تكشف قراءة الناقد والأكاديمي السوري لرواية الكاتبة التونسية عن بنية تحويل الحكاية الواقعية إلى عمل فني قادر على كشف الخلل الجوهري في الواقع وإضاءة المخفي فيه.

المفارقة الجمالية

في رواية «الزوجة الثانية» للتونسية فوزية زواري

علي نجيب إبراهيم

لعل أهم ما في رواية «الزوجة الثانية» للكاتبة التونسية فوزية زواري التي صدرت بالفرنسية عن دار «رمسي» الباريسية أنها تحلّق في فضاء الخيال مع الإيهام بأنها شديدة الالتصاق بالواقع الذي تحيكه. فهي تنطلق من حادثة واقعية منشورة في صفحة منوعات صحافية (والحادثة معروفة في أوساط الجالية الجزائرية في فرنسا)، مفادُها ان نائباً جزائرياً وُجد مقتولاً في ضاحية باريسية. وقد تبين من التحقيقات انه كان يعيش سراً، في وقت واحد، مع زوجتين وخطيبة. مما يبدّد العجب من جريمة قتله، ويبعث على الظن ان التفكير في تحويل هذه الحادثة الى عمل روائي لن يُفضي الى اكثر من قصة بوليسية يتحقق فيها، إذا ما مهرت كاتبتُها في نسج خيوطها، هذا القدر أو ذاك من الجاذبية، والترقب، والتشويق. غير ان ما أقامته فوزية زواري على الخبر الصحافي شيء مختلف يستدعي تحليلاً متأنياً لما تلفتُ نظرنا إليه في تصدير النص بالقول إن أسماء الشخصيات وظروف القصة محضُ خيال. ومن ثم منبع المفارقة الجمالية التي تميّز بها اسلوب الكاتبة، ورؤيتها الإبداعية. لكن ماذا يُفيد معنى المفارقة في هذا السياق؟

يشمل مفهوم المفارقة في الرواية جانبين مهمين. الجانب الأول متصل بتوزيع أدوار الشخصيات النسائية التي تتعاقب على رواية القصة. والجانب الثاني يقوم على لعبة الدلالة اللغوية التي تلامس الخلفيات التاريخية والسياسية والثقافية، إضافة الى الأسماء والمواقف التي حرصت الكاتبة على توظيفها أداة لإضاءة تلك الخلفيات. وتجدر الإشارة الى ان العلاقة العضوية بين الجانبين المذكورين لا تسوّغ الحديث عن أحدهما بمعزل عن الآخر. لذا سنعمد الى دراستهما معاً في سياق التحليل. يطبع توزيعُ الأدوار البنية السردية للرواية بطابع خاص ومتشابك. إذ ان الشخصيات السبع تتقاسم، بدرجات متفاوتة للغاية، تسعة وأربعين دوراً تصير كل منهن بموجبه راوية ومروياً لها. واللافت للنظر ان الراوية تأخذ دورين:

1 ـ دور الكاتبة الروائية La Romanciere التي تحتفل بعيد ميلادها الخمسين بالعكوف على الكتابة الأدبية، وتحديداً على الرواية. غير انها تأبى ان تستعين بملف النائب الجزائري المقتول الذي أحضرته لها صديقتاها ثريا وراشل لكتابة روايتها، وتحاول ان تُنقذ روزا، الزوجة الثانية للمحامي المقتول، من الموت من طريق «فعل الحكي» مثلما سنرى. كما تتخذ من الكتابة ملاذاً من سن اليأس حيناً، وطريقة في رؤية الحياة حيناً ثانياً، أو نوعاً من التحدي حيناً ثالثاً..

2 ـ دور الشخصية الواقعية، المسلمة المتزوجة من الفرنسي المسيحي (ميشيل)، الإنسان المثالي الملتزم بحياته الزوجية، وإن كانت معارضته لكتابة قصة صادق وخيانته لزوجاته تضع في النص علامة استفهام لا يُعرف أمرها إلا في آخر الرواية، على أن محور السرد او المروي عنه، المحامي الجزائري صادق بن ناصر يشكل العنصر الغائب الحاضر، بحكم ان حكاية الأحداث تبدأ بعد موته.

وبغية إدراك الغاية من هذين الدورين لا بد من الوقوف عند كل شخصية رئيسة لعرض مواقفها واستبصار الخلفية التي تنبني عليها: الشخصية الأولى التي لمّحنا إليها قبل قليل هي القاضية روزا، الزوجة الثانية، بنت أحد الضباط الحركيين الجزائريين، التي كانت تعيش مع امها في فرنسا. تتزوج من صادق وتُنجب منه بنتاً (ايناس)، وحين تكتشف انه متزوج، ويعيش في الوقت نفسه مع أخرى في مدينة بوردو، تحاول الانتحار، وتغيب في سبات عميق.

