تتبع هذه القصة للقاص المصري في سردها العفوي الدقيق لحظة التوتر والغواية الحلال، وانتصارها على التزمت والتظاهر، وتكشف في الوقت نفسه أن المشايخ خطاؤون كغيرهم.

الأزهري

خالد حسين عاشور

الركعات الأخيرة من صلاة التهجد مرت بطيئة ومملة على نفسه. حتى أنه أخطأ خلالها خمس مرات في آيات ما كان ليخطئ فيها قبل ذلك، وهو الحافظ لكتاب الله خريج الأزهر الشريف.! فاستعاذ بالله من الشيطان الرجيم ولعنه في سره أكثر من مرة، فهو الذي قذف أمامه بصورة عارية لزوجته ليذكره بأن الليلة ربما تكون هي الليلة الأخيرة لدورتها الشهرية، وأنها اليوم ستطهُر. وتعجب أكثر لوسوسة الشيطان الرجيم في شهر الصوم.

وتسائل في غرابة: أوليس من المفترض أن تسلسل الشياطين وتصفد خلاله؟! أم أن ذلك اللعين الذي وسوس إليه هرب بكفالة؟! وسلط عليه ليتركه نهب الحيرة مع نفسه الأمارة بالسوء؟!

غير أنه حاول جاهداً طرده مستعيذاً بالله في كل ركعة من وسوساته، متحدياً إياه، حتى أنه في الركعة الأخيرة راح يطرد الفكرة كلها ويؤكد له أنها مازالت في أيام الحيض متناسياً أنها قد تطهرت الليلة. وأخذ يقرأ بعدها في همس وإصرار:

ـ "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ".

وقبل أن يكمل وسوس إليه الشيطان:

ـ "فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ".

وكأن مبارزة لشد الحبل طفقت تظهر بينهما. فعقب في تحد واضح وبصوت عال:

ـ  "إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ".

غير أنها لم تكن هي الآية التي يقرأها فسمع من يرُده من المصلين خلفه بعد أن تعالت صيحات الله أكبر مذكرين إياه بالآية التي كان يقرأها بعد أن جعله الشيطان ينسى ما يقرأ.

وعادت وسوسة الشيطان:

ـ "نساؤكم حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ...".

إلا أنه في تلك اللحظة بالذات شعر وأن الحبل قد هرب من بين يديه، وأن إبليس اللعين جذبه بقوة ليوقعه في اللعبة التي بدأها معه منذ بدء الصلاة، فسلم دون أن يكمل الآية وهو يشعر بالهزيمة وقد شقته نصفين، نصف غادر المسجد ليؤت حرثه أنى شاء. ونصف أصر أن يتحداه ليكمل الصلاة، غير أن الشق الذي رحل كان هو الأقوى تاركاً الأضعف نهب الوسوسة والحيرة، رافعاً رايته البيضاء، حتى أنه نسى أن الليلة هي ليلة من ليال الوتر، إذ ربما تكون هي ليلة القدر، وليلة القدر خير من ألف شهر ومن ألف امرأة أيضاً.

وذكر نفسه كذلك بأنه في اعتكاف من الليلة الأولى في العشر الأواخر من رمضان والتي وافقت اليوم الأول لدورتها الشهرية، كذلك ذكر نفسه أنه لن يستطيع مغادرة المسجد، فماذا سيقول للناس إن رأوه يخرج، وحتى إن لم يهمه الناس، فماذا سيقول لربه إن سأله يوم الحساب، صحيح أنه أزهري أباً عن جد، إلا أن بداخله مخافة حقيقية لله تعالى، ليس لكونه أزهري فقط، ولكن لعزمه أن يتم الشهر الكريم كله في صلاة بلا انقطاع للمرة الأولى في حياته بعد أن هداه الله. وأنه لم يكن يركعها قبل ذلك برغم أزهريته وحفظه لكتاب الله، فردد في ابتهال مذكراً نفسه بالآية:

ـ "فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا".

