فجراً، دق ّباب منفردتي وأدخلت سيجارة شاعلة من شق الطاقة! العناصر كانوا نائمين بالتأكيد. من يرمي إلي بالسيجارة إذاً؟!. قمت من فوري إلى الطاقة، سحبت السيجارة بسرعة. كنت خائفة ومتفاجئة ومرتبكة. لكن صوتاً دافئاً، لا يشبه صوت سجاني البتة، أتاني فجأة:

ـ مسا الخير يا حلوة.
ـ أهلاً.. من؟!!
قلت له بلهفة وقد أحسست للحظات بأني حلّقت خارج منفردتي وصوت رجولي حميم يخاطبني.
ـ كيفك؟ كيف أقدامك؟ كيف جسمك؟ من أنت؟ ما الذي فعلته حتى يعاملونك هكذا؟!!
ـ...
ـ هل أنت رئيسة حزب ما.. قلبي يتقطع عليك.. وصلتك الصابونة؟
ـ من أنت؟

سألته بعد طول استماع وأنا أمجّ من لفافة التبغ الشهية. كان الرجل قد راح ليهرول حافياً إلى آخر الكوريدور، اطمئن أن السجانة لا يسمعونه، ثم عاد من جديد إلي. حفيف خطواته المتسارعة كان يتناهى واضحاً إلي.. أجابني أن اسمه أبو مهند وهو سكرتير ياسر عرفات الشخصي. كان ينبغي أن يقوم بتهريب الأموال عبر طرابلس فألقي القبض عليه، وهو هنا منذ حوالي تسعة أشهر.

ـ بابي يظل مفتوحاً.. كل ما تريدينه أستطيع أن أجلبه لك.

مرت الأيام وهند في المنفردة، وأبو مهند ينام خلال النهار وعند أول الليل يستيقظ ليدخل لها سيجارة شاعلة من الطاقة، تنتظرها بفارغ الصبر، ويبدأ بالحديث معها فيما تلمح هي صورته مضببّة من شق الطاقة ذاته. طلبت منه يوماً قلماً ومجموعة من الأوراق، ثم أوصته أن يكتب لها عناوين الجرائد وهي تصله بانتظام.

ـ العناوين فحسب، كي أعرف ماذا يدور في الخارج.
بعد فترة سألها أبو مهند سؤالاً كان ينبغي أن يسأله قبلاً:
ـ ما اسمك؟
ـ هند..

 حالما سمع أبو مهند باسمها اختفى صوته فجأة! المشهد من شق الطاقة بات فارغاً أمام نظر هند، ثم سمعت من بعيد صوت باب منفردته يغلق بعنف في سكون الليل. لم تلبث هند أن عادت إلى النوم، كانت مستغربة لتصرفه لكنها لا تستطيع شيئاً. ثم استيقظت من جديد على صوته الذي عاد من الخارج. سألته عن سبب تصرفه.

ـ حقيقة ذهبت لأبكي.. لم أكن أريدك أن ترينني وأنا أبكي.. اسمك كاسم ابنتي الصغيرة.. هند.. اشتقت لها كثيراً. وأدخل من شق الطاقة صورة لابنته وابنه: طفلان لطيفان أسمران. وأدخل مع الصورة ورقة عليها عناوين جرائد اليوم.

ـ اليوم رأيتك من الخلف وأنت تخرجين إلى التواليت.

صار أبو مهند بالنسبة إليّ حالة أثيرية لا أقدر على وصفها حتى اليوم، حالة حملت لي طاقة هائلة على الأمل والبهجة وسط الظلام ما تحت الأرضي في منفردتي.

كان يأتيني بأخبار المعتقلين في الزنزانات الأخرى:
أحد كبار القادة الشيوعيين في المنفردة المقابلة.
أكثر المعتقلين من حولي من الإسلاميين، و... و...

ذات يوم دسّ لي ورقة من شق الطاقة وإذ عليها قصيدة حب! هل بإمكان أحد تصوّر الأمر! قصيدة حب في زنزانتي.. كان الأمر أسطورياً!. استمر شقّ الطاقة يمرر إلى زنزانتي المنفية عناوين الجرائد، الأخبار، السجائر الشاعلة، الصوت الدافئ، وقصائد الحب، قصائد كفيلة بجعل أيامي المتعاقبة تمضي دون أن تلوثها مرارة السجون. ذات ليلة بادرني أبو مهند من شق الباب:

ـ جلبت لي امرأتي بيجامتين سألبسهما وأريك إياهما.
ـ يالله.. أنا ناطرتك.

 وقفت على شقّ الطاقة لأراقبه، وابتعد هو كي أستطيع، بحيّز الرؤية الضيق، رؤيته كاملاً. كان قد ارتدى البيجاما الجديدة ووقف باستعداد. بدا شكله مضحكاً للغاية ببيجامته الرمادية الضيقة وكرشه الكبير فيما أعلى البنطال يدخل في تفاصيل وسطه السمين. جاهدت لكبت قهقهات خرجت رغماً عني من داخل المنفردة.

ـ أحبك.

همس إليّ في صمت الكوريدور..
في اليوم التالي، وهو اليوم السابع عشر على اعتقالها الثاني، نقلت هند من منفردتها إلى المنفردة 36 في الكوريدور الآخر من فرع الأمن1. كانت الزنزانة بعيدة للغاية عن أبي مهند. هناك راح شعور الاختناق يحاصرها، يطبق بكلتا يديه على رقبتها. راحت تشعر بالسجن ثانية بغياب أبي مهند، جدران المنفردة تضغط على صدرها وتضيّق الخناق على روحها. الحل الوحيد كان أن تطلب من السجان الاستحمام علّها تتخلص من شعور الاختناق إن غادرت المنفردة.. بعد لأي قبل السجان وأخرجها إلى التواليتات. في منتصف تلك الليلة دقّ باب المنفردة، وسمعت هند من جديد همس أبي مهند!!

ـ الله يلعنهم لمَ نقلوك بعيداً عني؟.. لكن لا تخافي سآتي إليك كل يوم.. كل يوم..

لكن لم يمر وقت طويل حتى نقلت هند.ق من الزنزانة إلى سجن النساء المدني فيما بقي أبو مهند في الفرع.
...
بعد ذلك بسنوات، وفي سنة 1988، كان الحائط الفاصل بين مزدوجات فرع الأمن1 ومنفرداته هو الشاهد الوحيد على قصة الحب الغريبة بين عماد وحميدة.ت. بنواة الزيتون، التي تطرق بلغة مورس، استطاع عماد وحميدة أن يلهبا ذاك الحائط بالشغف، أن يجعلا جموده نهراً من الغواية والحب. بنواة الزيتون استطاع كل منهما أن ينقل عالمه، من وراء الجدار، كاملاً إلى الثاني. استطاع كل منهما أن يعيش تفاصيل عيش الآخر وحبه وأوقاته المتطاولة، عيش كامل من وراء الجدار، عالم من التفاصيل اليومية الصغيرة في الزنازين:

الطبخ، القراءة، الأحاديث، الشجار، وحتى جلسات الحب الحميمة.
كان عماد على علم بتفاصيل الزيارات في مزدوجات المعتقلات، بالهدايا والأغراض التي تصل معها، بالطعام الذي ستتناوله حميدة، بتفاصيل أحلامها وهواجسها، بفرحها وحزنها.. بالمقابل كانت حميدة تعيش الوحشة القاتلة في زنزانة عماد المنفردة، تقضي أوقاته ثانية بثانية وهي تمضي ثقيلة ثقيلة، وصمت المنفردة تكسره طرقات نواة الزيتون، أو طرقات أصابعها على الجهة الأخرى من الجدار البارد الذي يستحيل فجأة حاراً كالحب. بعد أن يغيب السجانة تمضي ساعات الليل الطويلة كلحظات وهما يتحادثان بالدق.. بالدق فقط.

