يقدم الباحث المصري عرضا لكتاب مهم يسعى لاقتناص أليات الفساد والتدهور في مصر، والتعرف على البنية التحتية العميقة لهما.

الخوف والمتاهية

صراع الدولة الليبرالية يتم تجييره لصالح المفسدين

محمود قرني

مة مفارقة نادرة الحدوث، هذه التي يمكنها أن تجمع سيولة وتدفقا وثراء لغويا نادرا في الكتابة السياسية إلي جوار وعي تاريخي لا يقل ندرة في كتابات الخبير بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بـ الأهرام الباحث نبيل عبدالفتاح، فلا غرابة أبدا أن تتجسد شعرية خاصة ومتميزة في سروده السياسية المحضة ومواقفه المنحازة والمأخوذة ـ علي الأرجح ـ بتراث عظيم لليبرالية المصرية التي بدأت حركيتها قبل ما يزيد علي قرن ونصف القرن. وتحديدا مع الدولة الباذخة لمحمد علي باشا، وكأن علم الاجتماع السياسي يتجسد في أعلي تجلياته، ونبيل عبدالفتاح يستعيد في خطابه السياسي ألقا قديما لمؤرخين وسياسيين صاغوا العقل المصري، لكنه يعرف كيف يقفز في الزمن، به ومعه، بل ربما قامت حداثة أفكاره وأطروحاته علي الاحترام الوافر للعنصر الزمني، وفي الوقت نفسه ملكية القدرة علي الإلقاء به في سلة المهملات طالما ظل عائقا أمام تشوفاتنا وأشواقنا نحو الحاضر، يبدو ذلك جليا في موقفه من المؤسسة الدينية سواء مثلتها الكنيسة أو الأزهر، ويعتبر أن رغبة هاتين المؤسستين في صياغة المصطلح الذي يربط الدولة الحديثة بالمرجعية الفقهية أو الكنسية، تظل رغبة محكومة بالفشل لأن الدولة الحديثة لم تعرفها أي من المؤسستين، وستظل أفكارهما عن الصياغة الجمعية للمستقبل قاصرة وفاقدة لأهليتها، كذلك يري عبدالفتاح الموقف نفسه حيال أطروحات الدولة المشخصنة فقد خصص لهذا المعني أكثر من بحث مطول، بينها بحث حول جملة عرجاء لسياسيين فقراء الخيال والمخيلة، هي بناء علي تعليمات السيد الرئيس، وهي جملة عادة ما يبدأ بها سياسيون متواضعو الفهم والقدرات أحاديثهم، أو أي شأن عام أو شبه عام، وكذلك هي لغة مؤكدة لكبار الموظفين في صفوف البيروقراطية. لذلك لم يكن غريبا أن يدعو نبيل عبدالفتاح في كتابه سياسات الأديان إلي ما سماه بـ تجديد المعاني وربما كانت الدعوة المحملة بالطاقة الشعرية الهائلة دليلا جديدا علي بحث أبعد كثيرا عن الطاقات الحادة والمدببة التي يقدمها الخطاب السياسي الراهن.

فنبيل عبدالفتاح يستشعر خطرا جسيما علي العقل المصري بمعناه البنائي الذي كان محكوما بالمؤسسية، والذي قادته تنظيماته وبناءاته الهكلية المحكمة إلي شكل من أشكال الحداثة المسبوقة، لكن بيئة التدهور والعجز ـ حسب تعبير عبدالفتاح ـ هي السمة السائدة الآن، بعد أن ترهل البناء ووصل إلي أقصي مراحل فساده.

