تكشف دراسة الكاتب السوري لتلك الرواية السودانية الشهيرة عن تجسيدها لكثير من أطروحات فرانز فانون عن تغلغل بنية الاستعمار في أغوار المثقف التابع وحياة مجتمعه.

الوجوه المتعددة للمثقف الكولونيالي

في رواية ( موسم الهجرة إلى الشمال )

ثائر دوري

إن عودتنا الراهنة لدراسة كل ما يخص الكولونيالية من اقتصاد وفكر ليس مجرد تأريخ لمرحلة مرت بها البشرية ثم انقرضت مع تصفية الاستعمار في ستينات القرن العشرين. بل هو عمل في صلب مهمات الحاضر لأن الكولونيالية ومنذ منتصف التسعينات تعاود انبعاثها، وكان هذا الأمر قد بدأ بشكل مبكر منذ بدء التدخل العسكري الأمريكي في الصومال ثم في كوسوفو تحت شعارات "التدخل الإنساني"، وتبع ذلك إصدار أمين عام حلف شمال الأطلسي السابق خافيير سولانا إعلاناً يدافع عن نمط جديد من الإمبريالية مقبول في عالم حقوق الإنسان والرأي العام الكوسموبوليتي. في الوقت نفسه تقريباً، كان رئيس الوزراء البريطاني يقول، في جلساته الخاصة، أنه مؤيّد للتدخل العسكري في المستعمرات البريطانية السابقة كزيمبابوي وبورما. وصارت لدينا حزمة شعارات "كولونيالية "جديدة مساوية لخطاب "تحضير العالم غير الغربي" الذي مارس الغربيون بحجته الإبادة والنهب والاستيطان والتدمير. لقد صارت شعارات "التدخل الإنساني" و"التدخل لنشر الديمقراطية" و "حقوق الإنسان"، هي الشعارات التي تتحرك تحتها الجيوش الغربية أثناء اجتياحها الدموي الجديد للعالم. فمورس هذا الأمر في كوسوفو والصومال وتيمور الشرقية وأفغانستان والعراق حتى الآن. وكان من الطبيعي أن ينبعث في المراكز الكولونيالية خطاب تمجيد الكولونيالية القديمة بالتوازي مع الكولونيالية الجديدة، فرأينا البرلمان الفرنسي يسن تشريعاً يشيد بمرحلة الاستعمار الفرنسي للجزائر، ويشيد بالمستوطنين هناك. كما مجد قادة حزب العمال البريطاني الحاكم تاريخ بريطانيا استعماري. لكل ذلك علينا أن نعود لدراسة تلك المرحلة التي تنبعث أشباحها من جديد. 

كل سيطرة تبدأ بالفكر وكل تحرر يبدأ من الفكر
تبدأ الرواية "موسم الهجرة على الشمال" بعودة الراوي بعد سبع سنوات من الغربة قضاها في الدراسة في الغرب «كنت خلالها أتعلم في أوربا. تعلمت الكثير وغاب عني الكثير، لكن تلك قصة أخرى» ومنذ اللحظة الأولى نشعر بموقف مختلف عما اعتدنا عليه من أبناء المستعمرات الذين تعلموا في الغرب، وعادوا محملين بالاحتقار لثقافتهم ولأمتهم. أما بطل الرواية هنا فليست لديه هذه العقدة. فهو يحن إلى أهله، ويشعر بالاعتزاز والامتلاء الروحي بهم. يقول: «المهم أني عدت وبي شوق عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحني النهر. سبعة أعوام وأنا أحن إليهم وأحلم بهم، ولما جئتهم كانت لحظة عجيبة أن وجدتني حقيقة قائماً بينهم، فرحوا بي وضجوا حولي، ولم يمض وقت طويل حتى أحسست كأن ثلجاً يذوب في دخيلتي، فكأنني مقرور طلعت عليه الشمس. ذاك دفء الحياة في العشيرة، فقدته زمناً في بلاد (تموت من البرد حيتانها). تعودت أذناي أصواتهم، وألفت عيناي أشكالهم من كثرت ما فكرت فيهم في الغيبة». ويتابع الراوي العائد من الغرب وصفه الدافيء للنخيل والرياح وحقول القمح والطمأنينة التي يمنحها الجريد الأخضر المنهدل. لذلك يقول: «فأحس بالطمأنينة. أحس أني لست ريشة في مهب الريح ولكني مثل هذه النخلة مخلوق له أصل، له جذور له هدف».