فقام منتفضاُ صوب حجرته الملحقة بالمسجد، للحجرة مدخل خاص بها، ودورة مياه صغيرة خاصة به يستعملها لقضاء حاجته ووضوءه، يقول لنفسه أن دورات المياه بالمسجد غير صالحة له، وأن براز المصلين وإهمالهم يفوق الحد، فهم من وجهه نظره لا يعرفون كيفية قضاء الحاجة مما يجعل برازهم ينتشر حول عين الحمام، فيعاف دخول دورات المصلين ويفضل دورته الخاصة، للحجرة أيضاً طاقة صغيرة بالقرب من القِبلة، الطاقة لها شباك حديدي يطرق عليه مقيم الشعائر بعد كل آذان لينبهه لإمامة الصلاة، انتفض واقفاً ليجدد وضوءه، قبل أن تحين صلاة الفجر التي أوشكت على الاقتراب، فساعة تكفيه للسحور وقراءة ورده اليومي الذي يواظب عليه طيلة شهر الصوم، ويبتعد بذلك عن وسوسات الشيطان اللعين، فهو لا يقرب المخلصين كما وعد الله وقال الرجيم بنفسه: "إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ".

غير أن اللعين عاد للعبة بعد أن تبعه إلى الحجرة وهمس إليه:

ـ "أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ..."

فهز رأسه في رفض معقباً ومستعيذاً:

ـ "وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا."

وأخذ بعدها يضحك وقد تذكر أبياتاً من الشعر راح يرددها في سره:

- أتوب إليك يا رحمن مما   جنيت فقد تكاثرت الذنوب
- فأما من هوى ليلى وحبّي   زيارتها فإنـي لا أتـوب
- فكيف وعندها قلبي رهيناً   أتوب إليك منها أو أُنـيب

وذكر نفسه بالآية الأولى من سورة العنكبوت:

ـ "أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلْيَعْلَمَنَّ اللهُ الّذِينَ صَدَقُوا وَلْيَعْلَمَنّ الكَاذِبِينَ".

فقام ليكمل وضوءه وهو يدعو الله أن يبعد عنه هوى النفس ووسوسة الشياطين ويتلو:

ـ "وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ...".

قبل أن يجفف نفسه ضحك في انتصار منشداً في استهزاء:

إني بليت بأربع يرمينني   بالنبل عن قوس لها توتير
إبليس والدنيا ونفسي والهوى   يا رب أنت على الخلاص قدير

بعدها سحب مصحفه وجلس على السرير فاتحاً إياه، قبل أن يبدأ في القراءة سمع طرقات على الباب، نفخ في ضيق: الفجر لم يحن موعده ويطرقون! غير أن الطرق لم يكن من المصلين أو من مقيم الشعائر، الطرق كان خفيفاً خلفه أنثى، والأنثى زوجته، هي الوحيدة التي تسلك الممر المنفصل عن المسجد.

ـ وما الذي أتى بها تلك الساعة؟!
قالها لنفسه، ثم أجاب وهو يهز رأسه:
ـ جاءت بالسحور.

حين دخلت تشاغل عنها بالنظر إلى المصحف، تلفت حوله وكأنما يتأكد بنفسه أن الشيطان رحل بلا عودة، ولما تأكد أنه غير موجود تبسم ضاحكاً، وهى ترص له أطباق الأكل، يعلم عاداتها حين تريده، لا تبوح ولا تصرح، يقول: إنها عادات النساء، كلهن يتمنعن وهن الراغبات، فقط تتعمد ارتداء ما شف من ثياب، تتبختر بها أمامه في غدوها ورواحها بينما أردافها الطرية تترجرج في تناغم، يومها تطبخ له حين تكون راضية عنه فتة "كوارع"، هو الذي قال انه يحبها، وحين قالت له متعجبة ذات مرة أول الشهر الكريم:

ـ ومن يتسحر بطبيخ؟ و"كوارع"؟! ثقيلة على المعدة!
نهرها حينئذ غاضباً:
ـ ساعات الصوم طويلة، و"الفول المدمس" لا يغنى ولا يسمن من جوع.!