ولا يبتعد عبدالفتاح في كتابه الصادر حديثا عن دار ميريت تحت عنوان (الخوف والمتاهة)، عن تلك الهموم التي تناولها كتاباه (الإسلام والديمقراطية) و (الحرية المراوغة) كمشروع يقدمه المؤلف كمساهمة في الإصلاح ونقد الدولة والسلطة. وسوف نحاول أن نقصر الحديث حول الكتاب، أو قد نبتسره، إلي الحديث حول تصورات عبدالفتاح عن حداثة الدولة، كيف تكونت وكيف تآكلت مفهوماتها عن نفسها بهذا المعني. في كل الأحوال فإن عبدالفتاح يبدو غير متفائل علي الإطلاق، وهو يرصد حالة الوهن في بنية النظام المصري. فهو يراه نظاما مترهلا عاجزا، هشاً، جامدا، غير كفوء، وسلوكه يزيد من انتاج الحس الفاجع بالكارثة والضياع، وهو حسب عبدالفتاح ـ يصدر لنا طوفانا يوميا من لغة فاقدة لدلالاتها التاريخية من حيث استعادتها لعوالم ومعان واستعارات وأزمنة أفلت أو وهنت أو لم تعد لديها الكفاءة علي توليد المعاني، ووصف الصور والمشاهد والظواهر الجديدة.

ويخلص نبيل عبدالفتاح إلي القول أن الحالة المصرية مثخنة بالأمراض أو الجراح والآلام البنائية، وذلك يعود لعدد من العوامل السوسيو سياسية والسوسيو دينية، واقتصادية وقيمية وتربوية عديدة ومركبة، ويدعو نبيل في مقدمته للكتاب إلي ميلاد متجدد للفرد المصري وللنزعة الفردية والمشيئة الفردية والمسؤولية الفردية والحرية الفردية وصيانة المجال الخاص الفردي وحمايته والذود عنه إزاء صنوف من الاعتداءات ومحاولات اغتياله، ليغدو الفرد مستباحا أمام السلطات والمحرمات التي ترفعها تبريرا لاجتياح المجال الخاص الذي يفترض أن يتنفس فيه الفرد عبر حرياته، وخصوصياته وسلطاته الخاصة دون قسر أو تدخل أو إرغام. لكن حديث نبيل عبدالفتاح يظل حلما بعيد المنال إذا انتقلنا معه خطوة إلي الأمام، أو، إذا شئنا، إلي الخلف لنري كيف يقبض علي مبضعه ويجرح المسكوت عنه.

تجليات انحطاط الدولة ونهايتها
هذا ليس عنوان نبيل عبدالفتاح لكنه دال بشدة علي ما يقوله في فصول تحت عنوان تخصيص الدولة، وشخصنة السلطة. يري الكاتب أن هذا هو أخطر مراكز التخريب المنظم للأمة والدولة المصرية الحديثة، ويضرب مثالين علي نتاج هذه المخاطر التي نشأت بمقومات تحصلت في توريث الوظائف والمهن ثم تخصيص الدولة مع شخصنة السلطة، ويري عبدالفتاح أن دلائل توريث الوظائف لا يحتاج إلي برهان سواء كان ذلك في مهن كالطب والهندسة والصيدلة، وغيرها من المهن ويري نبيل أننا بذلك نقف إزاء ظاهرة انتقال وتوزيع المهن بين أبناء الأسرة الواحدة، والعائلة في ظل حياة كبار الموظفين ورجال الشرطة، والقضاء وكبار المهنيين ويضيف عبدالفتاح: أزمة اتساع مستمر لنطاق الظاهرة، وشمولها لوظائف عمومية هامة ومتميزة اجتماعيا كالشرطة والقضاء والنيابة العامة والإدارية ومجلس الدولة وهيئة قضايا الدولة والصحافة، والإذاعة والتليفزيون والتدريس بالجامعات وفي السلك الدبلوماسي، ويتساءل عبدالفتاح، هل يمكن ترك الأمور هكذا، بحيث يتم اختطاف الوظائف العامة المهمة علي أسس ومعايير الأصل العائلي؟ ويؤكد عبدالفتاح ردا علي التساؤل: إننا إزاء أخطر عمليات التخريب المنظم للدولة والوطن والوطنية لأن هذه الوظائف تتسم بالحساسية الشديدة مما يؤدي إلي خلق بؤر للقوة مؤسسة علي روابط الدم والأسرة والعائلة، والعائلة الممتدة وهو أمر ـ حسب عبدالفتاح ـ يقوض مفهوم الدولة الحديثة، ومبادئ دولة القانون، ويؤدي الي احتكار قلة للقوة والمكانة والثروة في البلاد.