عماد كان الشخص الوحيد الذي استطاع أن يعينني على تحمل سنوات السجن: مشاعر عجيبة، استثنائية، ربما لا تنتاب المرأة إلا هناك في عتمة السجن. كان لدي يقين، لن يستطيع أحد تبديله، أن حياتي كلها ستنتهي في حال غياب دقاته، في حال غدا الجانب الآخر من الحائط فارغاً، فيما تنفتح أبواب الفردوس أمامي إن استطعت أن ألمح، من ثقب باب الزنزانة، طرف بيجامة عماد في الكوريدور وهو خارج إلى المرحاض. هذه اللمحة قد تكلفني ساعات من الانتظار، وأنا محنية الظهر، أسترق النظر من الثقب. كنت أرقب أوقات خروج المعتقلين إلى الخط ثلاث مرات في اليوم، ذلك أن حماماتنا كانت في زاوية من المزدوجات لذلك لم نكن نخرج البتة. أحياناً يكون حظي طيباً وألمحه مرة من تلك المرات.

في يوم أهدتني الصدفة هدية رائعة واستطعت أن أرى وجهه واضحاً وهو يسترق النظر إلى باب مزدوجاتنا. أخبرته بذلك في رحلة من رحلات أحاديثنا المتطاولة. بالنسبة إلي كان وجه عماد في تلك اللحظة أجمل وجه رأيته في حياتي، وشعوري بأنه يسترق النظر كي يلمحني بعث في متعة هائلة وامتلاء غريب له علاقة ربما بامتلاء الأنوثة في داخلي. كنت أمتلئ أنوثة وأنا في المزدوجات في فرع الأمن! أليس الأمر مثيراً للضحك؟! بعث عماد يوماً برسالة إلى حميدة مع السجان. تحدث فيها عن مشاعره الغريبة والمتصارعة، عن حب اجتاح منفردته وملأ أوقاته فيها. كان سؤاله الملحّ: هل نحن حقاً عاشقان؟ وهل سنبقى لبعضنا وفقط لبعضنا؟ ثم نقل عماد مع بقية المعتقلين إلى السجن الكبير. إلى هناك بعثت حميدة رسالة مع أحد الذاهبين، هرّبتها مع السجان، وكان جوابها الأوحد: نعم.

خرجت حميدة من المعتقل في سنة 1990، وخرج عماد بعدها بسنوات. أضحى لكل منهما حياته الخاصة، وهما إلى اليوم لم يلتقيا، ولم يعرف أحدهما الشكل الحقيقي للآخر.. ذلك الحب، الذي خلقه السجن ولياليه الطويلة، ظل هناك بين جدرانه الرطبة وممراته وزنازينه المعتمة، احتفظ به ربما لعاشقين قادمين سيفصلهما يوماً جدار آخر، وسيخلق بينهما كسراج يضيء ظلام الزنازين ويبدد وحشتها.
...
في السنة نفسها، سنة 1988، وبعد أشهر من اعتقال أميرة.ح كان بهو فرع الأمن2 العسكري بمدينة الشمال يغصّ بكل المعتقلين الشيوعيين: رفاق، مشاريع رفاق، رفاق مرشحين، وحتى الأصدقاء كانوا يفترشون أرض البهو. كان اعتقالاً جماعياً ومضر.ج، زوجها، غير موجود!! على الرغم من أنه كان المسؤول عن منطقية المدينة وينبغي أن يكون من أوائل المعتقلين!. راح خوف ما يساور أميرة من عدم إحضار مضر إلى الفرع، أو هذا ما ظنّته، على الرغم من أنه اعتقل قبل شهرين ونصف من الآن.. أين سيكون إذاً؟!! انتظرت أميرة بفارغ الصبر أن تراه أول وصولها إلى العاصمة، إلى فرع الأمن، وقت تقرر نقل المعتقلات والمعتقلين إلى هناك. لكن مضر لم يكن في فرع الأمن بالعاصمة!

سألت أميرة السجان عنه، ثم مدير السجن حين أخذت إلى التحقيق. الجميع أنكروا وجوده في الفرع.. أنكروا وأنكروا. أين سيكون مضر إذاً!! إحساس عميق كان يساور أميرة، إحساس يصل حدّ اليقين، بأن مضر موجود هنا في فرع الأمن. لكن، ربما كنوع من أنواع الدفاع عن النفس، كذّبت يقينها، وآخر ما خطر ببالها أن يكون مضر قد قتل. انتقلت مع بقية المعتقلات إلى سجن النساء، بعد أشهر من الاعتقال في فرع الأمن.. كان قلبي يخبرني منذ زمن أن أمراً سيئاً حصل، لكني لم أرد تصديقه، كنت أحاول تكذيب إحساسي وسط إشاعات عن غياب مضر وأسبابه وعما يكون قد حصل.

في حزيران سنة 1988 جاءت غرناطة.ج، مع حملة من المعتقلات الجدد إلى سجن النساء، بخبر أكيد أن مضر استشهد. أي خبر فظيع ذاك الذي حملته غرناطة إليّ.. بقدر ما كان للخبر وقع الصاعقة عليّ، بقدر ما كنت أعتقد أن عليّ كبح حزني، كبح فجيعتي بكارثة أتتني مضاعفة وأنا في السجن. لا أريد أن أصدق أن مضر قتل.. لكنه في النهاية قتل. ظننت وقتها أن قوتي كمناضلة في المعتقل تكون بتماسكي. هذا التماسك يتمثّل بتطويع نفسي لأكون أشبه بتمثال حجري، فيما كنت أرغب بالصراخ، بالبكاء بصوت عال كالمجانين، بضرب رأسي بالجدران، بتكسير الأشياء. كنت أرغب بأن أجن حقاً كي أرتاح. حبيبي قتل وأنا محبوسة هنا وما بيدي حيلة. بعد زمن صارت الكوابيس تحاصرني. أستيقظ وأنا أبكي كممسوسة، وأرتجف..

