تقدم الباحثة التونسية في الأدب المقارن، إبحارا في عوالم الغيطاني الروائية، من خلال مقاربتها لنصه الروائي الحائز على جائزة الشيخ زايد للكتاب لسنة 2009، ومحددة سمات ما وسمته ب"الرواية الرؤيوية" مستقصية محددتها من خلال دلالات الاسم والتشكيل النصي والبعد الرحلي.

طقوس السرد الغيطاني

ريم غانم

مبدؤها دفتر التدوين الأول "خلسات الكري" "1998" ومنتهاها ما وصلنا حديثا "دفتر التدوين السادس: رنّ"** "2008"، أكثر من عشر سنوات استهلكت لإنشاء هذه المدوّنات الستّ والتي خرج بها صاحبها عن المألوف السائد، في عالم الرواية ليحفر مجراه في الصخر مثل النهر، هو ذلك النهر المتدفق بإشراقات صوفيّة هي من السرد، لكنها عن نواميسه أبعد ما تكون، سواء من حيث روافدها أو لحظة تكوينها الأولى وبعثها أو لحظات اكتمالها استلهاما واستيحاء تراثيا ينأى عن الدروب المألوفة ويتشبّث بتلابيب اللّامرئي المجرد، الذي يخاطب الروح ويوغل في زمن غير الزمن الذي يحتوينا، وننتمي إليه بذاكرتنا.

"خلسات الكري"، "دنا فتدلى" "1999"، "رشحات الحمراء" "2003"، نوافذ النوافذ "2004" و"نثار المحو" "2005 والتي ترجمت، إلى الفرنسية" جميعها كانت دفاتر تدوين سبقت الدفتر السادس المعنون ب "رنّ"، وجميعها يتلحف بالشكل الروائي ليؤسس لرواية واحدة،تحمل عشق صاحبها لأسلوب مخصوص في الكتابة السردية هو المدوّنات أو ما سمّاه "بدفاتر التدوين" التي تنهض على إرث صوفي يتخلّل معمارها اللغوي والسردي و حبكتها وشخوصها وفضاءاتها و كل ما يؤسس لخصوصيّتها المنحوتة بدقة تضاهي عشق صاحبها لفن العمارة الذي تجلّى بين الخيوط الخفية والمحبوكة بإتقان في كل هذه المدونات.

"رنّ": قوة الاسم
تأخذك هذه الرواية أو دفتر التدوين السادس "1" كما اصطلح عليها جمال الغيطاني بقوة سحرية خفية حتى أنك توشك أن تتحول إلى رحّالة أو كاهن أو متتبع للغة الطير القديمة أو مريد لأبرز شيوخ الصوفية أو باحث في الأغوار السحيقة عما تؤسس به "أناك" المتوارية خلف النسيان أوالذاكرة، أو الأسماء. توحي العتبات بأن النص رواية نسْجها الظاهر ثمانية وثلاثون فصلا، جُزّىء بعضها إلى تفريعات صغرى لا مؤشر عليها إلا الأسماء وبعض خيوط من الإنتماء والتي أرادها السارد لتكشف عن رحلته الطويلة الممتدة على كل هذه الفصول. وأول ما يشدنا إلى هذا النص هو العنوان: "رنّ وقد انتشرت ماهيته في تضاعيف النص وانعطافاته، حيث يقول الغيطاني "أصل الاسم في المدونة إذا كتب بحروف العربية يكون هكذا "رن" أو "الرن" أي يمكن نطقه مجردا أو بإضافة ألف ولام.