وفي مكان آخر يصف جده قائلا: «وتمهلت عند باب الغرفة وأنا استمريء ذلك الإحساس العذب الذي يسبق لحظة لقائي مع جدي كلما عدت من السفر. إحساس صاف بالعجب من أن ذلك الكيان العتيق ما يزال موجوداً أصلاً على ظاهر الأرض. وحين أعانقه  أستنشق رائحته الفريدة التي هي خليط من رائحة الضريح الكبير في المقبرة ورائحة الطفل الرضيع... نحن بمقاييس العالم الصناعي الأوربي، فلاحون فقراء، ولكنني حين أعانق جدي أحس بالغنى، كأنني نغمة من دقات قلب الكون نفسه».

إن هذا الاختلاف عن العالم الأوروبي هو ما جعل هناك إمكانية للرواية، فلولا هذا الاختلاف بين الراوي وبين مصطفى سعيد لما كان هناك رواية أصلاً. لكن العلاقة بين الراوي وبين مصطفى سعيد ليست علاقة اختلاف وتناقض، فقط، بل هي علاقة تشابه، أيضاً. لقد تعلم كل من مصطفى سعيد والراوي في مدارس الإنكليز وغرفا من علومهم، فكلاهما نتاج للعلاقة الكولونيالية بين المستعمر (بكسر الميم) والمستعمر(بفتح الميم)، وهذا ما جعل العلاقة بين الطرفين متوترة. فإذا كان مصطفى سعيد ينجذب تلقائيا إلى الراوي يطل عبره، وكأنه ينظر بالمرآة، إلى ماضيه. لكن الراوي يرفض أن يكون مجرد امتداد في الحاضر والمستقبل لمصطفى سعيد لا بل إنه يخشى أن يلاقي نفس المصير. وهذا ما دعاه ليتساءل بخوف: «هل كان من لمحتمل أن يحدث لي ما حدث لمصطفى سعيد؟ قال إنه أكذوبة؟ فهل أنا أيضاً أكذوبة؟ إنني من هنا. أليست هذه حقيقة كافية؟ لقد عشت معهم».

نتعرف على صورة مصطفى سعيد بالتدريج. فقد اختار الراوي أن يجعلنا نفعل ذلك، وكأننا نجمع صورة مرسومة على لوح زجاجي كسر وتناثر إلى شظايا فكل شظية تقدم لنا جزءاً من الصورة الكلية لمصطفى سعيد، فجزء نلمه عن لسان المأمور المتقاعد، الذي كان زميلاً لمصطفى سعيد في المدرسة الابتدائية، وهو يقدم لنا صورة إجمالية للتعليم الكولونيالي ووظائفه، فيقول:

«كانت اللغة الإنكليزية هي مفتاح المستقبل لا تقوم لأحد قائمة بدونها. كلية غوردون كانت مدرسة ابتدائية. كانوا يعطونها من العلم ما يكفي لملء الوظائف الحكومية الصغرى ـ أول ما تخرجت، اشتغلت محاسباً في مركز الفاشر. وبعد جهد جهيد قبلوا أن أجلس لامتحان الإدارة. وقضيت ثلاثين عاما نائب مأمور. تصور. وقبل أن أحال على المعاش بعامين اثنين فقط رقيت مأموراً. كان مفتش المركز الإنكليزي إلهاً يتصرف في رقعة أكبر من الجزر البريطانية كلها، يسكن في قصر طويل عريض مملوء بالخدم ومحاط بالجنود. وكانوا يتصرفون كالآلهة يسخروننا نحن الموظفين الصغار أولاد البلد لجلب العوائد، ويتذمر الناس منا ويشكون إلى المفتش الإنكليزي. وكان المفتش الإنكليزي طبعاً هو الذي يغفر ويرحم. وهكذا غرسوا في قلوب الناس بغضنا نحن أبناء البلد، وحبهم هم المستعمرون الدخلاء».

