يكشف لنا القاص الجزائري في هذه القصة المترعة بالشجن والشاعرية كيفية تخلق الأسطورة تحت شظف الواقع وزخم مشاعره.

الميت الحي

الشريف حبيلة

دخل المنزل... وجد الحيطان تلبس صمت الأموات...كالعجائز تلتحف السواد. لم يكترث... رمى حقيبته، وعلى السرير رمى جسده المتعب... سلمت عليه خالته وفي أذنه صبت نار كلماتها... طعنت سمعه بسكاكين الفجيعة"

ـ لقد مات نصر الدين... ابن خالك مات... قتلوه هناك حيث الجبال و الغابات بعيدا عن أهله قتلوه كما تقتل الكلاب

سحب البسمة والتحية... وقف... فحص الجدران الحزينة بعينين دامعتين ثم خرج، ترك الباب مفتوحا، وفي صدره فتح الجرح القديم... في الطريق شعر أن كل الأشياء فقدت شيئا ما لا يعرفه... لكنه هنا في الأعماق "هذه المدينة ضيعت شكلها القديم". دخل المركز الثقافي وفي قاعة العرض جلس " لقد مات نصرالدين... كيف حدث ذلك؟ من أين جاءت هذه الرصاصة؟ من أطلقها؟ من حمل السكين... وطعن نصر الدين؟ منذ أسبوع قلت لي:

ـ سأتزوج... سيكون لي بيت وأطفال... كم أشتاق إلى طفل أحمله بين ذراعاي، أعلمه كيف يحب ويزرع البسمة في العيون... أعلمه كيف يسقي أزهار حديقتنا.

منذ أسبوع فقط... كيف حدث ذلك؟... أتذكر كنا نمشي معا... نتحدث... نحاول أن نبني مدينة بحجم أحلامنا قلت لي:

ـ لو يستطيع الإنسان العيش الحلم!

كنت تبحث عن عمل فوجدته، وكنت تجهل أنك تسير حيث النهاية في مدينة كانت تخطط لشيء ما... كل السكان يحملونه في ذاكرتهم الشعبية، فالكل هنا يحفظ قول المرابط الذي تنبأ ذات يوم بمصير المدينة،

ـ تخلطت و تجلتتتطت ولعب خزها على ماها
ـ فيها حكام بغير معنى هو ما سباب خلاها

وهاهم القرويون في حقولهم... والحضريون في أماكن أعمالهم... والشيوخ حول الخربقة... والشباب في المقاهي، وعلى أرصفة الطرقات... العجائز على أعتاب البيوت... النسوة وهن يعجن كسرة يومهن... يرددون قول المرابط ويصدقون:

ـ لقد صدق المرابط... صدق!

شخص فقط والمدينة كانا يعرفان سر هذه المدينة... حتى أنت يا نصر الدين كنت تخشى هذه المدينة... وجهك كان رماديا يحمل البسمة على شفتيه ومن عينيه ينزف الحزن. كنت دوما تقول لي:

ـ إني كلما دخلت المدينة يسكنني الخوف وترتجف رجلاي... أخاف السقوط... هذه المدينة تسكنها أرواح معذبة ـ هكذا يقول لي شعور غريب ـ وأنها تريد أن تنتقم... لكن لماذا؟

أبحث عن تفسير ولا جدوى، أقول لك يا ابن العمة، إني خائف وواجبي يشدني إلى هذه الأرض... أحيانا أشك... ربما أوهام تنطلق من فم الغيب المجهول... يصنعها الحاضر الأليم... كنت أحلم كباقي أبناء المدينة، عمل... زوجة... بيت صغير... وجدت العمل والزوجة و البيت... فرحت كثيرا وحزنت... شيئا ما كان ينقص هذه الفرحة، لم يعجبني لون جدرانها من البداية، مع ذلك قلت لا مفر من المكتوب.