يذكرنا ذلك بما ينطقه القوم إذا أرادوا إلى شخص ذي حيثية يقولون: له شنة ورنة، والمقصود بالشن ذلك الإطار المحيط بالاسم للحماية، فكأنهم يشيرون إلى وضعية الاسم في داخل الحدود الحافظة، هذا ما وصلني من لغة الطير""2" فـ"الرنّ" أو "رنّ" هو الاسم باللغة المصرية القديمة التي تسمى بلغة الطير و هو الماهية، أو الكينونة التي جعلها الغيطاني منتهى الغايات في نصه، باعتباره القائل فيه: "لست، إلا ملخصا للكينونة، التي تلاشت كذا سائر أبناء جنسي" "3" وأن تكون ماهية الاسم، اسما للرواية، معرّفا ومميزا لدفتر تدوينه السادس فذلك كشف وتجلّ لقوة الاسم التي لا تتأسس من فراغ بل تنشأ من ميراث، بعضه خفي والآخر جلي" "4" فالإرتجاع إلى التراث قد أصبح السمة الأساسية في كتابات الغيطاني بدأت بما يعرف بـ"التجريب" وانتهت إلى شبه قناعة تامة بأن التراث هو المنهج والبديل وعناصره كانت بنية استعارية في دلالتها على الراهن والمستقبل مع خلق كتابة جديدة وأشكال فنية مستحدثة وقد أطنب الغيطاني في تفصيل إشارات الرن على امتداد نصه لندرك أن وجوه الفرادة في هذا النص تستهل أساسا بالعنوان الذي يتحوّل في تجاويف النص إلى تهويمات متدفقة تسعى إلى تخطي الزمن والتاريخ والمادي المحسوس لتبلغ الحكمة، بالمفهوم الذي إرتآه صاحب النص "فالحكمة هي الأسماء، الاسم، إنه الرن" "5"

التشكيل النصي
تتميز نصوص الغيطاني السردية باختلافها الظاهر عن كل ما هو سائد وسعيها إلى نحت مسار خاص بصاحبها، ينهض على التراث أساسا، ويمتح من التاريخ والإرث الصوفي مع إعمال كبير لمبدإ اعادة الصياغة وفق رؤية خاصة جعلت صاحب نصوص مثل "الخطط" و"كتاب التجليات" و"الزيني بركات" و"رسالة البصائر في المصائر" و"وقائع حارة الزعفراني" و"رسالة البصائر في المصائر" وغيرها كثير يرتاد أفق التجريب الفني والدلالي لتكتسي كتابته الروائية سمة التجديد المتأتي عن الجمع بين الماضي والحاضر وتحطيم القدسية النصية لبعض مقومات الكتابة الروائية من منظور مخصوص لهذا العالم يعتبر "الكتابة هي الجهد الانساني الوحيد الذي يبذل لمقاومة العدم. الزمن يدفع بنا إلى النسيان والكتابة فعل انساني ضد النسيان الحياة تمضي ولا يبقى منها إلا الحكي لذلك أحاول أن أرويها" "6". وبالتالي فإن الكتابة هي سبيله الأوحد للمقاومة وقد تجسد ذلك جليا من خلال مدونته "رنّ" والتي سنحاول إخضاعها لمنهج مخصوص في التحليل نستقيه أساسا من النص ذاته، شعارنا في ذلك الإنصات الى النص لا غير.