ولا ينسى المأمور أن يذكرنا بأصل مصطفى سعيد الوضيع:

«تأكد أنهم احتضنوا أراذل الناس... كنا واثقين أن مصطفى سعيد سيصير له شأن يذكر. كان أبوه من العبابدة، القبيلة التي تعيش بين مصر والسودان. إنهم الذين هربوا سلاطين باشا من أسر الخليفة عبد الله التعايشي، ثم بعد ذلك عملوا رواداً لجيش كتشنر حين استعاد فتح السودان».

وهذا الدور الذي لعبه المثقف الكولونيالي هو دور جد خطير فعلى أكتاف هذه الطبقة من الموظفين قام الإستعمار واستمر. يقول نصر شمالي:

«لقد احتلت لندن الهند في لحظة تاريخية انتقالية مناسبة، وفي ظروف عالمية مواتية، وحكمتها بعدد من الموظفين المدنيين الإنكليز لا يزيد عن الألف، مخصصة لهم رواتب ضخمة جداً جعلت منهم طبقة عليا متميزة، بحيث أصبحت مكانة أقلهم شأناً تفوق مكانة أية شخصية هندوسية مهما علا شأنها، فتكفل أولئك الموظفون الألف بإدارة "الخدمة المدنية" التي سيطرت على مئتي مليون إنسان، يدعمهم جيش إنكليزي لا يتجاوز تعداده عشرات الألوف في أية مرحلة من المراحل، أمّا السّر في تحقيق السيطرة الإنكليزية الشاملة فهو مئات الألوف من الموظفين المدنيين الهندوس، ومئات الألوف من الجنود الهندوس، الذين كانوا تحت إمرة الموظفين والضباط الإنكليز، والذين قاموا باحتلال وإدارة أنفسهم بأنفسهم لصالح بريطانيا، فهل اللحظة التاريخية الانتقالية الراهنة والظروف العالمية الحالية مناسبة ومواتية ليفعل الأميركيون في العراق وغيره ما فعله الإنكليز في الهند وغيرها؟

لقد أرادت لندن في القرن التاسع عشر، عبر برامج تعليمية مكثفة، تقويض الثقافة الهندوسية وإحلال الثقافة الإنكليزية محلها كشرط لديمومة سيطرتها، فما الذي نجم عن تلك التجربة؟ لقد رأى الإنكليز أن جهودهم التربوية أسفرت عن ظهور طبقة هندوسية خاصة، شملت مئات الألوف من المثقفين، تتسم بفقدان الاتزان عقلياً وخلقياً، حيث عجزت عن إدراك أبعاد الأفكار الأوروبية التي حشرت في أدمغتها، وحيث التربية الاصطناعية أنتجت مثقفاً هندوسياً مسكيناً، يتخبط في عالمه الجديد كالأعمى الذي يرغم على معرفة الألوان بوصفها بالألفاظ! يقول غوستاف لوبون في وصف ذلك المثقف الهندوسي الذي أنتجته التربية الإنكليزية: «لا شيء يعدل عدم ترابط أفكاره غير هوسه المستعصي في الكلام بلا هدوء وبلا تعقّل، فإذا لقي أوروبياً حدثه بوقار، من غير أن ينتظر جواباً، عن ترجيحه شكسبير على غيره! ولا أمر يثير الدهشة أكثر من عدم ترابط أفكار المثقف الهندوسي، فهو يفسر ما تعلمه من المبادئ الأوروبية على حساب مبادئ قومه الموروثة التي لا ينتهي إليها، ولا يستخف إلا بها أيضاً، وذلك نتيجة الهاوية التي أغرقته فيها تربيته الإنكليزية!».

و في مكان آخر من الرواية نعثر على جزء آخر من الصورة على لسان مصطفى سعيد نفسه،فيقول أثناء محاكمته في لندن:

«حين جيء لكتشينر بمحمود ود احمد وهو يرسف في الأغلال بعد أن هزمه في موقعه عطبره، قال له: «لماذا جئت بلدي تخرب وتنهب؟» الدخيل هو الذي قال ذلك لصاحب الأرض، وصاحب الأرض طأطأ رأسه لم يقل شيئاً. فليكن أيضاً ذلك شأني معهم. إنني أسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة، وقعقعة سنابك خيل اللنبي وهي تطأ أرض القدس. البواخر مخرت عرض النيل أول مرة تحمل المدافع لا الخبز، وسكك الحديد أنشأت أصلاً لنقل الجنود. وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول «نعم» بلغتهم. إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوربي الكبير الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل في السوم وفي فردان، جرثومة مرض فتاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام».