يُشكل ما ترويه هذه الشخصية إحالة الى قضية شائكة في تاريخ الجزائر المعاصر، قضية عبّرت عنها أم روزا يوم طلب صادق يد ابنتها للزواج. إذ بدا لها ان في هذا الزواج مجالاً للتعويض عن ماضي أسرتها الموسوم بالخيانة الوطنية. ويتواءم ماضي المحامي، في ذهنها، مع دلالة اسمه «صادق». حتى ان الصفة التي كان تلاميذ المدرسة يعيّرون بها ابنتها «الخائنة» قبل رحيلهم من الجزائر، ستمحى الى الأبد. لذا كان قبولها بالمصاهرة نوعاً من التكفير عن خطيئة ماضية، وأملاً راسخاً، واعداً بمُستقبل مغاير. لا سيما ان وفاء روزا كان مطلقاً لزوجها على رغم تفوقها الوظيفي عليه. فما الوقع الذي ستولّده المفارقة حيث تنقلب الصورة التي نهضت عليها الخلفية في وجدان أم روزا؟

لقد تبين ان صادق لم يكن إلا كاذباً دجّالاً، وأن تاريخه خيانة في خيانة، ومن اين للخيانة ان تمحو الخيانة؟ وهل يكفي هذا الانقلاب المريع لتحويل مشاعر الأم التي خُدعت كابنتها الى موقف تراجيدي يتمثل بقتل صادق وتحمّل أوزار جريمة لا مناص منها لتغدو بطلة تراجيدية مثل انتيغونة في مسرحية سوفوكليس المشهورة؟ ها هنا تتدخل الكاتبة الروائية لتوضّح ان انتيغونة الجزائرية ذات الجبهة المملوءة بالوشم، والكفّين المخضّبين بالحنّاء، تحمل صفات البطولة مع انها لم تولد من تقاليد التراجيديا الإغريقية. لأنها لوت، كالبطلة الإغريقية، عُنق قانون جائر يخالف الأعراف كلها، ويكاد يُفقدها أغلى مما تملك.

على ان الفارق بين البطلتين كامن في ان أنتيغونة أخت تمردت على قرار خالها الملك بمنعها من دفن أخيها وفق ما تقتضيه الأعراف اليونانية، بينما انتيغونة الجزائرية أم ارتكبت جريمة بحق «صادق»، خائن ابنتها التي كانت تريد من خلاله إعادة الاتصال بجذورها المنقطعة، وتحقيق شيء من التصالح مع بلده الذي خانه أهلها، يأخذها العجب من تجاهل صادق لتلك الخيانة: «كنت أريد ان أعيش ملء وجودي مع صادق، وأستعيد أصولي وفيض ذاتي. وما كنتُ في النهاية سوى نصف زوجة. الآن أدرك لماذا لم يوبخني ابداً على خيانة أهلي». ولكنه ما لبث ان كشف عن وجهه المخبوء حين سألته أمها عن داعي خيانته لابنتها، فأجابها بأنهم خونة الوطن، وأن روزا لم تكن عذراء حين تزوجها.

إذاً لم تكن جريمة الأم إلا إعادة اعتبار جاءت هذه المرة نتيجة للمفارقة التي هيأت لقبولها بزواج ابنتها منه. بل ان الجريمة في واحد من معانيها شكّلت وعياً بالذات جديداً، أعلن بداية لاندماجها، هي القادمة من منطقة القبائل، في جو فرنسا، بالسفور الذي أصرّت على رفضه عشرين عاماً: «فرنسا تدعى الآن واقعاً». لكنه الواقع الذي انفتح على مفارقة التمزق المأسوي بين وجهي الخيانة من جهة، والجريمة من جهة ثانية.

وعلى نحو متمم، وإن كان مختلفاً، تبدأ الشخصية الثانية حليمة، الزوجة الأولى، بنت عم صادق التي رافقته الى فرنسا، من حيث انتهت ام روزا. فهي على رغم الأخذ بنصائح أمها في ضرورة طاعة ابن عمها وزوجها وفق التقاليد العائلية الجزائرية لم تلبث ان افتتنت بالحياة في هذا البلد الى حد انها اختارت اسماً فرنسياً (ايما)، جاهلة بالتأكيد الشحنة الدلالية التي كان يحملها هذا الاسم للفرنسيين، وفي الوقت عينه، عكفت على تربية ولديهما أنيس وإيناس (ايضاً)، وعلى استغلال غياب صادق المتكرر في تعلم اللغة الفرنسية التي بقيت مكسرة على لسانها، وفي نشاطات اجتماعية وصلت الى حد النزول الى الشوارع للمشاركة في التظاهرات من دون ان تعرف لماذا تتظاهر. إلا انها كانت تنزع نزوعاً شديداً للتشبّه بالفرنسيين.