في النهاية كان مضر قد قتل وانتهى الأمر، ابنتي خارجاً بلا أب أو أم، وأنا هنا في المعتقل لزمن لا أستطيع التكهن به، ولا أحد يستطيع ذلك. بدا لي أن نفق حياتي لا نهاية له، مظلم بلا أي بصيص من أمل. يا إلهي كم كانت سنوات عصيبة.. عصيبة للغاية.
...
في سجن النساء المدني كانت ناهد.ب تكتب الرسائل وتكتبها. لم تكن متأكدة من إمكانية إيصالها إلى حبيبها خارجاً لكنها كانت تكتب له وتكتب وتكتب. بعض تلك الرسائل وصل بالفعل، والبعض الآخر ما زال مدوناً على دفتر الذاكرة فحسب. على الرغم من ذلك لم تستطع تلك الرسائل أن تجعل رجلاً كحبيبها ينتظرها طويلاً، فقد أحب امرأة أخرى وارتبط بها قبل شهور من إطلاق سراح ناهد.

إحدت تلك الرسائل بدأت كما يلي:

(إليك كانت البداية:
أحبك بعمق السنين التي قضيناها معاً كرمشة عين.
أحبك بعمق رائحة البنفسج في سهول الربيع
أحبك بعمق جراح الوطن الحزين التي تلمسناها سوية.
أحبك بعمق التجربة التي أخوضها، والبصمات التي وشمتها هي وأنت على جلدي.
...(121).
دائماً كنت حاضراً في الذاكرة.. دائماً ومنذ اللحظة الأولى.. كنت معي وأمامي.. أحدثك عن كل شيء بالتفصيل.. المشاعر.. الأحزان.. مواجهتي مع الجلاد بكل نقاط ضعفها وقوتها.. لحظات الفرح المسروقة من الجلاد.. أسماء صديقاتي الجدد.. إنني بالمقابل أحب أن أعرف كل شيء عنك وبالتفصيل الممل كي تخفّ غيرتي قليلاً. غيرتي من بيتنا الجميل.. ومن السيارات والشوارع.. والأصدقاء.. وحتى الشرطة.. كل هؤلاء يروك ويلمسوك ويشمون رائحتك إلا أنا.. أفلا أغار؟
وأنا.. ورغم كل شيء لن أدهش ولن أفاجأ.. فأنا أعرف الفرق تماماً.. بين حراب الأيام التي تطعن الذاكرة.. وحراب تطعن كل شيء وتسقي الذاكرة.. وحبنا الآن.. رغم تداخله مع كل الخلايا.. رغم تعشقه فينا.. مجرد ذاكرة رغم خصوبتها وجمالها وعبقها الدائم).
...
بدون تاريخ
في نهاية رسالة أخرى تقول ناهد:
(حبيبي الرائع:
إن سألتني عن الحرية أقول لك: هي الهواء النظيف، صخب الشوارع، الأصدقاء الجميلون، رائحة البحر وعبق الغابة، حنان الأهل، زحمة المهرجانات والمسارح.. كل ذلك هو حريتي وحلمي الرائع أحمله على ظهري ويثقل علي. لا تسألني لماذا لم أضف عليها كلمة و"أنت" لأنها بدونك لا قيمة لها أبداً. من ورقة رأس السنة شعرت أنك حزين حزين جداً.. أكثر مما كنت أتوقع ومن قبل عندما أخبرتني عن إشكالات عملك وبأنه غير مريح سيطر مزاجك الحزين علي وصرت أفكر بك بحزن أكبر من السابق.. قلقلة عليك.. أريدك سعيداً رغم كل شيء.. لا أريدك أن تتعذب وتعاني ولا على أي صعيد.. أريدك.. ولكن أعود وأسأل نفسي كيف؟؟ كيف يمكن التوفيق بين عناصر متنافرة.. كيف يمكن التوفيق بين ذكرى وواقع.. بين وردة وبوط عسكري.. بين شراع وإعصار بين حركة الموج الأبدية وسكون الرمال على شواطئه؟؟.

لن أذكر المزيد عن هذا الموضوع.. ولكني أفاجأ أصعق حين تسألني في يوم من الأيام عن رأيي ومشاعري.. فالحري بي أن أسألك أنت.. وأرجو أن تطلعني على مشاعرك بصراحة بكل حالاتها المتغيرة حتى القاسية منها.. فالحقيقة بالمحصلة النهائية هي المريحة.. وإن قاسينا منها آلام ممضّة وعميقة.. إلا أنها الدواء الوحيد).
جن النساء
19/2/1990

بمثابة خاتمة:
ربما كان هذان المقطعان ملخصين لخاتمة ما.
الأول كتبته الطفلة جود على دفتر اللغة العربية في المدرسة:
(باسم أمي وأبي(122):
لماذا كل الناس
مظلومون في السجن
هذا ليس من القانون
أرجو من الجميع الانتباه جيداً)
الاثنين 9/1/2006

المقطع الثاني كتبته ناهد في نهاية دفترها(123):
(شوارع العاصمة وأضواؤها الفاتنة تلقي عليكِ التحية
مشيت فيها حتى تعبت الأرصفة
تغزلت بها حتى غارت النجوم
عشقتها حتى بكت الرجال
ومازلت أصرخ منذ عودتي إليها:
                          يا مدينتي الجميلة والخائنة
                          هاأنذا قد عدت).