وأحيانا نعثر مع الراوي على شظية متطايرة من صورة مصطفى سعيد في مكان لا يخطر على البال وبطريقة تمتزج بها الحقيقة بالخيال، فتذكر إحدى شخصيات الرواية:

«إن مصطفى سعيد كان أول سوداني تزوج إنكليزية، بل كان أول سوداني تزوج أوربية إطلاقاً... إنه قام بدور خطير في مؤامرات الإنكليز في السودان أواخر الثلاثينات. إنه من أخلص أعوانهم. وقد استخدمته وزارة الخارجية البريطانية في سفرات مريبة في الشرق الأوسط. وكان من سكرتيري المؤتمر الذي انعقد في لندن سنة 1936.» ويحول الراوي مصطفى سعيد إلى مستوى الرمز حين يقرنه بسادة أفريقيا الجدد، فيقول: «لن يصدق أن سادة أفريقيا الجدد، ملس الوجوه، أفواههم كأفواه الذئاب، تلمع في أيديهم ختم من الحجارة الثمينة، وتفوح نواصيهم برائحة العطر، في أزياء بيضاء وزرقاء وسوداء وخضراء من الموهير الفاخر والحرير الغالي تنزلق على أكتافهم كجلود القطط السيامية، والأحذية تعكس أضواء الشمعدانات، تصر صريراً على الرخام ـ لن يصدق محجوب أنهم تدارسوا تسعة أيام في مصير التعليم في أفريقيا في «قاعة الاستقلال» التي بنيت لهذا الغرض، وكلفت أكثر من مليون جنيه، صرح من الحجر والأسمنت والرخام والزجاج، مستديرة كاملة الاستدارة، وضع تصميمها في لندن، ردهاتها من رخام أبيض جلب من ايطاليا، وزجاج النوافذ ملون، قطع صغيرة مصفوفة بمهارة في شبكة من خشب التيك، أرضية القاعة مفروشة بسجاجيد عجمية فاخرة، والسقف على شكل قبة مطلية بماء الذهب.

كيف أقول لمحجوب عن الوزير الذي قال في خطابه الذي قوبل بعاصفة من التصفيق: «يجب أن لا يحدث تناقض بين ما يتعلمه التلميذ في المدرسة وبين واقع الشعب. كل من يتعلم اليوم يريد أن يجلس على مكتب وثير تحت مروحة، ويسكن في بيت محاط بحديقة مكيفة بالهواء، يروح ويجيء بسيارة أمريكية بعرض الشارع. إننا إذا لم نجتث هذا الداء من جذوره. تكونت عندنا طبقة برجوازية لا تمت إلى واقع حياتنا بصلة، وهي أشد خطراً على مستقبل أفريقيا من الاستعمار نفسه» ـ كيف أقول لمحجوب أن هذا الرجل بعينه يهرب أشهر الصيف من أفريقيا إلى فيلته على بحيرة لوكارنو، وأن زوجته تشتري حاجياتها من هارودز في لندن، تجيئها في طائرة خاصة، وأن أعضاء وفده أنفسهم يجاهرون بأنه فاسد مرتشي، ضيع الضياع وأقام تجارة وعمارة... وقد قال مصطفى سعيد: «إنما أنا لا أطلب المجد، فمثلي لا يطلب المجد» ولو أنه عاد عودة طبيعية لانضم إلى قطيع الذئاب هذا، كلهم يشبهونه، وجوه وسيمة ووجوه وسمتها النعمة. وقد قال أحد الوزراء أولئك في حفلة اختتام المؤتمر أنه كان أستاذه. أول ما قدموني له هتف: «إنك تذكرني بصديق عزيز كنت على صلة وثيقة به في لندن. الدكتور مصطفى سعيد. كان أستاذي عام 1928؟ كان هو رئيساً لجمعية الكفاح لتحرير أفريقيا، وكنت أنا عضواً في اللجنة. يا له من رجل. إنه من أعظم الإفريقيين الذين عرفتهم».

