بضربات سردية متمرسة، وعين صاحية للمفارقة، ينفذ القاص المصري إلى عمق اللحظة والنفسية الجمعية لواقع مترع بالتوتر والقهر، ولكنه يجد رغم المحنة فسحة للشجن العذب.

شجن ليليّ

سعيد الكفراوي

قليلة هى المرات التى ضبطتُ فيها روحى تجهش بالبكاء.
كنتُ أغلقت التليفزيون بحدة.. كان المشهد لجسد امرأة عربية وقد حولته القذيفة إلى أشلاء ملتصقة بالجدار، وقد تلطخت الأرض بالدم، واكتسى الجو بغبرة الدخان. كان الطفل الذى جاء عدواً قد تسمر أمام مشهد الأشلاء، وحين لم يستطع مواصلة الوقوف خطا ناحية الرصيف وجلس يباشر وينظر بفزع ناحية ما تبقى. هل كان الجسد لأمه؟.. أم لتلك الجارة التى تتوجه كل صباح ناحية البستان؟. وهل كنتُ أقاوم ما ينبثق من القلب من جروح، وذلك الصوت البعيد ينبعث صداه مثل السقوط فى هاوية؟.
"مالذى يحدث ولا نفهمه؟".

سرتُ داخل الشقة أتأمل الصور على الحائط، وصوت غناء يصعد من الراديو يمجد القدس، وأنا أقاوم إحساسى بتلك الهزائم التى تتواتر مثل الفصول عبر الأزمنة، وكم من السنين ستمضى حتى يتخلص الناس من ذلك الموت الذى يسكن الحياة؟.

كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة، والشمس تفرش أرض الشرفة، والشارع يزدحم بالسيارات، ونداءات الباعة، وبجانب السور تجلس عجوز مسنة تمد يدها للعابرين.

كنت فى الصباح قد تلقيت دعوة "إبراهيم" لحضور إضراب عن الطعام فى نقابة المحامين. قال:

"بسبب ما يحدث"
"هنا ولا هناك؟"
"هنا وهناك.. ميعادنا 12 فى النقابة"
وضع السماعة، ومضى.

نقابة المحامين بناء ليبرالى قديم، يقع على تقاطع شارعى رمسيس وعبد الخالق ثروت، طرازه كلاسيكى يعكس مهابة أول القرن الماضى.. واجهته الخارجية افترشتها اللافتات بشعاراتها المجلجلة... تسقط أمريكا وإسرائيل... بالروح بالدم نفديك يا فلسطين... يسقط العملاء واللصوص.

زحمة من شرطة ومخبرين، والنهار خريفى، وعربات بالشارع.

قبل أن أتجاوز الباب اعترضنى الشرطى:

ـ "على فين؟"
ـ "داخل"
ـ "تلاقيك رابح الاضراب.. شكلك كده"
ـ "آه.. رايح الاضراب"
ـ "طيب يا سيدى اتفضل اضرب"

شيعنى بنظرة فلاح لا حول له ولا قوة، ثم سمعته يلعن سنسفيل الأيام السوداء التى وضعته فى تلك الظروف.

اجتزت الحديقة المزروعة بأشجار التوت والفيكس، وقطعت المساحة بين المبنى والحديقة الخالية من العشب.. رأيت المحامين يجلسون فى طرفها على طاولات من البلاستيك مرتدين أروابهم السوداء، يتحدثون إلى موكليهم بصوت عالى، ويحتسون الشاى، ثم يتأملون الأخوة المضربين فى الجانب الشرقى من الحديقة بجانب جدار المسجد الصغير.

أسراب من بشر ينسلون من باب جانبى، يحملون أوراقهم بينما تنطوى وجوههم على حزن أصيل، أصبح علامة تميز وجوه المصريين. أسير واضعاً يدى فى جيب سروالى.. لا أستطيع مفارقة منظر الموت على الشاشة، وذلك الإحساس يغمرنى.. هو الموت.. ذلك الألم الأخير".