ثبت المعتقلات المذكورات في الكتاب:
(الأسماء حسب الترتيب الأبجدي)
آسيا. ص: من مواليد 1960 اعتقلت من سنة 1987 وحتى 1990. تركت ابنتان صغيرتان في الخارج.
أميرة. ح: معتقلة سياسية من مواليد 1958، اعتقلت في سنة 1987 وحتى سنة 1991.
أنطوانيت. ل: معتقلة سياسية من مواليد 1967 اعتقلت من سنة 1987 وحتى سنة 1990
بثينة. ت: معتقلة سياسية من مواليد 1957، اعتقلت كرهينة عن زوجها في سنة 1987 وحتى سنة 1990.
تماضر. ع: معتقلة سياسية من مواليد 1961، أخذت رهينة في سنة1987، وكانت قد تخرجت من كلية الطب للتو. بقيت معتقلة حتى سنة 1991.
تهامة. م: معتقلة سياسية من مواليد 1964، اعتقلت لمدة سنة تقريباً، وذلك في سنة 1992 ثم أطلق سراحها وتمت محاكمتها وهي في الخارج.
جميلة. ب: معتقلة المنظمة الشيوعية العربية الوحيدة اعتقلت بصورة متواصلة من سنة 1975 وحتى سنة 1991 وهي تقيم الآن في الأراضي الفلسطينية المحتلة في مدينة القدس.
حميدة. ت: معتقلة سياسية فلسطينية من مواليد 1962. اعتقلت من سنة 1987 وحتى سنة 1990.
حسيبة. ع: معتقلة سياسية من مواليد 1959، اعتقلت للمرة الأولى سنة 1979 وحتى سنة 1980 وفي المرة الثانية من سنة 1986 وحتى سنة 1991
خديجة. د: معتقلة سياسية من مواليد 1959 اعتقلت للمرة الأولى في 1984 وفي المرة الثانية من سنة 1992 إلى سنة 1998
دلال. م: من مواليد 1958 اعتقلت من سنة 1987 وحتى سنة 1990 ولديها ولدين.
روزيت. ع: معتقلة سياسية من مواليد 1955 اعتقلت من سنة 1978 وحتى سنة 1980 ومن سنة 1992 إلى سنة 1993.
رجاء. م: من مواليد 1960. اعتقلت من سنة 1987 وحتى سنة 1991 ظل زوجها في الخارج وابنتها.
رنا. م: معتقلة سياسية من مواليد 1963 اعتقلت في أوائل سنة 1988 وحتى سنة 1991
رماح. ب: معتقلة سياسية من مواليد 1966 اعتقلت من سنة 1987 وحتى سنة 1991
زهرة. ك (أم كرم): من أكبر المعتقلات الشيوعيات من مواليد الثلاثينيات اعتقلت من سنة 1987 وحتى سنة 1991 وتوفيت بعد إطلاق سراحها.
سحر. ب: معتقلة سياسية من مواليد 1957، اعتقلت في سنة 1979 وحتى سنة 1980، ومن سنة 1987 وحتى سنة 1991.
سناء. ح: معتقلة سياسية مواليد 1958 اعتقلت من سنة 1987 وحتى سنة 1991
سونا. س: معتقلة سياسية من مواليد 1963 اعتقلت من سنة 1987 وحتى سنة 1990 في فرع الأمن.
سهام. م: من مواليد 1957 اعتقلت من سنة 1987 وحتى 1990 ولديها ولدين.
سلوى. ح: معتقلة من رهائن الإسلاميين من مواليد سنة 1962 اعتقلت مع أمها وأختها من سنة 1983 وكانت حاملاً بابنتها سمية. وأطلق سراحها في سنة 1989
سمية. ح: ابنة سلوى.ح. ولدت في السجن سنة 1983 وظلت معتقلة مع أمها حتى إطلاق سراح الإسلاميات في سنة 1989 وكان عمرها سبع سنوات.
سامية. ح: معتقلة سياسية من مواليد 1964، اعتقلت من أوائل سنة 1988 وحتى سنة 1990.
سلافة. ب: معتقلة من مواليد 1965 اعتقلت من سنة 1987 وحتى سنة 1991.
شفاء. ع: معتقلة من الإسلاميين من مواليد 1961 اعتقلت من سنة 1981 وحتى سنة 1986 بفرع الأمن.
شفق. ع: (شفيقة) معتقلة من مواليد 1959 اعتقلت من سنة 1986 وحتى 1989.
ضحى. ع: معتقلة سياسية من مواليد 1965، اعتقلت في أوائل سنة 1993 وحتى نهايات سنة 1998.
عزيزة.ج: معتقلة إسلامية رهينة عن زوجها النقيب منفذ عملية المدفعية. بقيت في أحد السجون الشمالية مدة أربع سنوات. ثم نقلت إلى سجن النساء. أطلق سراحها في سنة 1991.
غرناطة. ج: معتقلة سياسية من مواليد 1966، اعتقلت سنة 1987 وحتى سنة 1991.
غزوة.ك: معتقلة سياسية إسلامية وهي طبيبة من مواليد 1964 اعتقلت من سنة 1981 وحتى سنة 1989.
فاديا. ش: معتقلة سياسية من مواليد 1958 اعتقلت منذ أوائل سنة 1988 وحتى سنة 1991.
فاطمة. خ: معتقلة من مواليد 1963 اعتقلت من سنة 1987 وحتى سنة 1991، تنقلت بين فروع الأمن وسجن النساء.
فاطمة. ع: معتقلة سياسية من مواليد 1964 اعتقلت من سنة 1987 وحتى 1991
لينا. م: معتقلة سياسية من مواليد 1961 اعتقلت في المرة الأولى سنة 1984 وفي المرة الثانية من سنة 1987 إلى سنة 1991.
لينا. ع: معتقلة سياسية من مواليد 1966 اعتقلت لمدة سنة واحدة كرهينة وذلك من سنة 1987 وحتى 1988.
لينا. و: معتقلة سياسية من مواليد 1959. اعتقلت في سنة 1987 وحتى سنة 1990.
مجد. أ: معتقلة سياسية من مواليد 1966 اعتقلت في سنة 1989. أطلق سراحها بعد سنة وشهرين من الاعتقال وذلك سنة 1990. هي اليوم تعيش كلاجئة سياسية في مدينة هيوستن.
مريم. ز: اعتقلت لمدة ستة أشهر من بداية سنة 1988 وحتى أواسطها.
منى. أ: من المعتقلات السياسيات مواليد 1958 اعتقلت في سنة 1987 وحتى سنة 1991
مي. ح: معتقلة سياسية من مواليد 1957 اعتقلت في 1987 بقيت معتقلة مدة سنتين ليطلق سراحها بعد مدة بسبب وضعها الصحي.
 ناهد. ب: معتقلة سياسية من مواليد 1958، اعتقلت في أواخر سنة 1987 وحتى نهاية سنة 1991.
هالة. ف: معتقلة سياسية من مواليد 1965 اعتقلت في سنة 1987 وأطلق سراحها قبل بقية المعتقلات بسبب وضعها الصحي وذلك سنة 1990.
هبة.د: وهي معتقلة سياسية رهينة عن أخيها الناشط في تنظيم الإسلاميين، اعتقلت من سنة 1980 وحتى سنة 1989.
هتاف. ق: معتقلة سياسية من مواليد 1957. اعتقلت من سنة 1987 وحتى 1990. بقي زوجها وطفليها الاثنين خارجاً.