وهذا احتمال آخر للمثقف الكولونيالي يتطابق مع وصف فرانز فانون للدور الذي لعبه مثقفو العالم الثالث في بلدانهم بعد الإستقلال. يقول فانون: «يحدث أن تتم تصفية الاستعمار في مناطق لم يهزها الكفاح الوطني التحرري هزاً كافياً. فيتحول المثقفون الذين كانوا للاستعمار أبناءه المدللين، وهم الآن للسلطة أبناؤها المدللين، أيضاً. ينهبون الموارد الوطنية نهباً ويندفعون إلى الإثراء بالصفقات والسرقات المشروعة اندفاعاً لا يعرف الرحمة، عن طريق الاستيراد والتصدير، والشركات المغلقة، ومضاربات البورصة، والرشوة، على أكتاف البؤس الذي أصبح الآن وطننا  يطالبون بإلحاح أن نحصر الأسواق والفرص المواتية في أبناء الأمة وحدهم، ومعنى ذلك أن نحصر سرقة الأمة في أبناء الأمة» (معذبو الأرض).

فالمثقف الكولونيالي متعدد الوجوه والاحتمالات، فهو أداة السيطرة الاستعمارية ولولاه لما تمكن المستعمر من إدارة هذه البلاد الشاسعة، كالهند والسودان، بهذا العدد القليل من الموظفين الأجانب، وهو جاسوس تستخدمه وزارة الخارجية البريطانية، وهو من قادة أفريقيا اللصوص الجدد. كما انه يصح أن يصير نموذجا لإبراء الذمة وإظهار مدى تسامح الغرب. فعندما يسمحون لأمثال مصطفى سعيد بالصعود الاجتماعي، والتدريس في جامعاتهم والتزوج من بناتهم، فهم يبرهنون على إنسانيتهم المزعومة. تقول إحدى شخصيات الرواية: «كأنهم أرادوا أن يقولوا: انظروا كم نحن متسامحون ومتحررون! هذا الرجل الإفريقي كأنه واحد منا! إنه تزوج ابنتنا ويعمل معنا على قدم المساواة، هذا النوع من الأوربيين لا يقل شراً، لو تدرون، عن المجانين الذين يؤمنون بتفوق الرجل الأبيض في جنوبي أفريقيا وفي الولايات الجنوبية في  الولايات المتحدة. نفس الطاقة العاطفية المتطرفة، تتجه إلى أقصى اليمين أو إلى أقصى اليسار».

لقد ألحقت أنظمة التعليم الغربية أفدح الأضرار بالعالم الثالث، وللمفارقة فإن هذا الجزء من التجربة الاستعمارية  ما زال يعتبر مفخرة يتباهى بها المستعمرون، كما أن كثيراً من نقاد الاستعمار الجذريين يترددون بالخوض بهذا المجال، حيث ينظرون إلى حقل التعليم على أنه حقل حيادي لا علاقة له بالظاهرة الكولونيالية هذا إن لم يثمنوه عالياً. يمكنك أن تجد كثيرا من المراجع عن ظاهرة الكولونيالية الاقتصادية. لكن بالمقابل لن تجد إلا القليل منها  عن ظاهرة الكولونيالية الفكرية. فكما أنتجت الكولونيالية اقتصادا تابعا. فتحولت مصر، على سبيل المثال، إلى حقول لإنتاج القطن لمصانع النسيج مانشستر. فإن الكولونيالية أنتجت مثقفاً تابعاً  تنحصر مهمته بأن يحتقر ثقافته الأصلية، ويتبنى نظرة المستعمر عن أبناء قومه، فيتكلم عنهم كما يتكلم عنهم سيده، فيشمئز من تخلفهم ومن جهلهم، ويعلن أنهم لا يستحقون الحياة. أو أنهم غير قابلين للتحضر، أو يسخر من محاولتهم التحرر من الاستعمار.