ـ "أهلا"

قالها "على"، ونهض مسلماً.. ألقيت التحية، وسحبتُ كرسيا وجلست.

كان منتصف النهار معتدل الهواء فى هذا الوقت من زمن الخريف، وكنت أراهم يدخنون بشراهة، ويقرأون من أوراق فى أيديهم.. همس "على" فى أذنى ببعض الكلمات وافقته عليها.. نهضتُ وتوجهتُ ناحية المسجد.. كانوا عشرة قد باشروا الإضراب عن الطعام.. ألقيتُ عليهم التحية وعدتُ حيث الجمع.. قال لى "على" المسألة لم تعد موت شخص أو جماعة.. المسألة اختبار للوجود كله.. فاهم.. فاهمنى.. أشار إلى صدره بإصبعه، وأضاف بصوته المبحوح.. عشرة أيام ولا أستطيع النوم.. لحظات مع كوابيس لا أعرف من أين تجىء؟.

أراح ذقنه على يده وغاب عنى.

وقف "إبراهيم" ممسكاً بورقة، وقال بصوته المضطرب:

ـ "كتبنا بيان يوقعه المثقفون.. يشتمل على مطالب ثلاثة.. قطع العلاقات مع إسرائيل.. طرد السفير.. وقف ضخ النفط.

صمت لحظة وواصل.

ـ "وحتى تتحقق هذه المطالب سوف نضرب عن الطعام حتى الموت".

صمت الجميع لحظة، رأيت خلالها عصفورا ينتقل من شجرة لشجرة.

تأملت وجه "داوود" الأسمر، ونظارته البنية ذات الإطار السميك، وشعره الأسود الذى وخطه الشيب.. انحنى للأمام قليلاً.. كان منشغلاً حين رأيته يضغط شفته السفلى، ويدفع بنظارته على عينيه.. رفع رأسه ونظر ناحية إبراهيم.

ـ "لكن يا إبراهيم دى مطالب يستحيل تحقيقها.. وانت عارف موقف الحكومة كويس"

أجاب إبراهيم.
ـ "علينا تصعيد الأمور"
قلت من مكانى بصوت عالى:
ـ "لحد الصدام؟"
ـ "لحد الموت"

قالها "إبراهيم ورأيته يرتعش بالانفعال.. كان وجهه قد نحل، يفرز عرقاً غزيراً.. تذكرتُ سنوات طويلة ماضية، وتلك الأحلام التى عشناها ولم تتحقق أبداً.. وأخذتُ أتأمل تلك المصائر التى دائماً ما تنتهى لما نحن فيه.

عاد يؤكد.
ـ "إضراب حتى الموت".
قال "على":

ـ "اقترح إضراباً رمزيا عن الطعام.. كل جماعة تضرب ثلاثة أيام متواصلة.. بكده، أولاً: يستمر الإضراب مدة أطول، وثانياً: تصل الرسالة للشارع، وعلينا بدعوة رجال الإعلام وكبار الكتاب للحضور، وكمان القنوات الفضائية".

وكنت ألمح عبر السور جنود الأمن المركزى، وعرباتهم الخضراء تحتل الشارع، وأرى تجمعاتهم على الرصيف، وذلك الضابط الكبير يتكلم من جهاز اتصال فى يده.

انتهينا إلى أن يكون إضراباً رمزياً.

انقضى أول نهار، وحل على المكان الليل، وأضيئت فى جنبات الحديقة مصابيح النيون، وتكاثفت الأشجار.. اختفى الشارع، وغاب عنا الجنود.

زحفتّ الساعات بطيئة، متوترة، واشتدت على المكان وأجساد الحضور كثافة من برد ليلى، وخلف النقابة ظلمة قادمة من ناحية دار القضاء العالى. كنا فى الهزيع الأخير من الليل، وقد هجع المضربون عن الطعام فى ساحة المسجد الصغير المقام على مساحة ضيقة من أرض الحديقة.