أول ما يشد اهتمامنا في دفتر التدوين هذا هو السرد الذي أباح للقارئ الجزم بروائية هذا العمل، لكنه لم يطرق أبواب السرد العادي المتداول والمألوف بل انفتح على الشكل السردي الروائي والتأملي الفلسفي المسكون بترسبات صوفية روحانية أثبتها الكاتب كطريق له منذ مؤلفه الأول "أوراق شاب عاش منذ ألف عام". فالغيطاني "يعتبر أن القانون الواحد الذي يحكم السرد موجود في الفتوحات المكية، كما أنه مؤسس في السرد القرآني، وهو قانون العلاقة بين الجزء والكل، حيث الجزئيات الصغيرة تؤدي للكل ولا يمكن قراءتها، إلا في سياقه" "7" لذلك فإن السعي إلى تتبع خصائص السرد في هذا الدفتر السادس، لا يستقيم دون وصله ببقية الدفاتر، في علاقة الجزء بالكل وبتنزيل الجزء في سياق عام هو السياق الكلي.
"فالسرد الدفاتري" ينهض على تقنيات كثر أجلاها الاتصال والانفصال حيث كانت فصول كتاب "الرنّ" دفقات منفصلة تباعد بينها العناوين والمسافات والأزمنة، لكنها في الوقت نفسه تأتلف في فعل خلقها وفي هوية خالقها. فالسارد جلي منذ الوهلة الأولى، هو الكاتب ذاته مع تعدد المؤشرات الدالة على ذلك، إلى درجة يصح الحكم فيها على النص بكونه "سيرة ذاتية روحية" أمعنت في التخفي وأحاطت نصها بهالة من الاختلاف والتفنن في التيه. لذلك يصرّح الغيطاني في مستهل "الرن": "لأمر جرى وتمكن مني تغير حالي وتبدل أمري، لن أفشل ولن أخوض فلم أتأهب بعد لإيراد الأسباب لكنني ألمح وأشير إلى زلزلة ما عندي وتبدل ما التزمت به، لم يعد أمامي إلا الشروع في هجاج والخروج من سائر ما يتعلق بي أو أتصل به" "8" عن طريق الخرجة أساسا وهي السفر أو الرحيل بالمفهوم الصوفي. ذلك الرحيل الذي طوع له الغيطاني كل مقومات النص السردي، بما في ذلك السرد أساسا، والذي اعتبره الروائي تدوينا لكل ما سبق وما هو آت، فهو من يرحل بالنظر ويقطع المسافات السحيقة إلى مدن لم تعُد قائمة وجزر غطاها البحر أو أخفاها توالي الزلازل، لذلك فهو لم يلزم الترتيب في هذا التدوين بل آثر إنجازه بعد أن جرى ما جرى. وكان الكاتب بذلك محور العملية السردية سواء بوعي أو بغيره لغاية التعرف على تجليات المكان الروحي والزمان الذي بدأ بليلة وُضع فيها الأساس لبقاء الحكمة القديمة التي تجلت لنا من خلال النص رحلة وتهويمات احتلت فيها تجارب الكاتب ومعايشاته لعناصر مختلفة بؤرة النظر الأساسية مع تركيزه على هذه الليلة التي خرجت عن كونها مجرد زمان لتتحول إلى نقطة ائتلاف تنطلق منه كل المشارب المتباعدة في النص انتهاء عند خاتمته.

ويصرح الكاتب واصفا: "تلك الليلة أحضرها راقدا رغم الفارق الزمني يداي على صدري، علامة التسليم، منها تفرقت الحروف والألوان وسائر المكونات في أي لغة أو منطوق أي لغة أو لهجة أو نظرة أو إيحاءة، في تفرقها عدمي، وفي إلتئامها اكتمال الاسم، أي سعيي" "9".  فهو البدء انتهاء عند الختام وما بينهما ينهض الحكي أو التدوين الصوفي على بنية مفتوحة متعددة ترفض الانغلاق داخل بوتقة المألوف المعتاد وتثبت أن هذا النص يرفض الثوابت ويتمرد عليها.

النص – الرحلة
تتكشف ملامح الرحلة منذ بدايات الحكي في نص "الرن" وتتفرع إلى رحلتين الأولى واقعية مادية تبدأ بمشاهدة مدينة أخميم الصعيدية التي مثلت بوابة السارد نحو كل الأمكنة والأزمنة والعوالم الموغلة في القدم وما قبل الكينونة لا يحمل معه إلا تهويماته المتعلقة بأماكن مخصوصة وأشخاص إلتقاهم ولم يلتق بهم لكنه يحاول منحهم كيانا من خلال الاسم أو من خلال "الرن". من خلال "أخميم" يستحضر السارد ما تعلمه وأتقنه من نسج الحرير وألوانه البديعة، المتدرجة والتي تحمل فلسفة تصلح أن تكون فلسفة حياة فالخيوط والألوان بتداخلاتها وحياكتها تلتقي داخل الرواية لتشبك كل معالم النص الموغل في "رؤيويته" وسحره الشرقي القديم والمنطلق من لحظة الصبا التي يسترجعها السارد كلما اقتضت الحاجة جماليا أو دلاليا.