ويرصد نبيل عبدالفتاح مظاهر هذا الاحتكار في أكثر من صورة من صور الفساد التي سماها البرطلة المملوكية ويلخصها في ثلاثة مظاهر: أولا:  تحويل الصفوة الحاكمة إلي مفهوم يتجاوز الحكومة إلي مفهوم شخصنة وتخصيص. وذلك يبدأ من قمة الصفوة العليا الي المراتب السلطوية الأدني في المستويات السياسية. وثانيا: ظواهر الفساد البيروقراطي وفي المحليات مما أدي إلي شيوع إحساس عارم لدي غالبية الجمهور بأن الدولة لم تعد الإطار الجامع لكل المصريين، وأنها أداة تدار من خلال قلة تحتكر السلطة والقوي والثروة القومية. والقرار يتم وفق معايير خاصة وذاتية ولصالح أقلية حاكمة، أما المظهر الثالث: الذي يرصده نبيل عبدالفتاح فهو فساد المصارف العمومية وسوء إدارتها وغياب الشفافية والمساءلة القانونية، وتدخل ذوي السلطة الواقعية المطلقة والنفوذ السياسي في عمليات توجيه رؤساء ومديري البنوك وإصدار القرارات بمنح تسهيلات وقروض كبيرة لبعض ممن أطلق عليهم ـ كذبا ـ رجال أعمال، وذلك دونما ضمانات حقيقية وجادة تسوغ حصولهم علي مئات الملايين، بل ومليارات الجنيهات المصرية، كي يهربوا خارج البلاد في ظاهرة نهب للمال العام المصرفي، لم يحدث لها نظير طيلة القرن الماضي كله، يضيف نبيل عبدالفتاح الي هذه الاسباب ضعف الوازع القانوني وقواعده. وهو في نظره السبب المباشر في الفساد حيث يتم بيع الخدمات والتراخيص والقرارات وذلك عبر الرشوة.

ويضاف إلى \لك كله هيمنة النزعة السلطوية في الحكم وغياب المشاركة السياسية الشعبية الجادة وحكم القانون والشفافية والمساءلة ويختتم عبدالفتاح حديثه بالقول أن توريث المهن بات جزءا من الكوميديا المصرية السوداء. أما عن تجديد الدولة المصرية فيقول عبدالفتاح أن هذا الحديث يحب أن ينفصل عن تاريخ الدولة وثقافتها وإداراتها ولا عن تطور ظاهرة الدولة المعاصرة وتحولاتها من ناحية أخري، ويري أن ذلك لا بد أن يكون مرتبطا بانعكاسات العولمة علي مفاهيم السيادة وهو ما يجب أن يدفع إلي الحديث عن دولة ما بعد الرفاهية وسياساتها وانجازاتها، دولة حقوق الإنسان بالمعني العام، في إطار اضفاء الشرعية علي ما يسمي بالحق في التدخل، دولة القانون التي لم تعد تعتمد فقط علي سيادة قوانينها، ودولة تؤازر الفئات الهشة والمهمشة ولا تحتكر الفرد والمواطن لصالحها.

لجنة السياسات واللغة الخشبية
في إطار حديثه عن الصفوة وكيف ساهمت في تدمير الكثير من كيان الأمة المصرية يتناول نبيل عبدالفتاح ما يسمونه في مصر الليبرالية الجديدة، المنسوبة للقادة الجدد من أعضاء لجنة السياسات التي يترأسها نجل رئيس الجمهورية زورا وبهتانا ودون استحقاق في محاولة لفرضه فرضا علي الشعب الرافض بطبيعة الأمور للتنكيل الذي تمارسه الدولة به، ولا سيما وأنه يدرك أيضا ان الكلام عن الجيل الجديد مجرد مساحيق لتزيين الكارثة وجعلها اكثر قبولا. ويصف عبدالفتاح لغة الجيل الجديد ومن ثم خطابه باللغة الخشبية ويعني أنها لغة تبدو وكأنها ضرب من لغو الحديث ومن مألوف الخطابات السياسية الرسمية، لغة ذات صياغات انشائية وشعاراتية تهدف إلي انتاج إحساس شعبوي بالفخامة والمكانة القيادية والقدرة علي تحريك الأوضاع، في المقابل يري عبدالفتاح أن هذه اللغة الفخمة لا يؤازرها أي سند واقعي يضفي عليها المصداقية. ويقول الكاتب: أن هؤلاء القادة الجدد جاؤوا جميعا ومعهم رئيسهم عبر آلية لا ديمقراطية أساسا، أي بقرار من رئيس الحزب ومن ثم تظل شرعيتهم القانونية ذات سند لائحي، لكنه لا ديمقراطي، تبدو عملية بروز قيادات جديدة دائما مرتبطة بقرارات علوية، ولا تستند إلي اختيارات شعبية من داخل الحزب. ويؤكد عبد الفتاح أن هذه الآلية هي التي جعلت بعضهم لا يقيم وزنا لأهمية السياسة المقبلة عبر تفاعل خصب بين الجمهور ورجال السياسة، فهي علاقة ـ في رأي الكتاب ـ تحتاج الي الاختلاط بالناس والتفاعل الحر معهم، والانتماء والولاء لهم خاصة أن القادة الجدد لديهم ولع ومفتونون بالعبقرية الغربية وتحديدا الأمريكية، وبعضهم يري إسرائيل نموذجا وجنة أرضية ولكل منهم وجهته.