هدى. ك: معتقلة سياسية من مواليد 1965. اعتقلت سنة 1987 وأطلق سراحها بعد ستة أشهر.
هند. أ: معتقلة من مواليد 1965 اعتقلت من سنة 1988 وحتى سنة 1990 في فرع الأمن.
هند. ق: معتقلة سياسية من مواليد 1956 اعتقلت أول مرة في سنة 1982 وحتى سنة 1983 وفي المرة الثانية من سنة 1984 وحتى سنة 1991
وفاء. إ: معتقلة من مواليد 1956 اعتقلت من سنة 1987 وحتى سنة 1991 في سجن النساء وهي تعيش اليوم في ألمانيا.
وفاء. ط: معتقلة سياسية فلسطينية من مواليد 1960. اعتقلت في سنة 1987 وأطلق سراحها بعد ستة أشهر.
يسرى. ح: معتقلة من رهائن المسلمين من مواليد 1964 اعتقلت من سنة 1983 وحتى سنة 1989 حيث أطلق سراح جميع المعتقلات الإسلاميات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لينا. و: معتقلة سياسية من مواليد 1959. اعتقلت في سنة 1987 وحتى سنة 1990.
2 ـ عازف القيثارة الساحر في الأسطورة اليونانية وهو ابن أبولو وربة الفنون كاليوبي.
3 ـ هذا ما يراه الكاتب برايتن برايتنباغ: المعتقل في سجون النظام الأبيض في جنوب إفريقيا، وذلك في مقالته: يعلمنا السجن أننا سجناء. المنشورة في مجلة الكرمل/ ع 15 سنة 1985.
4 ـ فريدة النقاش، السجن.. الوطن، دار الكلمة ودار النديم، بيروت 1980.
5 ـ في مقابلة أجراها معها سامي كليب، منشورة في الموقع الإلكتروني: الجزيرة نت/
www.aljazeera.netفي برنامج زيارة خاصة عن التعذيب في السجون المغربية.
6 ـ ناهد. ب: معتقلة سياسية شيوعية من مواليد 1958، اعتقلت في أواخر سنة 1987 وحتى نهاية سنة 1991.
7 ـ وسيلة للتعذيب عبارة عن دولاب شاحنة تجبر المعتقلة على الجلوس فيه فيضغط جسدها جامعاً رأسها إلى قدميها، ويكبّله فاسحاً المجال للعصي كي تطال أسفل قدميها وبقية أعضائها.
8 ـ الطميشة: قطعة مستطيلة مصنوعة من الجلد الكتيم، تغطى عينا المعتقل بها ليصبح في أسر ثان من العتمة المطبقة.
9 ـ هند. ق: معتقلة سياسية شيوعية من مواليد 1956 اعتقلت أول مرة في سنة 1982 وحتى سنة 1983 وفي المرة الثانية من سنة 1984 وحتى سنة 1991.
10 ـ يقصد سجن النساء المدني الذي كانت المعتقلات السياسيات يسجن فيه مع القضائيات.
11 ـ إلهام سيف النصر، سجن أبو زعبل، دار الفكر الجديد، بيروت 1975.
12 ـ الكرسي الألماني: هو كرسي دون جلسة أو مسند، مجرد هيكل معدني يجلس فيه المعتقل، يقيد من يديه ورجليه، ويطوى ظهره باتجاه الخلف حتى تتقطع أنفاسه.
13 ـ سحر. ب: معتقلة سياسية من مواليد 1957. اعتقلت من سنة 1979 وحتى سنة 1980، ومن سنة 1987 وحتى سنة 1991.
14 ـ حميدة. ت: معتقلة سياسية فلسطينية من مواليد 1962. اعتقلت من سنة 1987 وحتى سنة 1990.
15 ـ غرناطة. ج: معتقلة سياسية من مواليد 1966، اعتقلت سنة 1987 وحتى سنة 1991.
16 ـ سناء. ح: معتقلة سياسية شيوعية مواليد 1958 اعتقلت من سنة 1987 وحتى سنة 1991
17 ـ قاص شيوعي معروف اعتقل من سنة 1978 إلى سنة 1980وحين أطلق سراحه هاجر إلى فرنسا وظل فيها حتى توفي هناك.
18 ـ أكرم. ب: أحد المعتقلين الشيوعيين. كان عضواً في المكتب السياسي للحزب وهو من مواليد 1956 اعتقل في المرة الأولى من سنة 1978 وحتى 1980 وفي المرة الثانية في أب 1987 وأطلق سراحه في عام 2001.
19 ـ وجيه. غ: من المعتقلين الشيوعيين، كان عضواً في المكتب السياسي لحزبه المعارض، اعتقل لمدة 15 سنة ابتداء من سنة 1987وحتى 2001 وهو من مواليد 1948.
20 ـ أنطوانيت. ل: معتقلة سياسية من مواليد 1967 اعتقلت من سنة 1987 وحتى سنة 1990.
21 ـ عدنان. م: معتقل سياسي شيوعي اعتقل لمدة 15 سنة من سنة 1986 وحتى سنة 2001 وقد تنقل فيها بين عدة سجون.
22 ـ المزدوجات عبارة عن أربع زنازين صغيرة (1.60*1.80) لها سقيفة واحدة. تتقابل كل زنزانتين منهما، وبينهما الكوريدور والحمام ومحرك السجان والباب الخارجي الموصد يطل على كوريدور السجن.
23 ـ مجد. أ: معتقلة سياسية من مواليد 1966 اعتقلت في سنة 1989 وكانت في السنة الثالثة من دراستها الجامعية. واعتقلت أختها على إثرها (ميادة) وهي في الصف الثاني الثانوي، لتبقى أشهر في السجن، ثم يطلق سراحها. بعد الاعتقال بثلاثة أشهر تلقت مجد ضربة من قبل أحد المحققين على رأسها، أدت إلى حدوث كدمة دموية بالرأس سببت لها مشاكل عصبية ونوبات صرع شديدة في الفرع. صارت تؤخذ إلى المشفى كل فترة وتعود إلى السجن. ثم جلبوا أمها لتجلس معها مدة شهر كامل سجينة في المستشفى، لأن وضع مجد أضحى صعباً للغاية. أطلق سراحها بعد سنة وشهرين من الاعتقال وذلك سنة 1990. بقيت تتعالج من سنة 1990 وحتى سنة 1995، ثم استطاعت الحصول على جواز سفر على أساس الخروج إلى بلد مجاور لاستكمال العلاج. وهناك استطاعت أن تحوز على اللجوء السياسي في أوكرانيا، وهناك حصلت على اللجوء السياسي في أميركا. تعيش مجد. أ الآن كلاجئة سياسية في مدينة هيوستن الأميركية.
24 ـ فيليسيا لانجر، بأم عيني، مؤسسة الأرض للدراسات الفلسطينية، العاصمة 1974.
25 ـ سونا. س: معتقلة سياسية من مواليد 1963 اعتقلت من سنة 1987 وحتى سنة 1990 في فرع الأمن.
26 ـ بما أن الورق كان ممنوعاً في الفرع، فقد عملت المعتقلات، ومن قبلهن المعتقلين، على نزع الورقة الداخلية لباكيت الدخان، الذي من الممكن شراؤه في الفرع، ثم تبلل بالماء حتى تنفصل السيلوفانه عن الورقة، ثم تنشّف الورقة ويكتب عليها.