صدقت يا نصر الدين لا مفر من المكتوب ومكتوبك أنت كان دوما معك... لكن هناك خلل ما في منطقة ما من هذه المدينة التي أخذتك وبعيدا عن الأهل دفنتك... إن حزني اليوم أكبر من فراغ هذه المدينة... لماذا قتلتك؟ ألأنك تبحث عن جدار لك في هذه الأرض؟! ألم تكن ابن المدينة تحمل شوارعها وبيوتها في ذاكرتك؟! هل نسيت أنك كنت طفلها؟! أم تراها غيرت الجدران والألوان وأدبرت حين رأتك قادما من خلف المسافات تختصر البعد بينك وبينها؟!

لقد صدقت يا نصر الدين يوم قلت أن لون جدرانها لا يعجبك. آه يا نصر الدين هل يساوي حزني عليك حزنك على نفسك؟! عشت غريبا في مدينتك يا ابن المدينة ومت غريبا وحيدا... هل تراهم واروا جسدك التراب أم أنهم تركوك لغربان الدينة؟ إن طيفك أراه يسير في الشوارع أظنه مثلك يبحث عن جدار داخل الديار. لقد مت وتركت السؤال يعذبني، بل وسكان المدينة:

ـ هل مت حقا يا نصر الدين أم ضيعتك المدينة؟!

هناك من قال:

ـ في الصباح جاءوا يحملون الموت في أيديهم... ربطوه... أخذوه... صلبوه... لا... لا... بل ذبحوه ثم دفنوه ببساطة كان موكبه الجنائزي أسرع من لمح البصر.

وقائل قال:

ـ ذات ليلة جاءوا و أيديهم كالحديد تمطر نارا... حاولوا حرق المدينة و نسج خيوط الموت... لكنه تحداهم... تحدى أيديهم الحديدية والموت الساكن في أعينهم... حينها أقسموا بأغلظ الأيمان ليقتلنه ولو بعد حين... وفي صباح يوم ممطر حزين حمل جسده واتجه إلى حتفه وقبل أن يدخل المدينة خانته المدينة... اختطفه الموت وراح المسكين يرفل في سلاسل الحديد.

حاول خالي والجيران... أعمامك أيضا... البحث عن جواب لسؤال تحول إلى جرح جريح... كيف؟!... لماذا؟!... أين؟!... ومن؟ وهل حقيقة حدث ذلك ؟! صديقك العائد من الموت فقد عقله ومعه ضاعت الحقيقة خالي حمل نفسه واتجه صوب المدينة يبحث عن بقاياك ليثبت أو ينفي أقاويل الشوارع... اقتفى أثرك منذ الطفولة وعند أول يوم من أيام الشباب ضيع أثرك وضاع وسط أشجار البلوط الكبيرة حينما عاد سكت ولم يتكلم. ومعه سكت الجواب، ربما وجد الحقيقة فأسكته هول الفجيعة. هكذا ضاعت الحقيقة... وانتظرنا صدور شهادة الوفاة. لكن البلدية تبحث شهادة الجسد لتمنح القضية صفتها الرسمية... فصرت مثلا تحييه المناسبات "شهادة وفاة تبحث عن إثبات"

البعض لم يؤمن بموتك... يعتقدون يقينا أن يدا خطفتك، أو ربما ضيعتك لمدينة... هم يحلمون برجوعك ذات يوم في ذات صباح.

آه يا نصر الدين لو كنت هنا تسمع العجائز يحكين قصتك! صيرتك الذاكرة حكاية... بل أسطورة، أسطورة "الحي الميت" تحكى للأطفال في ليلي الشتاء، وفي كل ليلة تسأل العيون البريئة الجدات:

ـ هل مات حقا يا جدتي نصر الدين؟

وتجيب الجدات:

ـ ربما لم يمت يا أبنائي... وسيعود ذات ربيع!

ومع كل ربيع يترقب الأطفال على تلال المدينة قدومك. ويحيرني السؤال مثل الأطفال يا نصر الدين هل مت حقا يا نصر الدين ؟! 

قاص وأستاذ بجامعة تبسة ـ الجزائر