توشك هذه القصة للكاتبة الإماراتية أن تكون قصة الخوف من الجمال والفرح، والرغبة في وأد كل شيء جميل مبهج في واقع يخيم عليه الخوف والغباء.

مالن يعرف من سيرة السواد

فاطمة الناهض

أصاخت "رفيعة" السمع وتمطت في جلستها الملكية على تكية مرتفعة قليلا أعدّت لتناسب مقامها، ورمت نظرتها بقلة اكتراث جهة الأصوات التي ارتفعت شيئا فشيئا فغطت على الزغاريد: هيله.. هيله... هيله..!

قامت "هيلة" بين الحياء والكسل الخفيف، وتوسطت الحلقة المفروشة بالسجاد الأحمر، حافية مخضبة القدمين، تتمايل فاكهتها دون قصد، وتتثنى كرومها حتى قبل أن يمسسها اللحن الفاتك في صهيله نحو المنعطفات. نهض العاج بصفائه الصقيل ونعومته الفادحة وترجرج تحت ثوب رقيق واسع رفعته أنامل من اللين المنقوش بحناء شديدة الحمرة، إلى خصر لا تنفك تداعبه جداول الحرير المتدافع على الحرير، فيبدو كما لو أن هيلة ترقص وهي لا ترقص. وفي خجلها حركت هيلة قدماً لليمين، وارتفعت يد ها اليمنى كأنها تهز أرجوحة النسيم على كتف القمر، أتبعتها بالقدم الأخرى وشدت ثوبها بيسراها إلى الخصر أكثر، فنفرت التفاصيل المريرة للغوايات الأولى، وسقوط الممالك.

هيلة لا ترقص، إنها تتحرك بخفة فقط، ببطء تتثنى وحياء، ويقوم جسدها بالباقي في عفوية الخلق، يرشح الغيم العابر حين تخترقه خصلات الشعر الكثيف المغادر يميناً يميناً، و العائد يساراً يساراً، ويعيد الهواء تشكيل جزيئاته حين يضطرب الصدر، وتصخب الدفوف أكثر حين تبتسم العينان، أو تقضم شفتها السفلى من الخجل، وهي تتلوى كأنها تتألم لوقع الموسيقى على الثياب.

حاولت"رفيعة" أن تعتدل في جلستها حين رأتها، حاولت، ثم حاولت أكثر، لكن الأرض هربت من تحتها، ركض الشوك فوق جلدها، وفي صدرها اندلعت براكين، انفطر قلبها كمن مات لها عزيز، وغصّت بالدمع. ثم شبت حرائق صغيرة في أطرافها وسال أسى، وأخذتها الرجفة والخفقان وسحبها الأنين، وأوشكت على الإختناق! رفيعة؛ آخر زوجات صاحب الأمر الجديد الذي نبت وسط الناس في عماء السهو، وانشغال الرغيف، من أقبلت عليه الدنيا من حيث لم يعرف أحد، وهبطت عليه فجأة أموال قارون، وما تنوء بحمل مفاتح خزائنه العصبة أولي القوة، فصار ممسك النعم ومانح العطايا، مجزل العطاء ومنزل العقاب، العادل شديد الظلم، والظالم المسرف في العدل، حسب الوقائع وعكس التوقعات. يقيل العثرة بثمن، ويضعها في طريق من لا يستسيغ هيئته وفعله، بغير ثمن. يستر على من غضب الله عليهن وأمدّهن بنعم لا يعرفن صيانتها، حتى إذا ما تعلمن صيانة النعمة طلّقهن وأطلقهن، ومضى يكمل رسالته التي اختارها له التاريخ.

ورفيعة يبست في ثيابها حين تثنَّت هيلة قليلا ذاك المساء في عرس "رمله"، عرفت أنها التالية في ميزان حسنات الكبير الذي لا يكبر على النظرات التي كانت تسحب الثياب عن سهو الجسد، من الآهات التى انحبست في صدور النساء فجأة حين هبطت هيلة الى الأرض كبجعة فارهة، ثم ارتقت الهواء كعمود حلزوني من النور، أربك الأكف في التصفيق فظلت معلقة كآنية من النحاس.

ستتحدث النساء بحُرقة عن "هيلة"، تمايلها الفطري، وبراري فتنتها الغامضة، ووحشية تضاريسها، وسيصل الحديث، ودائما يصل، الى قصاصي الأثر، وتحسين السلالات، وستنتهي هيلة في بيت صاحب الأمر علَّ وعسى تنجب الوريث المنتظر، وربما على فراش رفيعة.

خلال الأيام السبعة التي تلت عرس رمله، سمع الناس أنَّ الله أكرم رفيعة وزوجها وأنها تنتظر مولودا.

نادى المنادي في الطرقات وبين البيوت وبإجماع من بيدهم مصائر العباد، أن الغناء والرقص ممنوع في المناسبات حتى بين النساء، لأنه يبعث على الفجور والمعصية، ويلهي عن الطاعة، لا تستثنى من ذلك الأعراس وتجمعات الأفراح.

إختفت هيلة وأمها وأبيها وأختها وأخيها، وعمتها، وخالتها، وغنمهم وراعيها، وسقيفة العلف، وزير الماء، والطريق المؤدي الى حيث ينامون أو يأكلون، وامتدت مساحة شاسعة من الخلاء، برزت فجأة يمين المزارع، كانت مزدحمة بنخيل يسد عين الشمس،

تشكلت لجنة أختيرت بعناية من عجائز الحي، تطوف على الأعراس والأفراح، تهدي الناس سواء السبيل، تحذّرهم من غضب السماء، وتحفّظهم أدعية تقال في المناسبات بلا دفوف تصهل أصواتها في قفر الأمسيات الطويلة التى اختصرت أحداثها الى ساعتين من الزمان، يأخذ فيها العريس حلاله الى بيته، في زفة من الزغاريد تتبرع بها اللجنة نفسها لا أحد غيرها، مخافة الفوضى والوقوع في المحاذير، لأن الزغاريد أيضا يجب أن تكون لها مواصفات (شيء بين العواء والنعيب)، لا تتقنها إلا اللّجنه.

ثم اتُخذ من السواد لوناً رسمياً، بدءًا بالملابس، خاصة ما ترتدي النساء، وانتهاء بالعَلَم الذي قيل أنه لا يجوز أن يظل أسودا خالصاً فأضيفت في وسطه دائرة بحجم كف، حمراء بلون الدم.

ويا ليت هيلة ما تثنَّت!

2008