27 ـ كتبت هذه الرسالة لينا. و إحدى معتقلات المزدوجات إلى أختها الطبيبة في الخارج، لتخبرهن بالذي عليهن فعله. وكان عدد المعتقلات في الزنزانة ذلك الوقت إضافة إلى مجد 13 معتقلة في مكان يضيق بعدة معتقلات.
28 ـ هنا جزء من الرسالة التي وصلت إلى عدد من الجهات الإعلامية وغير الإعلامية في البلاد وقد نشرتها مجلة المجتمع الإسلامي في الكويت بعد أن نوهت بوجود الأصل عند الشيخ الكويتي أحمد القطان. والرسالة منشورة كما كتبت تماماً.
29 ـ هذه الفقرة من فصل معنون ببساط الريح كتبتها هبة.د في كتابها المنشور في لندن "خمس دقائق فحسب.. تسع سنوات في السجون" الذي يتحدث عن تجربتها في المعتقل. وهبة.د هي معتقلة سياسية رهينة عن أخيها الناشط في تنظيم الإسلاميين. اعتقلت من سنة 1980 وحتى سنة 1989. والفصل منشور كما كتب تماماً.
30 ـ رقم المنفردة المسجونة فيها.
31 ـ العازل هو عبارة عن بطانية عسكرية سميكة مخيط إليها عازل نايلوني سميك من أسفلها.
32 ـ الخط: هو خروج المعتقلين ثلاث مرات في اليوم إلى التواليتات.
33 ـ حسيبة. ع: معتقلة سياسية من مواليد 1959، اعتقلت للمرة الأولى سنة 1979 وحتى سنة 1980 وفي المرة الثانية من سنة 1986 وحتى سنة 1991.
34 ـ معظم أيام السجن وتفاصيله دونتها ناهد على ذلك الدفتر، وكذلك ملاحظاتها وأفكارها وبعض الأغاني والأشعار، ليغدو الدفتر ذاك وثيقة عن زمن الاعتقال وتفاصيله. ومن ذاك الدفتر استعارت الرواية هذه الكثير. واليوميات المنشورة هي كذلك متروكة كما كتبت تماماً.
35 ـ أخذت بثينة. ت من الزنزانة في قبو فرع الأمن إلى غرفة التعذيب فوق، كان زوجها مربوطاً من ساعديه إلى السقف والجلادون يباشرون بتعذيبه، جسده مليء بالقروح والدماء والطميشة تغطي عينيه. حاولت بثينة الاقتراب لكن الجلادين لم يسمحوا لها، استطاعت أن تتملص لثوان من بين أيديهم لترمي الطميشة عن عيون نزار وترتمي أرضاً محاولة الإحاطة بجسده المعلق لكنها لم تطل سوى ساقه لترمي قبلة سريعة خاطفة على ركبته المدماة.
36 ـ مضر. ج من مواليد 1960 أحد المعتقلين الشيوعيين المعارضين. كان المسؤول عن منطقية المدينة الشمالية. توفي سنة 1987 في المعتقل تحت التعذيب، وبعد عشر ساعات فقط من اعتقاله بسبب حالة الربو التي كان يعاني منها. لم تسلّم جثته إلى أهله حتى اليوم، ولم يعترف رسمياً بعد بمقتله.
37 ـ بثينة. ت: معتقلة سياسية من مواليد 1957، اعتقلت كرهينة عن زوجها في سنة 1987 وحتى سنة 1990.
38 ـ كان السجان م يدأب على نقل الرسائل بين المعتقلين داخل الفرع، وإلى إيصال رسائلهم المكتوبة والشفوية إلى أهاليهم وذويهم في الخارج. حين اكتشف أمره، قام مدير السجن بمعاقبته وتعذيبه، وعمل على ضربه بشكل متوحش في كوريدور الفرع السفلي المطل على المنفردات والزنازين وعلى مسمع من المعتقلين والمعتقلات إمعاناً في تحقيره.
39 ـ اعتقلت هند. ق سبعة أشهر في المنفردة في الاعتقال الأول، وشهرين في الاعتقال الثاني.
40 ـ مي. ح: معتقلة سياسية من مواليد 1957 اعتقلت في سنة 1987وبقيت مدة سنتين ليطلق سراحها بسبب وضعها الصحي.
41 ـ لينا. ع: معتقلة سياسية من مواليد 1966 اعتقلت لمدة سنة واحدة كرهينة وذلك من سنة 1987 وحتى 1988.
42 ـ أميرة. ح: معتقلة سياسية من مواليد 1958. اعتقلت من سنة 1987 وحتى سنة 1991.
43 ـ وفاء. ط: معتقلة سياسية فلسطينية من مواليد 1960. اعتقلت في سنة 1987 وأطلق سراحها بعد ستة أشهر.
44 ـ هدى. ك: معتقلة سياسية من مواليد 1965. اعتقلت سنة 1987 وأطلق سراحها بعد ستة أشهر.
45 ـ تنام المعتقلة على جنبها وقدميها عند رأس زميلتها اختصاراً للمسافة.
46 ـ فاديا. ش: معتقلة سياسية من مواليد 1958 اعتقلت منذ أوائل سنة 1988 وحتى سنة 1991.
47 ـ سورة نحل، الآية 118.
48 ـ هذه الفقرة كتبتها هبة.د في كتابها المنشور في لندن "خمس دقائق فحسب" الذي يتحدث عن تجربة السجن. وهي معتقلة سياسية رهينة عن أخيها الناشط في التنظيم الإسلامي، اعتقلت من سنة 1980 وحتى سنة 1989.
49 ـ وكانت مليئة وقتها بالمعتقلين الإسلاميين.
50 ـ تقصد بالحاجة والدتها التي كانت معتقلة في نفس المهجع مع ابنتها هبة رهينتين عن ولدها خالد.
51 ـ ضحى. ع: معتقلة سياسية شيوعية من مواليد 1965، اعتقلت في أوائل سنة 1993 وحتى نهايات سنة 1998.
52 ـ خديجة. د: معتقلة سياسية من مواليد 1959 اعتقلت للمرة الأولى في 1984 وفي المرة الثانية من سنة 1992 إلى سنة 1998
53 ـ وذلك في مقالته: يعلمنا السجن أننا سجناء. المنشورة في مجلة الكرمل/ ع 15 سنة 1985
54 ـ روزيت. ع: معتقلة سياسية من مواليد 1955 اعتقلت من سنة 1978 وحتى سنة 1980 ومن سنة 1992 إلى سنة 1993.
55 ـ السجن الذي كان بيتاً الرئاسة في زمن الحسَنَي رئيس الجمهورية من سنة 1941 وحتى 1943 وغدا سجناً سياسياً في السبعينيات.  
56 ـ خلود. ع: معتقلة سياسية من مواليد 1952 اعتقلت من سنة 1978 وحتى سنة 1980.
57 ـ هالة. ع: من مواليد 1956 اعتقلت من سنة 1978 وحتى سنة 1980 ثم هاجرت إلى فرنسا مع زوجها ليستقرا هناك منذ سنة 1980
58 ـ نجود. ي: معتقلة سياسية من مواليد 1955 اعتقلت من سنة 1978 وحتى سنة 1980.