ويري عبدالفتاح أن المشكلة أن هؤلاء القادة بخطابهم هذا لا ينتمون علي الإطلاق لتراث الانجاز الحضاري المصري المعاصر بدءا من حسن العطار ورفاعة الطهطاوي مرورا بالسنهوري، وأحمد أمين حتي السيد يس وحسام عيسي. فهؤلاء هم الذين أدوا الدور المبدع في انتاج الخطاب النقدي الليبرالي والحداثي الذي حاول علاج دمقرطة نظام يوليو ونقد سياساته وتقويض مشروعه، يري عبدالفتاح أنه تجاوزا لهذا التراث يحاول هذا الجيل الاستيلاء علي الدولة خارج الأطر الديمقراطية فهم يحتقرون كل ما هو وطني مصري وكذلك كل ما يمت للفئات الشعبية والجماهيرية بصلة لأن بعضهم ينظر إلي مواطن فوائده الأساسية في أمريكا وأوروبا والغريب ـ حسب عبدالفتاح ـ أن بعضهم ينتمي إلي فئات اجتماعية رقيقة الحال أو متوسطة أو صغيرة.

الإصلاح بين الحقيقة والوهم
يتساءل نبيل عبدالفتاح: هل يمكن أن يتم الإصلاح السياسي دون تغيير شامل للدستور المصري الذي يراه معبرا عن مرحلة تسلطية في السياسة والحكم المصري؟ ويردف التساؤل بتساؤل آخر هو لماذا الخوف من الإصلاح الشامل؟ ويجيب عبدالفتاح بأن سياسة الخوف هدفها استمرار الأوضاع القائمة من اختلالات وانهيارات، في انتظار يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، وتذهب زينة الحياة وسلطانها وهيلمانها وزخرفها السياسي. ويضيف الكاتب: ان سياسة الخوف هي التردد من إجراء تغييرات تؤدي الي فتح ملفات وجوه بارزة في الحياة السياسية، وفي عالم رجال المال والأعمال والصحافة والإعلام والثقافة وفي وسط رجال وسيدات أعمال المجتمع المدني، وفي عالم بعض الجمعيات الوهمية الممولة من الخارج، إنه الخوف من المساءلة والشفافية والوضوح والاستقامة والمسؤولية، ويؤكد عبدالفتاح أن هذه السياسة ما هي إلا محاولة لمد عمر السياسة الاكلينيكية لمملكة الديناصورات السياسية التي تحاول أن تستمر فوق إرادة الطبيعة والحياة وقوانين البشر. ويري عبدالفتاح أن خطاب الإصلاح الذي تروج له الدولة لا يهدف إلا إلي إرسال إشارات للإعلام الغربي بأن هناك استجابات بطرح مبادرات اصلاحية، وكسر حدة الغليان والغضب الداخلي من استمرارية الجمود السياسي وشيخوخة النظام وصفوته الحاكمة، واعطاء الانطباع بأن السلطة السياسية المصرية لا تخضع لضغوط خارجية.