كنتُ أجلس بجوار جذع شجرة النخيل الوذ بصمت آخر الليل، غارقاً فى ذكريات قديمة لم تغادرنى أبداً، وكنت على نحو من ألم أعيش مأساة حياتنا.، تنتفض بداخلى الصور، وأتأمل عبر سنوات عديدة مشهد تلك الجنازات التى تخرج من أزقه متربة حيث وجه الكريم.. كأننى أشعر فى هذا الوقت من الليل بسخونة أنفاسهم، وذلك الصدق المروّع يقودهم نحو الموت لتحقيق إدراكهم العميق لمعنى الكرامة، وفهمهم الذى لا يرتهن للغيب: أن الأرض أرض الناس، والوطن وطنهم.

شعرت بلذعة البرد.. نهضت أجمع من أرض الحديقة بعضاً من أغصان جافة.. حفرتُ حفرة بالقرب من باب المسجد، وألقيت بها الأغصان وبعض الأخشاب المهملة بالمكان وأشعلتُ النار.. ارتفعتْ النار وضوّت شعلاتها تعكس الظلال على الجدران.. رأيتهم يخرجون من المسجد فرادى ملتفين بأغطيتهم، يفركون أكفهم ويتحلقون حول النار البهية فى ليل المدينة الصامت.. نفذ الضوء وكشف عن الوجوه، وأحسستُ فى لحظة كأننى فى خلاء المقطم، تحت النجوم والشهب العالية.. كنا صامتين، وسرى الدفء، وسرعان ما تخففوا من أغطيتهم، وشعرتُ بإحساسهم يطفو على النار، وبقدرتهم على الفعل والمقاومة.

نهاران، وثلاثة ليال عبرت فيها السماء ثلاثة أقمار مكتملة.

تزدحم النقابة بالأصدقاء، وتفرغ منهم فى منتصف الليل، وأحوال المضربين تسرى فى المدينة مثل صوت الرعد.

فى اليوم التالى جاءت قنوات التليفزيون والمراسلون الأجانب.. وفى النهار صدرت صحف المعارضة بصور المضربين وشعاراتهم.. فى الليل حضر ضابط أمن الدولة بصحبة وكيل النائب العام وأجرى تحقيقه، وعيّن طبيباً يباشر أحوال المضربين.

مغرب اليوم الثالث كانت أرض الحديقة مفروشة بالرفاق.. الصخب يعلو، والبيانات تقرأ، والبعض يطل على ساحة المسجد ملقياً السلام والسؤال.

قوات الأمن الكثيفة تحاصر البناء.. سيارتان مركونتان بجوار الرصيف، واحدة تمتلئ عن آخرها بعساكر الأمن المركزى، ويقف أمامها ضابطان من أصحاب الرتب، يحملان جهازين للاتصالات، والجنود خلفهم مدججين بالسلاح.

"ليل قادم"

همستُ لنفسى وأنا أنظر من خلف السور أراقب الشمس وهى تغيب ويحل على الحديقة ذلك المساء الغائم.

لمحتها تدخل من الباب.

وقفتْ لحظة تتأمل الجمع، وتسند ظهرها للحائط تحت يافطة القماش "فلسطين عربية".. رأيتها تبتسم، ورأيتُ وجهها تنيره أسنان بيضاء لامعة.. رمتْ بشعرها الطويل خلف ظهرها، وخطت ناحية الجمع متوجسة.. كانت صبية يا دوب فى عمر الخمسة عشر، ترتدى ثوباً من حرير توشمه وردات ملونة، وتحمل فى يدها كتاباً مصوراً غلافه بيت قديم.. ترتدى سترة من قماش الجينز الأزرق، وتشبك فى كتفها حقيبة من الجلد.

اقتربتْ منى وسحبت كرسيا وجلست وهى ما تزال تبتسم.