كان سلوكها المزدوج انعكاساً لحال من الانفصام الضمني المكبوت الذي كشفتُه لها صديقتها «جيرمين» قائلة: «أمرُك غريب على اية حال. فظاهرُك الآن غربي، غير انك احتفظت بعقلية بلادك الأصلية». وعلى هذا، لم يُسفر سعيُها للاندماج في المجتمع الفرنسي إلا عن تمزّق صامت أكدت من خلاله انها لا ترضى بأن تكون في صف أعداء ابن عمّها صادق الذي ترفضه زوجاً وتأبى ان تثأر لأنوثتها وتحوّل أطفالها الى أيتام. أوليس في سلوكها المتعقّل ظلال من الـ «حلم» التي ينطوي عليها اسمها؟!

وتكاد الشخصية الثالثة ليلا (ليلة)، خطيبة صادق التي عاش معها تفصح عن المفارقة نفسها، اذ تجمع دلالة اسمها ـ كما تقول ـ بين جنسيتها الفرنسية (الليلك Lilas)، وأصلها العربي (ليلة)، وفي الحق فإن الحياة التي تعيشها في ضاحية Creil الباريسية تلخص جملة ما يعانيه جيلها من أبناء المهاجرين المغاربة من مشكلات الانتماء وما يرافقها من أحوال التشتت والضياع بين تقاليد حضارتين لا تلتقيان بالضرورة. فالضاحية المذكورة قطعة من طهران في ما يخص الحلال والحرام، وامتداد لبؤس العالم الثالث في ما يتصل بهيئات الناس وحركتهم ولغتهم السوقية. حتى ان فرنسا صارت جزائر اخرى على خلفية النشيد الوطني الفرنسي (المارساييز).

فلا عجب ان تتهيأ في هذه الأجواء ولادة خلية إسلامية تدعو للجهاد ضد أميركا، يحوز جمال (أخو ليلا) فيها لقب «أمير»، ويذهب لمحاربة الشيوعيين في جبال أفغانستان ويموت هناك مكملاً طريقه الى الجنة. فمن أين لهذه الفتاة ان ترفض علاقة عاطفية بمحام جزائري وسيم وغنيّ ومسلم منفتح يختلف عن أصحاب اللحى المنادين بالجهاد، ومن أين لها ألا تفتن بلغته الرفيعة التي قلما سمعتها في البيت أو في الأوساط التي ترتادها؟! وماذا كان في وسعها ان تختار وهي أمام أمرين لا ثالث لهما: إما الكاباريه والارتماء في حضن ثري سعودي، وإما صادق الذي اختارته على رغم تأجيله الدائم لموعد الزواج، ومن استعانته الغريبة بالتمائم، وبإصراره على ان تشرب خطيبته منقوع الورق المكتوب عليه آيات قرآنية.

وهكذا نجد ان المفارقة الجمالية تقضي في النهاية الى تلاقي السياقات داخل بنية السرد العامة. والأرجح ان الخلفيات المتصادمة في الظاهر، المتلاقية في تيارها العام هي التي سوّغت للكاتبة الروائية ان تجمع الزوجات مع أم روزا جمعاً مجازياً حول جثمان صادق في الفناء حيث تبدي كل منهن رأيها في ما فعله بها صادق. وكانت في كل مرة تزور روزا في المشفى تحكي لها تفاصيل ما تعرفه عن قصة صادق، وفي آخر المطاف، تنجح في شفائها بفعل الحكي لتعود وتدافع عن أمها امام المحكمة.

على ان المفارقة التي خبأتها لنا الرواية هي تلك المتصلة بالدور الذي اشتقّته الكاتبة الروائية من دورها ذاته لتوهم بوجود راوية حقيقية اسمها فريدة، وإن لم تكن في حقيقتها سوى راوية ضمنية، تعاني من الداء الذي سعت الراوية الأولى ان تشفي منه غيرها. ذلك ان زوج فريدة، الفرنسي ميشيل، كان يخونها مع صديقتها الشابة، الديبلوماسية المصرية «مشكاة»، وكانت صديقتاها ثريا وراشل تعرفان قصتهما وتحاولان عبثاً التلميح بها للكاتبة الروائية الماضية في مغامرة تجاوز عواقب سن اليأس بالكتابة، وشفاء روزا بالحكاية الشفهية المباشرة. ها هي هذه المرة فريدة، لا الكاتبة الروائية، تقف ـ في الفصل الأخير من الرواية ـ على الحقيقة المرة. تقف لتستوعب حجم المفارقة التي تعصف بها، وتدرك ان كتابة قصة انتفاض روزا وأمها في وجه الخيانة وتعدد الزوجات وفّر عليها الجريمة. وأقرّ في داخلها قناعة ان الكتابة علاج للكتّاب والكلام علاج لمرضاهم. لكنها في جوهرها مفارقة يكمن سر جمالها في جريانها عكس تيار الواقع وإن بدت تخديراً لجروحه في بعديه الخاص والعام أولم تقل «فرانسواز» ناشرة روايات فريدة: «هذه ليست قصة روزا، إنك تبتعدين عنها، وتلحقين نزوات فنّك في الكتابة...»؟!