59 ـ ليلى. ن: معتقلة سياسية من مواليد 1947 اعتقلت سنة 1978 وقت كانت ابنتها عزة في الأشهر الأولى ولم يطلق سراحها حتى سنة 1980 حيث اعتقل زوجها حتى سنة 1994.
60 ـ فيروز. خ: معتقلة سياسية من مواليد سنة 1957 اعتقلت من سنة 1978 وحتى سنة 1980.
61 ـ سناء. ك: معتقلة سياسية فلسطينية الأصل من مواليد 1957 اعتقلت من سنة 1978 وحتى سنة 1980، ومن ثم توفيت في نهايات التسعينيات.
62 ـ راغدة. ع: معتقلة سياسية من مواليد سنة 1957. اعتقلت من سنة 1978 وحتى سنة 1980.
63 ـ رنا. س: معتقلة سياسية من مواليد 1955 اعتقلت من سنة 1978 وحتى 1980.
64 ـ صباح. ع: معتقلة من مواليد سنة 1958 اعتقلت من سنة 1978 وحتى 1980.
65 ـ النوم تسييف لعدد كبير من المعتقلين في مكان ضيق يعني أقدام الأولى عند أقدام الثانية وهكذا.. طريقة معروفة للمعتقلين السياسيين.
66 ـ منى. أ: معتقلة سياسية من مواليد 1958 اعتقلت في سنة 1987 وحتى سنة 1991.
67 ـ دلال. م: معتقلة سياسية من مواليد 1958 اعتقلت من سنة 1987 وحتى سنة 1990 ولديها ولدين.
68 ـ رجاء. م: معتقلة سياسية من مواليد 1960. اعتقلت من سنة 1987 وحتى سنة 1991 ظل زوجها وابنتها في الخارج.
69 ـ هتاف. ق: معتقلة سياسية من مواليد 1957. اعتقلت من سنة 1987 وحتى 1990. بقي زوجها وطفلاها خارجاً.
70 ـ آسيا. ص: معتقلة سياسية من مواليد 1960 اعتقلت من سنة 1987 وحتى 1990. تركت ابنتين صغيرتين في الخارج.
71 ـ سهام. م: معتقلة سياسية من مواليد 1957. اعتقلت من سنة 1987 وحتى 1990 ولديها ولدين.
72 ـ جزء من رسالة من بثينة. ت في فرع الأمن إلى ابنتها لانا خارجاً كتبت في أوائل سنة 1989 بعد حوالي سنة ونصف على الاعتقال بقلم الرصاص على ورق باكيتات سجائر الحمراء. قام السجان م الذي كانوا يسمونه: الحمام الزاجل بنقل هذه الرسالة إلى الابنة. والرسالة منشورة كما كتبت تماماً.
73 ـ بما أن الابنتين كانتا قد أخبرتا بأن الأم والأب مسافران خارج البلاد.
74 ـ مريم. ز: معتقلة سياسية اعتقلت لمدة ستة أشهر من بداية سنة 1988 وحتى أواسطها.
75 ـ كان والد فداء زوج مريم معارضاً شيوعياً وقد اختفى منذ سنة 1982 حين ذهب إلى بلد مجاور. فيما بعد سرت إشاعات أن عماد قد استشهد على أيدي فصائل مسلحة هناك. لكن الحقيقة ما زالت مجهولة.
76 ـ سلوى.ح: معتقلة من الرهائن الإسلاميات من مواليد سنة 1962 اعتقلت مع أمها وأختها سنة 1983، وكانت حاملاً بابنتها سمية التي ولدت في السجن سنة 1983 وأطلق سراحها في سنة 1989.
77 ـ يسرى.ح: معتقلة من رهائن الإسلاميين من مواليد 1964 اعتقلت من سنة 1983 وحتى سنة 1989 حيث أطلق سراح جميع المعتقلات الإسلاميات.
78 ـ جميلة. ب: معتقلة المنظمة الشيوعية العربية الوحيدة اعتقلت بصورة متواصلة من سنة 1975 وحتى سنة 1991 منها قرابة السبع سنوات في أحد السجون الشمالية، ومن ثم نقلت إلى سجن النساء بالعاصمة. وهي تقيم الآن في الأراضي الفلسطينية المحتلة في مدينة القدس.
79 ـ وفاء. إ: معتقلة سياسية من مواليد 1956 اعتقلت من سنة 1986 وحتى سنة 1991 في سجن النساء عانت من فترة تحقيق طويلة وتعذيب شديد لعلاقتها بالمكتب السياسي للحزب وبمطبعته أيضاً، وهي تعيش اليوم في ألمانيا.
80 ـ رنا. م معتقلة سياسية من مواليد 1963 اعتقلت في أوائل سنة 1988 وحتى سنة 1991.
81 ـ بما أن سجن النساء سجن مدني فقد كانت المعتقلات مسجونات مع القضائيات (المحكومات بسبب جرائم جنائية) من مختلف التهم: قتل، دعارة، مخدرات...
82 ـ الجرح المكابر: مجلة كانت المعتقلات الشيوعيات يكتبنها ويوزعنها على السجينات بشكل سري. وقد عملت على تحريرها كل من: رماح. ب، وجدان. ن، وناهد. ب.
83 ـ تهامة. م: معتقلة سياسية من مواليد 1964 اعتقلت لمدة سنة تقريباً وذلك في سنة 1992 ثم أطلق سراحها وتمت محاكمتها وهي في الخارج.
84 ـ فدوى. م: معتقلة سياسية من مواليد 1960 اعتقلت لمدة سنة وشهرين تقريباً من سنة 1992.
85 ـ في ذلك الوقت سنة 1993 كان قد قل عدد المعتقلات السياسيات في سجن النساء لذلك كان دور واحدة من السياسيات في كل يوم للطبخ وليس اثنتين كما كان سابقاً.
86 ـ سامية. ح: معتقلة سياسية من مواليد 1964، اعتقلت من أوائل سنة 1988 وحتى سنة 1990. وكانت تدرس الرياضيات في الجامعة حين اعتقلت.
87 ـ هند. أ: معتقلة سياسية من مواليد 1965 اعتقلت من سنة 1988 وحتى سنة 1990 في فرع الأمن.
88 ـ كتبت الرسالتان لينا. و في أوائل سنة 1990 في فرع الأمن لأهلها بخط صغير للغاية على ورق سجائر الحمراء وقد كان الورق ممنوعاً وكتبت بقلم استطاع أحد السجانين المتعاطفين تمريره إليها وقد هربت الرسالة الأولى في إحدى الزيارات عند المصافحة، أما الثانية فقد استطاعوا تمريرها عبر الأغراض.
89 ـ من كتابها الذي أصدرته مي عن تجربة المعتقل بعنوان: عينك على السفينة. وذلك في سنة 2006.
90 ـ سلافة. ب: معتقلة سياسية من مواليد 1965 اعتقلت من سنة 1987 وحتى سنة 1991.
91 ـ سبق وتحدثت عنها في فصل سابق.
92 ـ عملن على مسرحية إبسن: حورية البحر. وعلى مسرحية بريشت: الاستثناء والقاعدة. وعلى نصوص لسليمان غيبور الشهيد. وعلى نصوص أخرى. أما الممثلات فقد كن كثر وربما أبرزهن كانت هند. ق ورنا. م.
93 ـ وهن: ناهد. ب، حسيبة. ع، سحر. ح، أميرة. ح، سمر. ش، لينا. م، رنا. م، فاديا. ش، سحر. ب، وفاء. إ، وهند. ق.