لاحظتُ أن عينيها كبيرتان، صافيتان، وأنها كلما ابتسمت رجعت بى لأيامى القديمة.. كان وجهها النحيل، وتلك البراءة التى فاجأتنى قد سمرتنى على وجه الصبية، ولم يعد بإمكانى مغادرة تلك الملامح التى هبطت على المكان.

رحبتُ بها فابتسمت لى وسألتنى بمنتهى السذاجة:

ـ "هو فيه إيه يا عم؟"
ـ "إضراب.. عاملين إضراب.. علشان فلسطين"
تداركت هامسة:
ـ "آه.. صحيح"..

وانشغل بالها. سرحتْ، وكأنها ترى ذلك التتابع لأطياف لا أراها أنا، والبنت التى لها وجه القمر تسابق قلبها فى تأمل ما تراه مندهشة:

قالت:   
ـ "وهم هايفضلوا كده لحد ما يموتوا من الجوع؟.. يا حرام!!".
اقتربت منى، وقد احتضنت يدها، فقلت لها "ممكن".
همست لنفسها مرة أخرى:
ـ "يموتوا من الجوع؟!.. يا نهار أبيض.. دى تبقى كارثة".

أدركتُ مدى طيبتها، وقلة خبرتها.. ربما هى المرة الأولى التى تجوس فى مثل هذه الأماكن.

طلبت لها شايا.. شربته وحل صمت مفاجئ على المكان، ثم عاد اللغط يختلط، وأصوات تعلو هنا وهناك.

فجأة، وعلى غير ما توقع انبعث صوت البنت بالغناء، نابعاً من حنجرة مثل ينبوع.. انتبهوا للصوت وصمتوا.. وبعضهم همّ نصف همة ليرى الصوت.

كانت قد اعتدلت فى جلستها وقد شدت من قامتها، ونهضتْ واقفة فبدت طافية على المشهد، يجسد بدنها ضوء المصابيح، وكانت الرءوس تجاهها مشرعة، والبنت تغنى بذلك الحماس عن بلد بعيد، تلك الألفة وذلك الشجن الذى يعلو فى الليل، وينبع من الجنة.. أغنيات تخرج من الروح بذلك النغم فائق المحبة، وجلجلة تعلو مثل راية على مكان أليف.

كنت مندهشاً، ومأخوذاً.. كم من الزمن سيمضى لأمسك بتلك اللحظة مرة أخرى.. لأقبض على خلود الزمان فى هذا المكان الضيق من مدينة تعيش انكسارها، كم من الوقت سيمضى لأدرك ما يجسده صوت البنت تلك الليلة. خيّل إلىّ لحظة كأننى فى الحلم، أخرج من دروب المدينة القديمة وأدخل فى مرج المساء النورانى.

بدأت تطوف فى المكان، والأصوات تستحثها:

ـ "غنى يا "سارة".. غنى".

التهبت الجماعة، وأخذوا يرددون خلفها الكلمات، ودبت الحماسة فى أرواحهم، وابتدأ الهتاف صاخبا، وانطلقت الشعارات تتجاوز الأسوار.

حاصرتْ قوة الأمن الحديقة، وتقدم الضابط الكبير أمراً الجميع بالكف، وأنذرهم بفض الإضراب بالقوة.. تصدى له. أحد الرفاق مشوحاً بيده فى وجه الضابط .. هجم عليه الجنود بهراواتهم وأسقطوه أرضاً وأخذوا يركلونه بالأحذية الميرى .. تحفزنا وهم يسحبونه ناحية السيارة فى الشارع .. نبهنا بعضهم: حذارانهم يستهدفون فض الإضراب بالقوة.. انتبهوا.

عدنا وجلسنا.. بحثنا عن "سارة" التى كانت تنتفض بجوار الحائط.. دعوناها للغناء مرة أخرى لكن صوتها العذب لم يخرج مجلجلاً أبداً.