قصة الكاتب المغربي هي قصة البراءة والحب وقدرة الأطفال على انتزاع الحياة من براثن الموت والفقر والعوز ببساطة آسرة.

آية

حسن البقالي

يجلس سامي لصق الحائط الذي ما زال يحتفظ بفجاجة الإسمنت.. لوح الخشب فوق الصندوق البلاستيكي الأسود، وفوقه مصفوفة الفطائر التي خرجت للتو من الفرن.

لم يبع شيئا بعد.. والزقاق يبدو خاليا بشكل يدعو إلى الإرتياب في أن سحابة ماطرة قد تمر من هناك.. عاكف على أوراقه يعيد حساب الدراهم التي تمكن من جمعها حتى الآن، ويفكر فيها.. في النحيفة ذات العينين الآسرتين

الرقيقة كنسمة
والحزينة كيوم حداد

آية التي تدرس معه في الفصل ولا تلعب أبدا مع الآخرين.. تظل صامتة حتى يخال البعض أنها في غيبوبة، لكن ما إن يُنادَى على اسمها ويُطلبَ منها المشاركة في الدرس حتى ترسل إجاباتها الدقيقة، سربَ عصافير ملونةٍ لتأثيث الفضاء باصطفاق الأجنحة. وفي فترة الاستراحة، حين يشرع الجميع في الركض والتنطط والشجار، تلجأ آية إلى ركن قصي وتكتفي بالمتابعة. في مثل هذه الأوقات يستبد بها حزن شديد الضراوة ويبدأ في قضم حبة الروح دون هوادة.. أحيانا تتمكن من تلافي غاراته، وتسرح بعيدا خلف الأولاد تشاركهم اللعب.. تجري أسرع منهم وأبعد، وتقفز أعلى فتشع من قسماتها فرحة ندية.. وربما انساقت خلف خيالاتها لمسافات شاسعة، مارست فيها ألعابا رأتها في التلفزيون أو حُكي لها عنها.. صعبة وخطيرة كتسلق الجبال أو القفز من شاهق.

لكنها لا تلعب أبدا..
لكنها أبدا حزينة..

يحدث أن يلتفت سامي ناحيتها فيجدها تحضنه بنظرة شبيهة بأنة ناي.. للدفء والوجع نظرة لا يدرك كنهها فيشيح عنها باتجاه الآخرين.

وظلت آية كاهنة للظل. وحيدة وحزينة وشفافة حد الرهبة. الكل على مسافة من عالمها. والكل دون نباهتها.

قال الأستاذ:
ـ قومي يا آية.
في درس حول البيئة، فصل مسرحي مشرع على الوجدان..
ـ قومي يا آية.. ستشخصين دور النبتة البرية.. وأنت يا سامي تشخص دور الشاعر.
"أيتها النبتة المتوحدة
كم أنت بالغة الهشاشة والجمال
وكم تبدو حياتي بدونك
فاقدة لكل بهاء"

خاطب سامي آية بهذا المقطع الشعري يغطي طيفها بعينين طفوليتين، حين لمح سلة كرز تنزح من مخبإ سري لأحراش الكلام وتفترش خديها، وهز جسدها النحيل بعض اضطراب.. أدرك حينها ما ظل مستغلقا على عمره القصير من قبل. وأحس تجاهها بحب دافق غلف اللحظة بألف زنبقة ووهج نار لطيفة. ألفى نفسه فجأة يحب صوتها كما يحب صمتها الطويل، ويحب شفافية الحزن في حركاتها وسحرَ عينيها.. ويحب الفصل والدراسة والأستاذ والطريق التي توصله إلى هناك.. ويحب فعلا تلك النبتة البرية المتخيلة التي وجدت تجسيدها الحق في نبتة رائعة من لحم ودم وحزن.

وفي فترة الاستراحة.. حين كان الآخرون يتقافزون ويلعبون، حضن الركن القصي زوج حمام تظللهما غمامة زرقاء من هديل.

ـ لكن.. لمَ أنت حزينة بهذا الشكل يا آية؟
ـ لأني سأموت يا سامي!
ـ وأفقدك؟ كما فقدت أبي؟ لماذا؟
آية تحمل قلبا عليلا.. وأي مجهود جسدي يعرضها للموت.
لذلك فقدت مرح الأطفال وصاحبت الحزن..
ولذلك صار سامي حزينا بدوره..

يفكر في المرض والموت وعصافير الجنة.. "عندما يموت الإنسان طفلا يدخل إلى الجنة دون حساب.. ويصبح عصفورا من عصافيرها الملونة، يحلق حيثما يشاء". ثم يذكر أباه الذي راح، ذات مساء خريفي وترك الدار تتأرجح بين العوز والفقد.

لا يريد أن يفقدها أيضا.

تلك النبتة البرية التي أكل الكرز من خديها.. لا يريدها أن تموت. هي نفسها ذكرت أن هناك أملا في الحصول على مصاريف العملية من بعض المحسنين، أو معظمها على الأقل. وستجري العملية قريبا وتعود بمُهر نابض مكان القلب وشمس متوهجة على الأسارير.

وهرع إلى الدار:
ـ أمي.. هاتي الفطائر كي أبيعها.

فكرة قديمة عرضتها أمه عليه ليعينها على الأعباء، لكنه رفض متعللا بالدراسة ومبررات أخرى لم تقنعه.

يجلس الآن لصق الحائط الذي ما زال يحتفظ بفجاجة الإسمنت. يوقع نظرة عابرة على اللوح الذي أوشكت فطائره على النفاد، ويتأكد مرة أخيرة من المبلغ الذي تمكن من جمعه. داخله بعض ارتياح واستحضر القلادة الفضية التي رآها عند بائع التحف والمسكوكات، بقلبها الناصع القوي والنابض بالجمال.

سيشتري لها القلب الفضي.. تعلقه على صدرها قبل دخول غرفة العمليات. ويكون هو بالخارج نهبا لأسئلة القلق وحمى الإنتظار.

تحسس المبلغ الراقد داخل الجيب بيد، وبالأخرى داعب طيف دمعة مهرَقة.

"يا رب..
أقبل أن أبيع الفطائر طول حياتي.. فقط اشف آية..
يا رب.." 


كاتب من المغرب