في البداية يزين لهم التبعية فيحدثهم عن رغد العيش الذي ينتظرهم إن رضوا بسيطرة المحتل عليهم وتعاونوا معه، فإذا لم يقتنع أبناء قومه بذلك وأصروا على التمرد، جال بينهم يوهن عزيمتهم ويصف لهم مشاق الطريق الذين سيسلكونه، محاولاً أن يدخل في روع أبناء قومه استحالة هزيمة المستعمر، لأن ميزان القوى مختل لصالحه، ولأنه غني يمتلك أسلحة الدمار الشامل، وكل وسائل القتل الحديثة. فإن لم يعره أبناء قومه أذناً صاغية كشف عن وجهه الحقيقي وكشر عن أنياب أسياده التي يستعيرها ليلصقها على وجهه. فتراه وقد صار عينا للعدو على قومه، ومشاركاً في معركة الإبادة التي يشنها هذا العدو. فإذا صمد الشعب وحانت لحظة النصر يبدل هذا المثقف الكولونيالي موقعه في الساعة الأخيرة من المعركة، في الساعة الرابعة والعشرين، أو في الخامسة والعشرين. فيلتحق بأبناء قومه، الذين أنهكهم القتال وقضى المستعمر على كوادرهم الوطنية، ليجد موقعه كتكنوقراط تحتاج إليه عملية إعادة بناء ما دمره المحتل. ليجد موقعه جاهزاً فيتسنم أعلى المناصب ليعود لإنتاج ظاهرة التبعية من موقعه الجديد وبأشكال جديدة!

كان التعليم حقلاً لإنتاج السيطرة الغربية على المستعمرات واستمر كالقنبلة الموقوتة يثير المشاكل لآسيا وأفريقيا بعد استقلالهما. وهذا ما ناقشته رواية الطيب الصالح، التي تنظر إلى ماضي المثقف الكولونيالي عبر شخصية كل من مصطفى سعيد والمأمور المتقاعد وحاضره عبر سادة أفريقيا، اللصوص الجدد. أما المستقبل فيتركه الراوي مفتوحاً على أفق آخر، فنراه يقول: «كان من الممكن أن أدرس الهندسة أو الزراعة أو الطب. كلها وسائل لكسب العيش. الوجوه هناك، كنت أتخيلها  قمحية أو سوداء، فتبدو وجوهاً لقوم اعرفهم. هناك مثل هنا، ليس أحسن، ولا أسوأ. ولكنني من هنا، كما أن النخلة القائمة في فناء دارنا نبتت في دارنا ولم تنبت في دار غيرها. وكونهم جاءوا إلى ديارنا، لا أدري لماذا، هل معنى ذلك أننا نسمم حاضرنا ومستقبلنا إنهم سيخرجون من بلادنا إن عاجلاً أو آجلاً، كما خرج قوم كثيرون عبر التاريخ من بلاد كثيرة. سكك الحديد، البواخر، والمستشفيات والمصانع، والمدارس، ستكون لنا، سنتحدث لغتهم دون إحساس بالذنب ولا إحساس بالجميل. سنكون كما نحن، قوم عاديون».

إن المدخل لبناء المستقبل هو التحرر من علاقة (شمال ـ جنوب، أو سيد ـ عبد) وإلا ستبقى أزمة الانتماء تلح بشكل خاص على المثقفين الذين يجدون أنفسهم عالقين بين الشمال والجنوب  لذلك يبقي الراوي الأفق مفتوحاً على علاقة سليمة في المستقبل بعد أن تزول علاقة المستعمر(بكسر الميم) ـ المستعمر (بفتح الميم) دون أن ينسى أنه كمثقف وطني نشأ في مدارس الغرب يجد وضعه عالقاً بين الشمال والجنوب وهذا ما يحيل الرواية إلى مزيد من التوتر والاحتمالات المفتوحة. يقول الراوي: «ووصلت إلى نقطة أحسست فيها أن قوى النهر في القاع تشدني إليها. سرى الخدر في ساقي وفي ذراعي، اتسع البهو وتسارع تجاوب الأصداء... رفعت قامتي في الماء. سمعت دوي النهر وطقطقة مكنة الماء.تلفت يمنة ويسرة فإذا أنا في منتصف الطريق بين الشمال والجنوب. لن أستطيع المضي ولن أستطيع العودة».  

كاتب من سوريا