جلس بعد أن ترك المصحف على السرير. راح يأكل وهو صامت، هي في قعدتها على السرير انحسر ثوبها عن ساقيها، أجمل ما يحب فيها، ملفوفتان ملساوتان كأنهما قطعتي مرمر، هو في قعدته يتلصص نحوهما، الخبيثة نتفت بالحلاوة، الزغب الأصفر الخفيف بهما اختفى، يقولها لنفسه وهو يأكل، ولا ينظر إلى وجهها، غير إنها تقول: طيب قول تعالى كلي؟! يقولها وهو لا ينظر نحوها، تتكوم هي إلى جواره، كلمة منها وكلمة منه يعلم أنها تطهرت الليلة، قالتها دون أن تقصد، هو فهمها دون أن تفصح، هي لا تستحم طيلة أيام الدورة، تعود منها على ذلك، لذا يهجرها أيام الدورة، اليوم تقول أنها استحمت، إذاً هي تطهرت، ما يخشاه حدث، تنظر إليه ورائحة الصابون النفاذة تملأ أنفه، يرفع طبق "السلطة" الممتلىء بالشطة على فمه مرة واحدة ولا يتركه إلا فارغاً، يتصبب العرق من جبينه، تقول له:

ـ بالراحة يا راجل مش كدة.
يتحاشى نظراتها ويؤكد لنفسه أنه بالمسجد وليس بالبيت، يقوم ولا يكمل أكله:
ـ الأكل حامي قوى يا ولية.. غوري روحي.

تقف هي لتهم بالذهاب، تتلكأ وهى تجمع الأطباق، حين تقترب منه تنفذ رائحتها بقوة إلى عقله فيدفعها عنه، تسقط على السرير وهى تتأوه، ينحسر الثوب كاملاً عنها، يرى فرجها منتوفاً هو الأخر، الملعونة لا ترتدي لباساً داخلياً، عادتها ولن تغيرها، يقولها قبل أن تستدير هي على بطنها في تباكي:

ـ أنا غلطانة لك ومحقوقة انى عملت "كوارع"، قلت أكل الجامع مينفعش معاه، آه يا غلبانة يا انى.

يقترب منها، أردافها تهتز وهى تبكى، يحاول إسكاتها، غير أنها لا تسكت، يشعر أن ذلك الملعون عاد، هذه المرة لم يعد ليوسوس، هذه المرة أيقظ النائم في جسده، ذلك النائم الذي ظل يدعو الله منذ بدأ الملعون معه اللعبة أن لا يوقظه، والنائم إذا استيقظ لا يعود إلى نومه بسهوله، يفور الدم في جسده، لا يشعر بنفسه إلا وهو فوقها، تهمس إليه:

ـ في الجامع يا راجل؟! عيب عليك؟!

والعيب لا يصله، كل الذي كان يحسه أنه لا بد من أن يواقعها، تتلوى هي تحته وكأنها ترفض، غير أنه الرفض الذي كله رغبة فتستكين، رجة تلو رجة يتساقط العرق منه ومنها، بالضبط أفاق حين انتفض، وبعد أن شعر برعشتها تسبقه وهى تضمه بساقيها، وقتها أيضاً ارتفع الأذان، لم يسمعه في البدء، غير أن الطرقات على الطاقة الحديدية نبهته بأن الصلاة قد حانت، سترت هي نفسها بعد أن جمعت الأطباق وانفلتت تخرج، الطرق على الطاقة الحديدية يزداد:

ـ الصلاة يا شيخ؟ الفجر يا مولانا؟

هو في قعدته أصابه الشلل، لا وقت عنده للطهارة من الحدث الأكبر، ماذا سيقول الناس إن تخلف عن الصلاة، الناس لا تعذر، والطرق على الطاقة الحديدية يزداد، أيقول أنه نائم؟ ضوء الحجرة يفضحه، والنائم يصحو، لا حجة عنده! وهل يغفر الله له إن فعلها وصلى بالناس بغير طهارة؟!

ـ الفجر يا سيدنا؟ الصلاة حانت..!!

عدل العمامة وجلبابه الأبيض وقام منتفضاً ليدخل، حين دخل لم يلتفت لأحد، يشعر أن جميع من بالمسجد يعلم أنه نجس، وهل المؤمن ينجس؟! يتساءل وهو يمنى نفسه بها ويتجه نحو القِبلة، يظل على نظرته الشاردة نحو الفراغ وهو يردد:

ـ أتموا الصف الأول ثم الذي يليه، ولا تدعوا فُرجةً للشيطان بينكم.

الشيطان الذي أوقعني أدعوكم بتجنبه، يقولها لنفسه قبل أن يكبر تكبيرة الإقامة، تسول له نفسه أن يعتذر ويخلف أحداً عنه، يتراجع عن قراره ويرفع يديه نحو السماء قائلاً في قوة وثقة زائدة:

ـ أقم الصلاة... الله أكبر.   


* قاص من مصر
K_metwaly@hotmail.com