تتعدد الأمكنة المتسمة بواقعيتها من هضبة الهرم باتجاه مصر، إلى جزيرة "سوقطرة" في جنوب اليمن إلى "حضر موت" إلى غيرها من المدن في ترحال جغرافي تبدأ معه رحلة ثانية هي سفر روحي أساسه البحث عن الجوهر الكائن أو الذي كان ابتداء من "الخرجة" أولى فصول النص. والخرجة تعني الرحيل الصوفي مرورا بارتحالات صوفية أشرقت في فكر السارد وفي وجدانه وكشوفاته وتجلياته الكامنة في الأبواب الوهمية التي مثلت "رمز العبور من الموجود المحسوس إلى اللامحسوس ومن المدرك المرئي بالحواس إلى الخفي عنا ما لا يبين" "10" لتنتحي الرحلة وجهة الأسطوري المصري المنسي قديما والكامن في الذاكرة والذي يلتقي مع استحضار سيرة "ذي النون" المصري الذي كان عالما باللغة المصرية القديمة أي بلغة الطير وكانت سيرته مذكورة في كتب المناقب والسير والخطط فيتداخل إذاك في ذاكرة السارد المرتحل ملامح الوجود الفرعوني الماثل في الصخر والحلول الصوفي الكاشف لأعماق الروحي والباحث عن سؤال الحكمة انطلاقا من تأمل الوجود، المسميات، الأسماء، العناصر الأربعة، العدم باكتماله الموحي انتهاء عند اللانهاية والأسرار الكهنوتية الخافية عن الناظر البسيط، والعود إلى الذاكرة ذاكرة مصر القديمة الفرعونية والقبطية مصر الساحرة بتراثها وروحانياتها المنطلقة من الصخر .

ولا دليل للسارد في كلتا الرحلتين سوى تهويماته وتعاليم شيوخه الأجلاء وأزمنة سحيقة يحاول جاهدا استرجاعها متسائلا عن مركز الكون وعن موقعه داخل هذا المركز لذلك تحولت الرواية بموجب هذا التداخل الغريب والساحر بين الرحلتين إلى اشراقات صوفية نافذة في عمق الروح تنبثق لحظة البدء في الكتابة دون تخطيط مسبق ولا معالم سردية واضحة بل تظل ذات السارد محور الحكي" الذي يعتبرها الغيطاني "حكي الحياة" الذي يحاكي كل ما فيها وصولا لجوهر الكينونة المقدس. لذلك يمكننا الجزم بأن هذا العمل هو لرواية إشراقية" أو "رواية رؤيوية" لا تشرح تفاصيل الحياة رغم أنها توهم بذلك، بقدر ما توضح معالم التجربة الفكرية والوجدانية الروحية لكاتبها انطلاقا من سياق استعاري يستحضر الغائب ويجسد تجل آخر من التجليات الغيطانية، الباحثة أبدا عن الاسم أي عن السعي إلى الأصل والجوهر والكينونة ليكون الدفتر بذلك "سردا عربيا، سردا غيطانيا".

* ماجستير الدراسات السردية المقارنة
** الرواية حائزة على جائزة الشيخ زايد للكتاب لسنة 2009

هوامش
1- دفاتر التدوين: الدفتر السادس، جمال الغيطاني ط 2 2009 دار الشروق القاهرة، مصر
2 - المرجع المذكور ص 136
3 - المرجع المذكور ص 48
4- المرجع المذكور ص 46
5- المرجع المذكور ص 44
6- محاضرة الغيطاني في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة أكسفورد بتاريخ نوفمبر 2009.
7- المرجع السابق
8- الدفتر السادس: الرن ص 5
9- الدفتر السادس: الرن ص 248
10- المرجع السابق ص 32