94 ـ كتبتها ناهد. ب في سجن النساء. وتتحدث اليوميات عن قصيدة نزار قباني التي كتبها عن حادثة شارع فردان. وقد دخلت في إحدى الزيارات في كتاب له.
95 ـ رماح. ب: معتقلة سياسية من مواليد 1966 اعتقلت من سنة 1987 وحتى سنة 1991.
96 ـ التأمين: هو وقت إقفال أبواب المهاجع في سجن النساء. وقد كان السجن عبارة عن بيت عربي قديم صيّرت غرفة مهاجع بعد أن حددت النوافذ والأبواب بالشبك الحديدي. كان هناك مهاجع للقضائيات: مهجع قتل، مهجع دعارة، مهجع مخدرات، ومهاجع للسياسيات: إسلاميات وشيوعيات.
97 ـ لينا. م: معتقلة سياسية من مواليد 1961 اعتقلت في المرة الأولى سنة 1984 وفي المرة الثانية من سنة 1987 إلى سنة 1991.
98 ـ جزء من رسالة كتبت أيضاً في فرع الأمن أوائل سنة 1989 على ورق السجائر وتم إيصالها عبر السجان م.
99 ـ الطعام الذي كان يسمح بإدخاله في الزيارات النادرة التي كان يسمح بها للمعتقلات في فرع الأمن.
100 ـ بما أن الزيارات لم تكن مسموحة إلا لاثنتين من المعتقلات لذلك فقد كان الأهالي يبعثون الأغراض لبناتهن مع أهل سونا. س.
101 ـ نزار. م: أحد المعتقلين الشيوعيين وهو زوج بثينة. ت اعتقل من سنة 1987 وحتى سنة 2001 وفي ذلك الوقت كان قد نقل إلى سجن الصحراء.
102 ـ فاطمة. خ: معتقلة من مواليد 1963 اعتقلت من سنة 1987 وحتى سنة 1991، تنقلت بين فروع الأمن وسجن النساء.
103 ـ من يوميات كتبتها ناهد. ب في المعتقل (سجن النساء)
104 ـ بعد أن خرجت المعتقلات الإسلاميات في أواخر سنة 1989 وبقيت اليساريات حتى نهاية 1991
105 ـ شفاء. ع: معتقلة من المعتقلات الإسلاميات من مواليد 1961 اعتقلت من سنة 1981 وحتى سنة 1986 بفرع الأمن.
106 ـ سمية ابنة سلوى.ح التي أوردت قصتها كاملاً في فصول سابقة.
107 ـ حتى حين فتحت الزيارات لم يكن لتلك العائلة أي قريب في الخارج ليزورهم بعد أن دمرت العائلة بالكامل.
108 ـ فاطمة. ع معتقلة سياسية من مواليد 1964 اعتقلت من سنة 1987 وحتى 1991
109 ـ من أكبر المعتقلات الشيوعيات من مواليد الثلاثينيات اعتقلت من سنة 1987 وحتى سنة 1991 وتوفيت بعد إطلاق سراحها.
110 ـ شفق. ع (شفيقة) معتقلة من مواليد 1959 اعتقلت من سنة 1986 وحتى سنة 1989 حيث أطلق سراحها بناء على تقرير اللجنة الطبية وبسبب وضعها النفسي المتردي. وقد بدأ الأمر بعد أن اعتقلت تاركة ابنتها الصغيرة خارجاً وزوجها المعتقل، ثم وضعت حوالي الشهرين في المنفردة بعد اعتقالها وصارت تتطور وكان التشخيص هو فصام تقضي الوقت الطويل في هدوء شديد تصفن وهي تفتح عينيها على سعتهما ثم يصيبها حالات هياج شديدة ولم يمنع أخذها المتزايد للأدوية من نوباتها المتتالية حتى وصل الأمر إلى أن تحمل سكيناً لتدافع عن نفسها ضد أعداء وهميين تشعر أنها محاصرة أمامهم.
111 ـ غزوة.ك: معتقلة سياسية إسلامية وهي طبيبة من مواليد 1964 اعتقلت من سنة 1981 وحتى سنة 1989.
112 ـ عزيزة.ج: معتقلة إسلامية رهينة عن زوجها النقيب إبراهيم اليوسف منفذ عملية المدفعية. اعتقلت مرتين في المرة الثانية كانت حاملاً سجنت في ثكنة هنانو. ثم اعتقلت للمرة الثالثة حين كان ابنها إسماعيل في الشهر الثامن من عمره وبقيا في المنفردة في أحد السجون الشمالية مدة أربع سنوات. نقلت من ثم بعد عملية تمرد في السجن إلى فرع الأمن2 العسكري لمدة ثمانية أشهر ثم إلى سجن النساء. أطلق سراحها في سنة 1991.
113 ـ تماضر. ع: معتقلة سياسية من مواليد 1961، أخذت رهينة في سنة1987، وكانت قد تخرجت من كلية الطب للتو، ولما رفضت التعاون مع الجهات الأمنية، ولم تقم بتسليم صديقها الملاحق، بقيت معتقلة حتى سنة 1991 حيث أطلق سراحها مع بقية المعتقلات من سجن النساء.
114 ـ الزنزانة كانت عبارة عن مجموعة من أربع مزدوجات مفتوحة على بعضها يغلق بابها الخارجي فقط ملحق بها حمام ومحرك السجان وكوريدور صغير بينها.
115 ـ فكرة يراها برايتن برايتنباغ في مقالته التي سبق ونوهت عنها.
116 ـ كانت ضحى. ع قد حكمت بالسجن لمدة ست سنوات ابتداء من سنة اعتقالها في 1992 بعد أن خضعت للمحاكمة في محكمة أمن الدولة.
117 ـ كان قد فعّل عمل محكمة أمن الدولة ابتداء من سنة 1992وبدأت محاكمات المعتقلين السياسيين.
118 ـ هالة. ف: معتقلة سياسية من مواليد 1965 اعتقلت في سنة 1987 وأطلق سراحها قبل بقية المعتقلات بسبب وضعها الصحي وذلك سنة 1990.
119 ـ كما أوردت سابقاً. كانت الثياب والطعام وأشياء كثيرة أخرى مشتركة لدى المعتقلات السياسيات حتى فترة بعيدة من الاعتقال وذلك في كل أماكن الاعتقال. كما كان هناك صندوق مالي مشترك توضع فيه جميع المعونات المالية ويستخدم في حال المرض أو لشراء الطعام (في السجون المدنية فقط) أو في حالات اضطرارية.
120 ـ وهي سقيفة فوق المزدوجات على مساحتها تطل بنافذة من الشبك على الكوريدور الفاصل بين الزنازين.
121 ـ تلك الإشارة تعني دائماً انقطاعاً في نص الرسالة إما من الأصل أو بسبب خيارات النشر.
122 ـ جود (8سنوات) كتبت هذا المقطع بعد أن اكتشفت أن والديها كانا سجينين. جود هي ابنة حميدة. ت (معتقلة ثلاث سنوات) وغياث. ج (معتقل عشر سنوات)، وكلاهما بتهمة الانتساب إلى أحد الأحزاب الشيوعية المعارضة.
123 ـ المقطع الأخير الذي أضيف إلى دفتر مذكرات ناهد. ب في المعتقل بعد إطلاق سراحها بأيام.